د. عادل الأسطة - في الذكرى الثالثة

صباح التاسع من نيسان في العام 2003 وأنا أشاهد دبابتين اميركيتين على أحد جسور عاصمة الرشيد سأشعر بغصة في القلب، لا لأنني أحب (صدام)، وإنما لأنني رأيت في سقوط العاصمة هزيمة جديدة تضاف الى سجل الهزائم التي فتحت عيني على هذه الدنيا وأنا أعيشها، منذ ولدت في مخيم كان نتاجاً لحرب العام 1948، حيث هزمت الجيوش العربية، مروراً بهزيمة الخامس من حزيران، وكنت يومها فتى يافعاً لا يعرف معنى الهزيمة، وليس انتهاء بما آلت اليه أوضاعنا في الضفة والقطاع، ذلك أنه بين هذه الهزائم كلها، وسقوط بغداد واحدة منها، هناك هزائم شخصية واجتماعية وخيبات لا عدّ لها، ولا أدري ان كان عبد الرحمن منيف، وهو يكتب روايته "حين تركنا الجسر" كان يتخيلني، فبطله بطل الخيبة بامتياز، ولم يكن تصدير روايته ذكرى خيبات كثيرة مضت.. وأخرى على الطريق.. ستأتي عبثاً. وأظن أنني حين كتبت نص "ليل الضفة الطويل" )1993( كنت تأثرت، عدا ما مررت به من تجارب، بهذا التصدير لمنيف. وسأكتب، فيما بعد، ثلاثين قصة عن الخيبة، اعبر فيها عن خيبتي من هذا العالم.
صباح التاسع من نيسان ذاك، قبل ثلاث سنوات، سأكرر سطراً شعرياً للشهيد الشاعر علي فودة: بقلبي اريحا، وكنا نحن ولو مرة لانتصار. ولما كانت أسوار بغداد التي كنا نأمل أن يسقط الغزاة عليها أسواراً وهمية، ولما كنت لا أرغب في استساغة الهزيمة، فقد أخذت اقنع نفسي بأن الحرب لم تنته، وأنها ستبدأ اثر سقوط صدام وزوال حكمه، وربما كررت، بوعي أو دون وعي، مقطعاً يغنيه مارسيل خليفة، قاله مؤلفه في الحرب الاهلية اللبنانية: "لم تنته الحرب"، وربما تذكرت ما قالته أم سعد في رواية غسان كنفاني "ام سعد" عن حرب حزيران 1967، فقد ذهبت هذه الى ان الحرب بدأت في المذياع، وانتهت ايضا فيه، ولم يكن ثمة حرب، ربما تذكرت هذا، علما بأنني كنت اشاهد، عبر شاشة الفضائيات، الجيش العراقي يقاتل بما استطاع الى ذلك سبيلا.
ولم تمر أيام على التاسع من نيسان، حتى بدأت الحرب، فتذكرت ام سعد مرة ثانية، وتذكرت ابنيها سعداً وسعيداً وحركة المقاومة الفلسطينية التي انبثقت من الهزيمة، قوية عنيفة لتعيد للروح الجريحة بعض كرامتها، وهذا ما يلحظه المرء ايضاً في مسرحية الشاعر المرحوم معين بسيسو "شمشون ودليلة"، وربما ربط المرء بين خطاب (بوش) وهو يعلن انتهاء العمليات العسكرية وانتصار الولايات المتحدة الاميركية، وبين ما يرد على لسان شمشون الاسرائيلي في المسرحية، هذا الذي يشعر بالزهو لأنه هزم ثلاث دول في ثلاثة ايام او ستة، في ست ساعات أو ثلاث ساعات، وهكذا يخاطب ريم الفتاة التي تنتفض لتكون دليلة الفلسطينية، يخاطبها:
"أنت هنا بين يديّ... كهذا الارنب...
كل رؤوسكمو في هذي الخوذة كالبيض المكسور...
أنا شمشون...
يا ريم...
شمشون"...
ما إن انتهت حرب العام 1967 حتى تفجرت المقاومة، في الخارج وفي غزة، وما إن توقفت حرب العراق، حتى تفجرت مقاومة عراقية ذهب ضحيتها من الاميركان أضعاف أضعاف ما سقط منهم في الحرب الرسمية، ولا أدري ماذا سيقول الرجل الابيض، سيد البيت الابيض في خطابه في الذكرى الثالثة؟ ماذا سيقول وقد اعترفت وزيرة خارجيته بآلاف الاخطاء التي ارتكبت؟ ماذا سيقول وقد بلغ عدد قتلاه )2300( قتيل، و )16( الف جريح؟
في الذكرى الثالثة للحرب، يتابع المرء ما يجري في العراق: لا الحرب انتهت، ولا الديمقراطية حلت، ولم ينعم العراقيون بالهدوء والطمأنينة والاستقرار. لقد استبدل الدكتاتور بدكتاتور. ثمة دم في الشوارع، وثمة بوادر حرب أهلية، وثمة تصفيات أشرس من تلك التي مارسها صدام، وربما كرر المرء وهو يشاهد ما يجري ما قاله الشاعر عن بغداد يوم غزاها المغول:
ما للمنازل أصبحت لا أهلها أهلي، ولا جيرانها جيراني
وحياتكم ما حلّها من بعدكم غيرُ البِلى والهدم والنيران

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى