عبد العزيز أمزيان - القصر الكبير: ذاكرة الأمكنة.. "عواصف القطار"

يلفني ضباب قاتم، وهدير في رأسي أحسبه، يصلني من زمن غابر سحيق، تتوارى كثير من الأطياف والوجوه والذكريات والأيام والأحداث، خلف منحدر الغياب، وسفح النسيان، بصعوبة كبيرة، أستحضر زمني الأول الذي أحب، زمن الطفولة الذي عشته في المدينة التي تنام على حضن نهر ليكسوس، من جهتي الغرب والجنوب، ذاكرة المكان الباذخ، وعنوان شريط العمر العريض في أوردة الروح، تنبت في الأزل، فأصعق في رمادها، مثل جمر، خبا ناره، وأضحى حطاما، لا أستطيع أن أستجمع رفاته الذي أكلته أنياب الحياة الحادة، ونهشته أظافر الوجود الساحق. أجري نحو أحزاني التي باتت تحفر أخاديدها على ملامح وجهي، تقبع في ذاكرتي صور غامقة مثل أسوار الآثار، ومعالم الأطلال البالية. الوجوه التي عاشرتها، وقضت معي أيامي الجميلة، أمست محوا، سحقتها عجلات الزمن، وكبحتها عواصف القطار الماحق، وأقلعت جذورها فيافي المسخ، ومفاوز الموت،ومساحيق الدهر، أراها ولا أرى سوى أطيافها، تلوح في البعيد، كأنها السراب الذي يجثو على آخر آمالي في سفح القلب، ويربض على أنفاسي في مهوى الروح، التي أضحت كاوية كجمر، كل ذلك يحدث في لمحة أحسبها تجمدت في ذات منعطف، وفي نظرة، أخالها كبست الضوء، وحسرت الدفء، وقبرت الأنس، في قبضة الغبش الهادر، ومحق الضباب الكابي، ليتني أقدر أن أصبغ حاضري بلون طفولتي، وأطلي عمري برائحة نزقي الأول، لكنت الآن، ألاطف نسائم الأزقة التي احتشدت في ذاكرتي، وأسامر الوجوه التي سكنت روحي..ها هو ذا حي كشطرومان، منبتي الأزلي، يتبدى لي كزهرة الأقاحي الجميلة، تغور في سويداء القلب، وتسكن أعطاف الوجدان، كشطرومان هو من مدني بعنفوان التطلع، وحدة التوق، ووقد الحياة، فهفوت، أركض هنا، وهناك، في الشوارع العريضة، وفي أزقة الأحياء الضيقة المعروفة...ومن مدينة القصر الكبير بكل فضاءاتها ومرافقها إلى الآفاق الواسعة، والعالم المديد..

عبد العزيز أمزيان

- ذاكرة الأمكنة.. سلسلة رمضانية لوجوه قصرية من اعداد: أمينة بنونة

1619185725215.png



تعليقات

لا توجد تعليقات.

هذا النص

ملف
أماكن نسكنها.. وأمكنة تسكننا (شعرية المكان)
المشاهدات
686
آخر تحديث
أعلى