محمد سلمان - أركون.. والفقيه والأنسنة

قديماً قال فلاسفة اليونان إن ”الجدل بمعنى مشاركة أكثر من عقل واحد في السعي إلى بلوغ الحقيقة هو طريق المعرفة”.بداية، أتفق مع معظم ما ارتكز عليه المفكر العربي – الفرنسي محمد أركون في محاضرته التي ارتجلها من بين ثنايا أوراق رسالة الدكتوراه التي حصل عليها من موطنه الحالي فرنسا بشأن الموضوع نفسه ”الأنسنة” في مركز الشيخ إبراهيم ضمن المتوافر ثقافياً في إطار الموسوم بـ”ربيع الثقافة البحريني”. وكم أتفق معه في موقفه ومعارضته الصريحة لنظرية صراع الحضارات الغربية حالياً.

لكن يبدو أن ”الأنسنة” أو كما يسميها “Humanism” ستلتصق باسمه كمنحى – وليس كمذهب – في التفكير العلمي وفي إعادة قراءة سيسيولوجية انثربولوجية تاريخية تحليلية للواقع العربي الإسلامي اتكاءً على الموروث الممارس دينياً وليس لقراءة الدين الإسلامي نفسه. ولكن المفكر أركون يلج المنهج الغربي وآخر إفرازاته ليظهر بعدها وهو يحمل أدوات وآراء جورج غرفيتش وجوزيف شافت وماكس فيبر وبورز ديفيد وغولد زيهر وجاك غودي وعشرات آخرين – غالباً يذكرهم في مقابلاته وكتبه – ثم يتصدى بها لمدارس الاجتهاد أو الفكر الديني الإسلامي، مع اتفاقنا معه على عدم قدسية معظم تلك المدارس، وسأبين لاحقاً لماذا؟ لكن، هل تصلح مثل هذه الأدوات لمثل الحقل الإسلامي الخصب، الذي استعصى على أركون نفسه، فكيف بالمدارس الغربية الحديثة التي تتعامل مع الإسلام كتعاملها مع الأرثوذكسية والكاثوليكية والبروتستانتية؟ وهل يمكن نقد أي فكر بأدوات من خارج سنخ وتكوين ذاك الفكر؟ وكيف يمكن الركون لصدقية النتائج والتقييم؟
ولكن، كما للأدوية وكل ”الروشتات” الطبية والفكرية (side effect) كما يعبر عنه، فبالطبع أن ما يثيره مفكر بارز مثل أركون – وإن اتفقنا معه في المعظم إجمالاً – يتفق معه بعضٌ ويخالفه آخر، خصوصاً أن أركون وصف نفسه بـ”المبلغ” بضم الميم وكسر اللام، لمنحى فكري يعتقد ومقتنع به شخصياً ويدافع عنه بحماس منقطع النظير جعل من زوجته أن تكون وصية على حياته وأعصابه حتى لا يتلفها ذاك الحماس في الرد على من ”يزندقون” فكره ويستثيرونه في المناظرات الفكرية ويقومون بأدلجتها وتسييسها سريعاً.
وجل ما اندهشت له هو انفلات أسلوب التفكير العلمي في مواجهة الآخرين – مهما كانت تعبيراتهم – عند أركون في تلك المناظرة التي دعا فيها الحضور – بأستاذية متعالية – إلى تعلم فن المناظرة (من أبي حيان التوحيدي) فقط لأنه ضمن فقهائه الذين يعتز بهم – وهذا من حقه – كما يعتز بابن رشد ومسكويه وغيرهما. مع أنني أوثق هنا فقط بأن مفكرنا قال شخصياً عبر أحد لقاءاته الصحافية مع مطبوعة ”الزمان الجديد”، ”وقد عملت ساعياً من خلال كتبي إلى تشخيص تجليات الفكر الإسلامي ومحاكمتها ونقدها عبر قراءة فلسفية سابرة”. فكيف يتحول إلى أسد جريح غاضب مزمجر لأن أحدهم تجرأ – بأية طريقة كانت – على نقده وليس محاكمته كما يفعل هو مع تجليات الفكر الإسلامي كما يطلق عليها؟
لا أدعي القدرة على مناظرة المفكر أركون هنا، إنما هي كلمات ومداخلات بريئة من متابع لفكر أركون في إيجابياته وسلبياته وليس من مريديه – لأنه اعترف في تلك المناظرة بأنه لا يريد أحداً أن يتبعه أو يكون من مريديه لإنشاء جمعية وإنما هو فضاء مفتوح للجميع، على رغم أنه ذكر في بيت الشعر، أنه صار كشيخ طريقة وحوله مريديه يعلمهم، مع أنه ضد نظرية الفقيه والمريدين والهيمنة عليهم أو كما ذكر علي الديري كما في تقديمه لأركون تلك الليلة، أنت مع الفقيه تمشي وراءه ومع أركون تمشي معه، وفي النهاية التبعية واحدة، حتى لو أطعت ذاك وناقشت هذا لأنك تحبه وتحب عمله، ومصطلح الفقيه الريادي أو الاستفرادي ينطبق هنا على من يتبع فكر ومنهج أركون وفي النقاش يرفض المس بشعرة من فكره فكيف بشعرة من جسده! فستلقى كل الغضب والركلات الفكرية والصاع صاعين من المفكر، وكذلك من الفقيه ومريديه فكلاهما في التعصب لرأيه الداخلي يكون بعيداً عن ”الأنسنة” وتقبل الآخر بروح علمية عالية الجودة لم تفعل وتمارس في العالمين العربي والإسلامي إلا في دولة الرسول (ص) ومن سار عليها روحاً ومنطقاً وولاءً فقط.
ثم إن مفكري المغرب وبتأثير التلاقح المتأخر بين اللغتين العربية والأمازيغية – وهي لغة غالبية سكان شمال إفريقيا قبل وصول الإسلام وجيوش الحكام المسلمين إليها – قد أضافوا إلى اللغة العربية ومصطلحاتها تلك العبارات الممحورة والمقتبسة مثل ”الأنسنة” وغيرها، وهم يأنسون بها حتى صارت صفة لهم ولأدبهم، بينما يجد المفكرون والأدباء الشرقيون فيها بعض الالتواء والسفسطة اللغوية في العربية لا تؤخر ولا تقدم شيئاً جديداً. أضف إلى ذلك أن المشكلة الكبرى لدى معظم مفكري ومنظري الحداثة أو التنوير العربي الإسلامي أنهم عندما يعيدون قراءة التاريخ، خصوصاً في جانبه الديني وبالذات في التفاسير والفتاوى التي صدرت عنه، يقرأون تفاسير وفتاوى التاريخ الأموي والعباسي والعثماني الرسمي الذي أوجد كل تلك الإشكالات الاجتهادية في تاريخنا الإسلامي، والتي يشتكي منها المفكر أركون نفسه في كتبه التي أصدرها، وبالتالي يعتبرون أن الخطأ في الدين، على رغم أنهم يدّعون بأن الدين لا علاقة له بمن فسره وأوصله الناس للناس وأفتى بالتحريم والحلال فيه. وطالما بقي هؤلاء يقرأون التاريخ – بعيداً عما حدث في رزية الخميس – ومن تلك الزاوية المقلوبة فلن يصلوا إلى ”الأنسنة” التي يبحثون عنها ولا إلى القراءة الصحيحة ولا قراءة الآخر بشكل صحيح. فما بني على خطأ لن يفرز إلا أخطاء قاتلة وشائعة للأسف في تاريخنا.
وها هو أحد المتخصصين في التاريخ وهو د. سيار الجميل عندما التقى بأركون في الجزائر العام 1987 دار جدل علمي ساخن بينهما بشأن بعض الحقائق والمعلومات التاريخية التي لم يستطع المفكر أركون إدراكها، في حين كما يقول الجميل ”لم يكن مطّلعاً عليها بحكم تخصصه البعيد عن التاريخ الحديث وتعقيداته المعاصرة. وهذه مشكلة لا يعاني منها أركون فقط، بل يعاني منها كثير من أشهر الكتاب والمفكرين العرب الذين يدخلون أنفسهم في معالجات ظواهر تاريخية لم يسيطروا على معلوماتها بعد.”
ولذا فإعادة القراءة والبحث عن ”الأنسنة” أو الرؤى العلمية الدقيقة لا تكون في قراءة المنقول فقط، بل في البحث عن وقراءة المسكوت عنه وغير المنقول وهو متوافر – لمن يريد حقاً – أن يوصلنا إلى حقيقة لم يستطع أن يجيب عليها معظم مفكرينا العرب والمسلمين حتى الآن: لماذا خلق الله العقل أولاً قبل البشر؟ ولماذا وهب لنا هذا العقل وأوجدنا في هذا العالم ثانياً؟ هل لنتمرد كما فعل إبليس، مع أن رب العالمين احترمه ولم يفنيه وأعطاه فرصة ليوم الحشر ليرى نتائج مناظراته مع البشر؟ هل لنفكر بهذا العقل وفي حدوده – مع أنها محدودة لكنها هائلة – فهي متاحة لمن يستطيع أن يستغل 10 مليارات خلية عصبية في المخ وهو مركز العقل والفكر رمزياً، ويمارس أكثر من عشرة وأمامها 800 صفر من عمليات التفكير حتى يصل إلى أولى درجات حقيقية هذا الإنسان ووجوده والسبب الذي من أجله وهب الله له العقل الذي يحويه جمجمته الصغيرة جداً جداً في ذرات هذا الكون الفسيح. – والسؤال الذي لم يسعنا أن نناظر فيه المفكر الكبير أركون هو: كيف تكون ”الأنسنة” ضد الدين أو في مقابله؟ وكيف وصلت هذه ”الأنسنة” إلى الدين المسيحي – كما يعتقد أركون – ولم تصلنا والمسيحية محرفة باعتراف الخالق وحده، وهي تستقي معينها الدنيوي المؤدلج من أربعة كتب مقدسة، فهل التحريف هو ”الأنسنة”؟ وهل أصبحت العولمة وقبلها الحداثة بمفهومها الغربي هي مرجعية ”الأنسنة” حالياً بأسلوبها الذي يدعو إليه مفكرنا الكبير. أم إن طريق الخلاص للمسلمين – كما للمسيحيين – يبدأ من الحداثة والعولمة التي يدعونا أركون إلى السير في ركابها، وبذلك يعيدنا إلى الصنمية الأولى أو لمرجعية فقهية – ولكنها حداثية – للفقيه، أياً كان فكره وجنسيته ومعينه الذي يستسقي منه – والذي يرفضه المفكر لدى المسلمين في الوقت نفسه. ثم نحن معه في ضرورة إعادة قراءة واعية ضمن المفهوم و”الأنسنة” المحمدية فقط لكل ما علق بالدين الإسلامي من شوائب الاجتهاد والتفسير والتأويل، ولكن أين مرجعية ”الأنسنة” التي يدعو إليها وبرنامجها وهيكلها حتى نناقشه معه ونتفاعل به وبها ونتخذه منهجاً في تعاملنا الفكري الحياتي؟ إننا نبحث عن منهج البديل المطروح هنا! وللأسف لن نرى المفكر و”المبلّغ” أركون حتى نسمع منه الإجابة الشافية لها.

جريدة الوقت ، 12 ديسمبر 2006
أعلى