مؤيد عليوي - رواية "إيمار" لنجاح ابراهيم وهندسة البناء اللغوي لسورة يوسف

أن التناص القرآني مصطلح واضح في النقد الادبي ، إلا أن تناص السرد رواية "إيمار" للروائية السورية نجاح إبراهيم، مع هندسة البناء اللغوي لسورة يوسف يختلف عن التناص القرآني، إذ المقاربة ستكون مع البنية البرانية لسورة يوسف وليس مع مدلولها، ثم لماذا سورة يوسف ؟ لأنها السورة الوحيدة التي فيها قصة كاملة في نباء لغوي واحد، كما أن أسلوبية سرد رواية "إيمار" تقاربها في اسلوب السرد من البنية البرانية من مثل العنوان والبداية والنهاية و..
فـهندسة البناء اللغوي لسورة يوسف يبدأ بفاتحة السورة وخاتمة تتصل بتلك البداية ، في تناص لـاسلوب سرد "إيمار" مع تلك الهندسة اللغوية، يكون التمهيد من الرواية وهو تمهيد أول " فاتحة لبوابة الضجر" الذي لا يخلو من قصدية الاشارة الى اسلوب هندسة التعبير القرآني، من خلال كلمة "فاتحة" مشيرة الى فاتحة الكتاب والى فواتح السور ومنها سورة يوسف، ثم يستمر تمهيد رواية "إيمار" بعتبة نصية أخرى سوى بعنوان " قد يزهرُ البرقُ" الجملة الفعلية المتصلة بالمستقبل من خلال وظيفة حرف الاحتمالية أو حرف التقليل "قد"، وهو احتمال بعيد اصلا فـغيث المطر ما يزهر الاشجار والازهار من حيث السبب والنتيجة، وليس البرق أو الرعد، لتخرج هذه الدلالة الى مدلول جديد يتصل بشخصية "عساف" وشخصية "إيمار" وبفحوى التمهيد العتبة النصية "فاتحة لبوابة الضجر"، ودلالة مضمون "قد يزهر البرق" نفسها، وهذا تمهيد خارج المألوف أو المتوقّع، حيث يكون بعنوانين يأتي بعدهما فصلٌ يكون "عساف " راوياً ثانوياً من خلال ذكرياته، منه:(عاد أدراجه، تلبّسه الحزن من جديد حين أيقن أنّ إيمار مازالت تلوبُ من مكانٍ إلى آخر، مازالت تبحثُ عن تميمتها الضّائعة شرقاً وغرباً، ومما زاد من حزنه أكثر، الانكسار الذي قرأه في عينيها هذه المرّة ، فقد اتّضح أكثر من كلّ المرّات ، فتساءل بألمٍ وقهرٍ :
" إلى متى تبقى هذه المُهرة الجامحة لائبة ؟! إلى متى تظلّ تجوبُ في الأماكنِ والمدنِ، وأظلّ مُعذباً بإقامتي في هذه المدينة ؟! واتّقدت في ذاكرته ملحمتُها..) ففي كلمة:(واتّقدت في ذاكرته ملحمتُها)، إيماءة واضحة لتحوّل السرد من السارد أو الراوي العليم الى الشخصية الروائية "عسّاف" راوياً ثانوياً، حيث بناء السرد البراني والجواني في الفصول القادمة وفي عناوينها، مختلف تماما عن التمهيد - بشقيه السابقينِ- الذي يصبح مقاربا لفاتحة سورة يوسف، ثم تنتهي الرواية بفصلها الاخير "مناديل كالحمام" عند النقطة ذاتها من " قد يزهر البرق" وهي نقطة لقاء شخصية "عساف" وشخصية "إيمار" في المكان ذاته قرب شقة "عساف"، لتصبح قصة "إيمار" بين التمهيد ونهاية الرواية، ومثلما نلحظ هذه المقاربة أو التناص مع هندسة البناء اللغوي لسورة يوسف، نلحظ جميعا أن عنوان الرواية "إيمار" باسم الشخصية في مقاربة ثانية مع عنوان السورة باسم يوسف، "إيمار" التي تأخذ دور تمنّع وعفّة يوسف مع زليخة، ليس من جهة الجسد والشهوة، بل من زاوية العاطفة والحب فتصد "إيمار" حب "عساف" لها، لكنها تظل صديقته تلوذ به عندما تريد أو تحتاجه كصديق يساعدها، أما شخصية "عساف" راويا ثانويا للسرد فهو يبدأ منذ الفصل" تلك الرجوة وذلك المكان" في بداية قصة "إيمار" من يوم ولادتها، لتنتهي مهمة "عساف" راويا ويعود الراوي يمارس دوره في الفصل " كم هم جميلون؟!"، كما ثمة مقاربة في البنية الجوانية للسرد "أيمار" هو التناوب المكاني كما عند فاضل ثامر، يقارب التناوب المكاني في سورة يوسف، وفيما تقدم من نقطة لقاء السرد الروائي بين بدايته ونهايته، يَطلق عليه النقادُ النسقَ الدائري مثلما بدأت رواية "إيمار" وانتهت في النقطة ذاتها مما تقدم ذكره، فهذا النسق يبدأ بتفاصيل يوميات "عساف" في شقته حتى خروجه منها الى الشارع فيتذكر حكاية "إيمار" من التمهيد حيث السارد هو مَن يروي يوميات "عساف" ولقائه بـ"إيمار" صدفة قرب سكنه في ذاك الشارع، ليكون هذا الجزء التمهيد هو قصة "عسّاف" التي تنتهي عند الفصل "تلك الرجوة وذلك المكان" فيكون هو راوياً ثانوياً فيما بعد، فيتناوب الراوي العليم، مع الراوي الثانوي "عساف"، فيصبح السرد المُنتج عن هذا التناوب، هو تناوب بين قصة يوميات "عساف" وقصة "إيمار" الجزء الاكبر والاهم من السرد كما هو التناوب عند تودورف، ثم يعود الراوي العليم مرة ثانية في الفصل "كم هم جميلون؟!"، ليستمر الراوي العليم حتى نهاية الرواية في غياب للراوي الثانوي (عساف)، فهذا التناوب كان تقنيّة محكمة لينتهي السرد في المتن عند نقطة البداية من النسق الدائري كما تقدم، في فنيّة توظيف عناصر رواية الشخصيات والمكان و..، ليصير هذا التناوب ضمن مقاربة سرد الرواية أو التناص مع البناء اللغوي لسورة يوسف حيث نرى أن الآية ( لقد كان في يوسف واخوته آيات للسائلين) وهي الآية (7) هي بداية قصة يوسف، فيقترب سرد المتن الروائي من هذا التناص من خلال البداية والنهاية في " قد يزهر البرق " الذي لم يزهر برق "إيمار" ولم يزهر برق "عساف" بينما تُركت نهاية الرواية مفتوحة كل منهما يعيش مع داخله وميثولوجياه واحلامه، أما الاسطورة الادبية فقد اختارت نجاح ابراهيم بإبداع الميثولوجيا والاسطورة وطقوسهما، لتشيد أسطورتها الادبية في شخصية "إيمار"، إذ (لا تُقرأْ الأسطورةُ بوصفها نصاً عقائدياً وشعائرياً، وإنّما هي حاضنة التاريخ والرحم الذي انغرس فيه وتَشكل وسطه، الاسطورة رمز ومجازات تومئ لحظة أزلية فيها عقد وانفتاحات، وهي مرآة مخيال الشعوب وميزتها في أبداع رموزها، وصورها النمطية الاولى..) في توظيف للمكان والشخصيات، وفي تبئير داخلي لنفسيّة "إيمار" وتفكيرها، الكاشف لوضع المرأة العربية في بيئتها المختلفة بين الريف والمدينة بما يفرض المكان فيهما تقاليده عليها، من خلال الأسطورة الادبية "إيمار"، لتمرر الرواية ما تراه المرأة الانسان وما تعيشه من احساس اتجاه الوجود ومنه المختلف البيولوجي والتقاليد والموروث، عبر مزجٍ لمفاهيم موروث الحضارة القديمة في سوريا على صفاف الفرات، مع روحيّة الحرية التي تربّت عليه "إيمار" في بيت أبيها الشيخ راعيها الاول لها ولحريتها وتعلميها في اعتراض اخوتها وابناء عمومتها، فمن خلال المكان/الآثار القديمة في القرية، وما يتصل بتلك الآثار من آلهة وطقوس قديمة وتمائم يعرفها البروفسور الفرنسي الباحث في الاثار ولا يعرفها أهل البلد كما في جميع الدول العربية، لتكن "إيمار" الشابة رهينة العقد بينها وبين "محمد ذبيان" الشاب الجامعي أبن قريتها ومساعد الباحث الفرنسي في البحث عن الاثار والتمائم، ذبيان الذي أحبها فتزوّجا بذاك العقد على وفق طقوس وتميمة من الاثار القديمة، كانت "إيمار" مخالفة لشروط أهلها ودون رغبة أبيها شيخ العشيرة في ذاك الزواج، مختارة لقدر رسمه لها مَن يعرف بالعلم والحضارة والنفس البشرية كيف تستجيب، البروفسور الفرنسي حين عقدها لزواجها من " محمد ولد ذبيان"، في إشارة جلية للجهل بالعلم والمعرفة والجهل بالنفس البشرية للرجل والمرأة على حد سواء، إشارة الى حاجتنا الدائمة للغرب في مواضع كثيرة من هذا النوع، فتضيع تميمتها منها ويضيع حبيبها زوجها "محمد ذبيان"، لنكتشف أن القناع الادبي للتميمة هو قدر المرأة الذي ظلت تبحث عنه الى نهاية الرواية، لأنها مازالت لم تحقق قدرها فيما يشي بهذا اسلوب السارد عندما صار "عساف" راويا ثانويا فهو مذكر المدينة الذي يروي قصة "إيمار" بمعنى أن "إيمار" المرأة العربية مازالت تعيش وفق رؤية أو فكرة المذكر، لذا بقيت هي تبحث عن قدرها أقصد المرأة الانسان "إيمار" في نهاية الرواية المفتوحة، بما يناسب وصفها كياناً إشكالياً قائماً بذاته يسترعي انتباه الجميع ، لكنها لا تحصل على حقوقها أو أن ترسم قدرها كما تريد في مجتمعها لذا فـ"إيمار" تلجأ للباحث الفرنسي في قريتها لمساعدتها في العثور على تميمتها وحبيبها زوجها، عندما كان الراوي الثانوي "عساف" فتحرر من القرية ومن الراوي الثانوي، ليعود السرد بالراوي العليم وتبدأ رحلتها في البحث عنهما في المدينة دمشق ويساعدها "عساف" فيها.. فلم تجدهما ولم يزهر برقها، فيصبح المعادل الموضوعي هو حرية اختيار "إيمار" لقدرها وتحملها لمسؤولية اختيارها، وكذلك حرية اختيارها للبحث عمّا تريد، وحرية رفضها لحب "عساف" في دمشق، إذ كانت قرارتها من رأسها وقوة شخصيتها المكتملة من خلال تربية والدها لها الذي منحها تلك الحرية وتعلميها الاكاديمي في كلية الاثار، مع ما تعلمته من البروفسور الفرنسي، إلا أنّها ظلتْ رهينة التقاليد فقد خرجت من تقاليد الريف واهلها لتدخل في ميثولوجيا قديمة رسمها لها البروفسور الفرنسي – مذكر من الخارج- الذي حاول أن يبتز جسدها فلم ترضخ له، عندما ذهبت اليه في باريس تبحث عن تميمتها أو قدرها، كما ظلت تحتاج المذكر "عساف " – مذكر من المدينة - الذي ظلّ صديقها يساعدها رغم رفضها لحبّه في رمزية لدمشق المدينة/ المكان الوطن المتحضر- الداخل الصحي للمرأة- بمعنى أنها خرجت من تقاليد اهلها الذكورية في الريف الى تقاليد ذكورية أخرى.. في لغة سردية انمازت ببلاغة الاستعارة والتشبيه والكناية، والجملة الشعرية بل أن خيال الشاعرة نجاح إبراهيم جلي في شعرية جملتها السردية، كذلك الحوار كان كاشفا لمواقف نفسية واحداث المتن الروائي من مثل حوار "أيمار" مع "عساف " بعد عودتها من فرنسا.


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى