د. شكري عياد - يحيي الطاهر عبدالله كاتب القصة القصيرة

عندما التقيت بيحيي الطاهر عبد الله لأول مرة ــ وكان ذلك في أواخر الستينات، ولعلي لم ألقه بعدها إلا مرة أخرى أو مرتين ــ عرفني بنفسه قائلاً

: (( يحيي الطاهر عبد الله ــ كاتب قصة قصيرة )) .

كان هذا التعبير على إيجازه كافيا للدلالة علي مدي إخلاص هذا الفتى النحيل الأسمر لفن الكتابة. وبعد قليل أيقنت أنه حين تواضع فخصص فن (القصة القصيرة) لم يكن فقط ابن ذلك الفنان الحرفي المصري الأصيل الذي وقف جهده ــ منذ أقدم العصور ــ على إتقان صنعة واحدة، ولكنه كان أيضا ابن الصعيد القح، الذي أراد أن يصل إلى أعمق أعماق الروح الشعبية في موطنه، وخمن – بإلهام الفنان الذي لا يكذب ــ أن فن القصة القصيرة هو أنسب فنون الكتابة للتعبير عن رؤياه الخاصة لتلك الروح، ثم استطاع بصبر الفنان الذي لا يمل – أن يجعل رؤياه الخاصة جدا وفنه الخاص جدا معبراً إلى حقيقة موضوعية لا يستطيع حتي العلم أن يصل إليها. هكذا استطاع يحيى الطاهر عبد الله خلال عمره الفني الذي لم يكد يتجاوز عشر سنين – نقول ذلك والحسرة تملأ قلوبنا ــ أن يحفر اسمه في سجل أدبنا المعاصر، صاحب تجربة رائدة ومكتملة في الوقت نفسه.

الآن وقد أصبح يحيي الطاهر عبد الله تاريخا، وخرج من زحمة الصراعات الصغيرة إلى عالم لا يبقى فيه إلا الباقي، يمكننا أن نبدأ السؤال الجاد عن قيمة أدبه (وهو خلاصة حياته).

هل قيمته في أنه صور لأول مرة – حياة شعبنا في قرية نموذجية من قرى الصعيد، تصويرا يكثف من تفاصيل الحياة، والعمل، والعواطف، والمعتقدات، ما يمكن أن يكون منجما لباحث في علم الاجتماع ؟

هل قيمته في أنه وقف إلى جانب هذا الشعب المضطهد، حين أظهره أفرادا متمایزین، يجاهدون بكل ما لديهم من قوة لاثبات ذواتهم، تحت ضابط مزدوج من مجتمع تقليدي متخلف يأسرهم مرة بالطوق ومرة بالأسورة، ومجتمع وافد مصمم على الربح، يتحالف بسرعة مع أقطاب المجتمع القديم، لينال كلاهما نصيبه من دماء الشعب المستغل؟ نعم نعم.

ولكن قبل هذا وذاك تبقي قيمته الفنية، الرمزية. فيحيى الطاهر عبد الله فنان حتى نخاع عظامه، وهو – ككل فنان حق – أكبر من الأيديولوجيات وأكبر حتي من الإنتماء الطبقي. إن يحيي حين يصور صراع الإنسان الصعيدي تحت وطأة التخلف يحدث صراع «الإنسان» – كل إنسان ــ لاستمرار حياته – لا بالمعنى المادي للحياة فقط ولكن – وهو الأهم – الحياة، بمعني التحقق النفسي الوجودي، وهكذا يصبح عمله كله – في نهاية الأمرــ نشيداً رائعاً في تمجيد الحرية، على المستوى الواقعي وعلى المستوى الرمزی معا : علي المستوى الواقعي لأن أبطاله جمیعا يصارعون ــ بالشجاعة حيناً وبالحيلة حيناً ــ للتحرر من وطأة الجهل، وطأة الظلم، وطأة التقاليد . وإذا كان صراعهم يحز في نفوسنا بأساه لأنه صراع غير متكافيء ، وإذا كنا نراهم غالباً، في نهايات قصصه، يموتون أو يسيرون في طريق الموت، فلإنهم يموتون ميتة الشهداء، وعلى المستوى الفني في الصنعة القصصية المحكمة التي تشف عن هذه الرؤية . فالمعجزة التي استطاع يحيي الطاهر عبد الله أن يحققها ــ والفن الجيد هو دائما نوع من المعجزة ــ أنه استطاع أن يسكن الواقع القذر،الشائه في لغة فنية تميزت برهافة نادرة في الأسلوب والبناء، واستمدت من تراث الأسطورة الشعبية والحكمة المأثورة وروح الفن المصري القديم والأدب الكلاسيكي والمونتاج السينمائي أيضا- دون أن تفقد ذاتيتها .. أليست هذه هي معجزة الحرية التي يحققها الفن بواقعة حدوثه نفسها، ليصبح في آن – بلسماً وقوة دافعة ؟

في حدود علمي، هناك كاتبا واحد سبق يحيى الطاهر عبد الله إلى الإلحاح على تصوير الحياة الإجتماعية في صعيد مصر، في عدد من الروايات والقصص القصيرة : أعني أستاذنا طه حسين في “دعاء الكروان” و”شجرة البؤس” و”المعذبون في الأرض”. ولا أظن أن هذه الحقيقة قد غابت علي يحيى الطاهر. فأي شجاعة حفزت هذا الفتى الطري العود على أن يواجه عملاق الجيل السابق ؟ ليس هذا هو مجال المقارنة بين العملاقين، أتمني أن تقدم رسالة جامعية في هذا الموضوع، ولكني أستطيع أن أبدي رأياً لم أصل إليه بغتة ولم أصدر فيه عن هوي : أن يحيي الطاهر يخرج من هذه المقارنة جديراً بإعجابنا، حاملا وسام شرف لجيله كله.



أعلى