لا أعرف سِرَّ انجذابي وتعلقي بهذا الشاعر الحزين والبائس على وجه التحديد؛ ففي أثناء دراستي الجامعية وقعتُ على كتاب من تأليف رفيق دربه الدكتور عبد الرحمن عثمان، وعنوانه: الشاعر عبد الحميد الديب حياته وفنه، فإذا بي أمام شاعر مختلف لا يشبه سوى نفسه، ويعكس شعره حياة صاحبه بصورة صادقة لا أثر للتكلف أو الصنعة فيه، وهو شعر يشبه المذكرات اليومية التي يرصد فيها الشاعر كل ما يواجهه من شقاء وبؤس وجد وهزل، لكنها مذكرات ذات طابع شعري أصيل تأخذ بوجدان القارئ ومشاعره، وتفجؤه الصورة الشعرية غير النمطية وغير المألوفة بجرأة عجيبة، وعلى الرغم من ذلك لا يَعرف به إلا قلة قليلة من المتخصصين والباحثين الأصلاء، وقد فكرت عند دراستي للماجستير أن تكون دراستي عنه وعن عدد من الشعراء المهمشين، وقدمت خطة بالفعل تحت عنوان: ظاهرة الشعراء الصعاليك في العصر الحديث نالت استحسان أستاذي ومشرفي رحمة الله عليه الدكتور محمد عبد الرحمن شعيب، لكنني غيرت وجهتي وفضلت وقتها دراسة موضوع آخر في نقد الرواية، غير أن الفكرة لم تمت وظلت شاخصة أمامي تعاودني من وقت لآخر، ولعل ما نسعى إلى تقديمه في هذه الصفحة الغراء تحت عنوان: أدباء منسيون أن يكون استعادة وإحياء لتلك الفكرة القديمة التي تحاول تسليط الضوء على أولئك الأدباء المهمشين والمنسيين.
كان عبد الحميد الديب كما وصفه الأستاذ أحمد حسن الزيات نمطاً فريداً بين شعراء عصره، تستطيع أن تميز شعره وأسلوبه من بين عشرات الشعراء، فشعره أصيل غير مصنوع لا يقلد فيه غيره من الشعراء، غذته تجارب الحياة القاسية التي مر بها ومرت به، بل لعل الأصوب أن نقول: تجارب الحياة التي أقامت عنده وأبت أن تفارقه، فذاق مرارة الجوع والحرمان والتشرد، وأَثَّرَ ذلك على جسده الهزيل ولم يسلم فكره وعقله من تأثير ذلك.
وُلِد عبدُ الحميد الديب عام 1898 م لأسرة فقيرة في إحدى قرى محافظة المنوفية بمصر، وتعلم في كُتَّابِ القرية ثم التحق بالأزهر الشريف، وهناك تفتحت موهبته وعكف على قراءة دواوين الشعراء العرب الكبار، ثم التحق بمدرسة دار العلوم وطمح أن تُمَكِّنَه دراسةُ الأدب في تلك الدار العريقة من أن يسلك مسلك الشعراء الكبار، وبرزت موهبته بالفعل وبذ أقرانه ونال استحسان أساتذته وزملائه ولفت الأنظار إليه بشدة، وليس مصادفة أن يكون تأثر الديب الكبير بشاعرين يشبهانه إلى حد كبير هما: طرفه بن العبد وعروة بن حزام، وقد دارت أكثر موضوعات قصائده حول حرمانه وبؤسه وعوزه وهجاء الأغنياء وشكوى الزمن والأقدار.
وبسبب فقره الشديد أهمل الديب دراسته ليعمل حينا في المدارس الأهلية، وحينا يتسكع في الشوارع ويتسول أصدقاءه ويستجديهم، وكان يمني نفسه بالثراء وهجران الفقر والبؤس الملازمين له واستغلال موهبته الشعرية وتحويل قصائده إلى ألحان، لكن المنية كانت قد عاجلت الشيخ سيد درويش قبل أن يتحقق حلم الشاعر بتحويل شعره إلى قصائد مغناة، فكانت صدمته كبيرة وظل يعزو ذلك وغيره من الأحداث التي مر بها إلى سوء حظه ونحسه، وهام الديب على وجهه وراح يتردد على البارات والأماكن المشبوهة، وعاش حياته بصورة تشبه حياة الصعاليك، فعانى من التشرد والحرمان والقهر وخذلان المجتمع له، وتحول شعره إلى هجائية ممتدة شملت كل شيء وكل أحد.
انظر إليه وهو ينعى حظه العاثر وبؤسه الذي يلازمه ملازمة الظل لصاحبه وهو في ريعان الشباب:
وداعا شبابي في ربيع شبابي ** وأهلا حسابي قبل يوم حسابي
وما يبتغي من عاش غير موفق ** ثلاثين عاما في أسى وعذاب
بنى فوق دار الشمس دارة مجدة ** مساكنه فيها نذير خراب
طلعتُ على الدنيا فلا النور في الدجى ** ولا الروضة الفيحاء وسط يباب
ولكن حظي بَدَّلَ النور ظلمة ** وبَدَّلَ ما أشدو نعيب غراب
وبؤتُ من الأيام وهي هوامع ** بحظ العطاشى من جهام سحاب
أمانيَّ تَغْريها الخطوب رأيتها ** كأشلاء قتلى في رؤوس حراب
ولو أن وهاب الحظوظ أراد لي ** سلامة إحداها لخفف ما بى
ولكنها ماتت بليلة عُرسها ** ومن دمها الغالي تَخِذتُ خضابي
ويقول:
لم يُخلَق الحزن إلا في جوانحنا ** ولا المدامع إلا في مآقينا
لو ذاق هذا الورى معشار محنتنا ** ما قارفوا عيشهم دنيا ولا دينا
ولا أقاموا على الدنيا وإن ظهروا ** بصفحتيها " سليمانا وقارونا"
وفي الأبيات التالية نجد الشاعر يُحَمِّل مسؤولية فشله الذريع، وما يلاقيه من بؤس وحرمان للأيام والأقدار، ولؤم الناس وخسة طباعهم، ويمثل هذا الاعتقاد بالنسبة له نقطة مركزية تتكرر في شعره بصورة دائمة، لا تكاد تغيب عن قصائده.
أفني صبوحي في المنى وغبوقي ** أني امرؤ كسدتْ بقومي سوقي
زعم العواذل أن سعيي فاشل ** والنحس توأم عيشتي ورفيقي
لولا مناوأة الزمان لهمتي ** أزرى بنور الشمس نورُ شروقي
أقسى علي من الخطوب تبرم ** بي من قريب عاطف وصديق
وإذا انبرى الحنَّان يكشف كربتي ** جرحوه واحتسبوه شر شفيق
يا محنة أكل الشقاء شبيبتي ** فيها وهجَّنتِ الخطوب عريقي
ولبست باليها بعرسي مكرها ** وشربت آسنها عتيق رحيق
لو لم يكن نبل الحياء طبيعتي ** أقسمتُ ما عرف الشقاء طريقي
فبكل مضمار سَبقتُ، وإنني ** لأعيش عيشة خاسر مسبوق
محن لها عزم الجريء وصبره ** والصبر أجمل ما يفرِّج ضيقي
يقول د. عبد الرحمن عثمان: والحق الذي أستيقنه أن الديب كان حليفا وفيا لسوء الحظ، ومحطا تقف عنده لعنة الأيام، وتنتهي إليه غضبة الدهر، وما رأيت على كثرة ما رأيت بائسا كان على شاكلة الديب، أو ممتحنا لازمه هذا الطالع المنكود، فقد كان الديب ولا أدري لماذا؟ ملعونا من السماء ومجفوا من فجاج الأرض، فإذا تهادت فرحة أمام عينيه فما يكاد يبتسم إليها الشاعر حتى تتجمع حولها سحب قاتمة تزحف إليها من مطالع نحسه لتجلل إشراقها بالسواد، ولتبدل من نورها المتألق ظلمة وقتاما. (انظر: الشاعر عبد الحميد الديب حياته وفنه ص 38.)
كان الديب شاعرا موهوبا بشهادة كل من سمعه، وكان هو نفسه يؤمن بهذه الموهبة، ويرى أن أنصاف الموهوبين ينالون أضعاف ما ناله، وهو ما جعله ساخطا متبرما لا يرضيه شيء ولا يرضى عن شيء، وربما دفعه ذلك إلى المبالغة في بعض الأحيان ردا على هذا التجاهل وهذا النكران. يقول في إحدى قصائده:
يا أمة جهلتني وهي عالمة ** أن الكواكب من نوري وإشراقي
أعيش فيكم بلا أهل ولا وطن ** كعيش منتجع المعروف أفاق
وكنتُ نوحَ سفينٍ أُرسلتْ حرماً ** للعالمين فجازوني بإغراقي
وليس لي من حبيب في دياركمُ ** إلا الحبيبين: أقلامي وأوراقي
لم أدر ماذا طعمتم في موائدكم ** لحم الذبيحة أم لحمي وأخلاقي؟
وما تألمتُ من خطب ضحكت له ** كما تألمت من خطبي بعشاقي
أنا على القرب منهم كل متعتهم ** وإن نأيتُ حبوني فيض أشواق
فما لهم قد أشاعوا كل مخجلة ** عني، وأعلنوا بؤسي بأبواق
كصاحب الطير لا ينفك يسجنه ** سجنين من قفص مُضْنٍ وأطواق
رِيشت لغدري سهامٌ من نميمتكم ** فصارعتني، وما لي دونها واق
قالوا: غوي شقي، قلت: يا عجبا ** قد امتُحِنتُ بفجار وفساق
حظي هو الأيكة الخرساء ذابلة ** هو النسيم سموماً غير خفاق
هو السحاب جهاما، والندى أسفا ** هو الضياء به موتي وإحراقي
كأنه أذرع شلاء راحتها ** أو أنه أعين من غير أحداق
لا تسألوني عن بؤسي وعلته ** سلوا به الحظ ميتاً فوق أعناقي
والذي يعنينا من هذه اللوحة الشعرية أمران: الأول هو تلك الفكرة التي لازمت الشاعر وصاحبته طوال حياته، ولم ينفك يذكرها في ثنايا شعره ومواقفه جميعا؛ وهي أن فشله وبؤسه وما لاقاه من حرمان وتشرد لا يُسأَل هو عنه، وإنما يسأل عنه المجتمع ويتحمل الناس شطرا كبيرا من المسؤولية بما جُبلوا عليه من ظلم وقسوة، كما يُحَمِّل الشاعر الأقدار مسؤولية خذلانه بتخليها عنه ونبذها له، فهي دائما له بالمرصاد دون غيره، ولا شك أن هذا من سوء تقدير الشاعر للأمور وفرط حساسيته، وإنكاره لمسؤوليته الشخصية عن هذا الفشل وهذا التخبط، بتركه للدراسة وتطلعه للغنى بأي سبيل ليحاكي حياة الأغنياء، وإدمانه على المخدرات وصداقته للمشبوهين والمتشردين، حتى عافه الناس ونبذوه خوفا على سمعتهم وملاحقة الشرطة لهم.
أما الأمر الآخر، فهو سهولة هذا الشعر ووضوحه وتأثيره في النفس، والتعبير العفوي غير المصطنع البعيد عن التأنق والمبالغات العقيمة؛ فهو ينعى على الناس في هذه الأبيات جهلهم بقدره وعدم وضعه في مكانه الصحيح واللائق به، على الرغم من أنه كالنجم في السماء لا يخفى على أحد، لكن أحقادهم عليه وعلى موهبته هي التي أعمتهم عن إبصار نوره، فنبذوه وعاش بينهم غريبا بلا أهل ولا وطن، على الرغم من بذله النصح لهم وسعيه الدائم لإنقاذهم من الغرق، فكان جزاؤه الطرد والنفي والغرق وهذا دأب المجددين، وإذا كان الدهر قد رمى الشاعر بالخطوب وأصناف المحن الجسيمة، فإن أعظم تلك الخطوب التي لاقاها تكمن في خسة الناس ونذالتهم وسوء طباعهم؛ فهم لا يتورعون عن إشاعة الأكاذيب عنه، ولا تخلو مجالسهم من النميمة في حقه واتهامه بكل نقيصة، ولو أنصف هؤلاء لخجلوا من ذكره بسوء، ولعلموا أنهم أولى بتوجيه هذا اللوم لأنفسهم، فهو وإن كان قد شقي في حياته وحاد عن الطريق القويم، إلا أنه يقر في نفسه بالعجز والضعف وعدم الإصرار على الذنب، كما أن القدر يقف له بالمرصاد ويأبى حظه السيء أن يفارقه، أما هؤلاء فلا عذر لهم لأنهم جُبلوا على اللؤم والغدر، واختاروا بمحض إرادتهم أن يكونوا على هذا النحو من سوء الطباع.
يقول الديب:
ضاقت به الدنيا فكن رحبا به ** قد ذل من غدرِ الزمان وريبِه
لا تنكروا الشكوى على متبرم ** قلقِ الحياة، كمن يشاك بثوبِه
أنا لا أرى لي في شبابٍ لذة ** لهفي على مرح الشباب وعُجبِه
من كان توأمُه الشقاءَ وصنوُه ** فشبابه حرب عليه كشيبِه
وبسبب إدمانه ومصاحبته لبعض الأشقياء ألقي به في السجن ومكث به عدة أعوام، وفي السجن كتب أشجى قصائده التي يبث فيها أشجانه وآلامه على غرار ما كتب أبو فراس الحمداني في رومياته، واستطاع أحد المحسنين إخراجه من السجن ليودع مستشفى الأمراض العقلية لتلقي العلاج من الإدمان، وبعد خروجه من المستشفى ألحق بعمل حكومي بسيط، لكنه لم يبق به طويلا فقد تدهورت صحته ومات وهو في الخامسة والأربعين من عمره.
وتعد هذه القصيدة من روائع شعر عبد الحميد الديب وقد كتبها في أخريات حياته، حيث يعلن فيها ندمه وتوبته، ويؤكد أن صوت الإيمان في قلبه كان دائما أقوى من صوت الشيطان والغواية، وهي قصيدة جديرة بالدراسة والتأمل لمن أراد أن يتعرف حياة الشاعر في مختلف أطوارها، كما تجسد طريقته ومذهبه الشعري الذي لم يخرج فيه عن مذهب القدماء في بناء القصيدة، وإن كانت تعكس حسه المرهف ونفسه الشفافة الرقيقة. يقول عبد الحميد الديب:
كل شيء أشهد الله عليّا ** فرّت الدنيا جميعا من يديّا
لا تقل لي كيف تحيا سادرا ** أنا ميت بين قومي لست حيا
سر هذا البؤس أني شاعر ** قد أفاد الدهر منى عبقريّا
عندما كنت بحاني شاربا ** كنت أصغي للمصلي يتهيّا
رنّة التكبير في سمعي محت ** رنّة الكاس وأودت بالحميّا
والمصلّون لدى تسبيحهم ** صيروا الندمان في عيني نسيّا
مظهر التسبيح والتقوى بهم ** قد سقاني الكأس إيمانا سريّا
يا صبوحي يا غبوقي ضلّةً ** لكما منى بكورا أو عشيّا
وهبطت الروض والليل سجا ** قد أجنّ الطير والورد النديّا
كل ما في الروض حتى تربه ** سبّح الرحمن تسبيحاً خفيّا
وهنا أدركت أنى لم أعش ** وأنا المسلم إلا جاهليّا
قد تخذتُ الشعر توحيدي ولم ** أتطهّر فجنى الشعر عليا
بينما أسرف في وصف الطلا ** والهوى لم أدّخر لله شيّا
أنا أو إبليس للدنيا عمى ** هو خاف وأنا أبدو جليا
قلت: ربي وأنا جاثٍ له ** فحباني لطفه قلبا رضيا
تبت من ذنبي ومن ترجع به ** نفسه لله يبعثه نقيا
توبةٌ من بعد أن فزت بها ** كل شيء صار في عيني هنيّا
فتراني في السماوات العلا ** أصحب الشمس وتعنو لي الثريّا
ولدى سدرتها في موكب ** ما حوى إلا ملاكا أو نبيذا
وعلى الأرض شهابا لامعاً ** من صفاء القلب أو نور المحيّا
فتحت أبواب أرزاقي بها ** فسقاني خيرها شهدا وريّا
ونأت عنى همومي بعدما ** أصبح القلب من الدنيا خليّا
وسل الليل فما أغفو به ** غير أرماقٍ وما تجدي عليّا
هذه آية عشقي كلما ** جنّ ليلى ظلت سهران مليا
لا يواتيني الكرى حتى أرى ** طيف حبي فأحيّي وأحيّا
فإذا حدثتني ألفيتني ** غائب المهجة لله نجيّا
أين شيطاني وأينت ريحه ** كان يهفو في الدجى روحا عتيا
أكله أو شربه من هجرتي ** في ظلام الشك أفاقا شقيّا
فقضى يوم الهدى إذ لم يجد ** أي شرع ينتهي منه إليا
جنة المحراب تشوي جسمه ** وأنا لم أغش بيتا أو نديّا
مات شيطاني وهاكم جنده ** هينموا بالدمع أشباحا بكيّا
رحم الله الشاعر البائس عبد الحميد الديب، الذي عاش حياة قصيرة لكنها كانت مليئة بالأحداث الجسام؛ فكانت شهادة صادقة على قسوة العصر وأهله وإدانة صريحة للوسط الثقافي الذي لم يلتفت إلى الشاعر ومأساته.
أ. د. وجيه يعقوب السيد - أستاذ النقد الأدبي بقسم اللغة العربية بكلية الألسن جامعة عين شمس
كان عبد الحميد الديب كما وصفه الأستاذ أحمد حسن الزيات نمطاً فريداً بين شعراء عصره، تستطيع أن تميز شعره وأسلوبه من بين عشرات الشعراء، فشعره أصيل غير مصنوع لا يقلد فيه غيره من الشعراء، غذته تجارب الحياة القاسية التي مر بها ومرت به، بل لعل الأصوب أن نقول: تجارب الحياة التي أقامت عنده وأبت أن تفارقه، فذاق مرارة الجوع والحرمان والتشرد، وأَثَّرَ ذلك على جسده الهزيل ولم يسلم فكره وعقله من تأثير ذلك.
وُلِد عبدُ الحميد الديب عام 1898 م لأسرة فقيرة في إحدى قرى محافظة المنوفية بمصر، وتعلم في كُتَّابِ القرية ثم التحق بالأزهر الشريف، وهناك تفتحت موهبته وعكف على قراءة دواوين الشعراء العرب الكبار، ثم التحق بمدرسة دار العلوم وطمح أن تُمَكِّنَه دراسةُ الأدب في تلك الدار العريقة من أن يسلك مسلك الشعراء الكبار، وبرزت موهبته بالفعل وبذ أقرانه ونال استحسان أساتذته وزملائه ولفت الأنظار إليه بشدة، وليس مصادفة أن يكون تأثر الديب الكبير بشاعرين يشبهانه إلى حد كبير هما: طرفه بن العبد وعروة بن حزام، وقد دارت أكثر موضوعات قصائده حول حرمانه وبؤسه وعوزه وهجاء الأغنياء وشكوى الزمن والأقدار.
وبسبب فقره الشديد أهمل الديب دراسته ليعمل حينا في المدارس الأهلية، وحينا يتسكع في الشوارع ويتسول أصدقاءه ويستجديهم، وكان يمني نفسه بالثراء وهجران الفقر والبؤس الملازمين له واستغلال موهبته الشعرية وتحويل قصائده إلى ألحان، لكن المنية كانت قد عاجلت الشيخ سيد درويش قبل أن يتحقق حلم الشاعر بتحويل شعره إلى قصائد مغناة، فكانت صدمته كبيرة وظل يعزو ذلك وغيره من الأحداث التي مر بها إلى سوء حظه ونحسه، وهام الديب على وجهه وراح يتردد على البارات والأماكن المشبوهة، وعاش حياته بصورة تشبه حياة الصعاليك، فعانى من التشرد والحرمان والقهر وخذلان المجتمع له، وتحول شعره إلى هجائية ممتدة شملت كل شيء وكل أحد.
انظر إليه وهو ينعى حظه العاثر وبؤسه الذي يلازمه ملازمة الظل لصاحبه وهو في ريعان الشباب:
وداعا شبابي في ربيع شبابي ** وأهلا حسابي قبل يوم حسابي
وما يبتغي من عاش غير موفق ** ثلاثين عاما في أسى وعذاب
بنى فوق دار الشمس دارة مجدة ** مساكنه فيها نذير خراب
طلعتُ على الدنيا فلا النور في الدجى ** ولا الروضة الفيحاء وسط يباب
ولكن حظي بَدَّلَ النور ظلمة ** وبَدَّلَ ما أشدو نعيب غراب
وبؤتُ من الأيام وهي هوامع ** بحظ العطاشى من جهام سحاب
أمانيَّ تَغْريها الخطوب رأيتها ** كأشلاء قتلى في رؤوس حراب
ولو أن وهاب الحظوظ أراد لي ** سلامة إحداها لخفف ما بى
ولكنها ماتت بليلة عُرسها ** ومن دمها الغالي تَخِذتُ خضابي
ويقول:
لم يُخلَق الحزن إلا في جوانحنا ** ولا المدامع إلا في مآقينا
لو ذاق هذا الورى معشار محنتنا ** ما قارفوا عيشهم دنيا ولا دينا
ولا أقاموا على الدنيا وإن ظهروا ** بصفحتيها " سليمانا وقارونا"
وفي الأبيات التالية نجد الشاعر يُحَمِّل مسؤولية فشله الذريع، وما يلاقيه من بؤس وحرمان للأيام والأقدار، ولؤم الناس وخسة طباعهم، ويمثل هذا الاعتقاد بالنسبة له نقطة مركزية تتكرر في شعره بصورة دائمة، لا تكاد تغيب عن قصائده.
أفني صبوحي في المنى وغبوقي ** أني امرؤ كسدتْ بقومي سوقي
زعم العواذل أن سعيي فاشل ** والنحس توأم عيشتي ورفيقي
لولا مناوأة الزمان لهمتي ** أزرى بنور الشمس نورُ شروقي
أقسى علي من الخطوب تبرم ** بي من قريب عاطف وصديق
وإذا انبرى الحنَّان يكشف كربتي ** جرحوه واحتسبوه شر شفيق
يا محنة أكل الشقاء شبيبتي ** فيها وهجَّنتِ الخطوب عريقي
ولبست باليها بعرسي مكرها ** وشربت آسنها عتيق رحيق
لو لم يكن نبل الحياء طبيعتي ** أقسمتُ ما عرف الشقاء طريقي
فبكل مضمار سَبقتُ، وإنني ** لأعيش عيشة خاسر مسبوق
محن لها عزم الجريء وصبره ** والصبر أجمل ما يفرِّج ضيقي
يقول د. عبد الرحمن عثمان: والحق الذي أستيقنه أن الديب كان حليفا وفيا لسوء الحظ، ومحطا تقف عنده لعنة الأيام، وتنتهي إليه غضبة الدهر، وما رأيت على كثرة ما رأيت بائسا كان على شاكلة الديب، أو ممتحنا لازمه هذا الطالع المنكود، فقد كان الديب ولا أدري لماذا؟ ملعونا من السماء ومجفوا من فجاج الأرض، فإذا تهادت فرحة أمام عينيه فما يكاد يبتسم إليها الشاعر حتى تتجمع حولها سحب قاتمة تزحف إليها من مطالع نحسه لتجلل إشراقها بالسواد، ولتبدل من نورها المتألق ظلمة وقتاما. (انظر: الشاعر عبد الحميد الديب حياته وفنه ص 38.)
كان الديب شاعرا موهوبا بشهادة كل من سمعه، وكان هو نفسه يؤمن بهذه الموهبة، ويرى أن أنصاف الموهوبين ينالون أضعاف ما ناله، وهو ما جعله ساخطا متبرما لا يرضيه شيء ولا يرضى عن شيء، وربما دفعه ذلك إلى المبالغة في بعض الأحيان ردا على هذا التجاهل وهذا النكران. يقول في إحدى قصائده:
يا أمة جهلتني وهي عالمة ** أن الكواكب من نوري وإشراقي
أعيش فيكم بلا أهل ولا وطن ** كعيش منتجع المعروف أفاق
وكنتُ نوحَ سفينٍ أُرسلتْ حرماً ** للعالمين فجازوني بإغراقي
وليس لي من حبيب في دياركمُ ** إلا الحبيبين: أقلامي وأوراقي
لم أدر ماذا طعمتم في موائدكم ** لحم الذبيحة أم لحمي وأخلاقي؟
وما تألمتُ من خطب ضحكت له ** كما تألمت من خطبي بعشاقي
أنا على القرب منهم كل متعتهم ** وإن نأيتُ حبوني فيض أشواق
فما لهم قد أشاعوا كل مخجلة ** عني، وأعلنوا بؤسي بأبواق
كصاحب الطير لا ينفك يسجنه ** سجنين من قفص مُضْنٍ وأطواق
رِيشت لغدري سهامٌ من نميمتكم ** فصارعتني، وما لي دونها واق
قالوا: غوي شقي، قلت: يا عجبا ** قد امتُحِنتُ بفجار وفساق
حظي هو الأيكة الخرساء ذابلة ** هو النسيم سموماً غير خفاق
هو السحاب جهاما، والندى أسفا ** هو الضياء به موتي وإحراقي
كأنه أذرع شلاء راحتها ** أو أنه أعين من غير أحداق
لا تسألوني عن بؤسي وعلته ** سلوا به الحظ ميتاً فوق أعناقي
والذي يعنينا من هذه اللوحة الشعرية أمران: الأول هو تلك الفكرة التي لازمت الشاعر وصاحبته طوال حياته، ولم ينفك يذكرها في ثنايا شعره ومواقفه جميعا؛ وهي أن فشله وبؤسه وما لاقاه من حرمان وتشرد لا يُسأَل هو عنه، وإنما يسأل عنه المجتمع ويتحمل الناس شطرا كبيرا من المسؤولية بما جُبلوا عليه من ظلم وقسوة، كما يُحَمِّل الشاعر الأقدار مسؤولية خذلانه بتخليها عنه ونبذها له، فهي دائما له بالمرصاد دون غيره، ولا شك أن هذا من سوء تقدير الشاعر للأمور وفرط حساسيته، وإنكاره لمسؤوليته الشخصية عن هذا الفشل وهذا التخبط، بتركه للدراسة وتطلعه للغنى بأي سبيل ليحاكي حياة الأغنياء، وإدمانه على المخدرات وصداقته للمشبوهين والمتشردين، حتى عافه الناس ونبذوه خوفا على سمعتهم وملاحقة الشرطة لهم.
أما الأمر الآخر، فهو سهولة هذا الشعر ووضوحه وتأثيره في النفس، والتعبير العفوي غير المصطنع البعيد عن التأنق والمبالغات العقيمة؛ فهو ينعى على الناس في هذه الأبيات جهلهم بقدره وعدم وضعه في مكانه الصحيح واللائق به، على الرغم من أنه كالنجم في السماء لا يخفى على أحد، لكن أحقادهم عليه وعلى موهبته هي التي أعمتهم عن إبصار نوره، فنبذوه وعاش بينهم غريبا بلا أهل ولا وطن، على الرغم من بذله النصح لهم وسعيه الدائم لإنقاذهم من الغرق، فكان جزاؤه الطرد والنفي والغرق وهذا دأب المجددين، وإذا كان الدهر قد رمى الشاعر بالخطوب وأصناف المحن الجسيمة، فإن أعظم تلك الخطوب التي لاقاها تكمن في خسة الناس ونذالتهم وسوء طباعهم؛ فهم لا يتورعون عن إشاعة الأكاذيب عنه، ولا تخلو مجالسهم من النميمة في حقه واتهامه بكل نقيصة، ولو أنصف هؤلاء لخجلوا من ذكره بسوء، ولعلموا أنهم أولى بتوجيه هذا اللوم لأنفسهم، فهو وإن كان قد شقي في حياته وحاد عن الطريق القويم، إلا أنه يقر في نفسه بالعجز والضعف وعدم الإصرار على الذنب، كما أن القدر يقف له بالمرصاد ويأبى حظه السيء أن يفارقه، أما هؤلاء فلا عذر لهم لأنهم جُبلوا على اللؤم والغدر، واختاروا بمحض إرادتهم أن يكونوا على هذا النحو من سوء الطباع.
يقول الديب:
ضاقت به الدنيا فكن رحبا به ** قد ذل من غدرِ الزمان وريبِه
لا تنكروا الشكوى على متبرم ** قلقِ الحياة، كمن يشاك بثوبِه
أنا لا أرى لي في شبابٍ لذة ** لهفي على مرح الشباب وعُجبِه
من كان توأمُه الشقاءَ وصنوُه ** فشبابه حرب عليه كشيبِه
وبسبب إدمانه ومصاحبته لبعض الأشقياء ألقي به في السجن ومكث به عدة أعوام، وفي السجن كتب أشجى قصائده التي يبث فيها أشجانه وآلامه على غرار ما كتب أبو فراس الحمداني في رومياته، واستطاع أحد المحسنين إخراجه من السجن ليودع مستشفى الأمراض العقلية لتلقي العلاج من الإدمان، وبعد خروجه من المستشفى ألحق بعمل حكومي بسيط، لكنه لم يبق به طويلا فقد تدهورت صحته ومات وهو في الخامسة والأربعين من عمره.
وتعد هذه القصيدة من روائع شعر عبد الحميد الديب وقد كتبها في أخريات حياته، حيث يعلن فيها ندمه وتوبته، ويؤكد أن صوت الإيمان في قلبه كان دائما أقوى من صوت الشيطان والغواية، وهي قصيدة جديرة بالدراسة والتأمل لمن أراد أن يتعرف حياة الشاعر في مختلف أطوارها، كما تجسد طريقته ومذهبه الشعري الذي لم يخرج فيه عن مذهب القدماء في بناء القصيدة، وإن كانت تعكس حسه المرهف ونفسه الشفافة الرقيقة. يقول عبد الحميد الديب:
كل شيء أشهد الله عليّا ** فرّت الدنيا جميعا من يديّا
لا تقل لي كيف تحيا سادرا ** أنا ميت بين قومي لست حيا
سر هذا البؤس أني شاعر ** قد أفاد الدهر منى عبقريّا
عندما كنت بحاني شاربا ** كنت أصغي للمصلي يتهيّا
رنّة التكبير في سمعي محت ** رنّة الكاس وأودت بالحميّا
والمصلّون لدى تسبيحهم ** صيروا الندمان في عيني نسيّا
مظهر التسبيح والتقوى بهم ** قد سقاني الكأس إيمانا سريّا
يا صبوحي يا غبوقي ضلّةً ** لكما منى بكورا أو عشيّا
وهبطت الروض والليل سجا ** قد أجنّ الطير والورد النديّا
كل ما في الروض حتى تربه ** سبّح الرحمن تسبيحاً خفيّا
وهنا أدركت أنى لم أعش ** وأنا المسلم إلا جاهليّا
قد تخذتُ الشعر توحيدي ولم ** أتطهّر فجنى الشعر عليا
بينما أسرف في وصف الطلا ** والهوى لم أدّخر لله شيّا
أنا أو إبليس للدنيا عمى ** هو خاف وأنا أبدو جليا
قلت: ربي وأنا جاثٍ له ** فحباني لطفه قلبا رضيا
تبت من ذنبي ومن ترجع به ** نفسه لله يبعثه نقيا
توبةٌ من بعد أن فزت بها ** كل شيء صار في عيني هنيّا
فتراني في السماوات العلا ** أصحب الشمس وتعنو لي الثريّا
ولدى سدرتها في موكب ** ما حوى إلا ملاكا أو نبيذا
وعلى الأرض شهابا لامعاً ** من صفاء القلب أو نور المحيّا
فتحت أبواب أرزاقي بها ** فسقاني خيرها شهدا وريّا
ونأت عنى همومي بعدما ** أصبح القلب من الدنيا خليّا
وسل الليل فما أغفو به ** غير أرماقٍ وما تجدي عليّا
هذه آية عشقي كلما ** جنّ ليلى ظلت سهران مليا
لا يواتيني الكرى حتى أرى ** طيف حبي فأحيّي وأحيّا
فإذا حدثتني ألفيتني ** غائب المهجة لله نجيّا
أين شيطاني وأينت ريحه ** كان يهفو في الدجى روحا عتيا
أكله أو شربه من هجرتي ** في ظلام الشك أفاقا شقيّا
فقضى يوم الهدى إذ لم يجد ** أي شرع ينتهي منه إليا
جنة المحراب تشوي جسمه ** وأنا لم أغش بيتا أو نديّا
مات شيطاني وهاكم جنده ** هينموا بالدمع أشباحا بكيّا
رحم الله الشاعر البائس عبد الحميد الديب، الذي عاش حياة قصيرة لكنها كانت مليئة بالأحداث الجسام؛ فكانت شهادة صادقة على قسوة العصر وأهله وإدانة صريحة للوسط الثقافي الذي لم يلتفت إلى الشاعر ومأساته.
أ. د. وجيه يعقوب السيد - أستاذ النقد الأدبي بقسم اللغة العربية بكلية الألسن جامعة عين شمس