*أولجا نفسها تبدو كعروسة ماتريوشكا, داخلها أسـرار كثيرة. بقدر ما تسمح لكَ بالاقتراب منها وبقدر ما تعرف عنها, بقدر ما تظل هناك من الأسئلة ما لا تعرف له إجابة.
أسرار تختبئ بداخل كل منا تنتظر لحظة نتحرر فيها من مخاوف المكاشفة وما يتبع الإفصاح من حميمية. فلا تبقى حواجز أو أسـرار. ولكن بعدها هل نندم على تعرية الروح إن لم نجد تقديرًا لما قدمناه من ثقة واقتراب؟
لاقتراب البشـر من بعضهم ثمن, ولنفورهم من بعضهم ثمن آخر, والمعيار يتفاوت.
والنفوس التي تُفَضِل الاختباء خلف جدران نظنها التكبر والعجرفة, إنما هي فقط نفوس تخشـى الرفض إن عُرِفَ ما يعتمل داخلها من إحباط. تخاف سياط الاستهزاء إن لم يتفهم سامعها ما تحويه من تناقضات ومخاوف.
*هدوء صباح يوم الجمعة, الشوارع شبه فارغة إلا من القليلين ..
أمتـزجُ من جديد مع تفاصيل المشهد المحبوب ..
تطالعني المباني بالترحاب. شارعنا محمد علي مكارم. أصالة عميقة في هذا الشارع. تتصدره عمارتنا في شموخها وتاريخها كما عهدتها. الباب الخشبي المحفور بالرسوم, السلم العتيق ورخامه المتشقق, اللبلاب المتصاعد مع درجات السلم, الحوائط السميكة.
كل هذا الدفء, كل هذا الجمال, في هذا المكان.
كنيسة سانت تريز تطل عليَّ من كل النوافذ والشـرفات. ألمح الرهبان في طريقهم للصلاة, كلهم من الفرانسيسكان المصريين الآن.
وهنت صحة جدتي كثيرًا. اعتراها الضعف والإنهاك. عكس ما كانت عليه قبل عام. بابها لم يوصد أبدًا في وجهي. على ما كانت عليه من مرض احتضنتني بقوة, تعتصـرني رقتها. لا تعرف القسوة طريقًا لقلبها.
ـ ورثتَ كل عناد آل أرمانيوس يا أمجد، كل ما لهم من عزة نفس، كل ما فيهم من لامنطقية أحيانًا. هل تظن أن جدتك العجوز لا تفطن لشئون العشق وجروح الحب؟ أتعتقد أنني لم ألحظ كل شىء؟ ملامحك تشـي بك وتفضحك يا ولدي! . إن جرحت إحداهن قلبك فلمَ تقسو أنت على من لا ذنب لهم؟ أشفقتُ عليك من تلاعب ندى. استهانت بك وبمشاعرك. أنت من أهدرت مشاعرك مع من لا تستحق. لا أدينها ولا أفحص ضميرها يا ولدي, ولكنكَ أخطأتَ قليلًا في حق نفسك. إعجابك بأولجا لم يكن خافيًا, أتعرف أنني أفتقدها كثيرًا ؟ كانت طيبة ورقيقة ومهذبة. لم تخبرني وقتها بما كان بينكما, فاحترمت رغبتك في الصمت ، ولا أريدك أن تخبرني الآن. عندما تود الحديث ستجد مني أذنًا مصغية كعادتك بي متى رغبت أن تبوح. هل فاجأك حديثي؟ هذه جرحت مشاعرك وتلك لم تكتمل قصتك معها لسبب أجهله. ولكن عندما ثارت مشاعرك الجياشة ونَزَفَ كبرياؤك تمسكت فقط برأيك. كأنك تعاقب نفسك بالرحيل, وتعاقبنا نحن أيضًا! .
لماذا تتهرب ممن يحبونك أيها العنيد الصغير؟
أرجوك يا ولدي لا تستسلم للقسوة والعناد, ستؤذي فقط من لا ذنب لهم. إن تحولت القسوة لإدمان, ربما تلتمس لنفسك العذر, وفي نهاية المطاف يتحجر القلب ويضيع منه أحلى ما فيه.
هل تستمع لجدتك العجوز هذه المرة؟
*أتعرفون ما هو أقسى أنواع الإدمان؟ هو إدمان من تحبها! وما يصاحب غيابها من مشاعر وأعراض الانسحاب في شراستها البالغة الضراوة وإلحاحها المستمر. عندما تعتادها في كل حالاتها. ابتسامتها
وتقطيبها. عندما تضحك وعندما تغضب. عندما تنصت وعندما تشرد. عندما تشعر باحتياجها لك
وعندما يؤلمك إعراضها عنك. عندما تفرح لرؤياك
وعندما تتصنع عدم الاهتمام. عندما تبوح بمشاعرها فيغرقك دفؤها ونعومتها. عندما تتيقن أن كل ذلك قد أضحى ذكريات يجترها العقل والقلب لاستعادة إحساس قد فات. حتى أن علبة سجائر وزجاجة نبيذ وبضعة أقداح من القهوة لا تفلح في إصلاح اعتلال المزاج المتعكر من وطأة غيابها. وجهها الوضاء وعيناها القمريتان هما خير ترياق. ابتسامتها للحظةٍ تمحو مكابدة ساعاتٍ من الحنين إليها. لتكتشف في نهاية المطاف أنها هي مكمن الداء وإكسير الشفاء.
( جميلة الجميلات)
إسحاق بندري
أسرار تختبئ بداخل كل منا تنتظر لحظة نتحرر فيها من مخاوف المكاشفة وما يتبع الإفصاح من حميمية. فلا تبقى حواجز أو أسـرار. ولكن بعدها هل نندم على تعرية الروح إن لم نجد تقديرًا لما قدمناه من ثقة واقتراب؟
لاقتراب البشـر من بعضهم ثمن, ولنفورهم من بعضهم ثمن آخر, والمعيار يتفاوت.
والنفوس التي تُفَضِل الاختباء خلف جدران نظنها التكبر والعجرفة, إنما هي فقط نفوس تخشـى الرفض إن عُرِفَ ما يعتمل داخلها من إحباط. تخاف سياط الاستهزاء إن لم يتفهم سامعها ما تحويه من تناقضات ومخاوف.
*هدوء صباح يوم الجمعة, الشوارع شبه فارغة إلا من القليلين ..
أمتـزجُ من جديد مع تفاصيل المشهد المحبوب ..
تطالعني المباني بالترحاب. شارعنا محمد علي مكارم. أصالة عميقة في هذا الشارع. تتصدره عمارتنا في شموخها وتاريخها كما عهدتها. الباب الخشبي المحفور بالرسوم, السلم العتيق ورخامه المتشقق, اللبلاب المتصاعد مع درجات السلم, الحوائط السميكة.
كل هذا الدفء, كل هذا الجمال, في هذا المكان.
كنيسة سانت تريز تطل عليَّ من كل النوافذ والشـرفات. ألمح الرهبان في طريقهم للصلاة, كلهم من الفرانسيسكان المصريين الآن.
وهنت صحة جدتي كثيرًا. اعتراها الضعف والإنهاك. عكس ما كانت عليه قبل عام. بابها لم يوصد أبدًا في وجهي. على ما كانت عليه من مرض احتضنتني بقوة, تعتصـرني رقتها. لا تعرف القسوة طريقًا لقلبها.
ـ ورثتَ كل عناد آل أرمانيوس يا أمجد، كل ما لهم من عزة نفس، كل ما فيهم من لامنطقية أحيانًا. هل تظن أن جدتك العجوز لا تفطن لشئون العشق وجروح الحب؟ أتعتقد أنني لم ألحظ كل شىء؟ ملامحك تشـي بك وتفضحك يا ولدي! . إن جرحت إحداهن قلبك فلمَ تقسو أنت على من لا ذنب لهم؟ أشفقتُ عليك من تلاعب ندى. استهانت بك وبمشاعرك. أنت من أهدرت مشاعرك مع من لا تستحق. لا أدينها ولا أفحص ضميرها يا ولدي, ولكنكَ أخطأتَ قليلًا في حق نفسك. إعجابك بأولجا لم يكن خافيًا, أتعرف أنني أفتقدها كثيرًا ؟ كانت طيبة ورقيقة ومهذبة. لم تخبرني وقتها بما كان بينكما, فاحترمت رغبتك في الصمت ، ولا أريدك أن تخبرني الآن. عندما تود الحديث ستجد مني أذنًا مصغية كعادتك بي متى رغبت أن تبوح. هل فاجأك حديثي؟ هذه جرحت مشاعرك وتلك لم تكتمل قصتك معها لسبب أجهله. ولكن عندما ثارت مشاعرك الجياشة ونَزَفَ كبرياؤك تمسكت فقط برأيك. كأنك تعاقب نفسك بالرحيل, وتعاقبنا نحن أيضًا! .
لماذا تتهرب ممن يحبونك أيها العنيد الصغير؟
أرجوك يا ولدي لا تستسلم للقسوة والعناد, ستؤذي فقط من لا ذنب لهم. إن تحولت القسوة لإدمان, ربما تلتمس لنفسك العذر, وفي نهاية المطاف يتحجر القلب ويضيع منه أحلى ما فيه.
هل تستمع لجدتك العجوز هذه المرة؟
*أتعرفون ما هو أقسى أنواع الإدمان؟ هو إدمان من تحبها! وما يصاحب غيابها من مشاعر وأعراض الانسحاب في شراستها البالغة الضراوة وإلحاحها المستمر. عندما تعتادها في كل حالاتها. ابتسامتها
وتقطيبها. عندما تضحك وعندما تغضب. عندما تنصت وعندما تشرد. عندما تشعر باحتياجها لك
وعندما يؤلمك إعراضها عنك. عندما تفرح لرؤياك
وعندما تتصنع عدم الاهتمام. عندما تبوح بمشاعرها فيغرقك دفؤها ونعومتها. عندما تتيقن أن كل ذلك قد أضحى ذكريات يجترها العقل والقلب لاستعادة إحساس قد فات. حتى أن علبة سجائر وزجاجة نبيذ وبضعة أقداح من القهوة لا تفلح في إصلاح اعتلال المزاج المتعكر من وطأة غيابها. وجهها الوضاء وعيناها القمريتان هما خير ترياق. ابتسامتها للحظةٍ تمحو مكابدة ساعاتٍ من الحنين إليها. لتكتشف في نهاية المطاف أنها هي مكمن الداء وإكسير الشفاء.
( جميلة الجميلات)
إسحاق بندري