مدخل ..
منذ أن بدت أنوار التحديث المعاصرة في الوطن العربي ولا سيما في الميدان الثقافي، بدأ معها سجالٌ طويل حول التسميات والمصطلحات المعتمدة وحول الهوية والأصالة والتراث، ويختلف النقاد في نظرتهم لهذه القضية التي مازالت بعض مفرداتها لم تحسم حتى اليوم، فما دامت حداثة الغرب وحداثة العرب تمثل كل منهما ناسها وزمنها تمثيلاً يكاد يصل برأي بعضهم حدَّ التناقض في الغاية وفي أشكال التعبيرعنها،فلن تكون وحدة المصطلحات هدفاً، بل سيكون من الضروري ابتكار مسميات ومصطلحات من داخل كل ثقافة،فلماذا نُلحقُ ثقافتنا العربية وأجهزتنا المصطلحية بمفهومات الغرب وطرائق تحديثه ،وتاريخُ المصطلحات يؤكد أن المصطلح ابن مجتمعه وناتج ثقافة ذلك المجتمع وخلاصة فكر النخبة من علمائه المتخصصين بفضاء ذلك العلم، وظلت الأسئلة والاتهامات حول مشروعية مصطلح قصيدة النثر وانتمائها وايقاعها تتوالى، حتى خرجت المسألة من دائرة التثاقف إلى الاتهام بالخضوع للغرب ( )، إذ لماذا الإصرارُ على المرجعية الغربية بعد ادعاء جماعة قصيدة النثر العرب بانتسابهم لجذور عربية، ومنذ ذلك الوقت وما سبقه ظلت علاقتنا مع الغرب تبعية وليست نديّة، لقد انتقد محمد علاء عبد المولى إلحاق ثقافتنا وأجهزتنا المصطلحية بمفهومات الغرب وحداثته مؤكداً أن المسألة خرجت من دائرة التثاقف إلى الخضوع، وأن الجماعة بربط كتابتهم بمرجعيات غربية أثبتوا أنهم غير أمناء في ما ادّعوه من انتسابهم لجذور عربية.فضلا عن كونهم قلدوا الغرب في كتابة نصوص مفككة مدعين أن تفكك النصوص هو صدى لفوضى هذا العالم المفكك. ويرى عبد المولى أن ربط فوضى الكتابة ونصوصها بفوضى العالم يخفي رؤية أيديولوجية؛لأن تشابه فوضى النص بفوضى العالم لا يؤدي مهمة فنية. ( ) بدليل أن قصيدة النثرغدت فيما بعد جملا لا يريطها تركيبٌ لغويٌّ ولا تشكيلٌ دلالي، بل يجمعها فضاءٌ طباعي يتسم بالسواد ويستقبلها تهاونٌ نقدي وصل حد الإهمال واللامبالاة، مما يؤكد أن فكرنا في معظمه لا تاريخي، كونه لا يحسّ بلحظته الواقعة في سياقها التاريخي ،فقصيدة النثر في معظم نماذجها التي تملأ الصحف والمجلات لا تاريخية كونها تصدر عن فكر منقطع قائم على التقليد فهو يقلد الغربَ مرة ويقلد السلف مرة أخرى، دون إعطاء هذا النموذج فرصةً توفِّرُله اشتراطات النمو الطبيعي، ولم يحرص مؤسسوهذه القصيدة على تبيئة الظاهرة الجديدة بمعنى إدخال هذه الظاهرة إلى البيئة العربية لتكون في صلب نسيجها الكتابي متكيفة مع احتياج هذا النسيج ،وليس لها من أجل مغادرة غربتها إلا إنجاز هذه المهمة.إن تبيئة الظاهرة يعني تعايشها مع البيئة الجديدة لتكفَّ عن غربتها واغترابها. لقد كانت مهمة لغة هذه القصيدة مغادرة منطق المجاز الشعري إلى العمل على تكوين شكل شعري جديد يرسي دعائم التجربة الجديدة في عصر تعملقت فيه الآلة حتى غدت أكبر من الإنسان وأقدر منه في الاستحواذ على اهتمام المتنفذين في عصر زاخر بالمتناقضات.
إن القطيعة المعرفية بمفهوم ميشيل فوكو تتسع والمعايير الحاكمة تنتفي ليس على مستوى الأدب وحده، بل غدا تحديد الهوية عموماً إشكاليةً يعيشها الوعي الجمعي العالمي على كافة المستويات السياسية والفكرية والاقتصادية ،فالحدود تتماهى والتحديات العالمية تفرض سطوتها بما يسمح معه للهوية،هوية أي شيء بما فيه الإنسان أن تذوب، الهوية الشخصية والقومية والهوية النصية للأدب كذلك، وهنا يصبح البحث عن معيار حاسم هاجساً مؤرقا،وواقعاً حتمياً،لا بد من المحاولة بغية تلمسه. هكذا طالت إشكالية الهوية الأجناسَ الأدبية وفي مقدمتها قصيدة النثر التي نحن بصدد الحوار مع بعض نماذجها، والتي مازالت تعاني من إشكاليات لم تستطع الحوارات والدراسات التوصل لحلول ناجزة يمكنها إقناع الأغلبية.
لقد أوردت سوزان برنار لهذا الشكل الشعري ثلاث خصائص :
1ـ الوحدة العضوية: فقصيدة النثر كلٌّ غير قابل للتجزئة أو الحذف أو التقديم والتأخيربين مكوناته.
2ـ المجانية: فهي شكل جديد لا غاية له خارج عالمه المغلق، أي إنه مجاني ولا زمني.
3ـ الكثافة: فهذا الشكل يبتعد عن كل خصائص النثر من استطراد وشرح وإطناب وتكمن خاصيته في كثافته وإشراقه وإيحاءاته.
***
استقرت في تاريخ قصيدة النثر تلك الاشارةُ التي مازالت تُذكر ماذُكر هذا الفن، والتي تتجلى في هذا التناقض القائم بتشكيل مصطلح العنوان بين شعر/ نثر والذي مازال الاعتراض عليه قائما حتى من قبل أكبر المؤيدين لهذا الفن منذ التأسيس إلى هذا اليوم.وحتى في فرنسا مسقط رأسها، حيث أشار جان كوهن لهذا اللبس، فكيف يمكن للنقد رصد السمة الشعرية في هذا النص الجديد الذي تعترف ثرياه بارتكازه على النثر،هل تكفي التأثيرات الصوتية تعزيزاً لقيمة شعرية النص.؟ لكن هذه المؤشرات الايقاعية قد تظهر في فنون أخرى كالخطابة والرسائل الأدبية فلا تحولها إلى قصائد نثر لتبقى محتفظة بأصولها مع تشكيل السمة الصوتية الجديدة المضافة.
***
“قريبا من الارض” .. عنوان المجموعة الشعرية الرابعة للشاعر نامق سلطان بعد مجموعاته الثلاثة التي صدرت عن دور نشر مختلفة وحملت السمات التي امتازت بها قصيدته وهي تتطورلتمنح القارئ فرصة التطلع للأبعد،دون قيود ولا قواعد ولا سقوف تحدُّ من تطلعاتها، إنها تحرص على تجديد اللغة الشعرية إذ ترويها بماء الحياة وحركية الواقع، فإذا الواقعيُّ المحدودُ فضاءاتٌ ورؤى تمتد بآفاقها بعيدا عما هو متداول وعن الحدود التي وضعت قيوداً على حركة الشعر الحرة كونه مشروعا ثقافيا شاملا وليس نصاً لتشكيلاتٍ وزخارفَ جمالية مهمتها عرض أشكال المجازات وطرائق إنجازها التي شغلت القصيدة العربية القديمة ونقدها معاً ،فالشعر وأبعاده الفنية أكبر وأوسعُ وأبلغُ هدفاً من الهدف الجمالي الذي حدّوه بالشكل،فقد عاد الفن المعاصربمفهوم الجمال إلى دلالته الأشمل، حيث يكون للأشكال والمضامين معاً دلالاتٌ جمالية تنبضُ في صميم تشكيلات النص مُذ عاد الفن إلى الإنسان وإلى أرضه ولحياته اليومية فيها ،إلى مكابدة واقعه ومعاناة آلامه وما فعل به طغاة الأرض ومتجبروها. لقد خرج شاعرنا بإرادة حرة عن تلك الازدواجية التي حفرت هُوّةً بين سادن الكلمات الذي يشكل النص وبين الانسان المتعب الذي ينبض بإنسانيته، وهذا ما دفع بعض الموهوبين الى البحث عن بدائلَ فنية حرة تتوافق ومايطمحون اليه من حرية تصل حدَّ التطرف مقابل القمع الذي وصل بالفنون حدَّ التطرف، قمع الشعر وإنسانه معاً، فكانت “قصيدة النثر” هي البديل الذي يتوافق مع هذه النزعة الناسفة للقديم عبر نصٍّ اتسم بالإيجاز والتوتر والكلية لأنها تُشكلُ كتلة بذاتها، مما دفع بعض نقادها الى تشبيهها بلوحة الرسم التي تهدف لبعث الدهشة، والابتعاد عن القوالب الجاهزة ،فشاعرها يرسم قصيدته على وفق منطقه الخاص وإن بدا ضد المنطق،ضمن سمات لُخصت بالايجاز والكثافة،والتوهج.
إن أهمية التجربة الشعرية تكمن في قدرتها على تشكيل علاقة متفردة مع الأشياء، بلغة متفردة تكسر أطرَ الواقع المحدود لتشير للأبعد ، إلى غير المتعين، المفتوح دلالياً على أفق قرائي تجاوز معانيه القارة قاموسياً، كما تجاوز العلاقات المستقرة بين المسند والمسند إليه ،بين الصفة والموصوف، والمضاف والمضاف إليه، ومن خلال هذه الجرأة تغدو طاقة اللغة هي الروح المحركة لشعرية القصيدة ،فاللغة المبدعة هي حاملة وهج الإبداع ،المحتفيةُ بسمو الدلالة،دلالةٍ تشيرُ ولا تؤكد، وتوحي ولا تُقيّد ،بدون هذه اللغة تذوي التجربةُ مهما بلغت من الفرادة، فاللغة سيدة التشكيل، هي صانعة الأشكال الشعرية، لكن بوعي الشاعر وعمق خبراته وسعة معارفه، ولذلك فالطاقة الشعرية لأي قصيدة تكمن في قدرة الشاعر على اللعب باللغة لعباً فنياً ماهراً، كذلك الذي لعبته شعرية نامق سلطان عبر قصائد ديوانه القريبة من الأرض في علاقات تشكيلها الاستبدالية ،فمهمة الشاعر حسب مالارميه لا تعتمد رسمَ الشيء ،بل رسم الأثر الذي يخلفه الشيء:
عندما تكونُ وحدك
لا تكونُ
وحيداً ..
إن مثل هذا البوح لا يصور الوحدة بوصفها مشهدا، بل يصور ما تلقيه من المشاعر على الإنسان الوحيد الذي تكفلت القصيدة بالتعبير عن مشاعره، وعن مشاعر متلقيه معاً،فالوحدة في عالمنا الموبوء بالحروب ومكابدة عذابها هي غير الوحدة الايجابية التي تُنتج بالتفكر والتأمل علوماً وفنوناً وإبداعاً يُخلِّد جهد الإنسان بما يشكل من فن وجمالياتٍ بأدواتٍ وطرائقَ شتى.
لقد خرجت قصيدة النثر شأنها شأن نصوص مابعد الحداثة على النظام والمركزِ والانسجام، كما خرجت على الوحدة والتماسك ، وانحازت لليومي والهامشِيّ ، مستجيبةً للفوضى والتأجيل والتضاد والتَّشظّيات. لكن قصيدة النثر العربية التي انتمت لبيئتها ابتعدت عن الاستسلام لمَنشَئها الغربي، فلم تكن أسيرة كل هذه السمات الاغترابية، بل عالجت معظمُ النماذجِ المختارة في هذه الدراسة إشكالياتِ واقعها العربي وأزماته من حروب وقتل وفقرومرض وتهجيرومعاناة ، مُفيدةً مما ينسجم ومنهجها التشكيلي من كلّ تلك السمات الغربية.. في نصوص الشعراء الذين لم يستنسخوا النموذج، بل ابتكروا نموذجهم العربي.
في قصيدة “الأيام الأخيرة ” نجدنا أمام رثائية موجعة لنفي الإنسان في وطنه ومطاردته وتغييبه وتهديده في لقمة عيشه وفي حياته:
هناك سنوات قضيتها في ترتيب حديقة
وسرير يطفو على ماء بحيرة
وأشياء كثيرة نسيتها عندما داهمتني شكوكٌ
بأنني عشت حياتي منفياً في مسقط رأسي
ومطارداً في الوظيفة
ولم أحصل على ما يثبتُ أني نجوتُ بأعجوبة
في آخر فيضانٍ أغرق الوادي
**
وهناك الوجوه المرتابة التي كانت تُطلُّ
من النوافذ الضيقة في دوائر الجوازات
وفي المنافذ الحدودية
لغةٌ بسيطة عبر تشكيلات لا تسهب لكنها توحي،فشبه الجملة (في آخر فيضان) توحي مفردة آخر بكثرة الفيضانات وتعدد الحروب التي أغرقت حياة الشاعر ووطنه ،وتوحي مفردة (الوادي/ الأرض المنخفضة) باستعلاء المعتدين وتسلطهم على الشعوب المستضعفة والمقهورة بتكرار العدوان عليها،وإلحاق الأذى بها.لغة يسودها الشك والارتياب وغياب الثقة وضياع الحقائق،حتى الزوجةُ لا تعرف أي حقائق حياة زوجها ولا الإشكاليات التي تكتنف تفكيره.لقد كانت الإستعارة هي بؤرة توهج الشعرية العربية، كما كان الوزن بؤرة موسيقاها،لكن الأمر تغير مع قصيدة النثر فغدت المفارقة بأنواعها هي بؤرة الإشعاع الشعري كما غدا الايقاع الداخلي بديلا عن الاوزان العروضية لمدونة الخليل بن أحمد، فالاستبدال سمة قصيدة النثر التي سرت على الكثير من سمات الشعرية فيها.
نامق سلطان لا يشعر بانتماء تام لواقعه ولا لتركيبة مجتمعه التي التمّت عوامل سلب كثيرة لتخريبها والنيل من تماسكها وانتمائها،إنه مهموم بما خلفته تلك العواملُ من خراب وهدم وانتكاسات، إنه لا ينسى ولا يسامح وكيف ينسى والعالم يهتز تحت قدميه ،وصور السلب التي رافقت حياته مازالت تجوس في الخفاء مواصلة فعلها التخريبي، كما أن شعرية نصوصه تفعل فعلها عبر سمات شعرية مهمة يمكن تلخيصها بغياب المرجع وهدم السببية ليبقى القارئ وحده مسؤولاً عن تشكيل المعنى، إذ لا تفسيرَ في الشعر ولا تعليل، الأسباب والمسببات والتفسير مهمة النثر ،كونها سمة نثرية، أما الشعر فيتسم بحرية التعبير ،الشعر لا يُسبّبُ ولا يفسر أو يعلل بل يرسم ويقررطريقة رسمه بتمام الحرية.
يسخر نامق سلطان ممن اتخذوا من دوغمائية الفكر وانغلاقه والاستسلام لليقين وسيلة لعلاج الأمور وتفكيك عُقد والتباسات المواقف الحياتية الصعبة، بدل الانفتاح والتعددية والتشكيك، وقبول الاحتمالات التي غدت سمة الحياة المعاصرة بعد أن انفجرت فيها العلوم والفنون والمعارف، وتداخل كل شيء بكل شيء مُذ سقطت الحتميات وصار الاحتمال سيد المواقف :
هل كان عليهم
أولئك الذين اختلفوا
على طينة الخلق
أن يدفعوني من أعلى الجبل
كي يثبتوا للعالم
أنني لست مخلوقاً من زجاج ..
فاللجوء للاحتمال هو السبيل الأمثل لحل أية إشكالية تتعلق بالأمور المعضلة التي لم تُحسم علميا، ومنها كل ما يتعلق بالأمور الدينية وقضايا الغيب التي لم ترد تفصيلات عنها في القرآن الكريم ولا الحديث والسنة، إن اللجوء لقبول الاحتمالات يجنبنا الكثير من الخسائر ولاسيما إن كانت خسائر إنسانية. وقبول الاحتمال دون التضحية بحياة إنسان قد يكون بريئا كما هو حاله في هذه القصيدة،هو الحل الأمثل، لأن العلم المعاصر وفلسفاته يؤكدان أن كل شيء محتمل دون اللجوء لحتميات العلوم التقليدية بحثاً عن اليقين أو التأكد من وجوده.
*
التفاصيلُ أيضاً ليست مهمة
صفحاتٌ كثيرة دُوّنت في التحقيق
وفي المرافعات
بعد أن عبث الجناةُ بالأدلة ..
بينما الأبرياء يركبون قوارب مستهلكة
للنجاة بأنفسهم من العدالة.. الديوان،ص 7-8.
الشاعر يدرك أن بعض التفاصيل وربما معظمها تربك الحقيقة وتشوّشُ على الحق لوضوح هدفها في التزوير الذي يمكّن الجناة من العبث بالأدلة لتضيع الحقائق، وعبر تقنية التوازي بين أحوال الجناة والأبرياء، ومقابل هذا العبث بأدلة إدانة المجرمين وإثبات براءة الأبرياء ،كان هؤلاء الأبرياءُ يركبون قوارب مستهلكة في مفارقة حادة تخفي سخرية لاذعة من وضعٍ تضيعُ فيه القيم حين يهرب الأبرياءُ من العدالة ليستمتع المجرمون ببراءة الجريمة.! فلأي حدٍّ كانت هذه العدالة غير عادلة وساقطة وغير مؤتمنة على الحقيقة.!
إنه خطابُ ما بعدَ الحَدَاثَةِ وهو يُعرّي سلبيات حضارةٍ مادية مأزومة ، اختلط فيها الحق بالباطل،وصار الزيفُ عنواناً والكذبُ مبرراً لإحقاق الباطل ، خطابُ ما بعد الحداثة وهو يحتفلُ بالواقعِ اليوميّ البسيط الهامشي، بعيداً عن زحمة المجازات والاشتغال المفرط على الأشكال، واضعاً القارئ أمام مسؤوليته التأويلية التي غادرت ضوضاء لغة المحسنات واعتمدت فضح الايديولوجيات التي باد زمنها عبر لغة حرصت على هدم اليقينيات ، وعمدت إلى مغادرة السرديات الكبرى مما جعل الرفض سمة قصيدة النثر ونهجها التفكيكي الذي اعتمد التعددية والتشتيت وتجلى في الشك والاحتمالات والغياب، مُتوجهاً إلى القارئ في تشكيل الدلالة، ومعتمداً عليه في التوسع والانفتاح على العالم وعلى منجزاته وخبراته الجديدة.
قصيدة النثر تدركُ أنّ كل ما كان في الماضي حاضرا ومتماسكا قد تفككَ وانفجرت نواة مركزه ،وضاقت فضاءاته وتمزقت وحدته،وكتابها يدركون أنهم يعيشون عصر السيولة الشاملة حلاً لاشكالية الثنائية الصلبة: ذات/موضوع ، فالسيولة هي السمة الأساسية لما بعد الحداثة حيث تغيب الحدود والفواصل لتتداخل الأمورُ والأشياءُ ببعضها وليشتبك كلُّ شيء بكل شيء ،عبر تلك الفوضى التي وصفت زوراً وبهتاناً بالخلاقة، فالذات لا تعرف مراكزَ مادية أو روحية، ولذلك فهي بلا هوية لأنها تفتقد التماسك والوضوح الذي هو سمة الهويات ودليلها.
وكرد فعلٍ معاكسٍ على تلك الإشكاليات الكبيرة التي أحاطت بالإنسان المعاصر وخلاصا من معضلة الحلول، فإن نامق سلطان ينظر للقضايا الكبرى بمنظار الطفولة، بلغتها البسيطة الواضحة، وبهذه اللغة البسيطة سيتحدث عن القضايا الكبرى والمعقدة، قضية الخلق والخطايا ،والعقوبات:
بلغة بسيطة
يفهمها طفل
يركض حافياً في دروب القرية
من أول المطر إلى آخره
سأحدثك عن الطين ..
الأقدام الحافية وهي تلامسُ طينَ الأرض، حيثُ تبدأ مكابدة الأنسان الأولى،وصراعُه الأزلي في هذا الاشتباك الأبدي،الإنسان/ الأرض، من أول المطر إلى آخره،من بدء الحياة لنهايتها، والمطر دلالياً ،مفردةٌ لم ترد في القرآن إلا إشارةً للعذاب والطوفان والعقوبات. ثم يكتفي الشاعرُ بهذه الإشارة دون إسهاب، فقصيدة النثر تكتفي بالوعد دون التفاصيل وبالإشارة دون العبارة: سأحدثك عن الطين ، ثم يلتزم الصمت فلا يحدثها، مُذكراً إيانا بإيجازالحديثَ الشريف، “كلكم لآدم، وآدمُ من تراب.” إذن سأحدثكِ عن الطين الذي صار فيما بعدُ آدمَ وذريته، عن آدم الذي خُلق من تراب، ما أوسع الدلالة في هذه العبارة الضيقة، من أول الحياة / المطر، إلى آخرها كانت معظمُ افعالِ ابنِ آدمَ طينية منجذبة للأرض، مُلبية للحواس، وقلما ارتقت لإنسانيتها ؛لأن الهبوط بالجاذبية أسهلُ من الصعود والارتقاء؛ لحاجة الصعود إلى طاقةٍ يبذلها الإنسان ليرتقي، بينما الهبوط انحدار ..الشاعر يعدُّ الحياة عقوبةً دائمة، مطراً مستمراً ومكابدة موجعة بهيمنة الطين الذي شكّل بشراً ذا متطلباتٍ طينيٍّة، أجساداً غابت فيها إشراقاتُ الروح وانحسرت بغيابها القيمُ، وبقي الطينُ يركضُ حافياً في دروب “القرية” ،عارياً دون ما يقيه مخاطرَ الدرب.ولعل ورود القرية بدل المدينة – والشاعر مدنيّ النشأة – له من الدلالة ما لا يخفى،فلأسباب شتى غادرت المدينة هويتها إلى القرية، وفي ذلك نكوص أليم ناتجٌ عن نكوص مجمل قيم الحياة، وسلبيات حركتها المتقهقرة دوما والمتصحرة يوماً بعد يوم..
“سأحدثكِ عن الطين”
لكنّه لم يحدثها، لم يتحدث عن الطين وما أنزله بالإنسان من خطايا، شاعرُ التفكيك يؤجل، لأن سمة منهجه التأجيلُ والتأويل وتسليمُ زمام تشكيل المعنى لأفق تلقي القارئ ورؤاه، إنه يترك للقارئ كلَّ ما يؤجله من الدلالات لينوب عنه في تشكيلها، فهو يؤول ويحوّل ويرسم طرقاً دلالية جديدة في لعبته الماهرة مع النص.
إن التشكيل الطباعي لهذا المقطع الذي يعلن عن الفصل بين لغة التعبيرالبسيطة في البداية وأسلوب الحديث عن الطين في الخاتمة يؤكد واقع حياة قائمةٍ على الفصل والسلب والتمزقات والاغتراب.
نامق سلطان يدرك كوارث العصر، وما اقترفته الحضارة المادية وحروبها ونفيُ الإنسان وإنسانيته فيها، يدركُ إثم من قتلوا روحَ الإنسان وعملوا على تعميق مكابدات قلبه ودحر قدرته على المقاومة:
هناك أيضا كمية كبيرة من الأدوية
كلها لم تعد صالحة لترميم كسور القلب
أو لترطيب الروح التي تيبست
تحت أمطار الحروب..
كل نصوص الديوان تعلن عن مكابدة إنسانية تشكو التصحّرَوالخذلانَ وضياع القلب الإنساني وروحه المكسورة بالجفاف العاطفي ووجع الحروب.
قصيدة نامق تشكو الضياع الإنساني القاهر ،شاعرها موجعٌ بالبحث عن هوية، مُدركاً أن إشكالية الهوية غدت إشكالية شاملة حتى وصلت أزمتُها إلى النصوص، فبعض النصوص مازال دون تسمية بسبب خروجها على حدود الأجناس ومعاييرها وظلت بحاجة إلى انتماء وتسميات،وبعضها مازالت تسميته موضعَ شكّ واعتراضات كقصيدة النثر ذاتها، إنه موجع بداء العصر،فالكل يشكو ضياع هويته بضياع لحظة اليقين في حياةٍ مزقتها يدُ عصرٍ آثم، ضياع الهوية وتشرذم الروح وتمزقاتها، كلٌّ يشكو اغتراباتٍ وجودية ساحقة..الإنسان وما يُنتج من أدب وفن، حركة المجتمع وهيمنة عوامل السلب فيه:
لو كانت الحياة دراجة هوائية
لأتقنت قيادتها بلا معلم
عندها ستكون لي هوية واضحة
أنطلقُ بها بين جبالٍ ووديانٍ وغابـات
أبحث عن أعياد هربتْ بقميص طفولتي الوحيد
إنه يشكو الفقدان وتمزقاته الانسانية وما وقع على الشاعر وأهله وعلى شعوب العالم المستضعفة من حيفٍ وظلمٍ وعدوان، فلا الجمال المادي ولا بهرجة الحضارة المعاصرة ولا معالم تقدمها الكاذب البعيد عن تضميد جرح الإنسان بقادرٍ على المكوث أمام تساؤلات الشاعر وغربة يقينه :
أبحث عن شجرة كنتُ واحداً من أغصانها.
قبل أن تقطعني فأسٌ في لحظة عابثة..
فكل عوامل السلب التي تكتنف حياة الإنسان في هذا العصر المأزوم إذن سببها تلك اللحظة العابثة التي ضاعت فيها القيم فلعبت بمصير الإنسان المعاصر واستخفت بحرمة وجوده يوم كانت تلك الشجرةُ آمنةً وارفةَ الظلالِ.
وبالرغم من كل العذابات الحقيقية التي طرحها ديوان الشاعر نامق سلطان “قريبأ من الأرض” إلا أنه لا ينسى أن يفتح لنا ولقرائه وللإنسان عموماً كوى أملٍ نواصل من خلالها الحياة ومادامت عملية البحث مستمرة،فالأملُ بتغيير الحال قائم،لأن البحث تواصل وقضية، والبحث مقاومة لعوامل الانفصال والقطيعة:
أبحث عن شجرةٍ كنتُ واحداً من أغصانها.
وهذا البحث يتم من خلال اللحظة الحاضرة التي لا يمتلك الإنسانُ سواها، ولذلك جاءت معظم أفعال الديوان بصيغة المضارع ،فالماضي عبر وانتهى والمستقبل غيب ويبقى الحاضر في قبضتنا، إنه الزمن الذي يمكن للإرادة الإنسانية أن تحركه كيف تشاء، ومن خلال المضارع المستمر”أبحثُ” الذي يضمر حركيةً نشطة، وما دام الفاعل ضمير المتكلم الذي يحمل طاقة فاعلية تفوق الضمائر الأخرى لامتلاكه حقوق البوح كلها، ومادام المأمولُ شجرةً والشجرةُ أغصانٌ وثمرٌ ونوىً للتكاثر، ومواسمُ وأجيالٌ تَقطف وتواصل، فالأمل حاضرٌ في ثنايا النص.. لكن الشاعر يبقى حذراً فقد علمته الحياة بتجاربها المرة كيف يحذر لحظتها الأليمة وكيف يتعلم المقاومة أمام مداهمة تلك اللحظة بوعي التحديات التي تكتنف الإنسان وتلعب بمصائره..
منذ أن بدت أنوار التحديث المعاصرة في الوطن العربي ولا سيما في الميدان الثقافي، بدأ معها سجالٌ طويل حول التسميات والمصطلحات المعتمدة وحول الهوية والأصالة والتراث، ويختلف النقاد في نظرتهم لهذه القضية التي مازالت بعض مفرداتها لم تحسم حتى اليوم، فما دامت حداثة الغرب وحداثة العرب تمثل كل منهما ناسها وزمنها تمثيلاً يكاد يصل برأي بعضهم حدَّ التناقض في الغاية وفي أشكال التعبيرعنها،فلن تكون وحدة المصطلحات هدفاً، بل سيكون من الضروري ابتكار مسميات ومصطلحات من داخل كل ثقافة،فلماذا نُلحقُ ثقافتنا العربية وأجهزتنا المصطلحية بمفهومات الغرب وطرائق تحديثه ،وتاريخُ المصطلحات يؤكد أن المصطلح ابن مجتمعه وناتج ثقافة ذلك المجتمع وخلاصة فكر النخبة من علمائه المتخصصين بفضاء ذلك العلم، وظلت الأسئلة والاتهامات حول مشروعية مصطلح قصيدة النثر وانتمائها وايقاعها تتوالى، حتى خرجت المسألة من دائرة التثاقف إلى الاتهام بالخضوع للغرب ( )، إذ لماذا الإصرارُ على المرجعية الغربية بعد ادعاء جماعة قصيدة النثر العرب بانتسابهم لجذور عربية، ومنذ ذلك الوقت وما سبقه ظلت علاقتنا مع الغرب تبعية وليست نديّة، لقد انتقد محمد علاء عبد المولى إلحاق ثقافتنا وأجهزتنا المصطلحية بمفهومات الغرب وحداثته مؤكداً أن المسألة خرجت من دائرة التثاقف إلى الخضوع، وأن الجماعة بربط كتابتهم بمرجعيات غربية أثبتوا أنهم غير أمناء في ما ادّعوه من انتسابهم لجذور عربية.فضلا عن كونهم قلدوا الغرب في كتابة نصوص مفككة مدعين أن تفكك النصوص هو صدى لفوضى هذا العالم المفكك. ويرى عبد المولى أن ربط فوضى الكتابة ونصوصها بفوضى العالم يخفي رؤية أيديولوجية؛لأن تشابه فوضى النص بفوضى العالم لا يؤدي مهمة فنية. ( ) بدليل أن قصيدة النثرغدت فيما بعد جملا لا يريطها تركيبٌ لغويٌّ ولا تشكيلٌ دلالي، بل يجمعها فضاءٌ طباعي يتسم بالسواد ويستقبلها تهاونٌ نقدي وصل حد الإهمال واللامبالاة، مما يؤكد أن فكرنا في معظمه لا تاريخي، كونه لا يحسّ بلحظته الواقعة في سياقها التاريخي ،فقصيدة النثر في معظم نماذجها التي تملأ الصحف والمجلات لا تاريخية كونها تصدر عن فكر منقطع قائم على التقليد فهو يقلد الغربَ مرة ويقلد السلف مرة أخرى، دون إعطاء هذا النموذج فرصةً توفِّرُله اشتراطات النمو الطبيعي، ولم يحرص مؤسسوهذه القصيدة على تبيئة الظاهرة الجديدة بمعنى إدخال هذه الظاهرة إلى البيئة العربية لتكون في صلب نسيجها الكتابي متكيفة مع احتياج هذا النسيج ،وليس لها من أجل مغادرة غربتها إلا إنجاز هذه المهمة.إن تبيئة الظاهرة يعني تعايشها مع البيئة الجديدة لتكفَّ عن غربتها واغترابها. لقد كانت مهمة لغة هذه القصيدة مغادرة منطق المجاز الشعري إلى العمل على تكوين شكل شعري جديد يرسي دعائم التجربة الجديدة في عصر تعملقت فيه الآلة حتى غدت أكبر من الإنسان وأقدر منه في الاستحواذ على اهتمام المتنفذين في عصر زاخر بالمتناقضات.
إن القطيعة المعرفية بمفهوم ميشيل فوكو تتسع والمعايير الحاكمة تنتفي ليس على مستوى الأدب وحده، بل غدا تحديد الهوية عموماً إشكاليةً يعيشها الوعي الجمعي العالمي على كافة المستويات السياسية والفكرية والاقتصادية ،فالحدود تتماهى والتحديات العالمية تفرض سطوتها بما يسمح معه للهوية،هوية أي شيء بما فيه الإنسان أن تذوب، الهوية الشخصية والقومية والهوية النصية للأدب كذلك، وهنا يصبح البحث عن معيار حاسم هاجساً مؤرقا،وواقعاً حتمياً،لا بد من المحاولة بغية تلمسه. هكذا طالت إشكالية الهوية الأجناسَ الأدبية وفي مقدمتها قصيدة النثر التي نحن بصدد الحوار مع بعض نماذجها، والتي مازالت تعاني من إشكاليات لم تستطع الحوارات والدراسات التوصل لحلول ناجزة يمكنها إقناع الأغلبية.
لقد أوردت سوزان برنار لهذا الشكل الشعري ثلاث خصائص :
1ـ الوحدة العضوية: فقصيدة النثر كلٌّ غير قابل للتجزئة أو الحذف أو التقديم والتأخيربين مكوناته.
2ـ المجانية: فهي شكل جديد لا غاية له خارج عالمه المغلق، أي إنه مجاني ولا زمني.
3ـ الكثافة: فهذا الشكل يبتعد عن كل خصائص النثر من استطراد وشرح وإطناب وتكمن خاصيته في كثافته وإشراقه وإيحاءاته.
***
استقرت في تاريخ قصيدة النثر تلك الاشارةُ التي مازالت تُذكر ماذُكر هذا الفن، والتي تتجلى في هذا التناقض القائم بتشكيل مصطلح العنوان بين شعر/ نثر والذي مازال الاعتراض عليه قائما حتى من قبل أكبر المؤيدين لهذا الفن منذ التأسيس إلى هذا اليوم.وحتى في فرنسا مسقط رأسها، حيث أشار جان كوهن لهذا اللبس، فكيف يمكن للنقد رصد السمة الشعرية في هذا النص الجديد الذي تعترف ثرياه بارتكازه على النثر،هل تكفي التأثيرات الصوتية تعزيزاً لقيمة شعرية النص.؟ لكن هذه المؤشرات الايقاعية قد تظهر في فنون أخرى كالخطابة والرسائل الأدبية فلا تحولها إلى قصائد نثر لتبقى محتفظة بأصولها مع تشكيل السمة الصوتية الجديدة المضافة.
***
“قريبا من الارض” .. عنوان المجموعة الشعرية الرابعة للشاعر نامق سلطان بعد مجموعاته الثلاثة التي صدرت عن دور نشر مختلفة وحملت السمات التي امتازت بها قصيدته وهي تتطورلتمنح القارئ فرصة التطلع للأبعد،دون قيود ولا قواعد ولا سقوف تحدُّ من تطلعاتها، إنها تحرص على تجديد اللغة الشعرية إذ ترويها بماء الحياة وحركية الواقع، فإذا الواقعيُّ المحدودُ فضاءاتٌ ورؤى تمتد بآفاقها بعيدا عما هو متداول وعن الحدود التي وضعت قيوداً على حركة الشعر الحرة كونه مشروعا ثقافيا شاملا وليس نصاً لتشكيلاتٍ وزخارفَ جمالية مهمتها عرض أشكال المجازات وطرائق إنجازها التي شغلت القصيدة العربية القديمة ونقدها معاً ،فالشعر وأبعاده الفنية أكبر وأوسعُ وأبلغُ هدفاً من الهدف الجمالي الذي حدّوه بالشكل،فقد عاد الفن المعاصربمفهوم الجمال إلى دلالته الأشمل، حيث يكون للأشكال والمضامين معاً دلالاتٌ جمالية تنبضُ في صميم تشكيلات النص مُذ عاد الفن إلى الإنسان وإلى أرضه ولحياته اليومية فيها ،إلى مكابدة واقعه ومعاناة آلامه وما فعل به طغاة الأرض ومتجبروها. لقد خرج شاعرنا بإرادة حرة عن تلك الازدواجية التي حفرت هُوّةً بين سادن الكلمات الذي يشكل النص وبين الانسان المتعب الذي ينبض بإنسانيته، وهذا ما دفع بعض الموهوبين الى البحث عن بدائلَ فنية حرة تتوافق ومايطمحون اليه من حرية تصل حدَّ التطرف مقابل القمع الذي وصل بالفنون حدَّ التطرف، قمع الشعر وإنسانه معاً، فكانت “قصيدة النثر” هي البديل الذي يتوافق مع هذه النزعة الناسفة للقديم عبر نصٍّ اتسم بالإيجاز والتوتر والكلية لأنها تُشكلُ كتلة بذاتها، مما دفع بعض نقادها الى تشبيهها بلوحة الرسم التي تهدف لبعث الدهشة، والابتعاد عن القوالب الجاهزة ،فشاعرها يرسم قصيدته على وفق منطقه الخاص وإن بدا ضد المنطق،ضمن سمات لُخصت بالايجاز والكثافة،والتوهج.
إن أهمية التجربة الشعرية تكمن في قدرتها على تشكيل علاقة متفردة مع الأشياء، بلغة متفردة تكسر أطرَ الواقع المحدود لتشير للأبعد ، إلى غير المتعين، المفتوح دلالياً على أفق قرائي تجاوز معانيه القارة قاموسياً، كما تجاوز العلاقات المستقرة بين المسند والمسند إليه ،بين الصفة والموصوف، والمضاف والمضاف إليه، ومن خلال هذه الجرأة تغدو طاقة اللغة هي الروح المحركة لشعرية القصيدة ،فاللغة المبدعة هي حاملة وهج الإبداع ،المحتفيةُ بسمو الدلالة،دلالةٍ تشيرُ ولا تؤكد، وتوحي ولا تُقيّد ،بدون هذه اللغة تذوي التجربةُ مهما بلغت من الفرادة، فاللغة سيدة التشكيل، هي صانعة الأشكال الشعرية، لكن بوعي الشاعر وعمق خبراته وسعة معارفه، ولذلك فالطاقة الشعرية لأي قصيدة تكمن في قدرة الشاعر على اللعب باللغة لعباً فنياً ماهراً، كذلك الذي لعبته شعرية نامق سلطان عبر قصائد ديوانه القريبة من الأرض في علاقات تشكيلها الاستبدالية ،فمهمة الشاعر حسب مالارميه لا تعتمد رسمَ الشيء ،بل رسم الأثر الذي يخلفه الشيء:
عندما تكونُ وحدك
لا تكونُ
وحيداً ..
إن مثل هذا البوح لا يصور الوحدة بوصفها مشهدا، بل يصور ما تلقيه من المشاعر على الإنسان الوحيد الذي تكفلت القصيدة بالتعبير عن مشاعره، وعن مشاعر متلقيه معاً،فالوحدة في عالمنا الموبوء بالحروب ومكابدة عذابها هي غير الوحدة الايجابية التي تُنتج بالتفكر والتأمل علوماً وفنوناً وإبداعاً يُخلِّد جهد الإنسان بما يشكل من فن وجمالياتٍ بأدواتٍ وطرائقَ شتى.
لقد خرجت قصيدة النثر شأنها شأن نصوص مابعد الحداثة على النظام والمركزِ والانسجام، كما خرجت على الوحدة والتماسك ، وانحازت لليومي والهامشِيّ ، مستجيبةً للفوضى والتأجيل والتضاد والتَّشظّيات. لكن قصيدة النثر العربية التي انتمت لبيئتها ابتعدت عن الاستسلام لمَنشَئها الغربي، فلم تكن أسيرة كل هذه السمات الاغترابية، بل عالجت معظمُ النماذجِ المختارة في هذه الدراسة إشكالياتِ واقعها العربي وأزماته من حروب وقتل وفقرومرض وتهجيرومعاناة ، مُفيدةً مما ينسجم ومنهجها التشكيلي من كلّ تلك السمات الغربية.. في نصوص الشعراء الذين لم يستنسخوا النموذج، بل ابتكروا نموذجهم العربي.
في قصيدة “الأيام الأخيرة ” نجدنا أمام رثائية موجعة لنفي الإنسان في وطنه ومطاردته وتغييبه وتهديده في لقمة عيشه وفي حياته:
هناك سنوات قضيتها في ترتيب حديقة
وسرير يطفو على ماء بحيرة
وأشياء كثيرة نسيتها عندما داهمتني شكوكٌ
بأنني عشت حياتي منفياً في مسقط رأسي
ومطارداً في الوظيفة
ولم أحصل على ما يثبتُ أني نجوتُ بأعجوبة
في آخر فيضانٍ أغرق الوادي
**
وهناك الوجوه المرتابة التي كانت تُطلُّ
من النوافذ الضيقة في دوائر الجوازات
وفي المنافذ الحدودية
لغةٌ بسيطة عبر تشكيلات لا تسهب لكنها توحي،فشبه الجملة (في آخر فيضان) توحي مفردة آخر بكثرة الفيضانات وتعدد الحروب التي أغرقت حياة الشاعر ووطنه ،وتوحي مفردة (الوادي/ الأرض المنخفضة) باستعلاء المعتدين وتسلطهم على الشعوب المستضعفة والمقهورة بتكرار العدوان عليها،وإلحاق الأذى بها.لغة يسودها الشك والارتياب وغياب الثقة وضياع الحقائق،حتى الزوجةُ لا تعرف أي حقائق حياة زوجها ولا الإشكاليات التي تكتنف تفكيره.لقد كانت الإستعارة هي بؤرة توهج الشعرية العربية، كما كان الوزن بؤرة موسيقاها،لكن الأمر تغير مع قصيدة النثر فغدت المفارقة بأنواعها هي بؤرة الإشعاع الشعري كما غدا الايقاع الداخلي بديلا عن الاوزان العروضية لمدونة الخليل بن أحمد، فالاستبدال سمة قصيدة النثر التي سرت على الكثير من سمات الشعرية فيها.
نامق سلطان لا يشعر بانتماء تام لواقعه ولا لتركيبة مجتمعه التي التمّت عوامل سلب كثيرة لتخريبها والنيل من تماسكها وانتمائها،إنه مهموم بما خلفته تلك العواملُ من خراب وهدم وانتكاسات، إنه لا ينسى ولا يسامح وكيف ينسى والعالم يهتز تحت قدميه ،وصور السلب التي رافقت حياته مازالت تجوس في الخفاء مواصلة فعلها التخريبي، كما أن شعرية نصوصه تفعل فعلها عبر سمات شعرية مهمة يمكن تلخيصها بغياب المرجع وهدم السببية ليبقى القارئ وحده مسؤولاً عن تشكيل المعنى، إذ لا تفسيرَ في الشعر ولا تعليل، الأسباب والمسببات والتفسير مهمة النثر ،كونها سمة نثرية، أما الشعر فيتسم بحرية التعبير ،الشعر لا يُسبّبُ ولا يفسر أو يعلل بل يرسم ويقررطريقة رسمه بتمام الحرية.
يسخر نامق سلطان ممن اتخذوا من دوغمائية الفكر وانغلاقه والاستسلام لليقين وسيلة لعلاج الأمور وتفكيك عُقد والتباسات المواقف الحياتية الصعبة، بدل الانفتاح والتعددية والتشكيك، وقبول الاحتمالات التي غدت سمة الحياة المعاصرة بعد أن انفجرت فيها العلوم والفنون والمعارف، وتداخل كل شيء بكل شيء مُذ سقطت الحتميات وصار الاحتمال سيد المواقف :
هل كان عليهم
أولئك الذين اختلفوا
على طينة الخلق
أن يدفعوني من أعلى الجبل
كي يثبتوا للعالم
أنني لست مخلوقاً من زجاج ..
فاللجوء للاحتمال هو السبيل الأمثل لحل أية إشكالية تتعلق بالأمور المعضلة التي لم تُحسم علميا، ومنها كل ما يتعلق بالأمور الدينية وقضايا الغيب التي لم ترد تفصيلات عنها في القرآن الكريم ولا الحديث والسنة، إن اللجوء لقبول الاحتمالات يجنبنا الكثير من الخسائر ولاسيما إن كانت خسائر إنسانية. وقبول الاحتمال دون التضحية بحياة إنسان قد يكون بريئا كما هو حاله في هذه القصيدة،هو الحل الأمثل، لأن العلم المعاصر وفلسفاته يؤكدان أن كل شيء محتمل دون اللجوء لحتميات العلوم التقليدية بحثاً عن اليقين أو التأكد من وجوده.
*
التفاصيلُ أيضاً ليست مهمة
صفحاتٌ كثيرة دُوّنت في التحقيق
وفي المرافعات
بعد أن عبث الجناةُ بالأدلة ..
بينما الأبرياء يركبون قوارب مستهلكة
للنجاة بأنفسهم من العدالة.. الديوان،ص 7-8.
الشاعر يدرك أن بعض التفاصيل وربما معظمها تربك الحقيقة وتشوّشُ على الحق لوضوح هدفها في التزوير الذي يمكّن الجناة من العبث بالأدلة لتضيع الحقائق، وعبر تقنية التوازي بين أحوال الجناة والأبرياء، ومقابل هذا العبث بأدلة إدانة المجرمين وإثبات براءة الأبرياء ،كان هؤلاء الأبرياءُ يركبون قوارب مستهلكة في مفارقة حادة تخفي سخرية لاذعة من وضعٍ تضيعُ فيه القيم حين يهرب الأبرياءُ من العدالة ليستمتع المجرمون ببراءة الجريمة.! فلأي حدٍّ كانت هذه العدالة غير عادلة وساقطة وغير مؤتمنة على الحقيقة.!
إنه خطابُ ما بعدَ الحَدَاثَةِ وهو يُعرّي سلبيات حضارةٍ مادية مأزومة ، اختلط فيها الحق بالباطل،وصار الزيفُ عنواناً والكذبُ مبرراً لإحقاق الباطل ، خطابُ ما بعد الحداثة وهو يحتفلُ بالواقعِ اليوميّ البسيط الهامشي، بعيداً عن زحمة المجازات والاشتغال المفرط على الأشكال، واضعاً القارئ أمام مسؤوليته التأويلية التي غادرت ضوضاء لغة المحسنات واعتمدت فضح الايديولوجيات التي باد زمنها عبر لغة حرصت على هدم اليقينيات ، وعمدت إلى مغادرة السرديات الكبرى مما جعل الرفض سمة قصيدة النثر ونهجها التفكيكي الذي اعتمد التعددية والتشتيت وتجلى في الشك والاحتمالات والغياب، مُتوجهاً إلى القارئ في تشكيل الدلالة، ومعتمداً عليه في التوسع والانفتاح على العالم وعلى منجزاته وخبراته الجديدة.
قصيدة النثر تدركُ أنّ كل ما كان في الماضي حاضرا ومتماسكا قد تفككَ وانفجرت نواة مركزه ،وضاقت فضاءاته وتمزقت وحدته،وكتابها يدركون أنهم يعيشون عصر السيولة الشاملة حلاً لاشكالية الثنائية الصلبة: ذات/موضوع ، فالسيولة هي السمة الأساسية لما بعد الحداثة حيث تغيب الحدود والفواصل لتتداخل الأمورُ والأشياءُ ببعضها وليشتبك كلُّ شيء بكل شيء ،عبر تلك الفوضى التي وصفت زوراً وبهتاناً بالخلاقة، فالذات لا تعرف مراكزَ مادية أو روحية، ولذلك فهي بلا هوية لأنها تفتقد التماسك والوضوح الذي هو سمة الهويات ودليلها.
وكرد فعلٍ معاكسٍ على تلك الإشكاليات الكبيرة التي أحاطت بالإنسان المعاصر وخلاصا من معضلة الحلول، فإن نامق سلطان ينظر للقضايا الكبرى بمنظار الطفولة، بلغتها البسيطة الواضحة، وبهذه اللغة البسيطة سيتحدث عن القضايا الكبرى والمعقدة، قضية الخلق والخطايا ،والعقوبات:
بلغة بسيطة
يفهمها طفل
يركض حافياً في دروب القرية
من أول المطر إلى آخره
سأحدثك عن الطين ..
الأقدام الحافية وهي تلامسُ طينَ الأرض، حيثُ تبدأ مكابدة الأنسان الأولى،وصراعُه الأزلي في هذا الاشتباك الأبدي،الإنسان/ الأرض، من أول المطر إلى آخره،من بدء الحياة لنهايتها، والمطر دلالياً ،مفردةٌ لم ترد في القرآن إلا إشارةً للعذاب والطوفان والعقوبات. ثم يكتفي الشاعرُ بهذه الإشارة دون إسهاب، فقصيدة النثر تكتفي بالوعد دون التفاصيل وبالإشارة دون العبارة: سأحدثك عن الطين ، ثم يلتزم الصمت فلا يحدثها، مُذكراً إيانا بإيجازالحديثَ الشريف، “كلكم لآدم، وآدمُ من تراب.” إذن سأحدثكِ عن الطين الذي صار فيما بعدُ آدمَ وذريته، عن آدم الذي خُلق من تراب، ما أوسع الدلالة في هذه العبارة الضيقة، من أول الحياة / المطر، إلى آخرها كانت معظمُ افعالِ ابنِ آدمَ طينية منجذبة للأرض، مُلبية للحواس، وقلما ارتقت لإنسانيتها ؛لأن الهبوط بالجاذبية أسهلُ من الصعود والارتقاء؛ لحاجة الصعود إلى طاقةٍ يبذلها الإنسان ليرتقي، بينما الهبوط انحدار ..الشاعر يعدُّ الحياة عقوبةً دائمة، مطراً مستمراً ومكابدة موجعة بهيمنة الطين الذي شكّل بشراً ذا متطلباتٍ طينيٍّة، أجساداً غابت فيها إشراقاتُ الروح وانحسرت بغيابها القيمُ، وبقي الطينُ يركضُ حافياً في دروب “القرية” ،عارياً دون ما يقيه مخاطرَ الدرب.ولعل ورود القرية بدل المدينة – والشاعر مدنيّ النشأة – له من الدلالة ما لا يخفى،فلأسباب شتى غادرت المدينة هويتها إلى القرية، وفي ذلك نكوص أليم ناتجٌ عن نكوص مجمل قيم الحياة، وسلبيات حركتها المتقهقرة دوما والمتصحرة يوماً بعد يوم..
“سأحدثكِ عن الطين”
لكنّه لم يحدثها، لم يتحدث عن الطين وما أنزله بالإنسان من خطايا، شاعرُ التفكيك يؤجل، لأن سمة منهجه التأجيلُ والتأويل وتسليمُ زمام تشكيل المعنى لأفق تلقي القارئ ورؤاه، إنه يترك للقارئ كلَّ ما يؤجله من الدلالات لينوب عنه في تشكيلها، فهو يؤول ويحوّل ويرسم طرقاً دلالية جديدة في لعبته الماهرة مع النص.
إن التشكيل الطباعي لهذا المقطع الذي يعلن عن الفصل بين لغة التعبيرالبسيطة في البداية وأسلوب الحديث عن الطين في الخاتمة يؤكد واقع حياة قائمةٍ على الفصل والسلب والتمزقات والاغتراب.
نامق سلطان يدرك كوارث العصر، وما اقترفته الحضارة المادية وحروبها ونفيُ الإنسان وإنسانيته فيها، يدركُ إثم من قتلوا روحَ الإنسان وعملوا على تعميق مكابدات قلبه ودحر قدرته على المقاومة:
هناك أيضا كمية كبيرة من الأدوية
كلها لم تعد صالحة لترميم كسور القلب
أو لترطيب الروح التي تيبست
تحت أمطار الحروب..
كل نصوص الديوان تعلن عن مكابدة إنسانية تشكو التصحّرَوالخذلانَ وضياع القلب الإنساني وروحه المكسورة بالجفاف العاطفي ووجع الحروب.
قصيدة نامق تشكو الضياع الإنساني القاهر ،شاعرها موجعٌ بالبحث عن هوية، مُدركاً أن إشكالية الهوية غدت إشكالية شاملة حتى وصلت أزمتُها إلى النصوص، فبعض النصوص مازال دون تسمية بسبب خروجها على حدود الأجناس ومعاييرها وظلت بحاجة إلى انتماء وتسميات،وبعضها مازالت تسميته موضعَ شكّ واعتراضات كقصيدة النثر ذاتها، إنه موجع بداء العصر،فالكل يشكو ضياع هويته بضياع لحظة اليقين في حياةٍ مزقتها يدُ عصرٍ آثم، ضياع الهوية وتشرذم الروح وتمزقاتها، كلٌّ يشكو اغتراباتٍ وجودية ساحقة..الإنسان وما يُنتج من أدب وفن، حركة المجتمع وهيمنة عوامل السلب فيه:
لو كانت الحياة دراجة هوائية
لأتقنت قيادتها بلا معلم
عندها ستكون لي هوية واضحة
أنطلقُ بها بين جبالٍ ووديانٍ وغابـات
أبحث عن أعياد هربتْ بقميص طفولتي الوحيد
إنه يشكو الفقدان وتمزقاته الانسانية وما وقع على الشاعر وأهله وعلى شعوب العالم المستضعفة من حيفٍ وظلمٍ وعدوان، فلا الجمال المادي ولا بهرجة الحضارة المعاصرة ولا معالم تقدمها الكاذب البعيد عن تضميد جرح الإنسان بقادرٍ على المكوث أمام تساؤلات الشاعر وغربة يقينه :
أبحث عن شجرة كنتُ واحداً من أغصانها.
قبل أن تقطعني فأسٌ في لحظة عابثة..
فكل عوامل السلب التي تكتنف حياة الإنسان في هذا العصر المأزوم إذن سببها تلك اللحظة العابثة التي ضاعت فيها القيم فلعبت بمصير الإنسان المعاصر واستخفت بحرمة وجوده يوم كانت تلك الشجرةُ آمنةً وارفةَ الظلالِ.
وبالرغم من كل العذابات الحقيقية التي طرحها ديوان الشاعر نامق سلطان “قريبأ من الأرض” إلا أنه لا ينسى أن يفتح لنا ولقرائه وللإنسان عموماً كوى أملٍ نواصل من خلالها الحياة ومادامت عملية البحث مستمرة،فالأملُ بتغيير الحال قائم،لأن البحث تواصل وقضية، والبحث مقاومة لعوامل الانفصال والقطيعة:
أبحث عن شجرةٍ كنتُ واحداً من أغصانها.
وهذا البحث يتم من خلال اللحظة الحاضرة التي لا يمتلك الإنسانُ سواها، ولذلك جاءت معظم أفعال الديوان بصيغة المضارع ،فالماضي عبر وانتهى والمستقبل غيب ويبقى الحاضر في قبضتنا، إنه الزمن الذي يمكن للإرادة الإنسانية أن تحركه كيف تشاء، ومن خلال المضارع المستمر”أبحثُ” الذي يضمر حركيةً نشطة، وما دام الفاعل ضمير المتكلم الذي يحمل طاقة فاعلية تفوق الضمائر الأخرى لامتلاكه حقوق البوح كلها، ومادام المأمولُ شجرةً والشجرةُ أغصانٌ وثمرٌ ونوىً للتكاثر، ومواسمُ وأجيالٌ تَقطف وتواصل، فالأمل حاضرٌ في ثنايا النص.. لكن الشاعر يبقى حذراً فقد علمته الحياة بتجاربها المرة كيف يحذر لحظتها الأليمة وكيف يتعلم المقاومة أمام مداهمة تلك اللحظة بوعي التحديات التي تكتنف الإنسان وتلعب بمصائره..