سيرةُ القراءة والكتابة.. حوار مع عبد الفتاح كيليطو.. ترجمة : إسماعيل أزيات*

س : كيف أصبحت كاتبا ولماذا ؟
ج : لديّ بعض التحفظ في أن أعتبر نفسي كأنّي كاتب. أحسبني عند اللزوم وحتى أستعيد لفظة بارث ‘crivant . يبدو لي أن أكون كاتبا فيه ادّعاء، فإنتاجي الأدبي جدّ قليل و عملي كان بالأحرى ككاتب مقالة. عدا هذا، فإنّ حلم الكتابة لم يفارقني قطّ ربّما منذ أن تعلّمت القراءة. القارىء منقاد وبوعي نوعا ما إلى أن يقلّد، يعارض، يحاكي ما يقرأ. وفي يوم ما، ينبثق الأمر الحاضّ الذي عبّر عنه فيكتور هوغو بشكل فخم وهو في سنّ الرابعة عشرة : ‘ سأكون شاتوبريان أو لا أكون شيئا ‘. تولد المواهب والميولات أحيانا من قراءة بعض سير الكتّاب، يرتسم النموذج ، فيقول المرء مع نفسه : سأجرّب حظي أنا أيضا. فيما يخصّني، دفعتني علّة أخرى نحو الكتابة. لمّا كنتُ تلميذا، كنتُ ضعيفا للغاية في المواد العلمية، لكن أكثر ‘ قوّة ‘ في التأليف باللغة الفرنسية كما في الإنشاء باللغة العربية. أيّ عمل آخر سوى كتابة ورقتين أو ثلاث حول هذا الموضوع أو ذاك. هذا الأمر تواصل، ولذلك، فنصوصي لا تتجاوز إلاّ نادرا هذا العدد.
س : هل تكتبُ شغفا باللغة، تمتّعا بالحكي، استجابة لحاجة داخلية، استجلابا لشيء تجهله يحثك على الكتابة ؟
ج : الأمر رهان، لا نقوم به بالضرورة مع الآخرين، بل بالأحرى مع الذات، نحاول أن نقبل التحدي معها. هناك أيضا الاعتقاد في فضيلة العمل، في ثمرة الكدّ والجهد : النص، في البدء، لاشيء، مزيج مُبلبل، ركام مُشتت. وشيئا فشيئا، ويوما بعد يوم يأخذ شكلا، وفي النهاية يصير على صورة مقبولة، على صورة مقبولة.
س : هل حدث لك في برهة محدّدة أن راودتك الرّغبة في أن تطلب من الآخر أن يقرأ ما كنت تكتبه؟
ج : كنت ألتمس أن يقرأ نصوصي أساتذة كانوا، يتهيّأ لي، يقدّرون ويثمّنون كتاباتي الإنشائية. كان في الإمكان مبكّرا مباشرة حرفة الأدب، لكن خارج المدرسة، لم يكن الأمل في أيّ تشجيع، لا أحد يطلب منك الكتابة، بل يتمّ السعي بالأحرى إلى صرفك عنها. خذ مثلا الانزعاج الذي يتراءى في عيون الذين تطلب منهم أن يمنحوك رأيا حول نصوصك… علاوة على ما سبق، كانت دراسة الأدب تعتبر بشكل واسع كنشاط كسول، طفيلي، جدير فقط بالحالمين غير الموهوبين في المواد الرّصينة. لم يتغيّر هذا الأمر في الوقت الحاضر على الإطلاق.
س : هل كان مطلوبا إنجاز انتهاك ما ؟
ج : الانتهاك ربّما كلمة جدّ ثقيلة. لنقلْ بالأحرى تحقيق منفى داخلي في الأدب. أنت وسط معارفك، لكنّ ذهنك مأهول بشخصيات أخرى هي التي تسكن قراءاتك : القبطان عشاب، فريدا، راسكولنكوف، سيروس سميث، بيرغوط، مدام دوماريل، بارطليبي، فريديريك مورو، كْلامْ، باردامو، مدام ميغري، الببغاء لافيردور… (1)
س : هل تتذكّر نصّا كتبته وكان نصّك الأوّل ككاتب ؟
ج : في عامي الرّابع عشر، كنتُ أرسلتُ إلى الإذاعة نصّا باللغة العربية وباسم مستعار. كان قصّة أذيعت في برنامج أدبي. كتبتُ محكيا آخر باسمي الحقيقي هذه المرّة، لم يُأخذ بعين الاعتبار.
س : هل في الإمكان نشر هذا النص الأوّل الآن ؟
ج : لا، لم يعد موجودا، لقد أتلفته كما أتلفتُ كلّ ما كتبته في هذه المرحلة وما بعدها : أشعار، سرديات…
س : لماذا أتلفتها ؟
ج : كان ثمّة يقين في أعماقي ( لا يهمّ إن كان مبرّرا أم لا ) في وجود موهبة، لكن كانت كذلك لحظات مديدة من الارتياب و إلحاح السؤال المُعذب : ما الجدوى ؟ كانت قراءاتي أيضا فاقدة للنظام. كنتُ أشغف بكاتب، بعمل ثمّ لا أعود أرغب بتاتا في الحديث عنهما. التخلّص من الكتب… فعل حريّة، إذا جاز القول. لقد خصّصتُ السلك الثالث لفرانسوا مورياك، لكن بمجرّد إتمام المناقشة، تخلّصتُ من كتبه. يلزم الانتقال إلى شيء آخر. كنتُ أنفصل عن قراءاتي كما عن النصوص التي كنتُ أكتبها. ثمّة سؤال وضعته على نفسي و أنا أقرأ بروست : كيف في الإمكان الكتابة، التجرّؤ على الكتابة بعد ‘ البحث عن الزمن الضائع ‘ ؟ إلى اللحظة التي أدركتُ فيها أنّه إذا انقطعنا عن الكتابة، سننقطعُ عن القراءة. القراءة و الكتابة، عمليتان مشدودتان إلى بعضهما البعض بقوّة و عمق. لمّا نقرأ، نشيّد أوّلا بأوّل روايتنا الخاصّة بنا. نتوقع مثلا نهاية ليست هي التي قدّرها المؤلّف بالضرورة. و كم من مرّة أيضا نرغب في إعطاء تتمة للرواية التي أتينا على قراءتها !
س : أعود إلى تأكيدك الأوّلي : أنا ‘crivant ولست كاتبا. أهناك كتّاب يستحقون إذن هذه التسمية وآخرون لا يستحقونها ؟
ج : Les ‘crivants ، حتى نتكلّم في عجالة، يجعلون الشكل في المقام الثاني، بينما الشكل هو الإنشغال الأوّل لدى الكاتب. لنتذكّرْ عبارة بول فاليري : ‘ الشكل مُكلّف ‘.
س : ألا يمكن القول أيضا إنّه لكي نكتب، يلزم أن ننسى ما قرأناه، أن ننجز فعل قطيعة مع قراءاتنا. كما بعد قراءة بروست، لتكتب، يجب أن تنفصل عنه ؟
ج : من الممكن تقليد، توهّم تقليد بروست. غالبا ما يحلم قرّاء ‘ البحث عن الزمن الضائع’ بكتابة مذكّراتهم. الكاتب الذي لا أحد نجح في إعادة إنتاجه هو كافكا، فعالمه جدّ متفرّد ومتعذر مضاهاته. جرّب ذلك موريس بلانشو، فلم يكن مقنعا.
س : بالعودة إلى السؤال الجوهري : ما هي صلتك الشخصية بالأدب ؟
ج : لا أتذكّر أنّي قضيتُ يوما دون أن أفتح كتابا، ولمّا كنتُ في مقتبل العمر، كنتُ مصدوما أن أرى أنْ لا أحد حولي كان يقرأ. كنتُ أقيس، بسذاجة صحيح، كلّ ما كانوا يخسرونه بإهمالهم للأدب. بالنسبة للبعض، كانوا معتادين على النصوص المقدّسة؛ الكتاب ، بالنسبة إليهم، كان القرآن. كذلك الكتاب المدرسي المقروء تحت سلطة المعلّم أو الأستاذ هو أيضا يأخذ شكلا من القداسة. خارج هذا الإطار، كانوا يحسّون أنفسهم ضائعين، لا يستشعرون أيّة رغبة في القراءة. مع ذلك ، أيّة غبطة يحسّها والمرء طفل، حينما يتبيّن للمرّة الأولى بأنّه قادر على قراءة كتاب و بمفرده ! الكتاب الأوّل الذي نفلح في قراءته يترك أثرا.
س : بالنسبة إليك، الأدب إذن ضروري للحياة. بأيّ معنى ؟
ج : الكاتب هو رؤية غير مسبوقة للعالم، في كلّ مرّة هي رؤية مختلفة. إنّه لحدث مذهل حين نكتشف كاتبا كبيرا : سيلين، بيكيت، بيريك، كونديرا… نتلقّى صدمة، كما حدث لي ذلك عند قراءة ‘ مائة عام من العزلة ‘ : منذ الجملة الأولى، فعل السّحرُ فعله و ترنّح العالم. الأدب يُحرّرنا أيضا من أفكارنا السيئة، نعتقد أحيانا أنّنا وحدنا من يمتلكها، لكنّ الكتب تتحدّث عنها، فتصبح مألوفة و مشتركة.
س : أ تكتشف نفسك شخصا آخر في الكتابة، كما ترى العالم بشكل آخر ؟
ج : لم أكف عن الانفعال و التأثر بعنوان لبودلير : ‘ قلبي و قد غدا عاريا ‘. هذه الصورة ربّما هي الكتابة.
س : في ‘ خصومة الصور ‘، تستحضر القصص المصوّرة للأطفال. أيّ دور لعبته في تكوينك الأدبي ؟
ج : تعلّمتُ الفرنسية بفضل القصص المصوّرة للأطفال. كنتُ أشتري منها كميات من تاجر كتب قديمة بالمدينة العتيقة. سنتيمات قليلة و عالم عجيب لا يُصدّق يتدفق و ينبثق.
س : هل تتذكّر الكتاب الأوّل الذي قرأته ؟
ج : ألف ليلة و ليلة، لكن أعتقد أنّ هذا الأمر مجرّد استيهام، مجرّد إعادة بناء للماضي. على الأصح ‘ حرب النار ‘ أو ‘ آخر الموهيكان ‘ (2). اكتشفتُ المنفلوطي مبكّرا أيضا، اكتشفته في المدرسة، بعد ذلك قرأتُ كلّ أعماله. و دون أن يعرف كلمة واحدة في لغة موليير، ‘ ترجم ‘ كتبا من الفرنسية إلى العربية : بول و فرجيني، سيرانو دو بيرجراك، سيّدة الكاميليا…(3) كانت تُحكى له، فيُزخرفها و يُكيّفها . لكن أيّ أسلوب و أيّ استطراد فخم و مشرق ! و أيّ تأثير قوي على القرّاء من جيلي ! بفضله، اكتسبتُ رغبة الكتابة باللغة العربية.
س : أعود إلى هواك بالقصص المصوّرة للأطفال. هل كان لها تأثير على أسلوبك في الكتابة ؟
ج : دون شك. ذكرتُ في ‘ خصومة الصور’ ميكي لورانجي مراهق يرافقه صاحباه البروفسور سينيـي و دوبلْ رومْ (4)، كلاهما سكّير مدمن. ميكي لم يكن يشرب إلاّ اللبن. حين كان يلج صالونا، كان يطلب اللبن. كان رعاة البقر يسخرون منه، و عليه أن يتعارك للدّفاع عن حقه في شرب اللبن و ليس الويسكي كما هم. هذا المقطع يترك فيك إلى الأبد أثره. الحق في الاختلاف. بلا ريب، كنتُ أتماهى مع شارب اللبن.
س : أهناك كتّاب في طفولتك تركوا أكبر الأثر عليك من آخرين ؟ خلّفوا لك صورا قوية غذت كتابتك ؟
ج : نعم، رواية مثل ‘ موبي ديك ‘. و لاحقا دوستويفسكي. كثير من المراهقين الذين يقرأونه يشرعون في التصرّف كما شخصياته. يصبحون صموتين، يتظاهرون بالكبرياء، يتخلّصون من محيطهم، يبحثون عن التميّز بالتعبير عن أفكار جريئة. ما يُلفت النظر هو أنّ التماهي يتمّ مع أغلب شخصيات الكاتب الروسي و ليس مع البطل، حين يكون هناك أحدهم، الأمر الذي ليس هو حالة ‘ الإخوة كارامازوف ‘.
س : أليس ثمّة ما يدفعك في لحظة معطاة أن تكتب بالعربية أو بالفرنسية ؟
ج : نعم، لا بدّ أن توجد بواعث عميقة، لكن كلّ ما أستطيع قوله هو أنّ راحتي ( إذا جاز لي استعمال هذه الكلمة ) تقود و توجّه الاختيار. حين أشعر و أنا أكتبُ بالفرنسية بمأزق، أعيد كلّ شيء بالعربية. أقوم بذلك أيضا في الاتجاه المعاكس. ضياع كثير للوقت، لكن من يدري، ربّما الأمر ليس كذلك. في ‘ خصومة الصور ‘ تمّ نشر الفصل المعنون ب ‘ بنت أخ دون كيخوطي ‘ باللغة العربية أوّلا ؛ لم تكن فكرة ‘ خصومة الصور ‘ موجودة في تلك اللحظة. يمكن أن أقدّم أمثلة أخرى، أن أستشهد بمسودّات لم تكتمل…
س : عدا هاتين اللغتين، العربية و الفرنسية، تُلمّ باللغة الألمانية، لك نافذة مفتوحة على الأدب الألماني. هل لعب هذا الأدب دورا في تغذية حساسيتك الأدبية ؟
ج : هذا العنصر يُعتدّ به في تكويني. يُعوزني أن أقدّر بدقة ما منحني إيّاه الأدب الألماني. قرأتُ العديد من الكتّاب ‘ في نصوصهم ‘، نيتشه من بين آخرين.
س : هل نعثر فيما كتبت على ذكريات ، على استحضارات من الأدب الألماني؟
ج : في ‘ فاوست ‘ لغوته، ثمّة ما يتعلّق باللحظة الرّاهنة. يأبى فاوست أن يقول للحظة الرّاهنة : ‘ توقفي، أنت بالغة الجمال’. لقد استلهمتُ هذا المعنى في أحد نصوصي. سيكون، ‘ توقفي، أنت بالغة الجمال’، عنوانا جميلا… و لمسات صغيرة هنا أو هناك تبرز و تنبثق؛ منها عنوان : ‘ حصان نيتشه ‘. بين شخصيات هذا المحكي، عدّاء لا يُجارى في القراءة، كفكاوي المزاج شيئا ما. يُضاف إلى هذا أنّي تعلّمتُ الكثير من قراءة المستعربين الألمان. بواسطة اللغة الألمانية، أعدتُ ربط الصّلة بثقافتي الأصلية… فلأجل القيام بدراسات عن القرآن و عن العلوم الإسلامية المؤسّسة، تكون معرفة اللغة الألمانية ضرورية. إنّه تقليد قديم ينحدر من القرن التاسع عشر. حديثا، هناك أعمال جوزيف فان إيس حول الفقه الإسلامي و أخرى لفوفهارت هينريش حول الشعرية العربية. كنتُ سأتغاضى عن كثير من الأمور الحاسمة لو لم أتعلّم الألمانية.
س : هل قرأت كافكا باللغة الألمانية ؟
ج : نعم، إنّه من اليسير قراءته. و هذا ما قمتُ به و أنا تلميذ بالثانوي. قرأتُ باللغة الألمانية أعمال كلايست، هاينه، فالادا، بينما قرأتُ روبرت موزيل، توماس مان، غونتر غراس باللغة الفرنسية …
س : هل انفتحت على آداب عالمية أخرى ؟
ج : يظل الأدب الأسيوي بالنسبة إليّ لغزا، و هذا دون شك نقصان مؤثر. تبقى لقاءات الصّدفة… دوس باسوس كان اكتشافا ، كما جويس. لسنا ما كنّا عليه بعد أن نقرأ كاتبا عظيما. أمّا اللقاء الحاسم مع بورخيس فحدث بشكل متأخر. كنتُ بورخيسيا بهذا القدر أو ذاك قبل أن أقرأه ( أحد النقاد تساءل ما إذا كان الأدب العربي الكلاسيكي بورخيسيا، و ما إذا لم يكن من الصّدفة أن يقع اختيار الكاتب الأرجنتيني على ألف ليلة و ليلة. ). كان عملي ‘ الكتابة و التناسخ ‘ عمليا منجزا حين قرأتُ للمرّة الأولى كاتب ‘ تخييلات ‘ Fictions. قربى حميمية : أستحسن التواضع الكاذب لبورخيس ( ليس هناك ما هو متعجرف و متشامخ من الانقياد الذي يُظهره )، تنقيبَه اللّعبي ، الخطابَ المروي الذي يؤثره، استشهاداته الصّائبة إلى هذا الحدّ أو ذاك، الانطباعَ الذي يتركه ( و إن أنكر ذلك ) بأنّه قرأ كلّ شيء… كلّ هذه السّمات المُميّزة له تقرّبه، و إنّه لأمر لافت للنظر، من الكاتب العربي الجاحظ الذي يحدث له أن يشير إليه.
س : لنعدْ قليلا إلى الأدب العربي. لقد أنجزت دكتوراه الدولة حول المقامات؛ نوع أدبي عرف لحظات مجده في الحقبة الكلاسيكية و الذي لعب دورا كبيرا في البيئة المغاربية في العصر الوسيط. هذا ما ليس معروفا إلاّ بشكل ضيّق. يبدو لنا اليوم من الصّعب جدّا النفاذ إليها. هل يمكن أن نستخلص منها رؤية للأدب العربي ؟
ج : تبدو المقامات بالفعل، بسبب اللغة و الكلمات المهجورة و الأنساق الثقافية و التوظيف البلاغي المكثف، عسيرة المنال، لكن ليس أعسر من ‘ عوليس ‘ جيمس جويس.إنّها نوع أدبي أنشأه الهمذاني في القرن العاشر الميلادي و حسّنه و أتقنه الحريري قرنا بعد ذلك. كان لهذا الأخير مقلّدون لا يُحصون في العربية و العبرية و السريانية و الفارسية… كانت المقامات تُستهلك كما تُستهلك الروايات اليوم. غير أنّها وقعت ضحية اكتشاف الأدب الأوروبي في القرن العشرين. اليوم نكتب ‘ ضدّ ‘ هذا النوع. تمّ تبنّي أنساق أخرى، و تدريجيا أصبح الأدب العربي ‘ غريبا ‘ عن ذاته، أصبح أوروبيا بشكل واسع. إنّها، في المحصّلة، ظاهرة عالمية. الانتصار الأكبر لأوروبا هو نجاحها في فرض أدبها عبر العالم.
س : ما الذي يصنع خصوصية الأدب العربي و المقامات تقدم عن هذا الأدب ما يشبه عصارته المكثفة ؟
ج : حينما نتحلّى بالصّبر في قراءة المقامات، ندرك غناها الكبير. فيما عدا الأطروحة التي كرّستها لها، قضيتُ وقتا طويلا في تحليل المقامة الخامسة من المقامات الخمسين للحريري. النتيجة، كتاب صغير ، ‘ الغائب ‘ الذي أنا راض عنه إلى حدّ ما… ليس من المتطلّب الحديث عن ما يصنع خصوصية الأدب العربي، لنقلْ إن الأجدر بالأحرى هو الحديث عن ما يفقده أو يُفقره حين يُترجم. تتمتّع المقامات، في إحدى الترجمات الفرنسية، بمدخل ميسور نسبيا… لا نصادف فيها لا الكلمات المهجورة، لا الإيقاع أو التنظيم الخاص بها، لا الألعاب اللفظية، و هو ما يثير انطباعا بالسطحية و التفاهة. بخلاف ألف ليلة و ليلة التي تخرج سليمة في جملتها من الانتقال المخيف إلى لغات أخرى. لا زالت المقامة تنتظر ‘ غالان ‘ آخر و الذي سيجعل من ترجمتها حدثا جللا.
س : لا بدّ و أن يكون هذا الاشتغال الطويل على المقامات أثر على ما كتبت ؟
ج : لقد اخترتُ دراستها نظرا للصعوبة التي تنطوي عليها، إنّها تمثل تحدّيا للباحث كما للمترجم. يبدو أنّ الأولبيين Les Oulipiens (5) أبدوا اهتماما بها. أثناء ندوة حول ‘ بيريك Perec’ نُظمت بكلية الآداب بالرباط سنة 2000، كانت مداخلتي تحت عنوان ‘ بيريك و الحريري ‘ هل كان بيريك يعرف الحريري، هل قرأه ؟ إنّه يذكره، على أيّ حال، في ‘ الحياة طريقة استعمال ‘ و في غير هذه الرواية. يُضاف إلى هذا وجود باحثين يجتهدون في دراسة الصلات المفترضة بين المقامات و الرواية الشطارية الإسبانية في القرن السادس عشر. يظهر أنّ الأبطال في كلتيهما لهم العديد من النقط المشتركة : الهامشية، الصعلكة، القناع، الضحك الصّريح، الدّموع المُخادعة، الاستجداء، التقلّب…
س : المقامات التي كتبها الكتّاب الكلاسيكيون الكبار غير قابلة للتقليد، كما تقول. المقامات التي كتبها مؤلفون مغاربيون تبدو باهتة، فاقدة للطعم. كيف إذن تُراك تأثرت بها ؟ من خلال أيّة أشكال ؟
ج : اللحظات المديدة التي قضيتُها مع النصوص العربية القديمة أغنتني بعمق، كما أغنت النصوص الإغريقية و اللاتينية آخرين. ثمّة لا ريب صدى للمقامات في محكياتي، موضوع هذه أو تلك هو الأدب، هو الأشكال الأدبية. نصوص قصيرة في الحالتين، مستقلة بذاتها و في الآن نفسه لها صلة مع المجموع حيث هي مندمجة، عودة البطل…
س : ما الذي يميّز في نهاية المطاف الأدب العربي الكلاسيكي. و لماذا في اللحظة التي حدث فيها اللقاء بالأدب الأوروبي انهار و لم يصمد ؟
ج : تغيّر التعليم، تضاعفت رحلات الطلبة و الدبلوماسيين و رجال الأدب إلى باريس و لندن. أصبح تعلّم الفرنسية و الإنجليزية ضرورة و لتتويج ّ كلّ هذا، كان هناك الإغراء الذي مارسته النصوص الفرنسية، الإنجليزية، الإيطالية، الإسبانية. و تدريجيا، تمّ كنس الأنساق الأدبية الكلاسيكية ( التي كانت ، في غضون ذلك، ضاقت أنفاسها ) كما أنساق الثياب، الطبخ، المعمار… كلّ هذا على أساس من الإغواء و من التمرّد.
س : هذا، إلى حدّ ما، ما يقوله لنا ابن خلدون : المغلوب يقلّد دائما الغالب. لكن أبعد من هذه العلاقة بين الغالب و المغلوب، ألا توجد في الأدب العربي الكلاسيكي ما لا يمكنه أن يتعايش مع الأدب الغربي ؟
ج : المغلوبون لا يُقلدون دائما الغالبين. الرّومان و هم المنتصرون قلّدوا الإغريق… ما الذي يصمد في النصوص العربية القديمة ؟ إنّها نصوص يتعذر ترجمتها ( إلى حدّ ما )، لا تصبو إلى أن تُترجم، لقد ادُّخرت لصفوة من ذوي اللسان العربي. كذلك تعطي هذه النصوص الانطباع بأنّها هيرمنوطيقيا مغلقة. و حتى في الماضي، كان يُؤخذ عليها بأنّها غير قابلة للترجمة. هذا كعبها الإخيلي ( إن لم يكن مجدها ). نادرون من غير العرب كأندريه ميكيل ، من اهتمّوا بالشعر العربي القديم.
س : نصادف من جديد هذه الثنائية بين ثقافة الصّفوة و ثقافة العامّة حين نجعل ألف ليلة و ليلة في مقابل الأدب الكلاسيكي. لقد اشتغلت أيضا و كثيرا على ألف ليلة و ليلة، و بخاصة في ‘ العين و الإبرة ‘. ماذا يمكن أن تقول عن هذا الكتاب الذي أضحى اليوم جزءا من الأدب العالمي ؟
ج : هو بالفعل كتاب ذو حمولة كونية. أعتقد أنّ في الإمكان القول إنّ الأدب الأوروبي، و إلى حدّ ما، خضع لهزّة صغيرة بداية القرن الثامن عشر حين ترجم ‘ غالان ‘ للمرّة الأولى الليالي و سمح لأوروبا باكتشافها. من هو الكاتب الأوروبي الذي، في لحظة ما، لم يُحلْ على حكايات شهرزاد ؟ الحاصل، إنّه الكتاب العربي الوحيد المعروف في العالم أجمع. و إلاّ أيّ كاتب يمكن أن نضرب به مثلا ؟ المتنبي شاعر هائل، إلاّ أنّه مجهول خارج الفضاء الناطق باللسان العربي. ما هو لافت للنظر هو أنّ المتأدّبين العرب الذين كانوا في الماضي يحتقرون ألف ليلة و ليلة، انتهوا اليوم بفضل مباركة الأوروبيين إلى تبنّي كتابهم ‘ الخصوصي ‘.
س : هل يمكن أن نعثر في كتابتك على أصداء من ألف ليلة و ليلة ؟
ج : أرجع إليها في محكياتي باستمرار. زوجة R و هي شخصية ضمن شخصيات ‘ خصومة الصّور ‘ هي بكيفية ما شهرزاد جديدة. في ‘ حصان نيتشه ‘، ثمّة إشارة إلى القرد الخطاط… و عدا هذا، هناك موضوعة الكتاب القاتل التي أعدتُ الاشتغال عليها في قصّة ‘ المكتبة ‘، و ربّما في قصص أخرى…
س : بالعودة مرّة أخرى إلى سؤال اللغة. أيّ نمط من المعضلات صادفتك و أنت تبحث على أن تخلق، كما كلّ كاتب، لغتك الخاصّة بك في العربية أو في الفرنسية ؟ و تتمة لهذا السّؤال، ما هي العقبات التي واجهتك ككاتب و التي كان عليك أن تصطدم بها و أن تذلّلها ؟
ج : أحيانا، لا تكون لديّ رغبة في الكتابة. يستقرّ الكسل، حالة قد تدوم طويلا، ستّة أشهر. لا يلزم الاستسلام للفتور و الوهن، يلزم مواصلة رفع التّحدّي. إلاّ أنّ العقبة الكبرى تتعلّق ببناء الجمل، بتنسيق الكلمات، بعلامات الترقيم. يمكن قضاء يوم كامل بمزاج رديء بسبب محلّ فاصلة.
س : يمكن أن تعترضنا عقبات لاواعية. عدم وجود قرّاء، لا بدّ أن يكون له تأثير حاسم على الكاتب. إذا لم تصله أصداء عن عمله، فليس في إمكانه أن يصير له إدراك بما يُنجز.
ج : حين لا يكون هناك قرّاء أو قرّاء قليلون، هذا يمثل، لنقلْ امتيازا : لا نعود خاضعين لضغط أن ننشر في كلّ سنة أو سنتين كتابا، نشتغل بالإيقاع الذي نشتهيه.
س : هل أنت حقا تقنع بقلة من القرّاء ؟ أليست لديك الرّغبة في أن تكون مقروءا على نطاق واسع ؟
ج : لا ينقصني القرّاء. بعضهم يقرأني في اللغة العربية، البعض الآخر في اللغة الفرنسية، و آخرون أيضا في ترجمة إنجليزية، إيطالية، إسبانية… الأصداء التي تصلني مُشجّعة، و أراني متأثرا بالكتب و المقالات و الأعمال الجامعية المُكرّسة لعملي.
س : هل لديك انطباع بوجود موضوعات متسلّطة و مستحوذة تعاود الظهور في كتابتك ؟
ج : موضوعة القرينdouble و نظرائه، شمس، قمر، ظل، انعكاس، طيف أو شبح، عائد بعد غياب طويل. هناك أيضا موضوعات أخرى : كتاب، مكتبة، مخطوطة مفقودة، ذهان هذياني، سوء تفاهم معمّم…
س : ما هو الأقوى في كتابتك، ذاتيتك، معيشك أو بالأحرى تجربتك الثقافية و الأدبية ؟
ج : أظن أنّ الكتابة تفصلنا شيئا ما عن ذواتنا بتحرير ما هو كامن و ممكن في الوجود. المعيش هو من الفقر الذي يُرثى له ( كما الأحلام حين نتجرّأ على سردها ) إذا لم يسندها عمق أدبي. و لذلك، فإنّ في نصوصي فرضا لسوابق المرض، و لعباً بالكنايات لا تفوت القارىء المُتنبّه. في ‘ حصان نيتشه ‘ تحمل أمينة المكتبة اسم ‘ أليس ‘ و في ذلك إحالة على ‘ أليس في بلاد العجائب ‘ و مدرّسة تُدعى ‘ مادموزيل لورنسان ‘ : فبالنسبة للقارىء ‘ المثالي ‘ ، ستذكّره بالرّسامة ‘ ماري لورنسان ‘ عشيقة و ملهمة الشاعر غيوم أبولينير. لا يلزم نسيان أنّ المحكي ليس مصنوعا فقط من كلمات، بل أيضا من محكيات أخرى.
هوامش ( من وضع المترجم ) :
1 ـ تنتمي هذه الشخصيات، و بحسب ترتيبها، إلى الروايات العالمية الآتية : موبي ديك لملفيل/ القصر لكافكا / الجريمة و العقاب لدستويفسكي / الجزيرة العجيبة لجول فيرن / البحث عن الزمن الضائع لبروست / بيل أمي لموباسان / عنوان قصة لهرمان ملفيل / التربية العاطفية لفلوبير / القصر لكافكا / سفر آخر الليل لسيلين / عشيق مدام ميغري لجورج سيمنون / زازي في الميترو لرايمون كينو.
2 ـ حرب النار، رواية للكاتب الفرنسي جوزيف هنري روسني. و آخر الموهيكان للروائي الأمريكي فينيمور كوبر.
3 ـ عند ‘ ترجمة ‘ المنفلوطي لتلك الأعمال الروائية، منح لها عناوين أخرى : بول و فرجيني لبرناردن دو سان بيير أصبحت ‘ الفضيلة ‘ . سيرانو دو بيرجراك لإدمون روستان أضحت ‘ الشاعر ‘ . سيدة الكاميليا لألكسندر دوما الإبن تحوّلت إلى ‘ غادة الكاميليا ‘ .
4 ـ ميكي لورانجي قصص مصوّرة للأطفال كانت منتشرة في المغرب خلال فترة الستينيات.
5 ـ Oulipo جماعة شكلية تجريبية عالمية، من بين أشهر المنتسبين إليها جورج بيريك ، إيطالو كالفينو، رايمون كينو …
** هذا الحوار منقول بتصرف عن :Le Magazine Litt’raire du Mroc , N 1 , Automne2009 , P : 6 _ 13
*عن القدس العربي
أعلى