شاكر عبد الحميد - السهم.. والشهاب (دراسة في تطور الوعي لدى الشخصيات في قصص يحيى الطاهر عبدالله)

مقدمة

مبدع وأصيل، مشرق وطموح، عميق ومؤثر، بسيط ومعبر، دخل حياتنا الأدبية كالسهم ومرق من عالمنا كالشهاب، کشف لنا الكثير من الجواهر والدرر المخبوءة في أعماق لغتنا، وانهينا إلى أن البساطة وعدم التقعر، يمكن أن يكون أكثر جدوى إذا التحم بالواقع وخبر خباياه وتكشف أسراره ونفذ إلي أعماقه وقدم لنا التبسيط المبهر المدهش من شوامخ القصص، التي تحققت فيها شروط الأدب العظيم الذي تتوافر فيه أجود علاقات ممكنة بين مكوناته الداخلية من ناحية ثم بين هذه المكونات والواقع الخارجي من ناحية أخرى.

وهذه الدراسة هي محاولة أو هي إطلالة على جانب معين من الجوانب الكثيرة والثرية لقصص « يحيي الطاهر عبد الله » القصيرة، هذا الجانب هو تطور الوعي لدى لشخصيات عبر المجموعات الأربع التي أبدعها، سنحاول تتبع التطورات المختلفة التي تطرأ على أنماط الشخصيات وخصائصها العقلية، و یکون محور اهتمامنا هو مدى تفاعل الشخصيات مع مجتمعها وتكيفها أو عدم تكيفها معه، وهل يتم ذلك، بطريقة واعية وبكفاءة أم أن هذا لا ينم جيدا مما يترتب عليه أن يتجه سلوك الشخصيات إلى مسارات فرعية ومسالك هامشية، عادة ما تكون هروبية بغية تجنب المواجهة وتحاشیا لاحتكاك وعدم محاولة البحث عن الحل الحقيقي للمشکلات .

أن استخدامنا لمفهوم الوعي هنا سيكون له معني محدد، فالشخصية الواعية هي الشخصية المستبصرة بذاتها وبواقعها والنافذة إلى أعماق هذا الواقع والمتفهمة لطبيعة العلاقات الحادثة فيه والتي لا تحاول أن تقف موقف المتفرج إزاء ما يحدث لها أو حولها بل تحاول أن يكون لها دور محدد وواضح في كل الأحداث الجارية ذات الأهمية، أما الشخصية غير الواعية أو اللاواعية- واللاواعي هنا لا يختلط بالمعنى الفرويدي الشائع الخاص بمنطقة اللاشعور ـــ فهي الشخصية السلبية غير المشاركة فيما يحدث لها أو حولها وغير المتفهمة لطبيعة ما يحدث وسيندرج تحت هذا النوع من الوعي الشخصيات ذات الوعي المقيد “التي تفهم ولا تفعل شيئا” ، والشخصيات ذات الوعي المزيف التي تفهم وتفعل ما لا يجب فعله كالخيانة والخداع والمتاجرة بالذات وبالآخرين، ويقف هذان النوعان من الشخصيات في مقابل الشخصيات ذات الوعي الحقيقي التي تفهم وتفعل ما يجب فعله ولمصلحة الجماعة والتي لا تهرب بل تواجه وتحاول السعي من أجل واقع أفضل.

أن تركيزنا الأساسي سيكون على الشخصية المتوالية أو الشائعة في كل مجموعة وذلك عبر فترات ثلاث، الأولى هي التي ظهرت في مجموعة “ثلاث شجرات كبيرة تثمر برتقالاً”۱۹۷۰،ومجموعة “الدف والصندوق”1974، والثانية هي التي ظهرت فيها مجموعة “أنا وهی .. وزهور العالم”۱۹۷۷، والثالثة والأخيرة مجموعة “حكايات للأمير”۱۹۷۸ .

وتقسيمنا هذا لا يقوم على أساس زمني فقط بل قبل ذلك على أساس النمط العام أو الشائع لسلوك الشخصية والتي تكاد أن تكون في عمومها شخصية واحدة خاصة في المجموعات الثلاث الأولى وهي ـــ شخصية الإنسان المستسلم المنسحق المهان المعذب في هذا العالم والذي نتيجة لظروفه القاسية يتحول إلى شخصية تشعر بالاضطهاد والامتهان ويعمها الاكتئاب والقلق .. إن شعور هذه الشخصيات بالاضطهاد ليشعروا غير مبرر ولا مبالغ فيه – كما سنرى ــ بل هو شعور طبیعی عادة ما تكون له مبرراته، لكن هذه الشخصيات لا تسلك سلوكا فعالا للتخلص من هذا الأمور، أنها تلجأ إلى طرق هروبية، بغية عدم المواجهة كما قلنا وهذه الطرق قد تكون :

أحلام اليقظة
أحلام النوم
الخمر
المخدرات
الخرافات والغيبيات
السخرية
التحايل والاحتيال
البكاء
التلون والمداهنة والرياء والمتاجرة بالذات والآخرين

١- شخصيات « ثلاث شجرات … والدف والصندوق »:

في المجموعة الأولى نجد الإنسان العادي المحيط الضائع بين الأنظمة البيروقراطية واللوائح والقوانين الجامدة، المخنوق في أزمة الإسكان المضغوط في أزمة المواصلات،الضائع في أزمة الضمير، شخصيات ترزح تحت وطأة الكبت بمظاهره المختلفة “أحس أن روحه منهكة وأنه فعلا مضطهد ومقهور وأنه حقيقة يتعذب”(ص ۳۰) .أن هذه الشخصيات نتيجة لواقعها المرير تشعر بالحزن الثقيل الكثيف الجامد الراقد على النفس”ووجدت غضبي يتلاشي إلا أن حزني الثقيل ظل ثقيلا”(ص 52).كما تقع الشخصيات في وحدة التناقض الوجداني فلا تعرف متى تعمل ولا متى تبكي مما يقترب بها كثيرا من حافة التلبد الوجداني “كنت أضغط نفسي لأبکی، ووجدتني أغرق ــ أنا الحزين – في الضحك”( ص 54) . وأيضا “ضحك لأنه أحس أنه يتكلم بجدية وبحزن أكثر مما يجب وسمع ضحكاته تنكسر في الجهات الأربع “(ص ۳۰) .

إازاء هذا الشعور بالإحباط والنشل وعدم التمكن من تحقيق الآمال تلجأ الشخصيات إلى أحلام اليقظة ونجد هذا بطريقة واضحة لدى المرأة الفلسطينية في قصة “ثلاث شجرات” التي تحلم بالعودة إلى ديارها، كذلك يحلم “محبوب الشمس”، بأن “القرية كلها أصبحت ملكا له بأرضها وفضائها وكلابها، لا شماتة ولا ناس ولا شيء”. وهناك شخصيات أخرى تحلم بالمال أو بنساء جميلات، أو بفترة راحة من العمل “کمال في قابيل الساعة الثانية” إلى غير ذلك من أحلام اليقظة التي عادة ما يطول أمدها ولا تتحقق .

والشخصيات هنا قليلا ما تلف أو تدور أو تداهن لكنها تلاحظ وتسمع من ينصحها بضرورة اللف والدوران والالتواء والتلون، يقول أحد الموظفين ابطل (قابیل الساعة الثانية) “سبع سنوات دارها أخوك الثور المعمى حول الدرجة التاسعة مع الشغل والنفاذ وبعدها آمنت بالحقيقة .. أن السجن تأديب وتعليم، مسحت الجوخ لثلاث سنوات فنلت الثامنة وقفزت السابعة بعلاوة .. افهم يا موظف يا غشيم لهرس ودنك”( ص ۱۸۰).

ونجد عبارات مشابهة في قصص أخرى مثل “35 البلتاجي 52عبد الخالق ثروت”، نجد أيضا الشخصيات المطاردة والخائفة والتي يتعقبها الآخرون لأي سبب من الأسباب، كما نجد الشخصيات المؤمنة بالخرافات والغيبيات وهذه نجد استمرارها الطبيعي في قصص المجموعة الثانية« الدف والصندوق » فنجد عادات الأخذ بالثأر في صعيد مصر ونجد الخرافة والتعلق بالغيبيات کتفسير الجد حسن في الخضر والمغربي وهي شبيهة بما هو موجود في قصة « طاحونة الشيخ موسی » وغيرها من قصص المجموعة الأولى، فالشخصيات في عمومها تفكر في واقعها ولكن من خلال رده وجعل مصائرها فيه في يد كائنات مجهولة وغير مرئية لكنها تمتلك قوى خارقة تسيطر وتهيمن بها، قصة (في الشهر السادس من العام الثالث) يحلم بخيت البشاري ويفكر في أن “… الشيخ موسى أيضا رجل طيب يغلق حجرته بالنهار ويجوس هناك بمكة المكرمة صحبة من الأولياء الصالحين ولا يعود إلا بالليل ليفتح حجرته ويستقبل أصحابه ومريديه”(ص ۱۲).

وفي (الوشم) نجد صابر الذي لا يعمل لكنه يصيد السمك ويشويه ويأكله ويحلم ويغرق في أحلام يقظته يحدث نفسه قائلا “كيف غاب عنك يا ولد یا جابر أن الماء مسكون بالجن وأرواح الغرقى والقتلى”(ص ۹۸) وهولا يفعل شيئا لحل مشكلته التي يعيشها إلا بأحلام اليقظة وبالذهاب إلى غجرية لرسم وشم قلب وبداخله جمل يمكن أن يكون بديلا ــ حسبما هداه تفكيره – عن الجمل الحقيقي المطلوب منه مهرا لفاطمة التي يحبها ولا يستطيع أن يتزوجها لضيق ذات اليد، فالشخصيات في أغلب قصص هذه المجموعة تفكر في حياتها وواقعها ولكن من خلال الخرافات والغيبيات وأحلام اليقظة وهموم الشخصيات هموم محدودة فشخصيات الجد حسن أو “حزينة” أو “بخيت البشاری” أو “جابر” تقتصر اهتماماتهم على واقعهم المحدود المحدد وعلى مشاكلهم الذاتية دون محاولة لأن تشتمل على واقع أكبر وأكثر امتدادا، ومن ثم فهي هموم شخصية ذاتية وميتافيزيقية لشخصيات ذات وعي مقيد أو غير مكتمل وبذرة الوعي الحقيقي تأتي على لسان نخلة أو على لسان المؤلف أن شئنا الدقة في قصة (العالية) “ولن أواجه مواجهة الثور ولن استسلم كبقرة، مكر الثعالب يغلب القوى الباطش”. وأيضا « وصرخت » و یا جذوری أنت يل جذوري كوني الأرض أوتادا .. كوني في الأرض أوتادا وتثبتي للريح .. تثبتي للريح” ( ص ۸۳).

أنا وهي .. وزهور العالم :

وهذه المجموعة تنقسم إلى قسمين رئيسيين، الأول هو الذي يبدأ بقصة (أنا وهي وزهور العالم) والثاني هو الخاص بالحقائق القديمة. وسنبدأ بالحديث عن القسم الأول والذي نلمح فيه منذ الوهلة الأولى التغير الجذري الذي طرأ على لغة القصاص وعلى أسلوب الحكي.لقد صارت اللغة أكثر شفافية وإشراقا ونقاء وتخلصت من كل مظاهر الوهن والقصور وصارت مرکزة وعميقة، موحية وشاعرية وأن ظلت الشخصيات الشائعة في هذه القصص هي الشخصيات المحبطة المهانة التي يمضها الشعور الحاد بالاضطهاد والذي أصبح أكثر ضراوة ووحشية، كما تزايد لديها الشعور المضني بالقسوة، قسوة الحرمان والفشل والجوع “ها هو مرة أخرى تحت طائلة العقاب لا يملك – مهما حاول – دفع أو إیقاف ذلك الشعور الذي داهمه ..هذا الشعور الواقعی أنه مهان”(ص ۲۷) وأيضا يضربونه بالكتف من غير سبب ويتخطاه الأتوبيس المسرع ولا يقف إلا وهي مزدحم، يعامله الكل والمارة والصحاب- تلك المعاملة التي لا تليق بكلب، تطاردها لوساوس، ولا يقف له التاکسي .. إلى متى يسرقنى الجرسون ویدس لیصاحب المطعم الحصى بالطعام ؟ لم لا يرن جرس التليفون لما أطلبها وإن رنلا أسمع صوتها ولو رد أسمع من أريدها تقول أنها ليست هي” (ص ۳۸۔ ۳۹)

إن الشخصيات في هذا القسم من هذه المجموعة لا تأمن حاضرها وتتخوف كثيرا من مستقبلها فبعد الربیع بإشراقه يأتي الخريف بسقوط أوراقه وبحزنه ووجومه، والإنسان يمكن أن يموت وينتهي فجأة ويلقي على قارعة الطريق مهملا ضائعا منتهيا وتفرش على جثته أوراق الجرائم “ستموت وأنا وأنت فجأة”(ص 15).

وإزاء قسوة الواقع لا تفعل الشخصيات شیئا سوى الهرب إلى الخمر أو محاولة البكاء “ينظر للمروحة العاطلة ! تدور ويتذكر أشياء في حياته ويشعر برغبة في البكاء، ولكنه يقاوم ” و “وجد نفسه وحيدا وعاودته الرغبة في البكاء، (ص ۳۲) و” أنا جد حزين .. يا لي من تعس .. يا لي من فاشل بأكفان بيضاء”(ص 44)

ولكن لجوء الشخصيات إلى الخمر في هذا القسم ليس حبا في الخمور” فما هو بالمخور، وما هو بالراغب في الخمر، لكنها السنوات تطوح به .. تطوح به” (ص ۳۷) إنها وسيلة من وسائل تجنب المواجهة ولكنها مثلا لعرب الحقيقي الناتج عن الخوف من المجهول والغامض واللامحدد، الخوف غير المبرر واللاعقلي واللامنطقي، الخوف الذي يجذب حياتنا إلى أسفل وعقولنا إلى الوراء ومصائرنا إلى نهايتها كما نجد ذلك واضحا في “الدرس” التي تعبر عن الإنسان المطارد الخائف الذي يقتل نفسه في النهاية ورغم ذلك فاننا بخير، وفي هذه القصة العنصر الوحيد الواضح على الوعي وعلى المقاومة وأن كان هذا قد جاء بتصريح من المؤلف وليس بتلميح أو حتى بتصريح من إحدى الشخصيات فهو يقول “ها في وجوه الخدعة تتكشف أمامنا وها أنا أراها كشمس الظهيرة عند رجلنا المنتحر .. المواجهة” (ص ۰۱)۰

لكن الشخصيات عموما تهرب ولا تواجه، تتنحي ولا تقاوم، تخضع ولا تتمرد، تقبل ولا ترفض، تذعن وتستسلم وتبكي على سوء حظها ولا تفعل أي شيء يدل على المقاومة أو الثورة، لا شيء سوى الحلم وأحلام اليقظة والهروب والخمر والبكاء. وتصير الخمر هي الشائعة والسائدة في القسم الثاني من هذه المجموعة فشخصية “إسكافي المودة” هي شخصية تشعر بالإحباط و الغبن والظلم الذي وقع عليها في حياتها الدنيا، “إسكافي المودة” لم يعرف الأنثى قط ..من يملك يشتري یا سیدی ۰۰ كل من عرفت كن علي شاكلتي .. خیالات من قش .. عشت حياة القرد المكشوف العورة .. طعامی تافه ورخيص بلا طعم.. كان الحكم أو الموت .. إلا أنني دافعت عن نفسی بقدر ما استطعت.. كرهت الشتاء وقلت سيأتي صيف فلما جاء الصيف كرهت الصيف وقلت سيأتي شتاء واجهت الموت مرارا كنت أقول : أنا نخلة بثمر وتلك ريح انحني لها يا اسكافي المودة انحني لها ودعها تمر” (ص ۱۰۸).

فـ إسكاني المودة كـإنسان وككل البشر يحلم بالحياة الكريمة التي تليق بإنسان حياة تتوفر فيها الدفء والثياب النظيفة والطعام الجيد، وقبل كل ذلك الإحساس بالكرامة والحرية، لكنه لا يستطيع الحصول على أي شيء من ذلك في الواقع ومن ثم فهو يبحث عن ذلك من خلال معاقرة بنت الحان وتجرع أردأ أنواع الخمر، حينئذ قد تأتي له الأحلام المؤقتة المتضخمة المبالغ فيها غير المنطقية .. أنا أشارك الآن في حكم الدنيا من مكاني هذا بخمارة مخالي” (ص ۱۲۰)

وأحلام « البارانويا » والعظمة هذه لابد وأن تشبع ولو بطريقة مؤقتة تلك الحاجات التي تضطرم في نفس اسكافي المودة، ولأن الاضطهاد والشعور بالذل مبالغ فيه فإن أحلام العظمة التي تبعثها الخمر مبالغ فيها أيضا ولأن أحلام اليقظة والهلاوس هذه تشبع بعض الحاجات وتخفف بعض الآلام والتوترات، فإسكافي المودة يميل إلى تكرارها، وفي كل مرة سيدي الأفندي أقول لنفسي “سيتكرر اتحلم .. نعم لابد أن يتكرر الحلم” وهكذا نجد أنفسنا إزاء دورة مغلقة .. واقع مرير، هروب إلى الخمر والأحلام والهلاوس والواقع المتخيل والفردوس المفقود ثم يقظة وأفاقة من هذه الأحلام عادة ما تكون على يد الشرطی « الدرکی » الذي يقوده إلى المخمر لتنظيف مراحيض الخيول، وإزاء هذا الواقع المرير الذي سبق وأن حاول الهروب منه فانه يتحين أقرب فرصة ويعود إلى خمارة مخالي لمعاقرة بنت الحان .

أن اسكافي المودة رغم انسحاقه ورغم إغراقه في الخمر ألا أنه قريب من النفس قريب من الناس، فنحن نرى بوضوح أنه يحاول مساعدة الآخرين رغم حاجته إلى المساعدة، فهو يحاول حل المشاكل التي تعرض لها العربجی والموظف وغيرهما، صحيح لكنه يحاول ذلك بطريقته الخاصة، على مقعد البار وبجوار الكؤوس ومن خلال الكلام والحكايات،إننا نكتشف أن إسكافي المودة على واعى بكل خبايا الواقع وما جد به من مُتغيرات “البوابون سادة بملابس بيضاء و القوادون يتاجرون في بنات الناس أمامعيون الكل .. وفي الغرف المفروشة أولاد عرب مثلنا لكنهم سعداء”و “ما الذي أفسد دنيا السوق .. كأننا نسعى بخطوات سريعة نحو الآخرة .. الغلاء الأزرق بيننا يحجل والغلاء الأسود في وجهنا ينبح والغلاء الأبيض كاره يمسك المنلج بيده بينما الأخلاق تسوء والشجار يومي” (ص94) فـ إسکافی المودة يعرف كل صغيرة وكبيرة من خبايا المجتمع، يعرف عيوبه ومخازيه لكنه لا يبوح بمعرفته هذه إلا أثناء معاقرة الخمر، و إزاء غلاء الأسعار وفساد الأخلاق وخراب الذمم وضياع الإنسان.. لا يفعل « اسكافي المودة » شيئا سوى اللجوء إلى الخمر والهروب والغيبوبة والذهول .

إن “يحيي الطاهر عبد الله” قد أبدع وتفوق في تصويره الشخصية السكير في هذه المجموعة بطريقة تضعه في نفس المستوى الذي يقف عنده بعض كبار الكتاب العالميين الذين تصدوا لتصوير مثل هذه الشخصية أمثال دستويفسکی و امیل زولا وستيفان زيفايج ان لم يكن قد تفوق عليهم بالفعل .

حكايات الأمير :

في هذه المجموعة نلمح التغير الواضح الذي طرأ على سلوك الشخصيات فهي قد بدأت تتحالف مع أعدائها الحقيقيين، فعبد الحليم يتعاون مع الانجليز ثم مع سادة القصر، وصفية ودليلة يبيعان نفسيهما وأهلهما من أجل المال والثراء ونفس الكلام ينطبق على « عباس »في «حكاية بزخارف، الذي نسی جذوره ومنابعه وحاول تقليد الأغنياء والتحالف معهم،وفي قصة «من يعلق الجرس» يترك البطل قراءة القرآن والاشتغال بالدين إلى التجارة والربح والمضاربة والتحكم في السوق وأقوات الناس، وقال صابر لنفسه : “ها أنا بعقلي الراجح أحكم السوق بقلب الأسد ملك الحيوان” (ص 54) ولكنه يظل ذاك يقول المؤلف عجوزا وحیدا جامدا باردا كالفضة .

ولكنه رغم محاولات هذه الشخصيات الاندماج في بيئاتها الجديدة إلا أنها تظل شخصيات قلقة غير مستريحة تعاني الازدواج والتفكك، فهناك تفاوت كبير بين صفاتها وخصائصها الأصلية وتراثها الذي تحاولي الفكاك منها وبين صفات وخصائص ومتطلبات هذه البيئات الجديدة ومن ثم تظل هذه الشخصيات جسما غريبا في کيان أغرب غالبا ما يلفظها في لحظات غير متوقعة، فمحاولات هذه الشخصيات الدائمة للحراك والصعود ثم للتكيف والتوافق والاندماج، غالبا ما تحبط وتفشل ومن ثم تفقد طريقها ونضيع، يحدث ذلك في إطار تغیرات اجتماعية عنيفة وسطحية في نفس الوقت توضحها جيدا قصة « حكاية ميلودرامية » التي تصور ما يحدث في عصر الانفتاح عصر البوتيكات والبضائع المهربة والمخدرات وضياع القيم، يحدث هذا بينما أهل البلد مشغولون في الأكل والشرب والضحك حتى تأتي عربات الإسعاف تنقلهم لمستشفي غير عابئين أو مهتمين بما يحدث لهم أو حولهم وفي المدينة ما زال الصعيدى يهان ۰۰ في المدينة يضرب الشرطی الجاهل الصعيدي المكافح ضربا مبرحا “الصعايدة” الذين يبنون العمارات ويعمرون المدن ولا يسكنون العمارات” (ص ۲۸ )۰

كذلك ما زالت بعض الشخصيات تدمن الخمر والأفيون والقات والشخصيات التي لم تلجأ إلى المداهنة والتلون لجأت إلى المكر والتحايل والسخرية للوصول إلى أهداف بسيطة ومتواضعة (زجاجة كينا مثلا) لكن بذور الوعي الحقيقي تكمن في قصة “رقص لكل الطيور” فرغم أننا نجد أن الواقع قد أصبح أكثر قسوة ووحشية وأكثر ضعفا وتقييدا، فإننا نجد الوعي بالمسألة، الوعي بوجود الاضطهاد والتحديد لمصدره وأسبابه الذي يظل مقيدا أو زائفا لدى أغلب شخصيات قصص يحيي الطاهر عبد الله،لكنه ينطلق في هذه القصة ويتمثل أبلغ تمثيل في خروجه من الذاتية “الوعي الزائف”إلى الموضوعية “الوعي الحقيقي”، وتجلى في شخصية الأستاذ فصیح الذي كلم الفضاء مدافعا عن الصناع الذين فشلوا – وكان لابدأن يفشلوا في صنع قنص لكل الطيور، فلا يوجد قفص يكفي كل الطيور مهما حاول هواة الصيد والقنص والذبح والدم، يقول الأستاذ فصيح : ” أمامكم يا أفاضل، جلد على عظم، وأن كان ثمة لحم فهو مر لا يؤكل ومن كان هذا بدنه فدماغه فارغة من المخ .. وأنتم يا رمز القوة لا شك زاهدون تلك الأبدان المرة والأدمغة الفارغة”(ص ۷۱)،لكن في أغلب القصص ولدى معظم الشخصيات تختلط الرؤية ويصير الوعي غائما والنفاذ إلی الأعماق غير ممكن فينحرف الوعي ويصير زائفا أو يقبع في مكانه مرتعدا ويصبح مفيدا ونتيجة لسيادة هذين النوعين من الوعي السلبي تلجاً الشخصيات إلى أساليب الهروب المختلفة التي سبق ذكرها يقول الراوی .. في ختام هذه القصص “وهكذا يا أمیری فررت من مكان العشق على أرضه مستحيل، وأنا أضرب الكف بالكف من اختلاط الأمور في هذا الزمان ولسان حاله يقول : لا حول ولا قوة إلا بالله .. وآه من زمان أعيشه”.

خاتمة :

أن نظرة عامة على نمو الشخصيات وغيرها في الأعمال الأربعة التي سبق الحديث عنها توضح أن الشخصيات في المجموعتين الأولى والثانية هي شخصيات غالبا ما تلجأ إلى أحلام اليقظة تحاول من خلالها تحقيق رغباتها المحبطة في الواقع، أنها عاجزة عن التكيف السليم مع هذا الواقع نتيجة لطموحاتها وضعف إمكانياتها وأذاك فهي تلجأ إلى الانغماس الشديد في أحلام اليقظة أو اللجوء إلى السحر والتمائم والتعاويذ والخرافات، ولذلك فإن العالم الذي تعيش فيه هذه الشخصيات هو عالم تحكمه الخرافة ويتغلب فيه المجهول على المعلوم ويضيع فيه الإنسان ويخاف خلاله من الموت والكابوس والقهر والمطاردة.

وهكذا نجد أن الوعي السائد لدى أغلب شخصيات هاتين المجموعتين هو الوعي المقيد العاجز المنكسر وفي المجموعة الثالثة نجد أن الشخصيات أکثر تماسكا في القسم الأول وأقل حلماً، لكنها أيضا كسابقاتها وطحونة ومضطهدة، تلجأ إلى الهروب بطرق مختلفة، تقترب في حالات كثيرة من الهلوسة والهذيان.

أما القسم الثاني الخاص بالشقائق القديمة فالشخصية الرئيسية فيها وهي شخصية « إسكاني المودة » غارقة في الخير وهاربة إلي معاقرة الكأس وتعاطي أردأ أنواع الكحولات، وفي أثناء ذاك قد تشرق في خيالها الأحلام وتحقق الأمنيات ولذا يظل الوعي لدي شخصيات هذه المجموعة بقسميها وعيا مقيدا أيضا، أما في المجموعة الأربعة فنجد أن الشخصيات قد بدأت تفهم لغة ألواقع بطريقتها الخاصة، وغابا ما يتمثل هذا المفهوم في شكل وعی ذاتی زائف وبغيض.

أن الشخصيات في عمومها تعرف أهمية الحلم وسواء كان من أحلام اليقظة أو من أحلام النوم وفائدته، لكنها دائما تخضع لسطوته وتستمرئه، وهي كلك تعرف فائدة الحكايات في جلب النوم والراحة والهروب، أنها شخصیات متناقضة تخاف أن تضحك فتبكي وتخاف أن تبكي فتضحك، لكن رغم التبلد الانفعالي واللامبالاة الظاهرية لدى بعض الشخصيات فإن هذا قد يصح تسميته بالسطح الظاهري للشخصية أما السطح الباطن العميق فيموج بالانفعالات والتوترات والصراعات، ما يكشف لنا في النهاية عن شخصيات غاية في الخصوبة والثراء وتهدد المستويات.

إن الشعور العام للشخصيات هو أنه مهانة ومضطهدة ومستذلة من قبل واقع يجهض أحلامها ويقتل أمانيها ويحبط تشوقها ويطفئ إشراقها ويسلبها راحتها ولذلك فإن تشوش الوعي واضطراب التفكير وغيرها من المظاهر غير الدموية التي نلاحظها لدى أغلب الشخصيات في المجموعات الثلاث الأولي ـــ هي نتائج ضرورية لازمة عن تكسر واضطراب وخلل في العلاقات الاجتماعية، والخصائص النفسية للشخصيات، وهذه بدورها نتائج ضرورية لازمة عن التفاوت العميق الموجود بين طموحات الشخصيات وإحباط الواقع.

إن عام «يحيي الطاهر» عالم مستمر ومتواصل ومتكامل وغير منفصل المكونات، فنحن لا يمكننا القول أن عالم « ثلاث شجرات » يختلف تماما عن عالم «حكایات الأمير» فحتى لو اختلف الزمان والمكان تظل هناك خصائص مشتركة بين الشخصيات، ولكن تظهر أيضاً العديد من الاختلافات والتطورات التي سبق الحديث عنها والتي ترتبط أولی إلي حد كبير بالتطورات التي طرأت على بنية المجتمع وشكل العلاقات الاجتماعية في ستينات وسبعينات هذا القرن، أنه عالم متكامل يتطور فيه الأبيض والأسود والرمادي وجميع الألوان،هناك مثلا في المجموعة الأولى شخصية واحدة تتحالف مع عدوها من أجل مصحتها الشخصية «تظهر في طاحونة الشيخ موسی»، أما في المجموعة الأخيرة فإن هناك شخصيات عديدة تفعل ذلك ولم تضف الشخصيات المدمنة للخمر والمخدرات، لكن عددها أصبح أقل في المجموعة الرابعة عندما نقارنها بالثالثة مثلا، ولم تختف الشخصيات التي تمر من أحلام اليقظة لكن عددها أصبح أقل، وإن تكاثرت الشخصيات التي تحقق رغبتها في أحلام النوم أو تلجا إلى المكر والخداع ..إن الشخصية الإنسانية لدى “يحيي الطاهر” التي ترغب في أن نعيش دون تسول أو تضور أو اقتراض، دون مذلة أو مهانة أو إهمال، لكن هذه الرغبة قد تتبلور في صورة وعي مقيد كما في المجموعات الثلاث الأولي أو وعی مزيف كما في المجموعة الأخيرة، أما الوعي الحقيقي فهو لا يظهر إلا على فترات متباعدة وفي لمحات خاطفة غالبا ما تكون على لسان المؤلف، لكن هذه القصص تظل تدور في مجموعها عن رصد عميق واستيعاب شديد وفهم شامل لقلق الواقع وعلاقاته، وتظل تعبر عن حساسية وذكاء شديدين .

ولذلك فهي تنفذ إلى وعى من يقرأها كالسهم وتظل تضيئه دائما كمجموعة من الشهب الدائمة الإضاءة والدائمة الاشتعال.





أعلى