في المناظرة الشهيرة الموسومة بـ: "مصر بين الدولة المدنية والدولة الدينية" بين فريقي؛ العلمانيين (فرج فودة ومحمد أحمد خلف الله) في مقابل الإسلاميين (محمد الغزالي ومأمون الهضيبي ومحمد عمارة) وذلك بمعرض القاهرة للكتاب في الثامن من يناير 1992، وتجددت بعدها في نادي المهندسين بالاسكندرية يوم السابع والعشرين من نفس الشهر ونفس السنة مع تغيير في الممثلين؛ حيث مثل فريق الإسلاميين في الدورة الثانية (محمد سليم العوا و محمد عمارة) ومن جهة العلمانيين (فرج فودة وفؤاد زكريا). رفض فريق الإسلاميين عنوان المناظرة، و ندد محمد عمارة في تصديره للمناظرة بما وصفه "عنوانا ملتبسا" واتهم العلمانيين باختيارهم غير البريء للعنوان واسما له بـ "التدبير العلماني للمناظرة بتحديد الموضوع واختيار العنوان"[1].
أما المستشار الهضيبي فقد اقترح عنوانا آخر هو "الدولة الإسلامية والدولة غير الإسلامية" وكان مما ذكره في المناظرة: "أعتقد ببساطة أن شعب مصر ونحو 95 بالمئة منه من المسلمين الذين شهدوا لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله، وأن القرآن وحي من عند الله، وأن الشريعة حكم الله، وارتضت بالله ربا وبالإسلام دينا ومحمد صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولا، إذن كلها، فلا مجال لأن يوجد فيها دولة دينية إلا أن تكون دولة الإسلام، فالشطر الأول من عنوان المناظرة ينبغي أن يكون: "مصر بين الدولة الإسلامية" وإذا أردنا أن نقول "الدينية" فلا بد أن نصفها بالوصف الذي يبين حقيقتها أن مصر بين الدول الدينية الإسلامية"[2].
هنا يضاف سبب ثان لرفض الإسلاميين مصطلح "الدولة الدينية"؛ لأنه مصطلح عام تدخل في نطاقه الديانات الأخرى، في حين أن الإسلام، وهو دين الأغلبية في مصر وغيرها من البلدان التي تشهد تصاعد الإسلاميين، متميز عنها وهو الوحيد المستأثر بالجمع بين الدين والدولة، وهو الأحق بتمثيل سلطة الأغلبية المسلمة. كان هذا الالتباس كافيا ليقترح البعض تغيير عنوان المناظرة في دورتها الثانية المنعقدة بالإسكندرية إلى "الحكومة المستقبلية بين الإسلام والعلمانية" لولا أن الحاضرين اقترحوا استئناف المناظرة بذات العنوان[3].
ثم أن ما يزيد الأمر تعقيدا هو أن الإسلاميين، وعلى إجماعهم على رفض مصطلح "الدولة الدينية"، فإن موقفهم من الدولة المدنية ليس موحدا، فمنهم من يرفضها بشكل قطعي بحكم روحها العلمانية، ومنهم من يذهب إلى محولة التوفيق بين الدولة الإسلامية والدولة المدنية على أساس أن الإسلام لا يتعارض والديمقراطية، وهم يرفعون شعار "دولة ديمقراطية ذات مرجعية إسلامية".
غير أن المقابلة بين الدولة الدينية والدولة المدنية، وإن كان أمرا مقبولا نظريا بحكم اختلاف الرؤى والتصورات والمفاهيم بينهما، فإنّه من الناحية التجربية ينطوي على قدر كبير من الاجحاف، ففي الواقع أن ما يهدد الدولة المدنية هي الدولة الشمولية أو الدولة التسلطية، وكلا النموذجين الإسلامية والمدنية محجوب عن الشرعية، لقد كان من السابق لأوانه الحكم على الإسلاميين بقيم الدولة المدنية، فدولة الإسلاميين لم تتحقق قط، كما كانت من السابق لأوانه ردة فعل الإسلاميين على الدولة المدنية لأنها هي الأخرى لم يعرف لها في العالم العربي والإسلامي طريقا. في وسط المزايدة بين الفريقين تزيد الانظمة التسلطية هيمنة ونفوذا، ولم يكن نصيب العلمانيين المعارضين من العسف والاضطهاد بأقل من نصيب الإسلاميين. هكذا راح "يزايد كل فريق على الآخر، يزايد الإسلاميون على العلمانيين في المحافظة على التراث والدفاع عن الهوية وتطبيق الشريعة الإسلامية وإيمان المجتمع. ويزايد العلمانيون على الإسلاميين في الحداثة والمواطنة. خطاب الفريق الأول موجه إلى الداخل لكسب الأصوات. وخطاب الفريق الثاني موجه إلى الخارج لكسب الدعم الخارجي. وتزايد الدولة على خصومها السياسيين"[4] (التسويد من عندنا).
هذا وتتسم الدولة المدنية بمواصفات وقيم تجعلها تختلف جذريا عن الدولة التسلطية، والأخيرة قد تكون علمانية كما قد تكون دينية، فالدولة التسلطية لا دين لها. أما عن مواصفات الدولة المدنية فيمكن تحديدها بالمواصفات الآتية:
[1] محمد عمارة. مصر بين الدولة المدنية والدولة الدينية، ج1، ص 07، 09.
[2] مصر بين الدولة المدنية والدولة الدينية، ج1، ص 34، 35.
[3] المرجع السابق، ج2، ص 09.
[4] حسن حنفي. وطن بلا صاحب عرب هذا الزمان، ص 132.
[5] جابر عصفور. للتنوير والدولة المدنية، ص 422- 428.
[6] جابر عصفور، المرجع السابق، ص 31.
أما المستشار الهضيبي فقد اقترح عنوانا آخر هو "الدولة الإسلامية والدولة غير الإسلامية" وكان مما ذكره في المناظرة: "أعتقد ببساطة أن شعب مصر ونحو 95 بالمئة منه من المسلمين الذين شهدوا لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله، وأن القرآن وحي من عند الله، وأن الشريعة حكم الله، وارتضت بالله ربا وبالإسلام دينا ومحمد صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولا، إذن كلها، فلا مجال لأن يوجد فيها دولة دينية إلا أن تكون دولة الإسلام، فالشطر الأول من عنوان المناظرة ينبغي أن يكون: "مصر بين الدولة الإسلامية" وإذا أردنا أن نقول "الدينية" فلا بد أن نصفها بالوصف الذي يبين حقيقتها أن مصر بين الدول الدينية الإسلامية"[2].
هنا يضاف سبب ثان لرفض الإسلاميين مصطلح "الدولة الدينية"؛ لأنه مصطلح عام تدخل في نطاقه الديانات الأخرى، في حين أن الإسلام، وهو دين الأغلبية في مصر وغيرها من البلدان التي تشهد تصاعد الإسلاميين، متميز عنها وهو الوحيد المستأثر بالجمع بين الدين والدولة، وهو الأحق بتمثيل سلطة الأغلبية المسلمة. كان هذا الالتباس كافيا ليقترح البعض تغيير عنوان المناظرة في دورتها الثانية المنعقدة بالإسكندرية إلى "الحكومة المستقبلية بين الإسلام والعلمانية" لولا أن الحاضرين اقترحوا استئناف المناظرة بذات العنوان[3].
ثم أن ما يزيد الأمر تعقيدا هو أن الإسلاميين، وعلى إجماعهم على رفض مصطلح "الدولة الدينية"، فإن موقفهم من الدولة المدنية ليس موحدا، فمنهم من يرفضها بشكل قطعي بحكم روحها العلمانية، ومنهم من يذهب إلى محولة التوفيق بين الدولة الإسلامية والدولة المدنية على أساس أن الإسلام لا يتعارض والديمقراطية، وهم يرفعون شعار "دولة ديمقراطية ذات مرجعية إسلامية".
غير أن المقابلة بين الدولة الدينية والدولة المدنية، وإن كان أمرا مقبولا نظريا بحكم اختلاف الرؤى والتصورات والمفاهيم بينهما، فإنّه من الناحية التجربية ينطوي على قدر كبير من الاجحاف، ففي الواقع أن ما يهدد الدولة المدنية هي الدولة الشمولية أو الدولة التسلطية، وكلا النموذجين الإسلامية والمدنية محجوب عن الشرعية، لقد كان من السابق لأوانه الحكم على الإسلاميين بقيم الدولة المدنية، فدولة الإسلاميين لم تتحقق قط، كما كانت من السابق لأوانه ردة فعل الإسلاميين على الدولة المدنية لأنها هي الأخرى لم يعرف لها في العالم العربي والإسلامي طريقا. في وسط المزايدة بين الفريقين تزيد الانظمة التسلطية هيمنة ونفوذا، ولم يكن نصيب العلمانيين المعارضين من العسف والاضطهاد بأقل من نصيب الإسلاميين. هكذا راح "يزايد كل فريق على الآخر، يزايد الإسلاميون على العلمانيين في المحافظة على التراث والدفاع عن الهوية وتطبيق الشريعة الإسلامية وإيمان المجتمع. ويزايد العلمانيون على الإسلاميين في الحداثة والمواطنة. خطاب الفريق الأول موجه إلى الداخل لكسب الأصوات. وخطاب الفريق الثاني موجه إلى الخارج لكسب الدعم الخارجي. وتزايد الدولة على خصومها السياسيين"[4] (التسويد من عندنا).
هذا وتتسم الدولة المدنية بمواصفات وقيم تجعلها تختلف جذريا عن الدولة التسلطية، والأخيرة قد تكون علمانية كما قد تكون دينية، فالدولة التسلطية لا دين لها. أما عن مواصفات الدولة المدنية فيمكن تحديدها بالمواصفات الآتية:
- احترام القانون؛ هو الركن الركين للدولة المدنية، وهو يوازي ضرورة عدم استئثار فئة حاكمة بكل شيء، وهو ما يجعلها في مواجهة حكم الحزب الواحد أو حكم المؤسسة العسكرية أو حكم فئة دينية.
- الدولة المدنية هي الدولة الديمقراطية التي تنبني على دستور وضعي بشري تجسيدا لعقد اجتماعي بشري تنتظم من خلاله حياة المواطنين المتساويين في الحقوق والواجبات.
- التسامح الاجتماعي والاعتراف بحق الآخرين في الاختلاف والتسليم بحتمية حرية الفكر والابداع والبحث العلمي دون عوائق أو قيود من أي نوع.
- وضع كل المسلمات العقائدية موضع المساءلة، سواء على مستوى علاقة الفرد بالدولة، أو علاقة الدولة بالإيديولوجيا، التي تتناقض ومبادئ التقدم والعلم على السواء، خصوصا في حال انغلاقها.
- الانتقال من العالمي إلى المحلي، وذلك بالقطيعة مع المفاهيم السياسية القديمة كالإمبراطورية أو دولة العقيدة (السياسية أو الدينية) التي جمعت بين مجموعات بشرية متباينة ومجموعات وطنية متباعدة (كالخلافة الإسلامية قديما أو الاتحاد السوفياتي حديث مثلا)، من أجل التسليم بقيم الوطن والمواطنة كرابطة جديدة.
- المساواة والحرية؛ لأن شرط المواطنة يلزمه حق المساواة بين الجنسين، وبين كل الفئات والطوائف الاجتماعية، وبين الأغلبية والأقلية. وحرية ممارسة الشعائر الدينية وحرية الفكر وحرية الإدلاء بالرأي.
- الدولة المدنية هي الدولة التي تستمد فيها السلطة من الأمة، ويكون الحق فيها فوق القوة، والأمة فوق الحكومة أو الرئيس، ويكون الأخير موظفا لدى الأمة لوقت معلوم متفق عليه بحكم الدستور
- ويبقى ما يهدد قيم الدولة المدنية التحيز السياسي أو الديني لحزب الرئيس أو جماعته الدينية، وزواج الثروة بالسلطة[5].
[1] محمد عمارة. مصر بين الدولة المدنية والدولة الدينية، ج1، ص 07، 09.
[2] مصر بين الدولة المدنية والدولة الدينية، ج1، ص 34، 35.
[3] المرجع السابق، ج2، ص 09.
[4] حسن حنفي. وطن بلا صاحب عرب هذا الزمان، ص 132.
[5] جابر عصفور. للتنوير والدولة المدنية، ص 422- 428.
[6] جابر عصفور، المرجع السابق، ص 31.