كاظم السماوي - عبد الرزاق الشيخ علي يعود مع الربيع

كان عائدا من باريس، شعره الاسود الفاحم المسترسل وراء عنقه: وكلماته الهادرة المدوية.. وعيناه العميقتان الكبيرتان الكئيبتان.. كان يقول اشياء جديدة.
ويتحدث في اشراقات دنياً كانت حلماً زهواناً في اعماقنا آنذاك، لشدة ما كان شغفه عميقاً باستجلاء ذكرياته تلك حيث لم تكن الايام قد اسدلت ستارها الكثيف عليها بعد..
وكان ينتقل بين احياء باريسية معروفة، الشانزليه، مونمارتر.. مونبارناس. اللوفر.. نوتردام.. اللايبار..
وفي احدى الامسيات كان لنا موعد تحت كومة متناثرة من النخيل في مقهى بسيطة وعلى حصيرها الاسمر..
ننثر مجموعة تلك الذكريات، صور، ولوحات، وبطاقات ملونة- كان بعضها لفنانين عرفتهم باريس قديماً وحديثاً: غوثمان- رينوار- دي لاكروا- بيكاسو.. وكان ينطق اسماءهم بلهجته الباريسية الجديدة.. ثم يجمع تلك الكومة من الذكريات ويفتحها على طرف المنضدة المتآكلة.. ويصمت قليلاً.. ثم يردد.. والأدب!!
وكأنما اراد ان يسبقني اليه قلت: قصته هناك..
"وابعد من هناك.. الادب يعني الانسان الشامخ، سيد الارض، وصانع الحياة، فاذا لم يكن هذا هو محوره فانه ثرثرة حانقة، وصناعة بائرة.
فالأدب، دم، ودموع وجراح ونار، وإشراق وهو بعد هذا كله يهندس للغد العملاق..
غد الانسان، ومن اجل هذا فإنني امتهن الأدب إن لم يكن قادراً على كسر سيف الطاغية، وتخريق شراع القرصان، وهدم قلاع البربري.
انه هيبة اعصار الجموع، وبناء الغد.. غد الشموخ والاشراق والفرح.
الغد.. نحن بناؤه اهل القلم.. كاتباً وشاعراً ومفكراً ومن صنع اقلامنا التي تجوس الظلمات ومتاهات الجوع، وزرائب السجون.. نصغي الى معاناة مضطهدة، وآهة مستغل، وجراح قتيل، في هذه الدروب يسير الادب الى غده المشرق.. حيث هي تبقى الاكواخ وتبقى السجون والاضطهاد والاستغلال وثائق قديمة لعصر غابر فيما سيأتي به التاريخ من غد يسوده زهو الحب والربيع الذي يخبو ولا يذبل ولا يموت ربيع الانسان الخالد..
كان عبد الرزاق يؤكد على هذا.. باصرار مضطرم وايمان لا يتزعزع بغده الكبير عند باريس وبغداد، هاتين المدينتين اللتين كانتا تتنازعان حبه وعذابه وآماله الكبار..
ليلة صيف تلك التي طال فيها لقاؤها الاول الى ما بعد الهزيع الاخير
حتى اذا انقضت السابلة الا من المسهدين عدنا نجر خطانا على ارصفة بغداد الكئيبة المثقلة بالهموم.
وفجأة ران الصمت على سيمائه المتشنجة غضباً وانزوى في عينيه المتقدتين صدى بعيد من الذكريات.
لقد لقيت عبد الرزاق بعدها مراراً في الطريق الطويل.. وكانت الآفاق تتلبد بالعواصف والاعاصير.. وليال لم تكتمل بإشراق نجم.. وبدأ عبد الرزاق يلملم ذكرياته يسكبها في قصصه التي نشرتها له الاهالي، ثم استقرت في مجموعة "حصاد الشوك" وكان اسم هذه المجموعة وشيج الصلة بالاشواك التي تحف بالطريق الطويل.
فقد كان يعي ويدرك كل كلمة يكتبها ويقولها..
ويعرف أي افق من غده نجد السبيل
اليوم والغد الشوك والسنبل لكليهما حصاد.. وتتشامخ حركة السلم عبر الآفاق البعيدة ويسافر عبد الرزاق الى (برلين) في اول وفد عراقي!! لقد كان ذلك آنذاك حدثاً سياسياً عبر تاريخ بغداد السياسي، فمن يستطيع ان يمر عبر بوابة بغداد الجديدة، ولكن التاريخ يحدثنا ان الحرية تجد لها منفذاً عبر اضخم اسوار الطغاة.
وهكذا وقف عبد الرزاق الانسان البسيط على اطلال الزيخشتاغ ثم عاد يحدثنا عن الاطفال والزهور، والرايات الزرقاء، والحمامات الراقدة فوق اكوام الرماد والخرائب والاطفال، وشباب الدنيا اسودهم وابيضهم ينشدون لحناً واحداً بعشرات الكلمات واللغات.
للسلم، وللإخاء، للاطفال، للزهور، للموسيقى، للثغور القرمزية الصغيرة..
الاطفال الذين كان عبد الرزاق يعانقهم في الدروب والشوارع والحدائق، ثم عاد ليحدثنا عنهم.. اولئك الذين فقدوا آباءهم في قاع بحر، او تحت اطلال في ساحات مجهولة.. آباءهم الذين لن يعودوا الى الابد.
ورجع عبد الرزاق ليشد على يده ويقرع (اجراس السلام) ، لأطفال بلاده السمر من اجل ان لا يظلوا على قارعة الطريق ينتظرون عودة آبائهم الذين لن يعودوا.. الى الابد!!
وكان آنذاك يقرع جرس السلام.. ولقد كانت بغداد كهفاً اسود لعصابة لصوص تبيع وتشتري بالدم، والشرف والضمير.. تبيعها في سوق النخاسة لأي دافع ثمن.
ويقف عبد الرزاق في قفص الاتهام وتضمه السجون في الصحراء المقفرة في "نقرة السلمان" تلك القلعة البربرية في احضان الرمال، والرياح والسموم..
وكنت آنذاك خارج العراق فلم اسمع عنه بعد هذا سوى ان الجدران السود قد اطبقت عليه واخرست الكلمة النذيرة، وابرم حلف بغداد..
هكذا سمي باسم مدينته التي احب اطفالها ونخيلها وبسطاءها واراد لها ان تكون أفقاً يمور بألف جناح، وارضاً تميس في جنباتها ضفائر السنابل الذهبية والزهور..
وها إن عبد الرزاق يدفع ثمن تلك الاحلام الشريفة ويقضي شبابه واطيافه الملونة بألف قوس قزح في صحراء وظلام عام 1954..
الشقاء دثار مخملي ابيض يجلل الربوات والجبال والارياف وكان بيتي هناك انا واطفالي نقلب ايدينا على لهب الموقد.. وطرق الباب واطلت ورقة صغيرة تحمل اسمه.. انه ينتظرني في مقهى بحري على شواطئ البحر الابيض.
وهرعت انزل الدروب الملتوية بين احضان البحر وبيوت القرميد الاحمر المتناثرة، لشدة ما كنت في شوق ظامئ له- ووجدته يتأمل البحر المترامي البعيد..
كان وقلق الضياع يطل من قسماته وشددت على يديه طويلاً وجلست ليحدثني بحسرة عن الخيبة في ان يجد العلاج لدائه الوبيل.
وصعدنا الجبل ثانية.. وضمتنا الليالي الطويلة حول موقد النار، كان انساناً نسيجاً وحده..
لا ينزل كتفيه للصاعدين النازلين- كان صريحاً الى قرارة الاعماق.. كان يبصق على الوجوه الشنيعة ذوات الاقنعة، وكان يقول اشياء تشنج اعصاب الطيبين.. اذا شطوا او ركبهم الغرور او نسوا انفسهم قليلاً، وتعالوا بأكتافهم وانوفهم.
كنا جماعة من شريدي الطغيان يضمهم الجبل الابيض المكلل بالثلوج- بين محكوم غيابي في مجالس نوري السعيد العرفية، وبين هارب من السجن، وبين طريد ضاقت به الآفاق، اساتذة ودكاترة وعمال، وطلاب..
وكل صباح يوم احد نجتمع ونقرأ ونتحادث وكان يجلس بيننا عبد الرزاق صامتاً طيباً.. ولكنه سرعان ما ينفجر كالبركان اذا ما لسعته كلمة مغرورة ويكاد ينقض كالاسد الهادر فلا يهدأ حتى يعيد ذلك الانسان الى اعماق حقيقته..
وقد احببت عبد الرزاق في منفاي الصغير.. فقد كان انساناً حقاً، كان يبتسم بعمق اذا ما المت بنا ملمة.
كان لا يغير داؤه الوبيل اهتمامه.. كان متفائلاً كبيراً فكم ذرعنا الدروب العتيقة من الجبال.. وحديثه المنساب لا ينقطع عن احلام غده الزهوان.
كان انساناً عجيباً اذا ابتسم تجد الوادي والجبال والاشجار تكركر معه.. وكان على زاوية فمه اصرار عجيب.. وذات صباح جلسنا كعادتنا نتصفح الجرائد اللبنانية وعلى زوايا تسمرت عيناه او ظل كذلك امداً طويلاً.
اراد ان يبعد الجريدة ولكني تناولتها برفق.. وكانت تحمل آنذاك لي ولاصدقاء آخرين انذاراً باسقاط جنسياتنا اذا لم نطاطئ هاماتنا للسادة الاجلاف.
وغرقت عيناه في عيني طويلاً دون ان ينطق بكلمة، لقد كان يقرأ كل لمحة من لمحات وجهي.. يقرأ اصراري ناطقاً مدوياً ثم ظلت نظراته معلقة في الافق البعيد.. البعيد..
1954..
ميناء بيروت.. وجواز سفر عبد الرزاق كان اسمه (محمد حسين) وحقيبة صغيرة فيها كل ما امتلك في الحياة، كتابات، وبدلتان، وشيء كان يصفق بجانبي ضمير. امواج البحر تترامى الى ما وراء المجهول تمتد وتمتد امام عيني وبجانبي لم يزل عبد الرزاق المودع الوحيد.. كان لا يقول شيئاً.. كان يصرخ بصمت كانت عيناه تتقدان جمراً.. غضباً.. كان لا يقول شيئاً
صفير الباخرة .. هزات يده السمراء النظيفة جداً كضميره..
جمر عينيه يتقد خلال رعشات مناديل بيضاء لم تكن لي
من اضواء بيروت.. تغيم وينأى بها الافق البعيد..
عام 1959
شارع الرشيد.. اتصفح الوجوه اسال عنه المارة.. اقتحم الابواب.. اطرق الصمت على كل شفة.. اتوسل للحيرة في كل عين.. قلت لهم كان اسمه محمد حسين.. ايضاً.. قلت لهم كل ما قاله لي من اشياء.. ووجدتني اجلس بعد لهاث!! في مكتب جريدة لأكتب بتساؤل جريح "اين عبد الرزاق؟" وتحمل الجريدة ذلك التساؤل الى عشرات الالوف من الناس البسطاء الذين احبهم عبد الرزاق..
ولكنهم مثلي لا يدرون!! ولا يعرفون سوى ان يرددوا تساؤلي مرة.. وثانية، وثالثة.. مئة مرة!
ايها الناس الذين ترددون الف مرة كل يوم.. اسم الحرية.. والسلم، والانسانية,,
ايها الادباء العائدون كل مساء الى بيوتهم وفي لهفة تعانق اطفالهم الصغار..
اذكروا.. عبد الرزاق الانسان الذي يعيش في بسمات اطفالكم.. الانسان الذي قرع جرس السلام.. وغاب .. ولم يعد.
ان لم تجدوه.. فتشوا عن رجل اسمه محمد حسين ايضاً.. وقولوا لاصدقائه هنا وهناك السائلين عنه انه سيعود مع الربيع.. ربيع انسانيته الكبير.
أعلى