شهد القرن العشرون -مرحلة ازدهار الأدب العربي- معاركَ أدبيةً شتى؛ لكثرة الأدباء واختلاف أرائهم وتعدد الوِجهات، والذي يُمعن النظر في هذه الحِقبة الأدبية، يجد الرافعي أكثرهم خوضًا لهذه المعارك؛ فقد اعتمد النقد أسلوبًا مُذ بلغ الخامسة والعشرين من عمره، ومن ثَمّ تعددت خصومه، فكان أشدهم اختلافًا معه العقاد، ومن بعده طه حسين، وأيضًا زكي مُبارك، وسلامة موسى وغيرهم؛ ذلك أنّه تبنّى قضية وامتثل مبدًأ لم يحِد عنهما إلى أن فاضت روحه لبارئها، أمّا القضية فهي اللغة العربية ومكانتها وصلتها بالأمة، وأمّا المبدأ فالهِوية العربية ومواجهة موجة التغريب والتشتيت.
كان الرافعي كاتبًا بالمحكمة الشرعية في طنطا، ذا نفسٍ طُلَعَة، توّاقة للأدب واللغة؛ فمُكِن له القراءة على اختلافها، حتى نُفخ في مَلكته اللُغوية من روح اللغة وبيانها، فصار لِما وصل إليه من نباغة وبيان وبلاغة، أمّا طه حسين فكان الطالب الأزهري الذي نزل إلى رغبة والديه فتفوق في الأزهر وتقدم شيئًا فشيئا، الغريب أنّه ركن إلى النشوذ ومخالفة الرأي العام منذ حين، فكان اسمه يُردد -وربما طربت أُذُناه لذلك- ترديدًا مدويًا، ثم تخرج من الأزهر والتحق بالجامعة وعمل فيها أستاذًا بكلية الآداب.
نشبت أولى نيران المعركة، حينما كتب طه حسين في مجلة "الجريدة" 1912 تعقيبًا على كتاب "تاريخ آداب العرب" للرافعي واصفًا إياه بالجمود الفكري، ومؤكدًا أنّه لم يفهم منه حرفًا واحدًا ثم أتبعه بنفس الرأي في كتاب "حديث القمر"، فوجه له الرافعي أنظاره النّقادة وأعيُنه الفّحاصة، فوصف أسلوبه بالركاكة والتكرار مُشبهًا إياه كأنه "يمضغ الكلام مضغًا" (1) فلما تكلم طه عن "رسائل الأحزان" نقدًا، استوجهه الرافعي بمقالات متتالية في مجلة "السياسة".
وبلغت المعركة نصف نصاب اشتعالها، حينما كتب طه عن الرسائل قائلًا: "كل جملةٍ من جُمل الكتاب تبعث في نفسي شعورًا قويًا أنّ الكاتب يلدها ولادة وهو يُقاسي في هذه الولادة ما تُقاسيه الأم من آلام الوضع". فرد عليه الرافعي قائلًا: "لقد نبغت في الخيال بعد أن قرأت رسائل الأحزان وستنبغ أكثر بعد أن تقرأ السحاب الأحمر، أفأنت تقوم لي في باب الاستعارة والمجاز والتشبيه" (2). ثم تطورت الحال وبدأت المعركة تأز نحو الخارج أزًا، حينما اشتنع طه حسين شنيعته، ونشر كتابه "في الشعر الجاهلي" ذلك الكتاب الذي مُلأ بالتعديات والمُغايرات الدينية والتاريخية التي لا يُسكت عنها، ومنها قوله: "للتوراة أن تُحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل، وللقرآن أن يحدثنا عنهما أيضًا، ولكن ورود هذين الاسمين في التوراة والقرآن لا يكفي لإثبات وجودهما التاريخي" (3)، وغيرها من المُغالطات.
فتح الرافعي على طه حسين وابلًا مِن المقالات النقدية، التي تهدف تصحيح ما يُحاول طه تشويهه وغلطه، فبدأه بالحجة والدليل -سطرًا سطرًا- على كتابه مِنها يقول الأستاذ طه حُسين (4) : "ليس يُعنيني أن يكون القرآن تأثر بشعر أمية -ابن أبي الصلت- أو لا يكون" فيرد الرافعي (5) : "إنّ القرآن عند هذا الرجل كتاب أشبه بالكتب التي يضعها المؤلفون، فتكون تمثيلًا للعصر الذي وضعت فيه، ومِن ثَمّ فلا مَعنى لِما ورد في القرآن أنّه (لَّا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ ۖ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) (فُصلت.42) وتكون هذه عقيدة الجامعة لا طه وحده مادامت تُدرس هذا".. هل يدري طه معنى قوله (مِن بَيْنِ يَدَيْهِ) ومعنى (مِنْ خَلْفِهِ)؟ إنّ معناها يا أستاذ الجامعة أنّ القرآن لا يُشخص عصرًا ولا يمثله، بل هو كتاب كل عصر، وهو الثابت على كل بحث وكل علم على مدى الأزمنة في أيها جاء، وأيها ذهب مما يطويه الماضي.
وعلى غرار مقالات الرافعي ثار العلماء من كافة أنحاء مصر احتجاجًا على أستاذ الجامعة، فأمر شيخ الأزهر بتأليف لجنة لبحث الكتاب، أفضت إلى فساده وطعنه في الدين الإسلامي وثوابته، وافترائه على القرآن الكريم، ومما كتبت اللجنة: "نرفع التقرير مُطالبين فضيلتكم والجِهات المَعنيةبوضع حد لهذه الفوضى الإلحادية خصوصًا التي تنبت في التعليم لهدم الدين بمعول الزندقة كل يوم". (6) وبعدما كان طه مستعليًا لا يرد على ما يكتب في الصحف ولا غيرها من نقد كتابه، راسل مدير الجامعة قائلًا: "أؤكد لعزتكم أنّي لم أُرد إهانة الدين ولم أخرج عليه، وما كان لي أن أفعل ذلك وأنا مُسلم أؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر…" العام التالي غُير عنوان الكتاب ليُصبح "في الأدب الجاهلي" وحُذفت بعض المُغالطات، وأثنى على الرافعي لكتابه "تاريخ آداب العرب" الذي انتقده من قبل!
ولكن وصل الأمر إلى مجلس النواب وأُثيرت إشكالاتٌ جمة، دارت على إثرها مواجهات بين رئاسة الوزراء ووزارة المعارف ونائبي المجلس، وكان طه وقتها مُسافرًا إلى فرنسا، فاقترح النائب عبد الحميد البنان:
1. إبادة كتاب في الشعر الجاهلي.
2. إحالة الدكتور طه حسين إلى النيابة.
3. إلغاء وظيفته.
ولكن حدثت مُشادات سلطوية، فغادر سعد زغلول -رئيس المجلس وقتها- لتعبه، وبعد راحة أُقيمت الجلسة برئاسة مصطفى النحاس، فطلب الكثير من الأعضاء تأجيل الجلسة لمغادرة عدلي باشا ومعه جمع مرموق إلى بيت الأمة وتكلموا في ظروف الحادث، وبعدما غادروا سُئل بعض الحاضرين فقالوا: "إنّ الحادث سُوىَّ وأصبح كأنه لم يَكُن" (7). وفي جلسة اليوم التالي أخبر النائب عبد الحميد أنّه قدم بلاغًا للنيابة للتحقيق مع الدكتور طه حسين، فأتمت النيابة التحقيق بعدما رجع طه حسين من السفر وحُفظت القضية.
ولعل ما أضفى روحًا باردةً على تلك النار المُستعرة، ما بدرَ مِن الرافعي مِن فُكاهيات أبرزها ما رد به على طه حسين. "لقد كتبتُ رسائل الأحزان في ستةٍ وعشرين يومًا، فاكتب أنت مِثلَها في ستةٍ وعشرين شهرًا، وها أنا أتحداك أن تأتي بمثلها أو بفصلٍ من مثلِها، وإن لم يَكثن الأمر عندك في هذا الأسلوب الشاق عليك إلا ولادة وآلامًا مِن آلام الوضع كما تقول فعليَّ نفقات القابلة والطبيبة متى ولدت بسلامة الله".
______________________________
*هامش:
1. كتاب "تحت راية القرآن" صفحة 106.
2. كتاب "تحت راية القرآن" صفحة 113.
3. كتاب "في الشعر الجاهلي" صفحة 26-27.
4. كتاب "في الشعر الجاهلي" صفحة 83.
5. كتاب "تحت راية القرآن" صفحة 160-161.
6. بيان لجنة الأزهر الصادر في 26 شوال 1344.
7. كتاب "تحت راية القرآن" صفحة 428.
محمد الخشاب
كان الرافعي كاتبًا بالمحكمة الشرعية في طنطا، ذا نفسٍ طُلَعَة، توّاقة للأدب واللغة؛ فمُكِن له القراءة على اختلافها، حتى نُفخ في مَلكته اللُغوية من روح اللغة وبيانها، فصار لِما وصل إليه من نباغة وبيان وبلاغة، أمّا طه حسين فكان الطالب الأزهري الذي نزل إلى رغبة والديه فتفوق في الأزهر وتقدم شيئًا فشيئا، الغريب أنّه ركن إلى النشوذ ومخالفة الرأي العام منذ حين، فكان اسمه يُردد -وربما طربت أُذُناه لذلك- ترديدًا مدويًا، ثم تخرج من الأزهر والتحق بالجامعة وعمل فيها أستاذًا بكلية الآداب.
نشبت أولى نيران المعركة، حينما كتب طه حسين في مجلة "الجريدة" 1912 تعقيبًا على كتاب "تاريخ آداب العرب" للرافعي واصفًا إياه بالجمود الفكري، ومؤكدًا أنّه لم يفهم منه حرفًا واحدًا ثم أتبعه بنفس الرأي في كتاب "حديث القمر"، فوجه له الرافعي أنظاره النّقادة وأعيُنه الفّحاصة، فوصف أسلوبه بالركاكة والتكرار مُشبهًا إياه كأنه "يمضغ الكلام مضغًا" (1) فلما تكلم طه عن "رسائل الأحزان" نقدًا، استوجهه الرافعي بمقالات متتالية في مجلة "السياسة".
وبلغت المعركة نصف نصاب اشتعالها، حينما كتب طه عن الرسائل قائلًا: "كل جملةٍ من جُمل الكتاب تبعث في نفسي شعورًا قويًا أنّ الكاتب يلدها ولادة وهو يُقاسي في هذه الولادة ما تُقاسيه الأم من آلام الوضع". فرد عليه الرافعي قائلًا: "لقد نبغت في الخيال بعد أن قرأت رسائل الأحزان وستنبغ أكثر بعد أن تقرأ السحاب الأحمر، أفأنت تقوم لي في باب الاستعارة والمجاز والتشبيه" (2). ثم تطورت الحال وبدأت المعركة تأز نحو الخارج أزًا، حينما اشتنع طه حسين شنيعته، ونشر كتابه "في الشعر الجاهلي" ذلك الكتاب الذي مُلأ بالتعديات والمُغايرات الدينية والتاريخية التي لا يُسكت عنها، ومنها قوله: "للتوراة أن تُحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل، وللقرآن أن يحدثنا عنهما أيضًا، ولكن ورود هذين الاسمين في التوراة والقرآن لا يكفي لإثبات وجودهما التاريخي" (3)، وغيرها من المُغالطات.
فتح الرافعي على طه حسين وابلًا مِن المقالات النقدية، التي تهدف تصحيح ما يُحاول طه تشويهه وغلطه، فبدأه بالحجة والدليل -سطرًا سطرًا- على كتابه مِنها يقول الأستاذ طه حُسين (4) : "ليس يُعنيني أن يكون القرآن تأثر بشعر أمية -ابن أبي الصلت- أو لا يكون" فيرد الرافعي (5) : "إنّ القرآن عند هذا الرجل كتاب أشبه بالكتب التي يضعها المؤلفون، فتكون تمثيلًا للعصر الذي وضعت فيه، ومِن ثَمّ فلا مَعنى لِما ورد في القرآن أنّه (لَّا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ ۖ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) (فُصلت.42) وتكون هذه عقيدة الجامعة لا طه وحده مادامت تُدرس هذا".. هل يدري طه معنى قوله (مِن بَيْنِ يَدَيْهِ) ومعنى (مِنْ خَلْفِهِ)؟ إنّ معناها يا أستاذ الجامعة أنّ القرآن لا يُشخص عصرًا ولا يمثله، بل هو كتاب كل عصر، وهو الثابت على كل بحث وكل علم على مدى الأزمنة في أيها جاء، وأيها ذهب مما يطويه الماضي.
وعلى غرار مقالات الرافعي ثار العلماء من كافة أنحاء مصر احتجاجًا على أستاذ الجامعة، فأمر شيخ الأزهر بتأليف لجنة لبحث الكتاب، أفضت إلى فساده وطعنه في الدين الإسلامي وثوابته، وافترائه على القرآن الكريم، ومما كتبت اللجنة: "نرفع التقرير مُطالبين فضيلتكم والجِهات المَعنيةبوضع حد لهذه الفوضى الإلحادية خصوصًا التي تنبت في التعليم لهدم الدين بمعول الزندقة كل يوم". (6) وبعدما كان طه مستعليًا لا يرد على ما يكتب في الصحف ولا غيرها من نقد كتابه، راسل مدير الجامعة قائلًا: "أؤكد لعزتكم أنّي لم أُرد إهانة الدين ولم أخرج عليه، وما كان لي أن أفعل ذلك وأنا مُسلم أؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر…" العام التالي غُير عنوان الكتاب ليُصبح "في الأدب الجاهلي" وحُذفت بعض المُغالطات، وأثنى على الرافعي لكتابه "تاريخ آداب العرب" الذي انتقده من قبل!
ولكن وصل الأمر إلى مجلس النواب وأُثيرت إشكالاتٌ جمة، دارت على إثرها مواجهات بين رئاسة الوزراء ووزارة المعارف ونائبي المجلس، وكان طه وقتها مُسافرًا إلى فرنسا، فاقترح النائب عبد الحميد البنان:
1. إبادة كتاب في الشعر الجاهلي.
2. إحالة الدكتور طه حسين إلى النيابة.
3. إلغاء وظيفته.
ولكن حدثت مُشادات سلطوية، فغادر سعد زغلول -رئيس المجلس وقتها- لتعبه، وبعد راحة أُقيمت الجلسة برئاسة مصطفى النحاس، فطلب الكثير من الأعضاء تأجيل الجلسة لمغادرة عدلي باشا ومعه جمع مرموق إلى بيت الأمة وتكلموا في ظروف الحادث، وبعدما غادروا سُئل بعض الحاضرين فقالوا: "إنّ الحادث سُوىَّ وأصبح كأنه لم يَكُن" (7). وفي جلسة اليوم التالي أخبر النائب عبد الحميد أنّه قدم بلاغًا للنيابة للتحقيق مع الدكتور طه حسين، فأتمت النيابة التحقيق بعدما رجع طه حسين من السفر وحُفظت القضية.
ولعل ما أضفى روحًا باردةً على تلك النار المُستعرة، ما بدرَ مِن الرافعي مِن فُكاهيات أبرزها ما رد به على طه حسين. "لقد كتبتُ رسائل الأحزان في ستةٍ وعشرين يومًا، فاكتب أنت مِثلَها في ستةٍ وعشرين شهرًا، وها أنا أتحداك أن تأتي بمثلها أو بفصلٍ من مثلِها، وإن لم يَكثن الأمر عندك في هذا الأسلوب الشاق عليك إلا ولادة وآلامًا مِن آلام الوضع كما تقول فعليَّ نفقات القابلة والطبيبة متى ولدت بسلامة الله".
______________________________
*هامش:
1. كتاب "تحت راية القرآن" صفحة 106.
2. كتاب "تحت راية القرآن" صفحة 113.
3. كتاب "في الشعر الجاهلي" صفحة 26-27.
4. كتاب "في الشعر الجاهلي" صفحة 83.
5. كتاب "تحت راية القرآن" صفحة 160-161.
6. بيان لجنة الأزهر الصادر في 26 شوال 1344.
7. كتاب "تحت راية القرآن" صفحة 428.
محمد الخشاب