فتحي المسكيني - كيفَ دخل الله إلى الفلسفة؟ - الجزء الأول -

- الجزء الأول -
✍ سأل هيدغر مرة قائلاً: "كيف دخل الله إلى الفلسفة؟". والمعنى هو: هل الله مسألة فلسفية أصيلة في الأمر الذي قامت من أجله الفلسفة منذ أوّل أمرها، أم هو مشكل عرض لها من خارج واضطرت إلى إقامة التفكير المناسب حوله؟ هل توجد شرعية أصيلة للقول الفلسفي في معنى الله أم هو قول يحتاج إلى تبرير صلاحيته أو إلى تعليل الحاجة الوجودية إلى الخوض فيه؟
يُقال الله على وجوه شتّى: فهو "موجود" طُرحت الأسئلة حول ماهيته (أرسطو، الفارابي، ابن سينا) ولطالما أُقيمت الأدلة على وجوده (ابن رشد، ديكارت، سبينوزا)؛ وهو "اسم" تارة يُحرّم النطق به، كما عادة اليهود، وتارة هو خالق تبلغ أسماؤه المئة، كما هو حال المسلمين؛ وهو لدى المحدثين "فكرة" رأى ديكارت أنّها تخطر في الذهن من الذات نفسها، وذهب كانط إلى أنّها فكرة ترنسندنتالية تنبع من طبيعة العقل ولا تأتيه من أيّة جهة غريبة عنه، وقال هيغل إنّها فكرة تأمّلية تقود تاريخ العالم؛ بل هي لدى نيتشه "شخص" سردي ومفهومي يبدو أنّه مات في ضمير أوروبا، وصار ينبغي اختراعه من جديد، وعلى البشر أن يشرئبّوا إلى "علامات" آتية على ألوهة من نوع آخر، "فكم من آلهة جديدة ما تزال ممكنة"، كما كتب في بعض شذراته الأخيرة.
موجود واسم وفكرة وشخص سردي أو مفهومي أو علامة، إلخ...قالت اللغات جميعاً شيئاً ما يشبه الله - وحسب ابن عربي كل اسم على معبود من المعبودات هو بوجه من الوجوه ضرب من الإله - ومن ثمّ، فإنّه لا يمكن لأيّة جماعة أو ثقافة ولا يحق لأيّ شعب أن يحتكر معنى الله أو مفهوم الله أو اسم الله. ينتشر معنى الألوهية في كل الثقافات، فليس لمعناه حدود لاهوتية أو دينية جاهزة أو نهائية أو وحيدة؛ ويمكن لأيّ عقل متفلسف أن يبني فكرة الله بناءً مفهومياً، ولا تخلو فلسفة كبيرة من تصوّر ما عن فكرة الله؛ كما يحق لأيّ شعب أن يسمّي شيئاً في أفق كينونته باسم الله أو الربّ أو الإله، أم ما شاء من التسميات التي يمكن أن تدلّ عليه أو تشير إليه حسب مزاج سردي أو أخلاقي مفرد وغير قابل للتوريد أو التصدير. وفي الهند، يبلغ عدد الآلهة المئات أو الآلاف؛ فهل في ذلك أيّ دليل قاطع على تهافت معنى الألوهة في أفقها الأخلاقي؟ وبعبارة أخرى: هل ثمّة فرق فلسفي حقيقي بين إله وثني وإله توحيدي؟ نعني أيّ فرق في ماهية كلّ منهما؟ وليس في اعتقاد المؤمنين بهما من الجهتين.
لا تهتم الفلسفة منذ أوّل أمرها وطبقاً لمقصودها الخاص، بأيّ دين بعينه، ومن ثمّ لا يوجد أيّ اتفاق فلسفي مسبق حول وجود هذا الإله أو ذاك، ولا حول حقيقته أو ماهيته أو مفهومه. يبحث المتفلسف في ما يرى العقل البشري بعامة في حقبة ما وفي أفق ثقافة ما أنّه جدير بان يُقام السؤال عنه بوصفه هو "الله" في أفق الإنسانية الحالية. وما لا ينجح المتفلسف في بلورة معنى "كلّي" عنه، فهو ليس من الفلسفة في شيء، بل هو قيمة ثقافية. والكلي هو ما يحقّ لأيّ عقل من عقول الإنسانية أن يشار في البحث فيه وامتحانه بشكل مفهومي. وهكذا، فإنّ إله الفلاسفة هو ذاك التصوّر الذي تجوز معاملته بوصفه مفهوماً كلّياً، نعني قابلاً للامتحان الإشكالي في أفق الإنسانية بما هي كذلك، وليس في نطاق هذه الثقافة أو تلك.
والإنسانية حين تتفلسف هي لا تطرح على نفسها من الأسئلة إلاّ ما يقبل الامتحان الكلي لدى أيّ نوع من الناس. ما هو الله؟ هو سؤال كلّي. أمّا السؤال: هل المسيح إله أم لا؟ فهو سؤال لاهوتي وخاص بجماعة روحية محدّدة، وفي أفضل الأحوال هو تساؤل ثقافي. ومن ثمّ، فإنّ البحث في ماهية الله أو في معنى الإله أو في مفهوم الألوهة، إلخ...هي مهامّ نظرية فلسفية، وليست سجالاً لاهوتياً أو نزاعاً حضارياً أو خصومة هووية. كلّ شعب يحق له أن يخوض معارك حول مصادر ذاته، ومنها المعارك حول وجود الله أو صحة النبوة أو قدسيّة الكتب الدينية أو حقيقة الوحي أو معنى الإيمان، إلخ... لكنّ الشعوب لا تخوض معارك فلسفية أو نزاعات تأويلية حول مفهوم الله أو فكرة الإله. تحرير فكرة الله من الأديان القائمة، أكانت وثنية أو بدائية أو توحيدية، هي نفسها مهمة فلسفية من الطراز الرفيع.
والسؤال الهادي هو: أيّ معنى للألوهة يمكن أن ينجم عن البحث الفلسفي بما هو كذلك أي بقطع النظر عن أيّ دين ودونما حاجة إلى أيّ تملّق جماعوي مثل الذي وقع فيه ابن رشد حين خاطب "معشر المسلمين" دون سواهم؟ أيّ مفهوم عن الإله يمكن أن يتكوّن في أفق العقل الفلسفي بمجرده؟ وهل ثمة حاجة فلسفية أصلية للبحث في معنى الألوهية؟ - حاجة فلسفية محضة للبحث في المقدّس بما هو كذلك؟ وذلك بصرف النظر عن أيّ تجربة إيمانية أو التزام لاهوتي أو دعوة دينية في مجتمع بعينه.
وهل ثمة اليوم معنى لعبارة من قبيل "الإله الصانع"؟ أو "المحرك الأول"؟ أو "الإله الشخصي"؟ أو "إله قومي"؟ أو "فكرة الله" أو "دين الإنسانية" أو "الإله الواحد" أو "الإلحاد"؟ أو "موت الإله"؟ أو "نزع السحر عن العالم"؟ أو "الإله الأقصى"؟ أو "انسحاب الآلهة"؟ أو "عودة الديني"؟
بأيّ معنى يكون الإله بمثابة "الأب" للعالم أو للبشر، الذي صنع الموجودات؟ الذي يحرّك الموجودات ولا يتحرك؟ وبأيّ معنى يمكننا أن نفكّر في إله - شخص، يحب ويغضب؟ أو إله يختار شعباً بعينه ويعقد معه "عهداً" دون غير من الشعوب؟ وهل يمكن استنباط معنى الله من معدن فكرة، تخطر بالبال؟ بال الكوجيطو البشري - وكل كوجيطو هو بشري - الذي نجح في إثبات وجوده في فطرة ذاته بناءً على أفكار واضحة ومتميزة يستمدّها من نفسه العميقة؟ وهل يحمل النوع البشري حاجة ماسة (جينية مثلاً) إلى الإيمان بالآلهة؟ إلى أيّ مدى يمكن التعايش الميتافيزيقي بين إلهين أو بين مجموعة من الآلهة؟ أيّ معنى فلسفي لأن يكون المرء ملحداً بهذا الإله أو ذاك؟ أو حتى بجميع الآلهة؟ متى كانت الفلسفة إيماناً أصلاً؟
وخاصة: هل يموت الإله كما بشّر بذلك نيتشه، وهو يتمثّل بأنشودة مسيحية عن المصلوب؟ هل ثمّة معنى فلسفي للتفكير في ما أطلق عليه هيدغر الثاني اسم "الإله الأقصى" أو الأخير(der letzte Gott)؛ أي جملة إمكانية معنى الألوهية المتاح في أفق السؤال عن حقيقة الكينونة في عصر التقنية؟ وأيّ معنى فلسفي يمكننا أن نعزم على التفكير فيه متى أخذنا بأطروحة "نزع السحر عن العالم" (فيبر)؟ ما الوجاهة الفلسفية للكلام عن انسحاب الألوهة من واجهة البشر الحاليين، كما أشار إلى ذلك هيدغر الأخير؟ وأخيراً - كيف هو حال "الله" بعد عودة الديني؟ أليس الله بطلا دينيّاً تهمّه عودة الأديان إلى التحكم في مصير البشر، ليس فقط على مستوى شكل الحياة، بل على مستوى طريقة الموت أيضاً؟ هل ثمّة صلة أو وجه قرابة أكيدة بين الله والقتل باسم الله؟ بين الألوهية والعنف؟ بل بين الله وبين المؤمنين به أو المتكلمين باسمه؟
وما الفرق بين مواطن له إله؟ ومواطن "بلا إله"؟ واللغات الغربية، تساوي بين "ملحد" و"بلا إله"؟ بين مواطن ينظر إلى نفسه بوصفه "رعية" ومواطن يرفض منزلة الرعية ويطالب بأن يُعامل، باعتباره "شريكاً" مدنياً في الحكم؟ وأيّ دور لمفهوم الإله في أيّ نزاع سياسي حول السلطة؟ أو حول الجمال؟ أو حول العلم؟
ولكن ما هو أصل معنى الإله ودلالته؟ بل كيف دخل الإله إلى الفلسفة أصلاً؟ ( تابعونا في الجزء الثاني ).
أعلى