إن الكلام عن لغة خطاب موحدة بين العرب بلهجة غير العربية الفصيحة هو كلام بعيد عن الواقع، فالعاميات العربية اكتسبت ملامحها المميزة عبر الأزمان تأثراً بثقافات ولغات ولهجات الشعوب من حولها أخذاً وعطاءً. ولو حدث التغيير أو التقارب فلابد أن يكون مشروطاً بغلبة ثقافة من الثقافات على الأخرى مشرقية كانت أو مغربية أو وسيلة تقارب فاعلة ومؤثرة. ولا أرى في الأفق دلائل واضحة على هذا، بل الواقع هو أن هناك تبايناً واضحاً بين لهجة المشرقيين والمغربيين فلا يفهم بعضهم بعضاً إلا إن اعتمدوا العربية الفصيحة لساناً بدل اللهجات المحلية.
العاميات أو فلنسمها (اللهجات) العربية هي بنات الفصحى تقترب منها أو تبتعد، وقد عاشت جنباً إلى جنب مع العربية الفصيحة منذ القديم، وكان العرب يفهم بعضهم بعضاً، لكنها كانت منحصرة في عدد قليل من قبائل الحجاز ونجد واليمن وحضرموت.. وغيرها، وقد أطلقوا عليها أسماء بحسب ما يميز لسان هذه عن تلك، مثل: طمطمانية حمير، وعنعنة تميم، وفحفحة هذيل، وغمغمة قضاعة، وكشكشة ربيعة.. وغيرها. واختلاف الألسن العربية هو عين السبب الذي من أجله نزل القرآن بالأوجه المتعددة للقراءات، وكذلك خاطب النبي تلك القبائل بألسنتها المتعددة. ثم لما اتسعت رقعة المسلمين، وتمدد العرب شرقاً وغرباً، وتمازجت القبائل العربية مع الأعجمية، واختلطت الثقافات؛ كثرت اللهجات، وتعددت تصنيفاتها بحسب الأماكن؛ فنشأت اللهجات المغاربية بلسان أهل المغرب العربي والمشارقية بحسب البلدان مثل لهجات جزيرة العرب الخليجية والنجدية والحجازية والعراقية ولهجات الشمال الشامية كاللبنانية والسورية والفلسطينية والأردنية، وحتى المدن والمناطق أصبحت لها لهجاتها، فاللهجة المصرية مثلاً تنسب إليها الصعيدية والإسكندرانية والقاهرية، واللهجة النيلية تنسب إليها السودانية والمحسية والشايقية والدنقلاوية.. وهكذا في كل بلد من البلدان، أضف إلى ذلك لهجات البدو في كل منطقة. وهذه اللهجات في طريقها للاتساع والتعدد أكثر من أيلولتها للتوحد، وسوف تبقى هناك فصحى وعاميات، حيث تكون الفصحى هي المرجعية كلما تفرقت بها السبل أو تعددت الألسن.
الإعلام الجديد وفر للناس إمكانية استخدام ما يشاؤون من لغات أو لهجات، كما أضاف المؤثرات النصية التعبيرية والصورة والصوت والخواص الأخرى، إضافة إلى التفاعلية في الحوار، ولذلك فقد أصبح من السهل التخاطب بين العرب باختلاف لهجاتهم، لكن نشأت إضافة إلى ذلك لهجات وطرائق مبتدعة للتواصل مثل النقحرة (النقل الحرفي Transliteration) لترجمة اللغات واللهجات واستخدام الحروف اللاتينية لكتابة العربية، وذلك مؤشر لتأثر اللهجات العربية بثقافة الغرب التي وفرت وسائل التواصل، فقد أدخلت ثقافاتها ولغاتها وفرضت على مستخدميها استخدام المصطلحات والنصوص والرموز الانفعالية Emoticons الخاصة بها؛ فأصبحت مهدداً آخر للغة العربية.
أصبحت الإنجليزية والفرنسية وغيرهما من أدوات الهيمنة الثقافية على الشعوب العربية منذ انتشار التلفاز والقنوات الفضائية بالبرامج الأجنبية والغزو اللغوي، فأثر ذلك على لغتنا العربية واللهجات المحلية معاً، وغير كثيراً من أنماط حياتنا وحياة أبنائنا عن طريق البرامج والإعلانات التي تصب في آذاننا خليطاً غير متكافئ من اللغات، وأصبحت اللغات الأجنبية هي الغالبة لدرجة أننا أصبحنا نحس أننا لا نعيش في ظل مجتمع لغته هي العربية. فاللغات الأجنبية صبغت حياتنا بصبغة أجنبية غريبة، بدءاً بلغة الخطاب اليومي وكثرة المصطلحات الأجنبية، فالشوارع والأسواق تموج باللافتات والأسماء الأجنبية، كما تعمل تقنية الإعلام الجديد مثل الشبكة الدولية ووسائل التواصل الاجتماعي على إضعاف بل هدم وتخريب اللغة والثقافة العربية بنشر ثقافة الغرب المدعومة بالصورة والصوت والمؤثرات. ومعظم هذه الثقافات إن لم يكن كلها هي باللغات الأجنبية التي بدأت تصبح هي المهيمنة حتى في لغة الدراسة للنشء في مدارسنا العربية، وأصبح الهاتف المحمول الذي يقدم هذه الثقافات للجميع هو أحد أخطر الظواهر الاجتماعية ذات التأثير الواضح والعميق في جميع مجالات الحياة البشرية.
ويكشف تاريخ الشعوب العربية، منذ ابتلائها بالاستعمار، وحتى تحررها، ثم ما بعد ذلك؛ أن الوجود الأجنبي لم يكن مجرد ظاهرة ثقافية هامشية، وإنما كان سعياً أعد لإحلال لغة المستعمر محل العربية، لتصبح جزءاً أساسياً من الثقافة الرسمية في البلاد المحتلة، ثم ينميها ويغذيها تحت تأثير المناخ الاجتماعي والسياسي والفكري وشعارات مواكبة التحديث لانتزاع الشعوب بعيداً عن لغتها القومية، وادعاء أن العربية عاجزة عن مواكبة الحداثة والمعاصرة. والآن أصبحت مسؤولية الشعوب العربية استعادة قوة لغتها العربية عبر خطط وإستراتيجيات محكمة للتعليم والإعلام العربيين.
مقال : اللغة والتهديد الخارجي – المجلة العربية العدد 487 شعبان 1438 – مايو 2017
العاميات أو فلنسمها (اللهجات) العربية هي بنات الفصحى تقترب منها أو تبتعد، وقد عاشت جنباً إلى جنب مع العربية الفصيحة منذ القديم، وكان العرب يفهم بعضهم بعضاً، لكنها كانت منحصرة في عدد قليل من قبائل الحجاز ونجد واليمن وحضرموت.. وغيرها، وقد أطلقوا عليها أسماء بحسب ما يميز لسان هذه عن تلك، مثل: طمطمانية حمير، وعنعنة تميم، وفحفحة هذيل، وغمغمة قضاعة، وكشكشة ربيعة.. وغيرها. واختلاف الألسن العربية هو عين السبب الذي من أجله نزل القرآن بالأوجه المتعددة للقراءات، وكذلك خاطب النبي تلك القبائل بألسنتها المتعددة. ثم لما اتسعت رقعة المسلمين، وتمدد العرب شرقاً وغرباً، وتمازجت القبائل العربية مع الأعجمية، واختلطت الثقافات؛ كثرت اللهجات، وتعددت تصنيفاتها بحسب الأماكن؛ فنشأت اللهجات المغاربية بلسان أهل المغرب العربي والمشارقية بحسب البلدان مثل لهجات جزيرة العرب الخليجية والنجدية والحجازية والعراقية ولهجات الشمال الشامية كاللبنانية والسورية والفلسطينية والأردنية، وحتى المدن والمناطق أصبحت لها لهجاتها، فاللهجة المصرية مثلاً تنسب إليها الصعيدية والإسكندرانية والقاهرية، واللهجة النيلية تنسب إليها السودانية والمحسية والشايقية والدنقلاوية.. وهكذا في كل بلد من البلدان، أضف إلى ذلك لهجات البدو في كل منطقة. وهذه اللهجات في طريقها للاتساع والتعدد أكثر من أيلولتها للتوحد، وسوف تبقى هناك فصحى وعاميات، حيث تكون الفصحى هي المرجعية كلما تفرقت بها السبل أو تعددت الألسن.
الإعلام الجديد وفر للناس إمكانية استخدام ما يشاؤون من لغات أو لهجات، كما أضاف المؤثرات النصية التعبيرية والصورة والصوت والخواص الأخرى، إضافة إلى التفاعلية في الحوار، ولذلك فقد أصبح من السهل التخاطب بين العرب باختلاف لهجاتهم، لكن نشأت إضافة إلى ذلك لهجات وطرائق مبتدعة للتواصل مثل النقحرة (النقل الحرفي Transliteration) لترجمة اللغات واللهجات واستخدام الحروف اللاتينية لكتابة العربية، وذلك مؤشر لتأثر اللهجات العربية بثقافة الغرب التي وفرت وسائل التواصل، فقد أدخلت ثقافاتها ولغاتها وفرضت على مستخدميها استخدام المصطلحات والنصوص والرموز الانفعالية Emoticons الخاصة بها؛ فأصبحت مهدداً آخر للغة العربية.
أصبحت الإنجليزية والفرنسية وغيرهما من أدوات الهيمنة الثقافية على الشعوب العربية منذ انتشار التلفاز والقنوات الفضائية بالبرامج الأجنبية والغزو اللغوي، فأثر ذلك على لغتنا العربية واللهجات المحلية معاً، وغير كثيراً من أنماط حياتنا وحياة أبنائنا عن طريق البرامج والإعلانات التي تصب في آذاننا خليطاً غير متكافئ من اللغات، وأصبحت اللغات الأجنبية هي الغالبة لدرجة أننا أصبحنا نحس أننا لا نعيش في ظل مجتمع لغته هي العربية. فاللغات الأجنبية صبغت حياتنا بصبغة أجنبية غريبة، بدءاً بلغة الخطاب اليومي وكثرة المصطلحات الأجنبية، فالشوارع والأسواق تموج باللافتات والأسماء الأجنبية، كما تعمل تقنية الإعلام الجديد مثل الشبكة الدولية ووسائل التواصل الاجتماعي على إضعاف بل هدم وتخريب اللغة والثقافة العربية بنشر ثقافة الغرب المدعومة بالصورة والصوت والمؤثرات. ومعظم هذه الثقافات إن لم يكن كلها هي باللغات الأجنبية التي بدأت تصبح هي المهيمنة حتى في لغة الدراسة للنشء في مدارسنا العربية، وأصبح الهاتف المحمول الذي يقدم هذه الثقافات للجميع هو أحد أخطر الظواهر الاجتماعية ذات التأثير الواضح والعميق في جميع مجالات الحياة البشرية.
ويكشف تاريخ الشعوب العربية، منذ ابتلائها بالاستعمار، وحتى تحررها، ثم ما بعد ذلك؛ أن الوجود الأجنبي لم يكن مجرد ظاهرة ثقافية هامشية، وإنما كان سعياً أعد لإحلال لغة المستعمر محل العربية، لتصبح جزءاً أساسياً من الثقافة الرسمية في البلاد المحتلة، ثم ينميها ويغذيها تحت تأثير المناخ الاجتماعي والسياسي والفكري وشعارات مواكبة التحديث لانتزاع الشعوب بعيداً عن لغتها القومية، وادعاء أن العربية عاجزة عن مواكبة الحداثة والمعاصرة. والآن أصبحت مسؤولية الشعوب العربية استعادة قوة لغتها العربية عبر خطط وإستراتيجيات محكمة للتعليم والإعلام العربيين.
مقال : اللغة والتهديد الخارجي – المجلة العربية العدد 487 شعبان 1438 – مايو 2017
اللغة والتهديد الخارجي
إن الكلام عن لغة خطاب موحدة بين العرب بلهجة غير العربية الفصيحة هو كلام بعيد عن الواقع، فالعاميات العربية اكتسبت ملامحها المميزة عبر الأزمان تأثراً بثقافات ولغات ولهجات الشعوب من حولها أخذاً وعطاءً. ولو حدث التغيير أو التقارب فلابد أن يكون مشروطاً بغلبة ثقافة من الثقافات على الأخرى مشرقية كانت...
www.omarfadlalla.com