أدب السجون محمد صالح رشيد الحافظ - أدب السجون...

يتجاوز أدب السجون النسق الروائي الكلاسيكي المألوف القائم أساساً على قانون السببية، والمتصالح أصلاً مع نمط العلاقات والمفاهيم الأخلاقية السائدة. ويكتسب خصوصيته من مصداقية أحداثه التي تنتقل من الواقع إلى أدب الخيال لتسليط الضوء على معاناة إنسان أو مجموعة احتجزت في دون إرادة منها في معتقل، وهذا المعتقل يتراوح ما بين السجن، والإقامة الجبرية والنفي...
وتاريخ الأدب العالمي حافل بالعديد من الأعمال الأدبية التي تندرج تحت أدب السجون، ابتداء من العصور القديمة وحتى الزمن الراهن سواء في الغرب أو الشرق.
كما كانت السجون واغلة في تاريخ العرب منبثقة من حياتهم السياسية والاجتماعية , كذلك كان أثرها بعيداً متأصلاً في لغتهم وصور أدبهم , فمنذ الجاهلية وعصور المناذرة وايام الغسانيين برم الشعراء بالسجون وجاء على ألسن المساجين منهم كثير من الشعر الرائع في وصف السجون وتصوير أوضاعها ومكارهها ولعل للتأثر البالغ الذي يصدر عنه الشعراء والأدباء وهم بين جدران سجونهم نتيجة للأحوال المرهقة , الأثر الكبير في أيقاظ ملكاتهم وشحذ قرائحهم الحال الذي جعل من السجون عاملاً قوياً في تركيز الأدب وإعلاء مقاييسه فاتسم أدب المساجين بطابع القوة وتميز بمظاهر الحياة وارتفعت فيه المقاييس فكان في الذروة فيما تناول من سوانح وتأملات وصور.
ومن ذلك قول طرفة بن العبد يلوم أصحابه على خذلانهم إياه :

أسلمني قومي ولم يغضبوا لسوءةٍ حلت بهم فادحةْ

وكم خليل لك خاللته لا جعل الله له واضحةْ

وكلهم أروغ من ثعلب ما أشبه الليلة بالبارحةْ
و عنترة يتمثل في هذه قصيدة جارياً على أسلوبه الصارم وسمته المعروف قوي الشكيمة صعب المراس , لم يتغير أمام الخطوب ولم يتضاءل أمام الأحداث وكأنما هو مطبوع على هذا الخلق والغرار إلا أنه يتفجر عن عاطفة مشبوبة وصبابة طاغية , وهو يشاهد عبلة على قيد خطوات منه فلا يقدر على دفع شيء, غير أن يقوم بهذه المطارحة الحزينة التي طالما تناقلتها الصحراء , ثم لم يطل به الأسر دون أن يرجع إلى حيه موفور الكرامة , مرعي الجانب وفي المرة الأخيرة وقع أسيراً في أرض المناذرة بعد ما خاض غمار حرب عوان طلباً للنوق العصافيرية التي قطعها عليه عمه كما يظهر ذلك من القصيدة التي قالها وهو في سجن المنذر
ترى علمت عبيلةُ ما ألاقي *** من الأهوال في أرض العراق
طغاني بالربا والمكر عمّي *** وجار علّي في طلب الصداق
فخضتُ بمهجتي بحرَ المنايا *** وسرت إلى العراق بلا رفاق
وسقت النوق والرعيانَ وحدي *** وعدت أحرّ من نار اشتياقي
وما أبعدت حتى ثار خلفي *** غبارُ سنابك الخيل العتاق
وضجّت تحتهَ الفرسانُ حتى *** حسبت الوعدَ محلولَ النطاق
فعدت , وقد علمت بأن عمي *** طغاني بالمحال وبالنفاق
وبادرت الفوارس وهي تجري *** بطعنٍ في النحور وفي التراقي
وما قصّرتُ حتى كلّ مهري *** وقصّر في السباق وفي اللحاق
وعدي بن زيد العبادي من بني تميم موطنه الحيرة، تعلم الكتابة والكلام حتى خرج من أفهم الناس بهما, وأفصحهم بالعربية, وقال الشعر وتعلم الرمي بالنشاب , ثم اتصل بالنعمان بن المنذر ملك الحيرة ونادمه طويلاً , حتى وشى به بعض أعدائه عند النعمان فقبض عليه وحبسه في سجن الصنين وما زال يشدد عليه في السجن، وعدي يتوسل إليه بأرق الشعر إلى أن هلك في محبسه بعد ان سجّل له تاريخ الأدب في هذا السجن قصائد ملأى بالعواطف الإنسانية والبكاء المر ومن أوجع هذه القصائد قوله :
ابلغا عامراً وأبلغْ أخــــــــــــــاه أنني موثقٌ، شديدٌ وثاقـــــــــي
في حديد القطاس يرقبني الحارسُ والمرء كل شيء يلاقي
في حديد مضاعفٍ وغلولٍ وثيابٍ منضحات وخــــــــــــلاقِ
فاركبوا في الحرام فكوا أخاكم أن عيراً قد جهزت لانطلاقي
وأبو محجن الثقفي, جاهلي إسلامي , كان فارساً شريفاً من ذوي البأس مولعاً بالشراب أقيم عليه الحد مراراً, ونفاه الخليفة عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) إلى جزيرة في البحر( قصرالعذيب ) وبعث معه رجلاً فهرب منه ولحق بسعد بن أبي وقاص بالقادسية وهو يحارب الفرس , فحبسه سعد في أسفل القصر معه فسمع انتماء الناس في آبائهم وعشائرهم ووقع الحديد وشدة البأس , فتأسف على ما يفوته من تلك المواقف, فحبا حتى صعد إلى سعد يستشفعه ويسأله أن يخلي عنه ليخرج , فزجره سعد ورده فانحدر راجعاً يرسف في قيوده وهو يقول :
كفى حزناً أن ترتدي الخيل بالقنـــــــــــــــــــــــــــــــــــــا واترك مشدوداً عليّ وثاقيا
إذا قمت عنّاني الحديد وأغلقت مصاريع من دوني تصم المناديا

وقد كنت ذا مالٍ كثير وإخوة فقد تركوني واحداً لا أخا ليا
و خبيب بن عدي الأنصاري الأوسي , شهد بدراً وأسر ( يوم الرجيع ) في السرية التي خرج فيها مرثد بن أبي مرثد , وخالد بن البكير وعاصم بن ثابت في سبعة نفر فقتلوا , وذلك في سنة ثلاث من الهجرة ، وأسر المشركون منهم اثنين هما: خبيب بن عدي، وزيد بن الدئنة , فانطلقوا بهما إلى مكة فباعوهما فاشترى خبيباً بنو الحارث بن عامر فمكث أسيراً عندهم أياماً ثم اجمعوا على قتله , فخرجوا من الحرم ليقتلوه فقال لهم دعوني اصلي ركعتين فكان أول من صلى ركعتين عند القتل , ثم قال اللهم أحصهم عددا وقال :
لقد جمع الأحزاب حولي وألبوا قبائلهم واستجمعوا كل مجمع
وقد قربوا أبناءهم ونساءهم وقربتُ من جذع طويل ممنّع
وكلهم يبدي العداوة جاهداً علّي لأني في وثاق مضيع
إلى الله أشكو غربتي ومــــــــــــــــا جمع الأحزاب لي عند مصرعي
فذا العرش صبرني على ما أصابني فقد بضعوا لحمي وقد ضل مطعمي
وذلك في ذات الإله وإن يشأ يباركْ على أوصال شلوٍ ممزع
وقد عرضوا بالكفر والموتُ دونه وقد ذرفت عيناي من غير مدمع
وما بي حذار الموت أني لميت ولكن حذاري حر نار تلفع
فلست بمبد للعدو تخشعاً ولا جزعاً أني إلى الله مرجعي
وفي العصر الحديث استلهم معظم الأدباء في هذا النوع من الأدب، أعمالا من تجارب شخصية كتبوها إما خلال تواجدهم في السجن أو بعد إطلاق سراحهم، وفي بعض الأحيان من خلال سرد تجربة سجين لأحد الروائيين الذي يقوم بتوثيق التجربة بصورة أدبية .
ففي أدبنا العربي الحديث مئات الأحداث التي تصلح أن يتناولها الكتّاب والشعراء في نتاجاتهم، واستطاع بعض هذه الأعمال أن يجد المنفذ للطبع والنشر، وبعضها عدّت من الممنوعات فصودرت من بيوت الأدباء أو المطابع أو من دور النشر والعرض!!.
وقد كتب العديد من الروائيين العرب في أدب السجون، منهم على سبيل المثال: عبد الرحمن منيف (رواية/ شرق المتوسط)، وعبد اللطيف اللعبي (رواية/ مجنون الأمل)، و فاضل العزاوي (رواية/ القلعة الخامسة)، والطاهر بن جلون ( رواية/ تلك العتمة الباهرة )، إلى رواية ( وطن خلف القضبان ) للروائي السوداني خالد عويس، وفي أدب السيرة الذاتية والرواية الوثائقية كتاب ( سجينة ) لمليكة بوفقير، و(أحلم بزنزانة من كرز) لسهى بشارة وكوزيت خوري، وسمير القنطار ( قصتي) التي وثقها حسان الزين.
يقول الناقد المصري محمود أمين العالم عن الرواية العربية في أدب السجون، إنها ( تندرج رواية السجون أساساً في إطار الرواية الدرامية حيث يشكل المعتقل في حد ذاته الحدث، في حالة الفعل والحركة ؛ انه الحياة في ذروة احتدام الصراع بين الحدود القصوى لمكوناتها في مكان ضيق تنحصر فيه العلاقة بين الضحية ومجابهة جلادها) كما تتنوع تقنيات رواية السجن بين التداعيات والانتقال بين الزمان والمكان الداخلي والخارجي.
وفي الأدب العالمي نماذج كثيرة يمكن تصنيفها بأدب السجون ، فمثلا استلهم الروائي الاسباني ميغيل سيرفانتس (1547- 1616) روايته الشهيرة (دون كيخوته) التي نشرت عام 1605من الفترة التي قضاها سجينا، بعد اعتقاله عام 1575 مع فريق السفينة التي كانت تنقل فريقا من الجيش الاسباني إلى برشلونة.
لقد أمضى سيرفانتس خمس سنوات كأسير أو بالأحرى كعبد، مع أربع محاولات فاشلة للهرب. ولم يطلق سراحه إلا بعد دفع عائلته وهيئة دينية لفدية كبيرة. وإلى جانب روايته الشهيرة التي تعتبر الرواية الأهم لبدايات الأدب الحديث كتب مسرحيتين من وحي تلك المرحلة.
وسطر الروائي والسجين الفار الفرنسي هنري شاريير (1906 ـــ 1973) تجربته في السجن من خلال روايته (الفراشة)، حيث اتهم شاريير بجريمة قتل أحد السماسرة وأدين على الرغم من براءته، ولفقت التهمة بشاهد زور وأصدر الحكم عليه بالسجن المؤبد مع الأشغال الشاقة في 26 أكتوبر 1931م وبعد سجنه في كايين لفترة مؤقتة تم نقله إلى سجن مستعمرة غويانا الفرنسية. وفي عام 1970م أشعل شاريير النار في العالم، حينما نشر روايته «الفراشة» التي تحكي تجربته الحياتية على مدى 13 عاما، ابتداء من 1932م وحتى 1945م وصور في روايته البؤس والمعاملة اللا إنسانية للنظام الفرنسي بشأن المحكوم عليهم، وقد حقق كتابه فور نشره نجاحا واسعا وبيعت ملايين النسخ وتربع على قائمة الكتب الأكثر مبيعا في مختلف الأزمنة، وتحولت الرواية إلى فيلم سينمائي رائع بعنوان ( صايد الفراشة ).
وأمضى الشاعر والروائي الصيني زانغ كزليانغ الذي ولد عام 1936 ، اثنين وعشرين سنة من حياته في السجون ومعسكرات إعادة التأهيل خلال حكم الزعيم ماو تسي تونغ. وبدأ بكتابة ونشر قصائده حينما كان في الثالثة عشرة من عمره وقد ساهمت دراسته للفن والأدب في الأربعينات والخمسينات في تكوين أساس صلب ساعده في الصمود خلال سنوات الأسر في المعسكرات.
وتغطي أحداث روايته ( نصف الرجل امرأة ) المرحلة الأخيرة من الثورة الثقافية التي تنتهي بمقتل الثائر زو ابنلاي في يناير، وتبدأ أحداثها في ربيع عام 1966، حين كانت الثورة الثقافية تستعد للانطلاق بهدفها في تغييب إرادة الإنسان لصالح السلطات.
وكتب الروائي النيجيري كين سارو ويوا (1941 ـــ 1995) خلال وجوده في السجن في خضم الحرب الأهلية ما بين 1967 إلى 1970 روايته (الفتى سوزا)، ويحكي فيها قصة فتى قروي ساذج تم تعيينه في الجيش خلال الحرب الأهلية، ويتطرق في عمله إلى الفساد السياسي والحكام والنظام العسكري.
كما صور الروائي الجنوب أفريقي أليكس لاغوما (1925 ـــ1985) وقائد مجموعة شعب جنوب أفريقيا الملون، في روايته (في ضباب نهاية الموسم) التي كتبها خلال تواجده في السجن، سيرته الذاتية إلى جانب حياة أفراد المقاومة السرية في مدينة كيب تاون ضد التمييز العنصري، الذين كانوا يخاطرون بحياتهم لأجل حريتهم كل يوم، وقد نشر الرواية عام 1972.
- ( موسيقى سوداء)- نجمان ياسين:
ويمكن عدّ الرواية التي نشرها الدكتور نجمان ياسين في جريدة الحدباء في حلقات تحت عنوان (موسيقى سوداء ) من أدب السجون بامتياز لأنها تسجل من حيث مضمونها- بالوثائق والأدلة- فترة عصيبة عاشها بطل الرواية وغيره من العراقيين داخل معتقل للمحتل الأمريكي، وتكاد أحداث الرواية لا تخرج من فضاء ضيق، أبعاده لا تتجاوز( غرفة الاعتقال وغرفة التحقيق/ التعذيب)، وممر خارجي ضيق مظلم )! إلا أن هذا الفضاء كان أحيانا يُخترق إطاره المكاني والزمني بصور وخيالات ومشاعر أليمة وخاصة حين تزداد ممارسات السجانين قسوة وإذلالا لقيم الرجولة والمواطنة والإنسانية التي يعتز بها كل عراقي عبر تاريخه.
والمقطع التالي يفصح عما يشعر به المثقف العربي المسجون حين تنال منه قوة أجنبية غاشمة محتلة:
( ماذا يفعلون بنا يا إلهي ؟! يصرون على أن نظل يقظين ويمنعون النوم عنا لزمن لا ندركه ، إذا نمنا وقفونا، تأتينا اللطمات والصرخات، فالنوم ممنوع .... يمنحوننا بعد أن نصير خرقة هشة، ثم يوقظوننا بخشونة ويصرخون : انهض، انهض.. ومن لا ينهض ! يُركل ويصبون عليه المياه القذرة الباردة كم مرة أدركني الإشفاق والفرق وأنا في قلب هذا الظلام المريب! وكم مرة تملكني الذهول والنعاس وأنا أتقلب في دائرة التيه والضياع!... كانوا قد أفقدوني بالتدريج الإحساس بالأيام ، وبأني مرمي خارج الزمن ).
هكذا يعد أدب السجون من أصدق أنواع الكتابة وأعذبها، سواءً كان ذلك على مستوى السرد، أو على مستوى الشعر، وذلك لأنّه وليد تجربةٍ حيّة وصادقة، فالإبداع يولد من رحم المعاناة؛ لذا فإن قراءة مذكّرات السجين وحدها كافيةٌ للمتعة والعبرة معاً، كيف لا وقد أُضيف على تلك المذكّرات الصبغة الروائيّة التي تخرجها من كونها سيرة ذاتيّة إلى أن تكون أحداثاً تُروى خارج أسوار السجون ........


تعليقات

لا توجد تعليقات.

هذا النص

ملف
أدب السجون والمعتقلات
المشاهدات
983
آخر تحديث
أعلى