قطاع غرب ووسط الدلتا الثقافي يبدأ من محافظة المنوفية حتى محافظة مطروح، ورئاسته مكانها الإسكندرية، وكانت أمانة كل المؤتمرات الأدبية تتكون – عادة - من أدباء الإسكندرية، ومعظم أعضائها من كتاب القصة والرواية. لأنهم أكثر شهرة من غيرهم، مما كان يثير الإعتراض على ذلك، خاصة من أدباء المحافظات الأخرى التابعة للقطاع، وكلما اجتمعنا للتجهيز لعقد مؤتمر أدبي على مستوي الإسكندرية أو القطاع، أهمس في أذن الزميل الذي يجاورني قائلا:
- دلوقتي "زميلنا فلان الفلاني"، سيطالب بأن يكون المؤتمر للقصة القصيرة.
وبالفعل، يمد زميلنا يده طالبا الكلمة، ذاكرا مزايا القصة القصيرة وأهميتها، طالبا أن يناقش المؤتمر قضايا القصة القصيرة.
فأقول له في هدوء شديد:
- متفقون على أهمية القصة القصيرة، لكن ليس من المعقول أن تكون كل المؤتمرات لها وحدها، ولا تنس أن المؤتمر السابق كان عن القصة القصيرة أيضا، لماذا لا يكون هذا المؤتمر للرواية؟!
ويصمت زميلنا مضطرا. فقد أتفقنا من قبل أن يكون المؤتمر مرة للقصة القصيرة، والمرة الثانية للرواية.
و" زميلنا " هذا يكره الروائيين – خاصة السكندريين – زملاءه – وقد أثنى الدكتور السعيد الورقي على أول رواياتي " الصعود فوق جدار أملس" وكان يناقشها مخطوطة في قصر ثقافة الحرية، هو الوحيد الذي قرأها بين رواد الندوة، فاتفقت معي المسئولة عن الندوة على طبعها فى عدد خاص من مجلة الكلمة التي يصدرها القصر، فكان زميلنا هذا يقابلني في مدخل باب القصر قائلا لي بغيظ: حاتطلعلك رواية؟!
ولم توف المسئولة الثقافية بما وعدت رغم الاتفاق، ورغم موافقة الأستاذ محمد غنيم - مدير الثقافة – وتوقيعه. وفي آخر يوم عمل له في القصر- قبل سفره لأمريكا ليعمل ملحقا ثقافيا هناك- استدعاني، واستدعى المسئولة الثقافية قائلا لي:
- أنا بقولك قدامها، هي إللي مش عايزة تطبعلك الرواية.
وكعادتي، صمت، وسحبت المخطوط، وللآن لا أعرف سر تغيرها ورفضها لطبع الرواية.
وبعد أن طبعت الرواية على حسابي، تصدى " زميلنا " هذا لي ولكل روائي الإسكندرية، وأذكر بأنه ناقش رواية لكاتب مبتدئ، كانت روايته مكتوبة بالقلم الرصاص، فتحمس لها، وصاح بأعلى صوته – لدرجة أن السائرين بجوار جدار القصر سمعوه بوضوح - قال:
- الرواية دي أفضل من كل الروايات التي نشرت في الإسكندرية.
وكان يسألني في دهشة: أنتم بتكتبوا الرواية إزاي؟!
يعترض – زميلنا هذا – في حوار له - على أننا نعيش زمن الرواية. وأنا متفق معه في ذلك. وأعتقد أن الشعر مازال ديوان العرب - رغم الأزمة الحادة التي يمر بها- فمازال رجل الشارع العادي يستشهد- للأن – في أحاديثه بأبيات من شعر المتنبي وشوقي وحافظ إبراهيم وأبو تمام وغيرهم.
ما يضايق زميلنا أن الرواية – التي لا يجيد كتابتها – تحظى بالأهمية الآن. فقد حرصت على زيارة المعرض الدولي للكتاب بالقاهرة كل عام، وكنت أتابع الذين يشترون الكتب، فكانت الكتب الدينية في المقدمة، كنا نتابع الملتحين بجلابيبهم القصيرة وهم يحملون كميات هائلة من الكتب، لكن بعد أن حكمونا الإخوان ووضحت الصورة الحقيقية لمدعي التدين، تباعد الكثير عن شراء الكتب الدينية، وأصبحت الرواية في المقدمة. وأريد أن أهمس لصديقي هذا وأقول له بأنني سألت باعة الكتب القديمة عن الكتب التي يطلبها القاريء فقالوا لي الرواية بتبيع أكتر. ولو عاد لقائمة الكتب التي تصدر عن روايات الهلال، تجدها من الصعب أن تنشر مجموعة قصصية لأن القاريء يفضل شراء الرواية على شراء المجموعة القصصية.
***
ولي صديق آخر لا يحب القصة القصيرة، وكثيرا ما هاجمها وقلل من شأنها على أساس أن الغرب لم يعد يهتم بها كما يهتم بالرواية، وأنا لا أزعم بأنني أعرف جيدا ما يحدث في الغرب. لكن الذي أعرفه، أننا في مصر والبلاد العربية مازلنا في حاجة للقصة القصيرة، وسنواصل كتابتها حتى لو رفضها الغرب وامتنع عن كتابتها.
وقد عارض صديقي هذا تخصيص مؤتمر أدبي للقصة في المجلس الأعلى للثقافة، وقال ما معناه: يجب أن تأبنوا القصة لا أن تحتفلوا بها وتكرموها
أعتقد أن الزميلين على خطأ في موقفهما، فكلا منهما يدافع عن النوع الذي يجيد كتابته، ويهاجم الفن الذي لا يحسن كتابته، وعندما غضب يوسف إدريس لحصول نجيب محفوظ على جائزة نوبل، وهاجمه، فأضطر محفوظ أن يخرج عن صمته، وأن يقول رأيه في يوسف إدريس، فقال ما معناه إن الحالة النفسية والمزاجية ليوسف إدريس تتماشى أكثر مع نوع القصة القصيرة، فهو حاد وعصبي، والقصة القصيرة قريبة من هذه العادة، بينما الرواية تتطلب هدوء أعصاب وتأمل وروية، وهذا تجده واضحا في كتاب الرواية – نجيب محفوظ وجمال الغيطاني وبهاء طاهر وغيرهم – بينما صديقنا – الذي يكره الرواية ولا يميل لكتابتها، تتناسب القصة القصيرة مع مزاجه وحالته النفسية. كما أنني شديد الإقتناع بأن ليس هناك شيء اسمه فن، وإنما هناك شيء اسمه فنان.ليس مهما أن تكتب قصة قصيرة، أو رواية، المهم أن تقنعني بقدراتك وموهبتك. وأنا مندهش من الذين يقيسون الأعمال بمداها – طولها أو قصرها – فهناك من يعارض القصة القصيرة جدا، علما بإنني قرأت قصصا قصيرة جدا في منتهى الروعة والفنية والإتقان. هناك كتاب قصة قصيرة في غاية الروعة لم يكتبوا رواية واحدة في حياتهم مثل محمد حافظ رجب وسعيد الكفراوي وغيرهما، وهذا لا يقلل من شأنهم.
فزميلة سكندرية أهديتها روايتي يهود الإسكندرية، فبلغني - من أكثر من جهة - إنها تهاجمها وغير راضية عنها، وأنا لا أغضب من هذه المواقف بشرط أن تكون حسنة النية. بلغني إنها معترضة لأنني تحدثت عن علاقات نسائية كثيرة في الرواية، وقالت نساء اليهود لسن كذلك. لكن عندما حدثثتها، وضحت لي بأنها تميل للتقتير في الكتابة. فدهشت من موقفها، فأنا لا يهمني نوع الكتابة ولا حجمها، المهم عندي أن تقنعني بفنيتك.
مصطفى نصر
- دلوقتي "زميلنا فلان الفلاني"، سيطالب بأن يكون المؤتمر للقصة القصيرة.
وبالفعل، يمد زميلنا يده طالبا الكلمة، ذاكرا مزايا القصة القصيرة وأهميتها، طالبا أن يناقش المؤتمر قضايا القصة القصيرة.
فأقول له في هدوء شديد:
- متفقون على أهمية القصة القصيرة، لكن ليس من المعقول أن تكون كل المؤتمرات لها وحدها، ولا تنس أن المؤتمر السابق كان عن القصة القصيرة أيضا، لماذا لا يكون هذا المؤتمر للرواية؟!
ويصمت زميلنا مضطرا. فقد أتفقنا من قبل أن يكون المؤتمر مرة للقصة القصيرة، والمرة الثانية للرواية.
و" زميلنا " هذا يكره الروائيين – خاصة السكندريين – زملاءه – وقد أثنى الدكتور السعيد الورقي على أول رواياتي " الصعود فوق جدار أملس" وكان يناقشها مخطوطة في قصر ثقافة الحرية، هو الوحيد الذي قرأها بين رواد الندوة، فاتفقت معي المسئولة عن الندوة على طبعها فى عدد خاص من مجلة الكلمة التي يصدرها القصر، فكان زميلنا هذا يقابلني في مدخل باب القصر قائلا لي بغيظ: حاتطلعلك رواية؟!
ولم توف المسئولة الثقافية بما وعدت رغم الاتفاق، ورغم موافقة الأستاذ محمد غنيم - مدير الثقافة – وتوقيعه. وفي آخر يوم عمل له في القصر- قبل سفره لأمريكا ليعمل ملحقا ثقافيا هناك- استدعاني، واستدعى المسئولة الثقافية قائلا لي:
- أنا بقولك قدامها، هي إللي مش عايزة تطبعلك الرواية.
وكعادتي، صمت، وسحبت المخطوط، وللآن لا أعرف سر تغيرها ورفضها لطبع الرواية.
وبعد أن طبعت الرواية على حسابي، تصدى " زميلنا " هذا لي ولكل روائي الإسكندرية، وأذكر بأنه ناقش رواية لكاتب مبتدئ، كانت روايته مكتوبة بالقلم الرصاص، فتحمس لها، وصاح بأعلى صوته – لدرجة أن السائرين بجوار جدار القصر سمعوه بوضوح - قال:
- الرواية دي أفضل من كل الروايات التي نشرت في الإسكندرية.
وكان يسألني في دهشة: أنتم بتكتبوا الرواية إزاي؟!
يعترض – زميلنا هذا – في حوار له - على أننا نعيش زمن الرواية. وأنا متفق معه في ذلك. وأعتقد أن الشعر مازال ديوان العرب - رغم الأزمة الحادة التي يمر بها- فمازال رجل الشارع العادي يستشهد- للأن – في أحاديثه بأبيات من شعر المتنبي وشوقي وحافظ إبراهيم وأبو تمام وغيرهم.
ما يضايق زميلنا أن الرواية – التي لا يجيد كتابتها – تحظى بالأهمية الآن. فقد حرصت على زيارة المعرض الدولي للكتاب بالقاهرة كل عام، وكنت أتابع الذين يشترون الكتب، فكانت الكتب الدينية في المقدمة، كنا نتابع الملتحين بجلابيبهم القصيرة وهم يحملون كميات هائلة من الكتب، لكن بعد أن حكمونا الإخوان ووضحت الصورة الحقيقية لمدعي التدين، تباعد الكثير عن شراء الكتب الدينية، وأصبحت الرواية في المقدمة. وأريد أن أهمس لصديقي هذا وأقول له بأنني سألت باعة الكتب القديمة عن الكتب التي يطلبها القاريء فقالوا لي الرواية بتبيع أكتر. ولو عاد لقائمة الكتب التي تصدر عن روايات الهلال، تجدها من الصعب أن تنشر مجموعة قصصية لأن القاريء يفضل شراء الرواية على شراء المجموعة القصصية.
***
ولي صديق آخر لا يحب القصة القصيرة، وكثيرا ما هاجمها وقلل من شأنها على أساس أن الغرب لم يعد يهتم بها كما يهتم بالرواية، وأنا لا أزعم بأنني أعرف جيدا ما يحدث في الغرب. لكن الذي أعرفه، أننا في مصر والبلاد العربية مازلنا في حاجة للقصة القصيرة، وسنواصل كتابتها حتى لو رفضها الغرب وامتنع عن كتابتها.
وقد عارض صديقي هذا تخصيص مؤتمر أدبي للقصة في المجلس الأعلى للثقافة، وقال ما معناه: يجب أن تأبنوا القصة لا أن تحتفلوا بها وتكرموها
أعتقد أن الزميلين على خطأ في موقفهما، فكلا منهما يدافع عن النوع الذي يجيد كتابته، ويهاجم الفن الذي لا يحسن كتابته، وعندما غضب يوسف إدريس لحصول نجيب محفوظ على جائزة نوبل، وهاجمه، فأضطر محفوظ أن يخرج عن صمته، وأن يقول رأيه في يوسف إدريس، فقال ما معناه إن الحالة النفسية والمزاجية ليوسف إدريس تتماشى أكثر مع نوع القصة القصيرة، فهو حاد وعصبي، والقصة القصيرة قريبة من هذه العادة، بينما الرواية تتطلب هدوء أعصاب وتأمل وروية، وهذا تجده واضحا في كتاب الرواية – نجيب محفوظ وجمال الغيطاني وبهاء طاهر وغيرهم – بينما صديقنا – الذي يكره الرواية ولا يميل لكتابتها، تتناسب القصة القصيرة مع مزاجه وحالته النفسية. كما أنني شديد الإقتناع بأن ليس هناك شيء اسمه فن، وإنما هناك شيء اسمه فنان.ليس مهما أن تكتب قصة قصيرة، أو رواية، المهم أن تقنعني بقدراتك وموهبتك. وأنا مندهش من الذين يقيسون الأعمال بمداها – طولها أو قصرها – فهناك من يعارض القصة القصيرة جدا، علما بإنني قرأت قصصا قصيرة جدا في منتهى الروعة والفنية والإتقان. هناك كتاب قصة قصيرة في غاية الروعة لم يكتبوا رواية واحدة في حياتهم مثل محمد حافظ رجب وسعيد الكفراوي وغيرهما، وهذا لا يقلل من شأنهم.
فزميلة سكندرية أهديتها روايتي يهود الإسكندرية، فبلغني - من أكثر من جهة - إنها تهاجمها وغير راضية عنها، وأنا لا أغضب من هذه المواقف بشرط أن تكون حسنة النية. بلغني إنها معترضة لأنني تحدثت عن علاقات نسائية كثيرة في الرواية، وقالت نساء اليهود لسن كذلك. لكن عندما حدثثتها، وضحت لي بأنها تميل للتقتير في الكتابة. فدهشت من موقفها، فأنا لا يهمني نوع الكتابة ولا حجمها، المهم عندي أن تقنعني بفنيتك.
مصطفى نصر