إن مفهوم المتن يقتضي دوما البحث عن الهامش، مثلما المركز له أطراف، والعاصمة تقف بجانبها المدينة الصغيرة والقرية، والحي الشعبي. الأولى تحظى بأن تكون مركزا للرواد، والثانية تكون في حيز اللاموجود في وعي الغالب والمهيمن والمسيطر على المجال، أي مجال في هذا الوجود. في هذه المقاربة، سأتطرق لمفهوم المهمشين في المجال الإبداعي الثقافي، ولن أتحدث عن المهمشين كثيمات موضوعاتية في النص الأدبي الثقافي، بل سأتحدث عن المبدعين بوصفهم مهمشين ، ومقصيين من مراكز الثقافة في العالم كله ، وليس العالم العربي وحسب، فمن السطحية أن نتهم بيئة معينة بالتهميش من دون غيرها من المجتمعات الإنسانية، قد يزيد في واحدة منها دون الأخرى ولكنه موجود بنسب متفاوتة، وهذا يعتمد على طبيعة العلاقة بين المتن والهامش.
أولا: من هو المهمش؟
المهمش بشكل عام هو من يقصى بشكل متعمد من نسق إنساني اجتماعي وثقافي غالب، ومهمين على الفضاء المكاني والزماني الذي يتحرك به الفرد، ولنلاحظ ان المهمش يختلف عن المنفي، فالمنفي قد يكون اختار المنفى ، فهو منفي باختياره الإنساني المحض، لكن المهمش هو معزول عن قصدية تقف خلف هذا الغياب. والمهمش هو حاضر ولكنه يغيب عن ذهن المجتمع لأسباب عدة، وهي عدم الإحساس بأهمية هذا الفرد، وهذا أهون هذه الأسباب، وأما بقية الأسباب فهي تتدرج بين الحسد والغيرة والتنافس على مركز معين، والخوف من سلطة المهمش المعرفية والإنسانية، فيقصى كي لا يزيح المتن، أو قد يكون التهميش ناتجا عن الاختلاف ، فالمختلف غير مرغوب بالجماعات الإنسانية. وليكن أمام أعينا مبدأ واضح ، إنه لا يهمش إلا من يخاف خطره وقوته في التأثير، فالوعي لايعزل إلا المهم الذي يرى إنه له قوة تزلزل هذه الذات الثابتة، إلا في حالات إبداعية ضعيفة وركيكة فإنها تصارح بموقعها ولا تعزل.
لمحة تاريخية
بدأ التهميش الاجتماعي منذ القدم، فالرسول صلى الله عليه وسلم، عندما أتى بنور الحق واليقين، وحمل رسالته السماوية من عند الخالق، عزله قومه هو ومن آمن معه، خوفا من نور ووهج هذه الدعوة السماوية التي تزلزل أركان عروشهم، ومن بعده حورب أهل الفكر والعلم والفلاسفة، ابن رشد اضطر لحرق كتبه، أبو حيان التوحيدي عزل عن مجتمعه، وكان يشكو من عدم الاهتمام به، وغيره من المبدعين ممن كانوا أسوأ حالا منه، فمنهم لم يوثق في سجلات ومتون كتب العلم والأدب، وهذا غيض من فيض ذكر بعضه الدكتور ياسين الأيوبي في كتابه “ مهمشون مبدعون في تراثنا الأدبي”، ، الذي يركز فيه على شعراء حجبوا عن الآخرين، وحرموا من أن يتمتعوا بمواهبهم الشعرية بأن يكونوا مثار اهتمام من وسط ثقافي محيط، ، فيقول الأيوبي في مقدمة كتابه:
“ كم من الكنوز الإنسانية تطويها الأزمنة، وتظل دفينة دهرا طويلا، ثم يقيض الله لها من ينبش غورها، ويكشف سترها، فتبدو للعيان كأنما تكونت لساعتها، مجلوة المعالم، مسترخية القسمات، وديعة الحضور. قيّض لها من يخرجها من ظلمات الغفلة والإهمال إلى الانبهار والكينونة الفاعلة، لها هويتها وبنيانها الشامخ، وأصداؤها المدويّة في سماء الأدب ورياضه الفينانة”. (١)”.
تشبه محاولة الأيوبي، دراسة ماجستير بعنوان : “ تهميش الكتاب الإيطاليين الأمريكيين، والأدب الإيطالي الأمريكي” للباحث ميشيل ماروسون ، تركز على تهميش الجانب الإبداعي الإيطالي، للإيطاليين الأمريكيين المقيمين في أمريكا، فالباحث يؤكد على وجود نوع من التهميش للأقليات الإيطالية، ولكنهم يبقون أفضل حالا من الأفارقة، وغيرهم من الأقليات المهاجرة. (٢)
ومن جانب غربي، نجد في مقالة أديتا أنوبكومار المعنونة ب “ مفهوم الإقصاء” ترجمة الصديقة بثينة الإبراهيم،(٣) تلخص فكرة الإقصاء الاجتماعي، وبدايات تكونه ، حيث تخلص الباحثة إلى أن التهميش بدأ بفكرة “ تحسين النسل”، حيث يكون البقاء للأصل العرق ذي الجينات الوراثية الفذة، بينما من هو أقل عراقة فمصيره الإجهاض والوأد ، تبعا للمفهوم الذي أنشأه السير فرانسيس جالتون، قريب تشارلز داروين ، صاحب نظرية النشوء والارتقاء، إذ دعى إلى استخدام الاستيلاد الانتقائي” ليحسن النوع الإنساني والحيواني خلال الأجيال”. وهذا مرتبط أيضا ثقافيا بمجتمعنا العربي القبائلي على وجه التحديد الذي يرفض الانصهار مع بعض القبائل الأخرى، من أجل الحفاظ على النسل.
وما يهم في هذه المقالة الباحثة في نشأة التهميش اجتماعيا انها تعكس الطبيعة الإنسانية، المتغلغة في ظلمات الاقصاء والتهميش بكافة أشكال مجتمعاتها، إذ تقول: “ و يظهر “الإقصاء/ التهميش” في لب كل مسائل الصراع الاجتماعي، التي تختلف تسمياتها باختلاف مظاهرها وتمثلاتها.” (٤)
ومن منحى فلسفسي ذي نزعة إنسانية نقف أمام إسهامات كل من ميشيل فوكو ، وجاك ديريدا، و بيير بورديو، وإدوارد سعيد ، وجوليا كريستفيا، وغيرهم من المفكرين الإنسانيين ممن بحثوا في صور الاقصاء والتهميش والعزل الإنساني، ففوكو بحث في المرضى والمجانين، والنساء، كعناصر معزولة عن المجتمع وتبرهن على هوية أخرى لمركز المجتمع، فالمهمشون مدخل لفهم ثقافة المركز، التي اعتنى بها دريدا في “الكتابة والاختلاف” كاشفا عن ثقافة المركز ، ومركزيتها الإقصائية للأطراف، حيث لا ترى إلا نفسها، ولا تقرأ اختلاف الآخر، ليأتي سعيد ويفهم هذا كله، ويكون نسقا مختلفا ومغايرا تحاربه وتهمشه المؤسسة السياسية والثقافية الغربية، لرميه حجرا معرفيا يحرك مياه الفكر الاستعماري الراكدة والثابتة، بينما نجد بيير بورديو يصور حالات المعزولين من المهاجرين الجزائريين في أحد الأحياء الفرنسية الفقيرة، في كتابه “بؤس العالم”، وتشابهه في الاهتمام الناقدة الفرنسية “جوليا كريستيفيا” في كتابها “غرباء عن أنفسنا” في رصد حالات المنفيين والأجانب والغرباء، وتحليل نفسي دقيق لأدق تفاصيل المغتربين من حيث اللغة، وممارستهم لها، وكيف ان تكون اللغة بحد ذاتها حاجزا نفسيا كبيرا يمنع من التواصل مع الاخر ، وغيرها من الصور اليومية لعذاب المغترب والمعزول، وتأتي سبيفاك لتتحدث عن النساء الهنديات المعزولات ، بوصفهن مدلولا ( أي مفعولا به) وليس دالا (فاعلا نشطا) في كتابها هل يستطيع الثانوي أن يتحدث؟”، لتكشف عن حق النساء المهمشات والمحرومات من حق الكلام .
صور من المهمشين
كل هذه الخلفيات المعرفية المؤسسة لثقافة الهامش، تجعلنا نقر بوجود الهامش في كل جوانب الحياة أيا كانت، ونحاول التخصص في الحديث عن الأدباء المهمشين والمفكرين والفنانين الذين يحاربون بالأوساط الثقافية، لنحاول أن نسمع بعضنا البعض ونتحاور بشكل جماعي، ونعترف بوجود أدب آخر، نقرأه ونساهم في تنميته بنقده بمصداقية وموضوعية وحيادية، فعندما تقرأ عن صيحات إبداعية منتشرة في أرجاء هذا العالم الكبير الذي ضاق به بنو البشر من بعضهم البعض وأمعنوا في فنون الأقصاء والتهميش، عن مؤتمر عن “ المهمشين الحقيقين” على رصيف قصر ثقافة المنصورة، الذي نظمه حسام حشيش وزملاؤه من الأدباء في المنصورة محتجين على مؤتمر بعنوان: “ المهمشون.. في المشهد الأدبي” وهو عنوان يغاير مضمون المؤتمر حيث تتكر نفس الأسماء المعتادة في كل عام، وفي هذا الموضوع تقول فاطمة الزهراء رئيسة اتحاد فرع المنصورة ودمياط:
“عندما جاءتني دعوة حشيش لحضور المؤتمر كانت بمثابة القشة التي تعلق بها الغريق، فأنا أعمل في المجال الثقافي منذ ثلاثين عاما ولم أحظى بتكريم، أو حتى تقدير لمجهوداتي، فقط التجاهل التام من المؤسسات الثقافية”.(٥)
وفي الفن التشكيلي في الكويت، حدث حالة اقصاء ١٥٠ فنانا تشكيليا من الكويت، على رأسهم سامي محمد، وقاسم الياسين من دون أسباب منطقية مقنعة (٦) ، بل ترزح تحت رغبات مزاجية محضة،كما يصفها الدكتور فارس الوقيان، في دراسته “النشأة التاريخية، وحالة العزل الاجتماعي للبدون”. (٧)،
وفي الوسط الثقافي الكويتي وغيره من الأوساط الخليجية والعربية حالات متعددة من الاقصاء، للكتاب الشباب، وغيرهم، فالكل دخل في سلسلة اقصائية كبيرة تزيد بضغطها على البعض، وتخف عن البعض الآخر. فمن المبدعين من ينتظر قراءة عن عمله، أو مقالة تنشر له في صحيفة مقروءة، أو أن يستضاف في حوار صحفي أو تلفزيوني، ولكن كل هذه الشبكات لا تعترف إلا بشلليتها الخاصة مجال تحركها، يصعدون منابر الإعلام ويحاربون من يحاول اختراق هذه الواجهات ، الأصنام الإعلامية، التي بحكم عوامل الزمن والتعرية، أمست آثارا لعلاقة غرامية سابقة مع الكتاب، والإبداع الحقيقي، فهم في سبيل الدفاع “عن الحب اللي كان” (٨) يحاولون منع الآخر من الوصول، ويمررون من يتقن الدور جيدا، ليصبح خريج مدرستهم الإبداعية، وبروتوكولات شلليتها الخاصة.
ولعل من أقبح مساوماتهم للمرأة المبدعة هو مطالبتها بما لا تستطيع تقديمه ،أي امرأة تحترم نفسها وأخلاقياتها، فيكون بالرفض مصيرها الهامش، وبالرضا مصيرها سلم المجد الوهمي، وأما الرجل المسيطر على الثقافة بشكل مفصلي، فإنه لا يسمح بالمرور إلا للمشابهين له من الرجال، ممن حركتهم الإبداعية مرهونة نوعا ما بحركة حراس قصور الثقافة ودور المعرفة.
ولكم أن تتخيلوا ماهو الأثر النفسي والإنساني والاجتماعي الذي يتركه العزل والإقصاء على نفس المرء، فما بالكم بإنسان مثقف واعي مبدع، في شتى الفنون الإنسانية، تأتيه شللية ثقافية معينة تحاربه بصورة غير علنية، لا تقرأه، وإن قرأت له، أو شهدت آثارا من إبداعه، ادعت ضيق الوقت، أو عدم التمكن من رؤية الإبداع، أو تزييف حقيقية النص الإبداعي، بلصق النص بما ليس فيه، فكثير من لا يقرأ للشباب لأنهم شباب، ويفترضون بأن لغتهم ضعيفة، أو إنهم ليس لديهم هذا العمق المعرفي المفترض عند شيوخ الثقافة، إهرامات مصر، وحدائق بابل، الجامدة والخالية من روح التفاعل والتواصل الإنساني، والتهميش لا يتوقف عن عدم القراءة والتفاعل بل يكون من خلال الحرمان من منصب وترقية، ومقابلة في صحيفة أو تلفزيون، أو حتى من مصدر رزق للإنسان.
أتى يومنا هذا ، لا بد أن تكون ردة فعلنا فيه عملية ومنهجية، وهي بالعمل من خلال شبكة ثقافية تحرر المسكوت عنه، وتضع الهامش بجانب المتن، ليشكلا متنا كبيرا يعادل موجودات الحياة، ويحضر الغائب، والمغيب عن الوعي الإنساني، لتغدو أدوارنا في الحياة أكثر فاعلية.
_____________
* ناقدة وكاتبة كويتية.مجلة(عُمان)
أولا: من هو المهمش؟
المهمش بشكل عام هو من يقصى بشكل متعمد من نسق إنساني اجتماعي وثقافي غالب، ومهمين على الفضاء المكاني والزماني الذي يتحرك به الفرد، ولنلاحظ ان المهمش يختلف عن المنفي، فالمنفي قد يكون اختار المنفى ، فهو منفي باختياره الإنساني المحض، لكن المهمش هو معزول عن قصدية تقف خلف هذا الغياب. والمهمش هو حاضر ولكنه يغيب عن ذهن المجتمع لأسباب عدة، وهي عدم الإحساس بأهمية هذا الفرد، وهذا أهون هذه الأسباب، وأما بقية الأسباب فهي تتدرج بين الحسد والغيرة والتنافس على مركز معين، والخوف من سلطة المهمش المعرفية والإنسانية، فيقصى كي لا يزيح المتن، أو قد يكون التهميش ناتجا عن الاختلاف ، فالمختلف غير مرغوب بالجماعات الإنسانية. وليكن أمام أعينا مبدأ واضح ، إنه لا يهمش إلا من يخاف خطره وقوته في التأثير، فالوعي لايعزل إلا المهم الذي يرى إنه له قوة تزلزل هذه الذات الثابتة، إلا في حالات إبداعية ضعيفة وركيكة فإنها تصارح بموقعها ولا تعزل.
لمحة تاريخية
بدأ التهميش الاجتماعي منذ القدم، فالرسول صلى الله عليه وسلم، عندما أتى بنور الحق واليقين، وحمل رسالته السماوية من عند الخالق، عزله قومه هو ومن آمن معه، خوفا من نور ووهج هذه الدعوة السماوية التي تزلزل أركان عروشهم، ومن بعده حورب أهل الفكر والعلم والفلاسفة، ابن رشد اضطر لحرق كتبه، أبو حيان التوحيدي عزل عن مجتمعه، وكان يشكو من عدم الاهتمام به، وغيره من المبدعين ممن كانوا أسوأ حالا منه، فمنهم لم يوثق في سجلات ومتون كتب العلم والأدب، وهذا غيض من فيض ذكر بعضه الدكتور ياسين الأيوبي في كتابه “ مهمشون مبدعون في تراثنا الأدبي”، ، الذي يركز فيه على شعراء حجبوا عن الآخرين، وحرموا من أن يتمتعوا بمواهبهم الشعرية بأن يكونوا مثار اهتمام من وسط ثقافي محيط، ، فيقول الأيوبي في مقدمة كتابه:
“ كم من الكنوز الإنسانية تطويها الأزمنة، وتظل دفينة دهرا طويلا، ثم يقيض الله لها من ينبش غورها، ويكشف سترها، فتبدو للعيان كأنما تكونت لساعتها، مجلوة المعالم، مسترخية القسمات، وديعة الحضور. قيّض لها من يخرجها من ظلمات الغفلة والإهمال إلى الانبهار والكينونة الفاعلة، لها هويتها وبنيانها الشامخ، وأصداؤها المدويّة في سماء الأدب ورياضه الفينانة”. (١)”.
تشبه محاولة الأيوبي، دراسة ماجستير بعنوان : “ تهميش الكتاب الإيطاليين الأمريكيين، والأدب الإيطالي الأمريكي” للباحث ميشيل ماروسون ، تركز على تهميش الجانب الإبداعي الإيطالي، للإيطاليين الأمريكيين المقيمين في أمريكا، فالباحث يؤكد على وجود نوع من التهميش للأقليات الإيطالية، ولكنهم يبقون أفضل حالا من الأفارقة، وغيرهم من الأقليات المهاجرة. (٢)
ومن جانب غربي، نجد في مقالة أديتا أنوبكومار المعنونة ب “ مفهوم الإقصاء” ترجمة الصديقة بثينة الإبراهيم،(٣) تلخص فكرة الإقصاء الاجتماعي، وبدايات تكونه ، حيث تخلص الباحثة إلى أن التهميش بدأ بفكرة “ تحسين النسل”، حيث يكون البقاء للأصل العرق ذي الجينات الوراثية الفذة، بينما من هو أقل عراقة فمصيره الإجهاض والوأد ، تبعا للمفهوم الذي أنشأه السير فرانسيس جالتون، قريب تشارلز داروين ، صاحب نظرية النشوء والارتقاء، إذ دعى إلى استخدام الاستيلاد الانتقائي” ليحسن النوع الإنساني والحيواني خلال الأجيال”. وهذا مرتبط أيضا ثقافيا بمجتمعنا العربي القبائلي على وجه التحديد الذي يرفض الانصهار مع بعض القبائل الأخرى، من أجل الحفاظ على النسل.
وما يهم في هذه المقالة الباحثة في نشأة التهميش اجتماعيا انها تعكس الطبيعة الإنسانية، المتغلغة في ظلمات الاقصاء والتهميش بكافة أشكال مجتمعاتها، إذ تقول: “ و يظهر “الإقصاء/ التهميش” في لب كل مسائل الصراع الاجتماعي، التي تختلف تسمياتها باختلاف مظاهرها وتمثلاتها.” (٤)
ومن منحى فلسفسي ذي نزعة إنسانية نقف أمام إسهامات كل من ميشيل فوكو ، وجاك ديريدا، و بيير بورديو، وإدوارد سعيد ، وجوليا كريستفيا، وغيرهم من المفكرين الإنسانيين ممن بحثوا في صور الاقصاء والتهميش والعزل الإنساني، ففوكو بحث في المرضى والمجانين، والنساء، كعناصر معزولة عن المجتمع وتبرهن على هوية أخرى لمركز المجتمع، فالمهمشون مدخل لفهم ثقافة المركز، التي اعتنى بها دريدا في “الكتابة والاختلاف” كاشفا عن ثقافة المركز ، ومركزيتها الإقصائية للأطراف، حيث لا ترى إلا نفسها، ولا تقرأ اختلاف الآخر، ليأتي سعيد ويفهم هذا كله، ويكون نسقا مختلفا ومغايرا تحاربه وتهمشه المؤسسة السياسية والثقافية الغربية، لرميه حجرا معرفيا يحرك مياه الفكر الاستعماري الراكدة والثابتة، بينما نجد بيير بورديو يصور حالات المعزولين من المهاجرين الجزائريين في أحد الأحياء الفرنسية الفقيرة، في كتابه “بؤس العالم”، وتشابهه في الاهتمام الناقدة الفرنسية “جوليا كريستيفيا” في كتابها “غرباء عن أنفسنا” في رصد حالات المنفيين والأجانب والغرباء، وتحليل نفسي دقيق لأدق تفاصيل المغتربين من حيث اللغة، وممارستهم لها، وكيف ان تكون اللغة بحد ذاتها حاجزا نفسيا كبيرا يمنع من التواصل مع الاخر ، وغيرها من الصور اليومية لعذاب المغترب والمعزول، وتأتي سبيفاك لتتحدث عن النساء الهنديات المعزولات ، بوصفهن مدلولا ( أي مفعولا به) وليس دالا (فاعلا نشطا) في كتابها هل يستطيع الثانوي أن يتحدث؟”، لتكشف عن حق النساء المهمشات والمحرومات من حق الكلام .
صور من المهمشين
كل هذه الخلفيات المعرفية المؤسسة لثقافة الهامش، تجعلنا نقر بوجود الهامش في كل جوانب الحياة أيا كانت، ونحاول التخصص في الحديث عن الأدباء المهمشين والمفكرين والفنانين الذين يحاربون بالأوساط الثقافية، لنحاول أن نسمع بعضنا البعض ونتحاور بشكل جماعي، ونعترف بوجود أدب آخر، نقرأه ونساهم في تنميته بنقده بمصداقية وموضوعية وحيادية، فعندما تقرأ عن صيحات إبداعية منتشرة في أرجاء هذا العالم الكبير الذي ضاق به بنو البشر من بعضهم البعض وأمعنوا في فنون الأقصاء والتهميش، عن مؤتمر عن “ المهمشين الحقيقين” على رصيف قصر ثقافة المنصورة، الذي نظمه حسام حشيش وزملاؤه من الأدباء في المنصورة محتجين على مؤتمر بعنوان: “ المهمشون.. في المشهد الأدبي” وهو عنوان يغاير مضمون المؤتمر حيث تتكر نفس الأسماء المعتادة في كل عام، وفي هذا الموضوع تقول فاطمة الزهراء رئيسة اتحاد فرع المنصورة ودمياط:
“عندما جاءتني دعوة حشيش لحضور المؤتمر كانت بمثابة القشة التي تعلق بها الغريق، فأنا أعمل في المجال الثقافي منذ ثلاثين عاما ولم أحظى بتكريم، أو حتى تقدير لمجهوداتي، فقط التجاهل التام من المؤسسات الثقافية”.(٥)
وفي الفن التشكيلي في الكويت، حدث حالة اقصاء ١٥٠ فنانا تشكيليا من الكويت، على رأسهم سامي محمد، وقاسم الياسين من دون أسباب منطقية مقنعة (٦) ، بل ترزح تحت رغبات مزاجية محضة،كما يصفها الدكتور فارس الوقيان، في دراسته “النشأة التاريخية، وحالة العزل الاجتماعي للبدون”. (٧)،
وفي الوسط الثقافي الكويتي وغيره من الأوساط الخليجية والعربية حالات متعددة من الاقصاء، للكتاب الشباب، وغيرهم، فالكل دخل في سلسلة اقصائية كبيرة تزيد بضغطها على البعض، وتخف عن البعض الآخر. فمن المبدعين من ينتظر قراءة عن عمله، أو مقالة تنشر له في صحيفة مقروءة، أو أن يستضاف في حوار صحفي أو تلفزيوني، ولكن كل هذه الشبكات لا تعترف إلا بشلليتها الخاصة مجال تحركها، يصعدون منابر الإعلام ويحاربون من يحاول اختراق هذه الواجهات ، الأصنام الإعلامية، التي بحكم عوامل الزمن والتعرية، أمست آثارا لعلاقة غرامية سابقة مع الكتاب، والإبداع الحقيقي، فهم في سبيل الدفاع “عن الحب اللي كان” (٨) يحاولون منع الآخر من الوصول، ويمررون من يتقن الدور جيدا، ليصبح خريج مدرستهم الإبداعية، وبروتوكولات شلليتها الخاصة.
ولعل من أقبح مساوماتهم للمرأة المبدعة هو مطالبتها بما لا تستطيع تقديمه ،أي امرأة تحترم نفسها وأخلاقياتها، فيكون بالرفض مصيرها الهامش، وبالرضا مصيرها سلم المجد الوهمي، وأما الرجل المسيطر على الثقافة بشكل مفصلي، فإنه لا يسمح بالمرور إلا للمشابهين له من الرجال، ممن حركتهم الإبداعية مرهونة نوعا ما بحركة حراس قصور الثقافة ودور المعرفة.
ولكم أن تتخيلوا ماهو الأثر النفسي والإنساني والاجتماعي الذي يتركه العزل والإقصاء على نفس المرء، فما بالكم بإنسان مثقف واعي مبدع، في شتى الفنون الإنسانية، تأتيه شللية ثقافية معينة تحاربه بصورة غير علنية، لا تقرأه، وإن قرأت له، أو شهدت آثارا من إبداعه، ادعت ضيق الوقت، أو عدم التمكن من رؤية الإبداع، أو تزييف حقيقية النص الإبداعي، بلصق النص بما ليس فيه، فكثير من لا يقرأ للشباب لأنهم شباب، ويفترضون بأن لغتهم ضعيفة، أو إنهم ليس لديهم هذا العمق المعرفي المفترض عند شيوخ الثقافة، إهرامات مصر، وحدائق بابل، الجامدة والخالية من روح التفاعل والتواصل الإنساني، والتهميش لا يتوقف عن عدم القراءة والتفاعل بل يكون من خلال الحرمان من منصب وترقية، ومقابلة في صحيفة أو تلفزيون، أو حتى من مصدر رزق للإنسان.
أتى يومنا هذا ، لا بد أن تكون ردة فعلنا فيه عملية ومنهجية، وهي بالعمل من خلال شبكة ثقافية تحرر المسكوت عنه، وتضع الهامش بجانب المتن، ليشكلا متنا كبيرا يعادل موجودات الحياة، ويحضر الغائب، والمغيب عن الوعي الإنساني، لتغدو أدوارنا في الحياة أكثر فاعلية.
_____________
* ناقدة وكاتبة كويتية.مجلة(عُمان)
المهمشون في الأدب… - ثقافات
*سعاد العنزيإن مفهوم المتن يقتضي دوما البحث عن الهامش، مثلما المركز له أطراف، والعاصمة تقف بجانبها ا
thaqafat.com