1-
ان الحديث عن السياسي والاعلامي والشاعر الكبير كاظم السماوي.. حديث طويل له شجونه واسقاطاته الزمنية والتاريخية، كأحد ابطال تاريخنا الحديث، الذي إمتلأ بصور البطولة ونكران الذات والإندفاع نحو تحقيق حلم منشود، حيث التوحد بمآثر فردية ضمن إصرار بطولي نحو تحقيق رؤية تتسع للجميع .
وهو من الاسماء ذات المأثرة الفردية نحو ذات المجموع.. فكان الشخصية الفذة والعطرة في ذكراها وخطاها ومآثرها المسجلة بشهادات لن تمحى ، كما سطرها أبا رياض.
هذا هو باختصارصورته المناضلة التي تقدم بها على حساب صفاته كأحد الشعراء الرواد في العراق، فكل مالديه من طاقة ورؤية وصمود وصوت وكلمة وموقف.. كان يصنعه من اجل المجموع خاصة الفئات المسحوقة من الشعب.
لهذا رأيته يدخل بكل سلاسة وخفة اجتماعية بين اوساط الناس الفقراء المتعلمين وغير المتعلمين.. لديه قدرة على الجمع بين هذه الاطراف وغزلها بما يميزهه هو تحديداً كشخصية لا تمتلك أقنعة حتى عند الهزيمة، وكاظم السماوي لا يمسك العصا من الوسط أبداً..ولم أجد لديه ما يسمى بالوسطية.. فهو ليس وسطياً في الموقف والفكرة.. بل واضح لا يحيد عن قاعدته الاساسية في ذلك، وهو على الدوام قريب جداً من كل ما يدعو به الى الوضوح والإقدام والاستنهاض الثوري.. وتحت راية الثورة الحمراء.. هو هكذا، ولهذا هو قريب من جيفارا وماو وخالد زكي وفهد وسلام عادل بالتأكيد.. وليس لأشخاصهم بل لأنهم كانوا نموذجه الثوري الذي يؤمن به في تعبيد الطريق لسعادة الفقراء.. من دون غش او ريبة.. لهذا أرى ثوريته تجمع هؤلاء من دون تفسير أو مقايضة، هكذا هو كما أعتقد كانت ملامح أفكاره ومعتقده وصفات حلمه..!
وكان لشكله الخارجي ومحياه وتقاطيع وجهه وسمرته.. خطى شيخ جليل.. وهيبة انسان يمتلك كل الكبرياء.. تفرض الاحترام والود والإجلال والتقدير من دون شك.. وقد كان البياض الناصع لشعر رأسه ولحيته.. توحي لنا دوماً بشخصية رواية زوربا .. أو هو أقرب لشيخ البحر في رواية همنغواي..!
هو أنيق وصاحب ذوق يعكسه هندامه البسيط الدال على شخصه وروحه الفياضة بالصفاء وعذوبة التجربة وعمقه العراقي الأصيل.
هو رجل يحب الحياة ويمتلك ناصيتها ودوماً يتفرس المكان حيث البيئة والعمران، وله تجوال أملته عليه الظروف في تنوع السفر شرقاً وغرباً.. وكانت بساطته وتواضعه الكبير جعلت منه قريبا من الطاقات الشابة، وخاصة معي.. كمثال..
فأنا في عمر " حينها " بعمر اصغر اولاده إن لم أكن حفيداً له.. لكنه لم يتعامل معي بفارق العمر ابداً، ولم أشعر بأي إسلوب فيه دلالة من فوقية الاستاذ في درايته ومعرفته بالأشياء.. بل كان يتعامل بالند في التجربة والرأي والحوار، وهو إسلوب أعتقد من طبيعة روحيته وتجربته الطويلة في إيجاد محفزات لصناعة الفكر والرؤية وخصوصية الرأي في اسلوب مليء بدماثة الاخلاق والدفع نحو اعطاء مساحة واسعة من التمعن والتفرس واتخاذ ما يدل على المشتركات في الحوار، طبعاً من دون أن يتخلى عن ثوابته التي لم يحيد عنها في حياته.
2-
ودوماً كنت معه في الحوار وبلورة ما لدي من دون إحراج او إرباك لضيق تجربتي قياساً لتجربته الطويلة في الابداع والنضال الوطني. فكنت أمامه وبكل احترام ومحبة أقف وأبدي كل ما لدي من رؤى التعارض والاختلاف والمغايرة في الايضاح والتوضيح.. وفي مواضيعنا العراقية والدولية.. في الادب والفن اوالسياسة التي لاتغيب عن احاديثه ابداً.
لذا كان دوماً من الاساسيين في التشجيع ، فيما أكتب أو أنشره من مواقف هنا او هناك.. وكان من الملحين في ان أسمعه وعلى إنفراد بما لديّ من جديد.. حتى على الهاتف في أغلب الاحيان خاصة في أيامه الأخيره..
وكانت تعليقاته بجمالية مخزونه الثقافي ودرايته الادبية الواسعة بتجربته الثرية.. فكانت لروحه وهج طيب، كما الاطفال احياناً.. ولدي مقال أدبي بخط يده عن تجربتي وبعضاً من إصداراتي، أنتظر الفرصة لنشره في يوم ما..
ولي طرفة معه ففي احدى اللقاءات، وكانت امسية لي في استكهولم - العاصمة السويدية، وكان هو يتقدم الحضور، فقرأت قصيدة غزل باللهجة العراقية.. تتضمن بيتاً أقول فيه:
نهد عرگان زلك بيدي..!
فدَوَتْ منه ضحكة أبوية بأريحية جميلة وكل ذلك الكبرياء الذي يشعه دوماً حضوره وهو جالس بين الجمهور وبقربه استاذنا الكبير الاديب الراحل عبدالغني الخليلي.. وهو يسألني. " كيف وصلت لهاي الصورة الشعرية، كريم.. مبين مجربها..؟؟!!.."
وكان في أيام مصاحبتي له، كان يحب سماع الموسيقى والتمعن في الاخبار وقليلا من القراءة بحكم سنه، وكان كثير التجوال في المدينة، ويحب مجالسة الناس والحضور بينهم، وايضاً إهتم خلال السنوات الاخيرة بكتابة مذكراته حياته، وقد نشر قسماً منها في جريدة ، حزب الاتحاد الوطني الكردستاني " الاتحاد" بحكم علاقته الصداقية مع السيد جلال الطالباني.
اما موقفه من الشعر
فقد عجن شاعرنا الكبير كاظم السماوي مواقفه الوطنية والسياسية، واصبح الشعر لديه مكملا لتجربته النضالية، لا العكس، ولهذا وكما أخبرني هو ، إنه قبل عام 1952 كان لديه ديوانا كاملاً من الشعر الوجداني الغزلي، وقد مزقه، بعد ان إعتنق معترك السياسة والنضال الوطني، وقد سجل منذ تلك الحادثة إنه لم يقترب من الكتابة في موضوعة الغزل والحب، بل إتجه بكل طاقته الشعرية والأدبية نحو قصيدة الموقف السياسي الوطني والإجتماعي الانساني، بشكل كامل وتام وثابت لا غبار عليه، وبذلك كانت تجربته الشعرية انعكاساً واضحاً وبقوة في مساندة جماهير الفقراء والتعاضد معها، ودعوتها دوماً للمسير نحو سوح تحقيق التغير الفعلي والواضح في العيش الكريم والعدالة الأجتماعية..
وكان شديد الملاحظة والفراسة وحذر، فكان يمتعض ويرتاب من إثنين، حذرني منهما بأبوية وصداقة، وقد أصاب حدسه بهما..!
3-
وكان بالضد من استغلال الأنسان والتي هي ركن مهم من أفكاره التي يعتنقها بوضوح لم يحيد عنها حتى رمقه الاخير..
لهذا كان يعيب على السياب والبياتي تخاذلهم – حسب رؤيته - ووقوفهم قريباً من البعث في منعطفات تاريخية معينة، فهو يمتعض- وبشدة - من السياب لكتابته سلسلة مقالات تحت عنوان " كنت شيوعياً." التي يدعي أنه أكرم بها البعثيين والقوميين العراقيين آنذاك ، حسب رأيه.
كما كان يعيب على عبدالوهاب البياتي مفارقاته الانهزامية في الحياة اليومية وتضخيم الذات، وأورد لي أكثر من مرة حادثة لقاءه من قبل إذاعة موسكو في الخمسينات، حيث اورد" انه جاء موسكو هارباً من حكم الاعدام ، بعد أن كسرت الجماهير قضبان السجن، وأطلقت سراحه، وهو لم يكن كذلك..!! "
وما أحسبه لهذا الشاعر الكبير والمناضل الفذ، إنه لم يدنس مسيرته او سجله النضالي بأي مديح شعري او نثري للبعثيين وسلطاتهم وشخصياتهم الاجرامية، كما أسجل له إنه لم يمدح أي صاحب سلطة أو رئيس عربي.. ولم يستغل علاقاته الإجتماعية أو روابطه الصداقية مع الكثير من رجالات ومؤسسات سياسية واقتصادية عراقية وعربية، بما تحسب عليه كموقف او ثلمة لتاريخه النظيف، والذي بقي نظيفاً..
أما نظرته الخاصة الى مسيرته النضالية الطويلة، فهو يعتز بها وهو في محطته الأخيرة السويد، وكان يقف بإحترام لصانعي الثورات والقريبين من الفقراء وأولهم الزعيم عبدالكريم قاسم، فرغم إختلافه معه وسجنه له بسبب فتح صفحات جريدته الخاصة " الإنسانية " للكتاب التقدميين العراقيين حينها، وخاصة الشيوعين بعد إغلاق جريدتهم " اتحاد الشعب" ، إلا انه كان يجل عبدالكريم قاسم بكل التقدير والإشهاد ولم يسمح لأحد بالمساس به، ويشهد له بإنه كان وطنياً مخلصاً وثائراً عراقياً.. وكانت بذلك شهادة واضحة منه، كما طبيعته في إجلاله للثائرين والشهداء الوطنيين الذين يحسب إنهم منحوا أوطانهم أغلى ما لديهم. وللمعلومة إنه كان سجيناً في سجن الرمادي، حين وقع انقلاب 8 شباط 1963، لذا كان هو السبب في إنقاذه من موت محتم على يد البعثيين بما إقترفوه من مجازر، حيث كان مديراً لإذاعة بغداد في بداية العهد الجمهوري الجديد.
وعلى أثر ذلك ومن تأثيرات أحاديثه وتحليلاته ومواقفه أزاء الاحداث، كنت قد استلهمت حديثه التفصيلي عن بطل عراقي مغيب من الذاكرة العراقية، بطل كان قد حذر من انقلاب 8 شباط الاسود عام 1963، والذي جر العراق نحو الهاوية ومازال لحد اليوم... مستمر.. الا وهو الراحل عطشان الازيرجاوي.. فكتبت قصيدة " كنت العراق..!"، وهذه الشخصية هي أحدى أبطال رواية " وليمة لأعشاب البحر" للكاتب السوري الكبير حيدر حيدر.
وقد دفع شاعرنا الراحل والشخصية الوطنية العراقية المجيدة ثمن مواقفه الكثير من سنين عمره منفياً، كما هو ضمن أول ثلاث شخصيات عراقية في العهد الملكي أسقطت عنهم الجنسية العراقية آنذاك، وهذا لم يكن على شخصه فقط بل تعدى ذلك على جميع ابناء عائلته الكريمة.. فقد اصبح كل واحد منهم في بلد.. مثلما ساق لي أنه لم يلتق ابنته المسماة " سوريا " الا مرتين بكل سنين منفاه الاخير..!!
4-
ورغم كل عذاباته والمسافات البعيدة بين بلدان اللجوء.. الا إنه كان على وضوح كامل في طيبته وإبوته الحنونة وفيض مشاعره وقلقه عليهم، رغم إنهم أصبحوا كبار بسنن يشار لهم بالبنان.. لكنه بقي على تواصل قد يكون يومياً في إطمأنانه على مسارات حياتهم وكان يوفر لهم كل ما يذلل معوقاتهم المالية والإجتماعية.
وبكل تأكيد هنالك شذرات من الإصابة والاحباط والخيبة، فأولاده أصبحوا كما يقال كل واحد تحت نجمة، وولده نصير الذي كان يرى فيه شئ من تطلعاته وأحلامه قد أغتيل على يد الجلاوزة الفاشست في سفارة البعث في بكين، وإبنه البكر رياض زج في حرب مع ايران قرب الإسلحة الكيماوية خرج منها معطوباً، أدت إصابته لوفاته فيما بعد. إن الإحباط لا أستطيع ان أختصره الا من خلال سخريته في قوله " لو كنت لاعب كرة قدم أو مثل كاظم الساهر، هل كان الوضع لي أفضل..؟؟" كان يتألم بسخرية من ثقافة الحاضروما يشاع حينها وما سوف يوصل المجتمع من إنهيار. وقد حدث الانهيار الكبير الآن.. ولن أدنو من السياسة.. لأنها موجعة.. لذا كان مبتعداً عن محافل لا تمثله ولم تقترب منه بشكل ما.. كان طاهراً كما الانبياء، لم يبع إسمه ولم يبع موقفه ولم يبع تاريخية من اجل مال او نزوة مجاملة.. كان يستحق لفظة المناضل الكبير والشخصية الوطنية، لا كما الان تمنح لمن هب ودب..!
في سفرتي معه الأخيرة الى دمشق، دعاني أن أرافقه نحو مقبرة الشهداء في مخيم اليرموك الفلسطيني على أطراف دمشق سوريا، وأشار لي " هذا قبر زوجتي أم رياض، وهذا قبر ولدي نصير، وهذا قبري.. هنا سأدفن قربهم.. إنني أنتظر.."
لقد كان ينتظر..!
سلاما لك يا ابا رياض وسلاما لنبراس سيرتك الحياتية التي تعلمنا منها الكثير.. وسلاماً لجلمودك في الثبات والموقف وخطاك الذي لم يتنحى بعيداً عن الفقراء وآمال وطن فقدناه الآن..
عبدالكريم هداد
كتبت في السويد
يوم 24-3-2016
ان الحديث عن السياسي والاعلامي والشاعر الكبير كاظم السماوي.. حديث طويل له شجونه واسقاطاته الزمنية والتاريخية، كأحد ابطال تاريخنا الحديث، الذي إمتلأ بصور البطولة ونكران الذات والإندفاع نحو تحقيق حلم منشود، حيث التوحد بمآثر فردية ضمن إصرار بطولي نحو تحقيق رؤية تتسع للجميع .
وهو من الاسماء ذات المأثرة الفردية نحو ذات المجموع.. فكان الشخصية الفذة والعطرة في ذكراها وخطاها ومآثرها المسجلة بشهادات لن تمحى ، كما سطرها أبا رياض.
هذا هو باختصارصورته المناضلة التي تقدم بها على حساب صفاته كأحد الشعراء الرواد في العراق، فكل مالديه من طاقة ورؤية وصمود وصوت وكلمة وموقف.. كان يصنعه من اجل المجموع خاصة الفئات المسحوقة من الشعب.
لهذا رأيته يدخل بكل سلاسة وخفة اجتماعية بين اوساط الناس الفقراء المتعلمين وغير المتعلمين.. لديه قدرة على الجمع بين هذه الاطراف وغزلها بما يميزهه هو تحديداً كشخصية لا تمتلك أقنعة حتى عند الهزيمة، وكاظم السماوي لا يمسك العصا من الوسط أبداً..ولم أجد لديه ما يسمى بالوسطية.. فهو ليس وسطياً في الموقف والفكرة.. بل واضح لا يحيد عن قاعدته الاساسية في ذلك، وهو على الدوام قريب جداً من كل ما يدعو به الى الوضوح والإقدام والاستنهاض الثوري.. وتحت راية الثورة الحمراء.. هو هكذا، ولهذا هو قريب من جيفارا وماو وخالد زكي وفهد وسلام عادل بالتأكيد.. وليس لأشخاصهم بل لأنهم كانوا نموذجه الثوري الذي يؤمن به في تعبيد الطريق لسعادة الفقراء.. من دون غش او ريبة.. لهذا أرى ثوريته تجمع هؤلاء من دون تفسير أو مقايضة، هكذا هو كما أعتقد كانت ملامح أفكاره ومعتقده وصفات حلمه..!
وكان لشكله الخارجي ومحياه وتقاطيع وجهه وسمرته.. خطى شيخ جليل.. وهيبة انسان يمتلك كل الكبرياء.. تفرض الاحترام والود والإجلال والتقدير من دون شك.. وقد كان البياض الناصع لشعر رأسه ولحيته.. توحي لنا دوماً بشخصية رواية زوربا .. أو هو أقرب لشيخ البحر في رواية همنغواي..!
هو أنيق وصاحب ذوق يعكسه هندامه البسيط الدال على شخصه وروحه الفياضة بالصفاء وعذوبة التجربة وعمقه العراقي الأصيل.
هو رجل يحب الحياة ويمتلك ناصيتها ودوماً يتفرس المكان حيث البيئة والعمران، وله تجوال أملته عليه الظروف في تنوع السفر شرقاً وغرباً.. وكانت بساطته وتواضعه الكبير جعلت منه قريبا من الطاقات الشابة، وخاصة معي.. كمثال..
فأنا في عمر " حينها " بعمر اصغر اولاده إن لم أكن حفيداً له.. لكنه لم يتعامل معي بفارق العمر ابداً، ولم أشعر بأي إسلوب فيه دلالة من فوقية الاستاذ في درايته ومعرفته بالأشياء.. بل كان يتعامل بالند في التجربة والرأي والحوار، وهو إسلوب أعتقد من طبيعة روحيته وتجربته الطويلة في إيجاد محفزات لصناعة الفكر والرؤية وخصوصية الرأي في اسلوب مليء بدماثة الاخلاق والدفع نحو اعطاء مساحة واسعة من التمعن والتفرس واتخاذ ما يدل على المشتركات في الحوار، طبعاً من دون أن يتخلى عن ثوابته التي لم يحيد عنها في حياته.
2-
ودوماً كنت معه في الحوار وبلورة ما لدي من دون إحراج او إرباك لضيق تجربتي قياساً لتجربته الطويلة في الابداع والنضال الوطني. فكنت أمامه وبكل احترام ومحبة أقف وأبدي كل ما لدي من رؤى التعارض والاختلاف والمغايرة في الايضاح والتوضيح.. وفي مواضيعنا العراقية والدولية.. في الادب والفن اوالسياسة التي لاتغيب عن احاديثه ابداً.
لذا كان دوماً من الاساسيين في التشجيع ، فيما أكتب أو أنشره من مواقف هنا او هناك.. وكان من الملحين في ان أسمعه وعلى إنفراد بما لديّ من جديد.. حتى على الهاتف في أغلب الاحيان خاصة في أيامه الأخيره..
وكانت تعليقاته بجمالية مخزونه الثقافي ودرايته الادبية الواسعة بتجربته الثرية.. فكانت لروحه وهج طيب، كما الاطفال احياناً.. ولدي مقال أدبي بخط يده عن تجربتي وبعضاً من إصداراتي، أنتظر الفرصة لنشره في يوم ما..
ولي طرفة معه ففي احدى اللقاءات، وكانت امسية لي في استكهولم - العاصمة السويدية، وكان هو يتقدم الحضور، فقرأت قصيدة غزل باللهجة العراقية.. تتضمن بيتاً أقول فيه:
نهد عرگان زلك بيدي..!
فدَوَتْ منه ضحكة أبوية بأريحية جميلة وكل ذلك الكبرياء الذي يشعه دوماً حضوره وهو جالس بين الجمهور وبقربه استاذنا الكبير الاديب الراحل عبدالغني الخليلي.. وهو يسألني. " كيف وصلت لهاي الصورة الشعرية، كريم.. مبين مجربها..؟؟!!.."
وكان في أيام مصاحبتي له، كان يحب سماع الموسيقى والتمعن في الاخبار وقليلا من القراءة بحكم سنه، وكان كثير التجوال في المدينة، ويحب مجالسة الناس والحضور بينهم، وايضاً إهتم خلال السنوات الاخيرة بكتابة مذكراته حياته، وقد نشر قسماً منها في جريدة ، حزب الاتحاد الوطني الكردستاني " الاتحاد" بحكم علاقته الصداقية مع السيد جلال الطالباني.
اما موقفه من الشعر
فقد عجن شاعرنا الكبير كاظم السماوي مواقفه الوطنية والسياسية، واصبح الشعر لديه مكملا لتجربته النضالية، لا العكس، ولهذا وكما أخبرني هو ، إنه قبل عام 1952 كان لديه ديوانا كاملاً من الشعر الوجداني الغزلي، وقد مزقه، بعد ان إعتنق معترك السياسة والنضال الوطني، وقد سجل منذ تلك الحادثة إنه لم يقترب من الكتابة في موضوعة الغزل والحب، بل إتجه بكل طاقته الشعرية والأدبية نحو قصيدة الموقف السياسي الوطني والإجتماعي الانساني، بشكل كامل وتام وثابت لا غبار عليه، وبذلك كانت تجربته الشعرية انعكاساً واضحاً وبقوة في مساندة جماهير الفقراء والتعاضد معها، ودعوتها دوماً للمسير نحو سوح تحقيق التغير الفعلي والواضح في العيش الكريم والعدالة الأجتماعية..
وكان شديد الملاحظة والفراسة وحذر، فكان يمتعض ويرتاب من إثنين، حذرني منهما بأبوية وصداقة، وقد أصاب حدسه بهما..!
3-
وكان بالضد من استغلال الأنسان والتي هي ركن مهم من أفكاره التي يعتنقها بوضوح لم يحيد عنها حتى رمقه الاخير..
لهذا كان يعيب على السياب والبياتي تخاذلهم – حسب رؤيته - ووقوفهم قريباً من البعث في منعطفات تاريخية معينة، فهو يمتعض- وبشدة - من السياب لكتابته سلسلة مقالات تحت عنوان " كنت شيوعياً." التي يدعي أنه أكرم بها البعثيين والقوميين العراقيين آنذاك ، حسب رأيه.
كما كان يعيب على عبدالوهاب البياتي مفارقاته الانهزامية في الحياة اليومية وتضخيم الذات، وأورد لي أكثر من مرة حادثة لقاءه من قبل إذاعة موسكو في الخمسينات، حيث اورد" انه جاء موسكو هارباً من حكم الاعدام ، بعد أن كسرت الجماهير قضبان السجن، وأطلقت سراحه، وهو لم يكن كذلك..!! "
وما أحسبه لهذا الشاعر الكبير والمناضل الفذ، إنه لم يدنس مسيرته او سجله النضالي بأي مديح شعري او نثري للبعثيين وسلطاتهم وشخصياتهم الاجرامية، كما أسجل له إنه لم يمدح أي صاحب سلطة أو رئيس عربي.. ولم يستغل علاقاته الإجتماعية أو روابطه الصداقية مع الكثير من رجالات ومؤسسات سياسية واقتصادية عراقية وعربية، بما تحسب عليه كموقف او ثلمة لتاريخه النظيف، والذي بقي نظيفاً..
أما نظرته الخاصة الى مسيرته النضالية الطويلة، فهو يعتز بها وهو في محطته الأخيرة السويد، وكان يقف بإحترام لصانعي الثورات والقريبين من الفقراء وأولهم الزعيم عبدالكريم قاسم، فرغم إختلافه معه وسجنه له بسبب فتح صفحات جريدته الخاصة " الإنسانية " للكتاب التقدميين العراقيين حينها، وخاصة الشيوعين بعد إغلاق جريدتهم " اتحاد الشعب" ، إلا انه كان يجل عبدالكريم قاسم بكل التقدير والإشهاد ولم يسمح لأحد بالمساس به، ويشهد له بإنه كان وطنياً مخلصاً وثائراً عراقياً.. وكانت بذلك شهادة واضحة منه، كما طبيعته في إجلاله للثائرين والشهداء الوطنيين الذين يحسب إنهم منحوا أوطانهم أغلى ما لديهم. وللمعلومة إنه كان سجيناً في سجن الرمادي، حين وقع انقلاب 8 شباط 1963، لذا كان هو السبب في إنقاذه من موت محتم على يد البعثيين بما إقترفوه من مجازر، حيث كان مديراً لإذاعة بغداد في بداية العهد الجمهوري الجديد.
وعلى أثر ذلك ومن تأثيرات أحاديثه وتحليلاته ومواقفه أزاء الاحداث، كنت قد استلهمت حديثه التفصيلي عن بطل عراقي مغيب من الذاكرة العراقية، بطل كان قد حذر من انقلاب 8 شباط الاسود عام 1963، والذي جر العراق نحو الهاوية ومازال لحد اليوم... مستمر.. الا وهو الراحل عطشان الازيرجاوي.. فكتبت قصيدة " كنت العراق..!"، وهذه الشخصية هي أحدى أبطال رواية " وليمة لأعشاب البحر" للكاتب السوري الكبير حيدر حيدر.
وقد دفع شاعرنا الراحل والشخصية الوطنية العراقية المجيدة ثمن مواقفه الكثير من سنين عمره منفياً، كما هو ضمن أول ثلاث شخصيات عراقية في العهد الملكي أسقطت عنهم الجنسية العراقية آنذاك، وهذا لم يكن على شخصه فقط بل تعدى ذلك على جميع ابناء عائلته الكريمة.. فقد اصبح كل واحد منهم في بلد.. مثلما ساق لي أنه لم يلتق ابنته المسماة " سوريا " الا مرتين بكل سنين منفاه الاخير..!!
4-
ورغم كل عذاباته والمسافات البعيدة بين بلدان اللجوء.. الا إنه كان على وضوح كامل في طيبته وإبوته الحنونة وفيض مشاعره وقلقه عليهم، رغم إنهم أصبحوا كبار بسنن يشار لهم بالبنان.. لكنه بقي على تواصل قد يكون يومياً في إطمأنانه على مسارات حياتهم وكان يوفر لهم كل ما يذلل معوقاتهم المالية والإجتماعية.
وبكل تأكيد هنالك شذرات من الإصابة والاحباط والخيبة، فأولاده أصبحوا كما يقال كل واحد تحت نجمة، وولده نصير الذي كان يرى فيه شئ من تطلعاته وأحلامه قد أغتيل على يد الجلاوزة الفاشست في سفارة البعث في بكين، وإبنه البكر رياض زج في حرب مع ايران قرب الإسلحة الكيماوية خرج منها معطوباً، أدت إصابته لوفاته فيما بعد. إن الإحباط لا أستطيع ان أختصره الا من خلال سخريته في قوله " لو كنت لاعب كرة قدم أو مثل كاظم الساهر، هل كان الوضع لي أفضل..؟؟" كان يتألم بسخرية من ثقافة الحاضروما يشاع حينها وما سوف يوصل المجتمع من إنهيار. وقد حدث الانهيار الكبير الآن.. ولن أدنو من السياسة.. لأنها موجعة.. لذا كان مبتعداً عن محافل لا تمثله ولم تقترب منه بشكل ما.. كان طاهراً كما الانبياء، لم يبع إسمه ولم يبع موقفه ولم يبع تاريخية من اجل مال او نزوة مجاملة.. كان يستحق لفظة المناضل الكبير والشخصية الوطنية، لا كما الان تمنح لمن هب ودب..!
في سفرتي معه الأخيرة الى دمشق، دعاني أن أرافقه نحو مقبرة الشهداء في مخيم اليرموك الفلسطيني على أطراف دمشق سوريا، وأشار لي " هذا قبر زوجتي أم رياض، وهذا قبر ولدي نصير، وهذا قبري.. هنا سأدفن قربهم.. إنني أنتظر.."
لقد كان ينتظر..!
سلاما لك يا ابا رياض وسلاما لنبراس سيرتك الحياتية التي تعلمنا منها الكثير.. وسلاماً لجلمودك في الثبات والموقف وخطاك الذي لم يتنحى بعيداً عن الفقراء وآمال وطن فقدناه الآن..
عبدالكريم هداد
كتبت في السويد
يوم 24-3-2016
Bei Facebook anmelden
Melde dich bei Facebook an, um dich mit deinen Freunden, deiner Familie und Personen, die du kennst, zu verbinden und Inhalte zu teilen.
www.facebook.com