سعيد ناشيد - ماهي العدمية؟

{1/ قرنان من العدمية}

قبل بداية القرن العشرين، كتب نيتشه في مؤلّفه الشهير (إرادة التفوّق) يقول: “إنّي أروي تاريخ القرنين القادمين (يقصد القرنين العشرين والواحد والعشرين)، أصف ما سيأتي وما لا يمكن أن يتأخّر في المجيء: انبثاق العدمية، هذا التاريخ قابل للرواية منذ الآن، لأنّ الضرورة نفسها، تعمل عملها، ويتحدّث هذا المستقبل بمائة لسان، وقد أمسى هذا المصير يُعبّر عن نفسه في كلّ مكان”1.

وعندما توسّط القرن العشرون، كتب ألبير كامي يقول: “لقد مضى قرن ونصف عن الثورة الميتافيزيقية والعدمية”2، ثمّ واصل اعترافه بالقول: “في عالم اليوم، تشعّ النزعة العدمية”3.

وخلال نفس الفترة، لم يتردّد الفيلسوف الأمريكي ليو شتراوس، في اتّهام العلوم الاجتماعية، بأنّها انحرفت نحو ما يمكننا أن نصطلح عليه بالعدمية4.

ومع بداية القرن الواحد والعشرين، كتب الفيلسوف الفرنسي ميشيل أونفراي، يقول: “عصرنا هذا…عصر عدمي”5.

فهل بوسعنا أن نقول إنّ القرنين العشرين والواحد والعشرين، جاءا قرنين عدميين، وفْق نبوءة نيتشه ومن جاؤوا بعده؟

لكن ما الذي كان يقصده نيتشه بالعدمية؟

في مؤلّفه (إرادة التفوّق)، يعتبر نيتشه العدمية حالة “مرضية انتقالية”6، انتهت إليها الحضارة المعاصرة، بعد أن أدركت بأنّ الوجود في أساسه، بلا غاية، بلا وحدة، وبلا حقيقة7، وقد قدّر للبشرية أن تدرك هذا الفراغ المروّع، عقب حقب طويلة من اليقين السعيد بأنّ هناك دائماً، ما يبرّر وجود الإنسان، كان الاعتقاد الرّاسخ لدى الناس، أنّ الوجود يحمل معناه في ذاته، وأنّ مهمتنا هي أن نكتشف هذا المعنى ونتصرّف على ضوئه.

ربّما تكون العدمية محطّة إجبارية، نظراً إلى العهود الطويلة من اعتقاد الناس بوجود معنى وغاية للحياة، غير أنّ ما يعيبه نيتشه على الأنظمة والأنساق السياسية الحديثة، أنها ترسّخ في النفوس، التعلّق بالأمل والمعنى، وتساهم في تبرير العدمية وإغلاق منافذ الخروج منها، بعد كل مرّة يتبدّد فيها وهم الأمل والمعنى.

إنّ الحداثة، والعقلانية والتنوير، وبالتحديد مبادئ الثورة الفرنسية لم تقدّم، حسب نيتشه، أيّة إمكانية للنّجاة من العدمية، بل إنّ العدمية نفسها، لا تبدو حسب النقد النيتشوي، سوى باعتبارها الأفق الأخير لقيم التنوير. فكيف أمكن لنيتشه أن ينظر إلى مشروع التنوير الغربي، باعتباره باباً مشرعاً على الأفق العدمي؟ وهل يكون نيتشه، بذلك التشخيص القاسي، قد منح الترخيص لكافة الموجات المعادية للعقلانية وللحداثة لكي تتكلم من داخل الفلسفة المعاصرة؟

من أجل مقاربة الجواب، فإنّ نقطة البداية، لن تكون سوى تلك التي انطلق فيها نيتشه من محاولة تجاوزها، والمقصود بذلك التجاوز هو هيجل، الذي حدّد فوكو، المهمّة غير المكتملة للفلسفة المعاصرة، في الانفلات من قبضته.

إذا كان هيجل قد حَدّد نهاية التاريخ في انتصار مبادئ الثورة الفرنسية، والتي أنهت جدل العبد والسيد، وحققت مبدأ المساواة واعتراف الجميع بكرامة الجميع، فأنّ نيتشه كان يرى بأنّ الاعتراف المتبادل والمتكافئ للجميع بالجميع، من شأنه أن يقتل كلّ رغبة في الاعتراف، ذلك أنّ الاعتراف لا يكون مبرّراً إلاّ حيثما نسمح للناس بإمكانية أن يتفوّق بعضهم على بعض.

وبكلمة أخرى، فإنّ نهاية جدل العبد والسيد، بانتصار مبدأ الاعتراف بالحقّ في المساواة الكاملة، من شأنه أن يشلّ رغبة الأفراد في الاعتراف، وهي رغبة لن يكون لها أيّ معنى داخل مجتمع يحرم أعضاءه من الحقّ في أن يتفوّق بعضهم على البعض الآخر، فالرّغبة في الاعتراف هي أساس التفوّق؟ وهل بوسعنا أن نربّي أطفالنا على المساواة إذا كنّا لا نريد أن نسلبهم الرّغبة في التنافس وإرادة التفوّق على بعضهم البعض، بمعنى أن لا نحرمهم تلك الطاقة الحيوية والتي تمنحهم الاندفاع نحو الإبداع والذي هو أساس تطوّر الحضارة؟ ألا تقتل المساواة إمكانية تطوّر الحياة نحو الأفضل، ومن ثمّة تحوّل الناس إلى مجرّد كائنات بلا طموح ولا مبرّر؟ أليس ثمّة خطر يهدّد البشرية بالانحطاط والنزول إلى المنحدر، حين يتحوّل الناس إلى كائنات برّية من دون أيّ طموح؟

كان خطباء الثورة الفرنسية يستهلّون خطبهم بنداء “يا أشباهي!”.. يقول نيتشه: أن لا ترى إلاّ التشابه فذلك دليلٌ على ضعف بصرك.

اِنّ المُساواة تقضي على إرادة التفوّق، وتقتل من ثمّة كلّ دافع إلى الإبداع، إلى الابتكار، إلى المُبادرة وروح المغامرة، بمعنى أنّها تقتل الشرط الإنساني، حيث يعود الإنسان إلى الانحطاط ثانية، وهذا هو السبب الذي جعل نيتشه يمقت مبدأ المساواة ومعه الثورة الفرنسية، والتي زعم أنها لم تنته إلى سيادة العبيد على أنفسهم، وإنّما إلى انتصار أخلاق العبيد ذات المنشأ المسيحي: المساواة، الإخاء، المحبة، الرّحمة…الخ.

والواقع أنّ ظروف القرن العشرين، قد منحت لخصوم المساواة، أكثر من فرصة واحدة لتأثيم قيمة المساواة وتجريمها، ممّا فتح الباب أمام انتقال اليسار العالمي، من مرجعية ماركس، المتكئة على تمجيد المساواة، إلى مرجعية نيتشه، القائمة على تمجيد إرادة التفوّق.

ربّما يتجلّى أسوأ إنجاز حقّقته التجربة الستالينية، في أنها لم تفتح الباب فقط أمام منتقديها لتجريم العقل، وإنما منحتهم أيضا، فرصة سانحة لتجريم مبدأ المساواة، والذي بات الكثيرون ينظرون إليه باعتباره مسوّغا للاستبداد وقمع حريات الأفراد، وهو الأمر الذي ساهم في تقلص مبدأ المساواة داخل مساحة الوعي الحقوقي المُعاصر، وسينحسر مطلب المساواة، داخل مطلب المُساواة بين الجنسين، أمّا المساواة بين المواطنين، فلقد تمّت الاستعاضة عنها بمبدأ الحقّ في الاختلاف.

والآن، بوسعنا أن نتساءل حول ما إذا كانت إرادة التفوّق قد أجابت فعلاً عن مأزق الرّغبة في الاعتراف؟

إذا كانت المساواة المطلقة والاعتراف المتبادل والمُتكافئ للجميع بالجميع، قد يشلاّن الرّغبة في الاعتراف ذاتها، ممّا يؤدّي إلى توقّف كلّ اندفاع وطموح للأفراد، وسيادة سلام أبديّ، لكنّه سلام عقيم لا ينتج أحداثاً ولا يصنع سيرورة، هو أقرب إذن إلى سلام السلاحف، إلاّ أنّ إرادة التفوّق، كما نادى بذلك نيتشه، قد تكون في المقابل، مسوّغاً لحروب لا طائل من ورائها سوى إرادة التفوق، بمعنى أنّنا قد ندخل في مرحلة عنف جديد، هو العنف المجاني، العنف العبثيّ والعنف الذي لا غاية له سوى العنف ذاته!

{{ 2/ من تأليه العقل إلى اغتياله}}

ربّما لا نحتاج إلى استدلال، إذا قلنا بأنّ العقل قد أنتجته الفلسفة واحتضنته الحركة الاجتماعية منذ بداية التنوير، ولكنّنا سنحتاج إلى بعض الاستدلال إذا قصدنا القول، بأنّ نزعة اغتيال العقل هي الأخرى نزعة أنتجتها الفلسفة المعاصرة قبل أن تحتضنها الحركة الاجتماعية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وقبل أن تتبنّاها الثورة الدينية المحافظة، جملة وبتفاصيل مختلفة.

فهل تاريخ الغرب هيجليٌّ إلى هذا الحدّ من القدرة على إنتاج القضية ونقيضها في نفس الآن؟!

إذا كانت إحدى أبرز خصائص الجدل الهيجلي، تتجلّى في أنّه مفتوح على إمكانية الحلّ التركيبيّ بين القضية ونقيضها، وهو ما تترجمه لغة السياسة بمفاهيم التوافق، المساومة والتسوية، فمن واجبنا أن نتساءل في الأخير، حول إمكانيات الحلّ التوافقي والتركيبي بيت فلسفة التنوير والفلسفة النّاقدة للتنوير.

إننا نعيش اليوم، في عصر نقيض القضية، إذ يتحدّث غاستون باشلار عن فلسفة اللاّ، أو فلسفة النفي، ويتحدّث جاك ديريدا عن التفكيك، مقابل حديث هيدجر عن التقويض، ويروق لألبير كامي الحديث عن التمرّد وعن النفي المنهجي، واختار جورج باطاي مفهوم النفي غير الموظف، إلخ.

يتعلّق الأمر بعصر من عصور الفلسفة، عصر يتّسم بمفاهيم النفي والرّفض والتقويض، وإذا كان العقل هو الأطروحة الأصلية للفلسفة الغربية، فيبدو وكأنّ الأطروحة المُضادّة خرجت هي الأخرى من رحم الفلسفة الغربية.

ما هي حكاية الأطروحة؟

هذا الأمر معروف

ما هي حكاية الأطروحة المُضادّة؟

هذا ما سنحاول استجلاءه في رواية أخرى.

بزغ العقل عقب عقود طويلة من سطوة الأسطورة، جاء هذا العقل حاملاً رسالة تحرير الإنسان من عبودية المعبد ومن سلطة المُقدّس، بيد أنّ النتيجة كانت بخلاف الهدف المعلن، فبدل تحرير الإنسان من العبودية المقدّسة، تحوّل العقل إلى عبادة بديلة عن العبادة، إذ كتب الآن (إميل شارتيي) يقول: “أرى بكل وضوح بأنّ العقل أبديّ ومتعالي عن الإنسانية، وأنّه الإله الحقيقيّ الجدير بالعبادة”8.

حين نتحدّث إذن عن نزعة اغتيال العقل داخل الحضارة الغربية المعاصرة، فإنّنا نحكي عن ملحمة جدلية القتل والتأليه، كما لو أنّ التأليه هو الذي يمنح المعنى للقتل ذاته؛ لقد صلب المسيح، لكن فقط بعد تأليهه بوصفه ابن الله، وأعلنت البنيوية موت الإنسان، لكن فقط بعد تأليهه من طرف النزعة الإنسانية.

من يكون أجدر بالموت من الآلهة نفسها؟ من هو الأكثر جدارة بتحمّل تجربة الموت والألم، نيابة الإنسان، من برومثيوس المكبل بالسلاسل والحديد، ومن المسيح المعلّق على الصليب، إلى اليوم؟ من هو الأحقّ من الآلهة بأن يحتمل ويتحمّل جروح العالم وآلامه ومتاعبه، غير يسوع ابن الله، أو الله عينه؟

“العالم هو عذاب الربّ”، هكذا هي رواية المحلّل النفساني المحافظ، كارل يونغ9.

موت العقل إذن، مشهد جديد من مشاهد دراما يتمثّلها الوعي الغربي على الدّوام، امتداد لموت الآلهة، أو موت الأشياء المؤلهة، الموت الذي يعقب التأليه، بخلاف جدليّة الحضارات الأخرى. وهنا يكمن عنصر المأساة في التراجيديا الغربية، منذ أعلن هيراقليطس الحرب الأبدية بين الآلهة والبشر.

عندما ينام العقل تستيقظ الأشباح؛ يقول غويا، لكنّ الأشباح كان عليها أن تستيقظ هذه المرّة، قبل إعلان العقل عن نومه، قبل الإعلان عن وفاته، وبغاية المشاركة في عملية التنويم أو الاغتيال.

هكذا بدأ العمل على إثارة كلّ الهوامش المُضادّة للعقل، من قبيل الدفاع عن الطوائف الدينية وحريتها، عن المجانين وحقوقهم، عن المُدمنين وأهوائهم، عن العبث، الوهم، اللاّمعنى، الرّوحانيات، عن كل الحماقات، والخرافات، ومرّة أخرى، تحت عنوان أصبح قليلاً ما يعني ما يقول حين يقول: حقوق الإنسان!

ولرُبّما لا يكمن جوهر المشكلة في الدفاع عن الهوامش، فتلك مهمّة ممكنة من داخل الرهان الحداثي التنويري نفسه، وليست المشكلة في المُراهنة على نقيض القضية، أي على الهوامش المُضادّة للعقل، فتلك مهمّة لا تنزاح عن الجدل العقلانيّ، غير أنّ ما يُثير الانزعاج، هو أنّ المراهنة جاءت جذرية، وبالنحو الذي يجهض أية محاولة للتسوية بين العقل والنقد.

{{ 3/ تجريم الحداثة}}

في مواجهة الأنظمة الشمولية، وعلى رأسها النازية والستالينية، حاولت الكثير من تيارات الفلسفة المعاصرة، أن تنقلب على التراث العقلاني، وأن تحيد عن المسار الذي رسمته فلسفة التنوير، فقامت بإبداع مفاهيم مُضادّة لمفاهيم ما يسمّى بفلسفات الوعي (العقلانية والتنوير)، حاولت الكثير من تلك التيّارات الماردة أن تصوغ مفاهيم مضادّة لتلك التي ساد الاعتقاد بأنها مولّدة للعنف، والذي طبع القرن العشرين.

هكذا بدا العقل لأوّل مرّة في التاريخ، ماثلا في قفص الاتهام، وكان صكّ الاتهام يتضمّن لائحة ادعاء طويلة:

حيث أنّه باسم قيم العقل أمكن لروبسبيير بأن يشنّ حملات إرهابية، لم يكن يتردّد في الاصطلاح عليها باسم الفضيلة.

وأنه باسم مفاهيم الوحدة والهوية أمكن لبسمارك أن يحكم ألمانيا بالحديد والنار.

وأنّه بدعوى مفاهيم الحقيقة والمعنى رفض الشيوعيون التعددية الحزبية.

وأنه استناداً إلى مفهوم الدّولة الوطنية قامت الحروب العالمية.

وتحت عنوان وحدة التاريخ البشري نشأ الاستعمار العالمي.

وأنه باسم التصنيع والعقلانية تعرض المجال البيئي لتخريب لا مثيل له في التاريخ.

وبالجملة فقد صار من الممكن إدانة الحداثة وتجريمها، طالما أنها وعدت الإنسان بالسعادة، ثم ساقته إلى العنف والجريمة.

هكذا وجدت الحداثة نفسها، أمام أضخم صكّ للاتهام، فهي متّهمة بكلّ جرائم العصر الحديث: أبادت اليهود والأرمن والغجر والهنود الحُمر، تماماً كما أبادت الدببة وشجرة الأركان؛ استعمرت الشعوب وسوّغت الاحتلال، أنتجت أسلحة الدمار الشامل ولم تتردّد في استخدامها، وهكذا، اتّخذ شعار التخلّص من الحداثة مظهر إنقاذ الإنسان من الطوفان، فكثرت سفن النّجاة المزعومة، توزّعت رهانات التيارات الخلاصية ما بين عالمثالثية، وتفكيكية، ونقدية، ومابعد حداثية، كانت جميعها روافد صبّت في نهر واحد، إسمه الثورة الدينية المحافظة.

ارتأت التيارات المعادية للحداثة، الدّعوة إلى التخلّي عن مفاهيم العقل، التقدّم، الحقيقة، المعنى…والتي جرى الاعتقاد بأنها مفاهيم مُنتجة للعنف، واستعاضوا عنها بمفاهيم مُضادّة من قبيل الاختلاف، التأويل، التنوّع، الأقليات… إلخ.

واليوم، رُبّما حان الوقت، لنطرح سؤال التقويم: إلى أيّ حدّ استطاعت النزعات المُعادية للحداثة أن تمثّل بالنسبة للحضارة المعاصرة، فرصة سانحة للتخلّص من العنف واستئصال جذوره وبذوره؟ إلى أيّ حدّ قدّمت الجواب الشافي والردّ الكافي عن تجارب الحروب والاستعمار والإبادة الجماعية؟

يؤكد الواقع أنّه بدل أن يتراجع العنف، فقد تحوّل إلى كيفيات جديدة، واستطاع أن ينفلت من عقال شبكة القراءة التي اقترحتها فلسفات اللاوعي، ولعلّ الحاجة إلى شبكة قراءة جديدة هي ما يُفسّر تَذبذُب وارتباك فلاسفة اللاّوعي أثناء محاولة فهمهم لواقعة الحادي عشر من شتنبر.

ساد الاعتقاد بأنّ العنف الذي عانى منه القرن العشرون، وبما أنّه عنف صادر بالأساس، عن دول وطنية ذات سيادة مركزية، فإنّ حقوق الأقليات، بمعنى حقّ الأقليات في السيادة وتقرير المصير، ستبدو وكأنّها سلاح فعّال ضدّ عنف الدّولة المركزية. ففي إحدى المرّات، كتب بول ثيبو يقول: “إنّ الجرائم الأوربية، الحروب المتواصلة، والنزعات الشمولية، ظلّت جميعها تطبع أوروبا، منذ ظهور مفهوم الدّولة الوطنية”10؛ هذا الموقف يتقاسمه بسخاء، عدد كبير من مفكّري الغرب، وهو ذات الموقف الذي يقودهم إلى التوجّس من النزعات الوطنية والوحدوية العربية، ذلك أنّ اتّهام الدّولة الوطنية الأوروبية بإنتاج العنف، قد يقود، بالاسقاط الذاتي، إلى اتّهام كلّ مشاريع الدّولة الوطنية أو الوحدوية، بأنّها مشاريع لتكرار نفس الجرائم الأوروبية.

لكنّ العنف المستفحل اليوم، وهو عنف لا مثيل له في الضّراوة والشراسة، لم يعد بالضرورة، عنفاً صادراً عن دول وطنية ومركزية، ولا عن أيّ مشروع لتوحيد بعض الدّول، بقدر ما أمسى عنفاً تنتجه النزعات الطائفية، المذهبية، العرقية، الدينية، وأحياناً لمجرّد دوافع فردية.

ساد الاعتقاد أيضاً، بأنّ عنف القرن العشرين، وطالما أنّه ناجم عن نمط من الوعي الجمعي الذي يتمحور حول الانتماء الوطني (بسمارك، فرانكو…)، أو الانتماء الطبقي (ستالين، بول بوت…)، أو الانتماء القومي (هتلر،ملوزوفيتش…)، فإنّ النزعة الفردانية، وتأجيج الوعي الفردي، يبدو وكأنها سلاح فعّال ضدّ الوعي الجمعي المنتج للعنف.

غير أنّ المبادرات الفردية في العنف، لا تقلّ اليوم، شراسة عن عنف المجموعات الوطنية، القومية والطبقية، بل إنّ خطورة تنظيم مثل القاعدة تكمن في رهانه على المبادرات الفردية وعلى أفراد معزولين ومجرّدين عن أيّ وعي وطني أو سياق ثقافي محليّ.

لم يسبق للعنف أن كان بمثل هذه المُرونة، فهو لا يستدعي سوى أشخاصٍ على رؤوس الأصابع لينجز دماراً هائلاً، الأمر الذي لم يكن ميسّراً من قبل؛ ففي الماضي، كان العنف قراراً يستدعي مئات السّواعد وحملة السيوف والبنادق، أمّا اليوم، فبفعل تقنيات الدّمار الحديثة، استقلّ قرار العنف الشامل، عن الإرادة العامةّ، والتي سبق أن وسمها روسو بالطُّوبَوِبّة، وأضحى بضعة أشخاص قادرين على قتل الآلاف، وترويع الملايين وتهديد الأمن العامّ لشعوب بأكملها.

هذا هو القرن الواحد والعشرون، والذي تنبّأ نيتشه بأنّه سيكون هو الآخر قرناً عدمياً، وتوقّع أندريه مارلو بأنّه سيكون قرناً دينياً، ووسمه مشيل أونفراي بأنّه عصر عدميّ، وعلى الأرجح فإنّه هذا وذاك، عصر دينيّ وعدميّ في نفس الآن، إنّه العصر الذي التقى فيه العدم بالمطلق، والعبث بالمُقدّس.

لقد كشفت ظاهرة الإرهاب العالمي، إلى أي حدّ صار العنف جنونياً ومجانياً، إننا أمام عنف لا يدّعي أية حقيقة، ولا ينشد أيّ معنى أو هوية أو غاية، إنّه عنف لا هيجلي بامتياز، عنف منفلت هو الآخر من قبضة هيجل، على نحو مهمّة الفلسفة المعاصرة كما حدّدها فوكو.

هنا يكمن الإخفاق الكبير لفلسفات اللاّوعي، بيد أنّنا أمام إخفاق لا يُبرّر لنا عدم الإصغاء إلى تلك الفلسفات، طالما أنّ العقلانية مشروع لا يكتمل إلاّ بفعل الإنصات الدّائم للأصوات الخارجة عنه.

العُنف اليوم، عنف افتراضيّ، عنف لا واقعيّ، عنف يشبه السريالية؛ تلك الحركة الأدبية التي ابتغت مناهضة العنف، من خلال تدمير المعنى، والذي تعتبره مُستودع العنف، عنف اليوم يشبه حفريات فوكو وتفكيكية ديريدا؛ عنف لا أصل له، لا هوية له، لا معنى له.

هذا العنف المُعولمُ عولمةَ الاقتصاد الرّأسمالي، والمُتشظّي تشظّي ثقافة ما بعد الحداثة، هذا العنف الذي انفلت من عقاله وخرج فجأة من قبضة التاريخ والجغرافية، هذا العنف الذي انسلخ عن كلّ غاية أو هوية، وصار مثل العبث واللاّمعنى، هذا العنف الذي لا مركز له ولا مصدر ولا وجود له أيضاً، بل هو مجرّد أثر مدوّي لواقع لا يمثل أمامنا، هذا العنف المستفحل بلا منطق، جاء ليجسّد الحالة القصوى لقلق الحضارة المعاصرة، وللعدمية الجاثمة على أنفاس الجميع، هذا العنف الذي تحمل توقيعه ذوات أو بالأحرى أشباه ذوات، بلا وعي ولا إرادة، هي كائنات، حتى وإن حملت الإسم العربي الجريح، فإن المُسمّى يشير إلى أشباح نهاية التاريخ؛ أشباه بشر، أجساد بلا تربة للانتماء ولا جذور للارتواء، كائنات لا تريد، لا تقرّر، لا تطلب ولا تطالب، كائنات لا طموح لها، لا رغبة ولا إرادة لها، مُجرّد صيرورة بلا مشروع أو مشروع حضور من أجل غياب مُدمّر.

إن كان حدث الحادي عشر من شتنبر، تعرّض لقراءة أهم الفلاسفة المُعاصرين: ديريدا، هابرماس، بودريار، تشوميسكي، أونفراي… إلخ، فمن الواضح أنّ بودريار كان الأكثر تعبيراً عن أزمة العدمية في الخطاب الفلسفي المعاصر، حين دعا إلى النظر للحادثة بمنظار نتشويّ، أي بمعزل عن مقولتي الخير والشرّ11.

وانطلاقاً من هذا المنظور النيتشوي، بوسعنا، وحسب اعتقاد بُودريار، أن نقاوم الإدارة الأمريكية والتي أعلنت حرب الخير على”محور الشرّ”، فتغدو مقاومتنا للمشروع الأمريكي، وللعولمة الرّأسمالية، امتداداً لمشروع تقويض العقلانية الغربية، منذ لحظة نيتشه.

وإذا كانت العولمة الرّأسمالية تميل، حسب بودريار، إلى مبدأ تنميط جميع الناس وفق نمط استهلاكي وثقافي متشابه، فإنّ خطاب الاختلاف، كما تبلور داخل الفلسفة المعاصرة، منذ نيتشه، يعتبره بودريار، أداة فعالة لمقاومة ذلك التنميط.

وإذا كان بُودريار سيدعو إلى التعاطي مع ظاهرة العنف الإرهابي، بمعزل عن الخير والشرّ، فإنه يعتبر أيضاً هذا العنف الإرهابي بمثابة متفردات ((singularités12، أفرزتها العولمة الرّأسمالية، مثلما تفرز القضية نقيضها.

لكنّه، عندما يقول بأنّ العولمة الرّأسمالية، ليست سوى القضية التي تفرز نقيضها في شكل عنف إرهابي، أفلا يعني ذلك الاعتراف، بأنّ بودريار قد أعاد أخيراً، الفلسفة إلى قبضة هيجل، وأنه أعادها إلى نسق هيجلي محكم الإغلاق، لا أفق فيه لجدل العبد والسيد، سوى الألغام المُدمّرة للذات وللموضوع، والأحزمة الناسفة للجدل، على عتبة خواء نهاية التاريخ!؟ وتلك حكاية أخرى.

{{ الهوامش:}}

1- Friedrich Nietzsche, la volonté de puissance, tome2, Gallimard, 1995, p: 23.
2 – Albert camus, Z’Homme révolté, Gallimard, 1951,p : 131
3 – Ibid, p:133.
4 – Leo Strauss, Qu’est-ce que la philosophie politique? PUF, 1992, p : 24
5 – Michel Onfray, Traité d’athéologie, Grasset 2005, p: 73.
6– كتاب نيتشه السابق …ص: 54.
7 – كتاب نيتشه السابق… ص: 55.
8 – Alain (Emile Chartier), le culte de la raison comme fondement de la république, revue de la Métaphysique et Morale, janvier 1901, p : 111, 112.
9 – C.G.Jung, l’Ame et la vie, Buchet/Chastel, 1963, p: 389.9
10 – Paul thibaud, bon courage l’Europe, le monde, 14 février 2007.
11 – Jean Baudrillard, Le monde, 3 novembre 2003.
12 – Jean Baudrillard, la violence de la mondialisation, Manière de voir, juin/j

سعيد ناشيد


أعلى