أحمد حسين عاشور (أحمد الدقر)
مواليد مدينة قنا 18/10/1968
حاصل على الثانوية العامة
رحل عن عالمنا في 20/9/2006
صدرت له مجموعة قصصية واحدة بعنوان "الحياة للحياة" عن سلسلة "أصوات أدبية"، بالهيئة العامة لقصور الثقافة – القاهرة - سنة 1990 في 213 صفحة من القطع الصغير، وهي المجموعة التي فاز بها في المسابقة المركزية للهيئة، مركز أول، وتضمنت إحدى عشرة قصة (هناك من يعبث بقرآني –ملاحظات على علاقة منتهية – ذات قيلولة ما – شرخ في جدار الليل –قبطية – المغامرة المثيرة لكاتب غير عادي – الوشم – الذي يعرف والذي لا يعرف – الحياة للحياة – مرأى المرأة لما تتمرأى – شفافية).
بعد رحيله بعام، وفي ذكرى تأبينه، أصدر عدد من أصدقائه كتيبًا صغيرًا عنه؛ احتفاء به وبتجربته، حمل عنوان "الحياة للحياة" أيضًا، وتضمن قصة "الحياة للحياة"، قراءة نقدية للناقد فتحي عبد السميع، في قصة "يوم في حياة شخص عابر"، عدة قصائد مهداة لروحه كتبها الشعراء (حسين عبد الله، عادل حماد سليم، عبد الحميد أحمد علي، عبد الرحيم طايع)
*****
قصة
يوميات شخص عابر
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أحمد حسين الدقر
مرسوم على بيت الحبيب، عجلات قطار، ونافورة من دخان، بينهما يركض نهار مسافر، نحو الجنوب مسافر، وتحت الرسم مكتوب، أمانة يا بدر ناقص، يا سِنّ ضاحك، فوق رأس الجبل تاج، تهدى حبيبى قُبلَة، دفقة من موسيقى القلب، وإن كنت بالديار جاهلاً، يكون دليلك: مرسوم على بيت الحبيب، عجلات قطار، ونافورة من دخان، بينهما يركض نهار مسافر، نحو الجنوب مسافر، وتحت الرسم مكتوب: أمانة ..
يا بدر ناقص، يا سِنّ ضاحك، فوق رأس الجبل، مكتوب على جبينك كل يوم تموت، ولا تسقط كما أسقَطَ الخريفُ ورقَ التوت، تدوسك المَمحاةُ – ممحاة الزمان – يا أقصرنا عمراً، أمَا يكفيك أنك الأجمل؟
الراوى: صلى على النبى
السامع: اللهم صلى عليك يا نبى
الراوى: شفت القمر عندما ارتجف، بهت لونه، ومات، جاءت الشمس كفّنته فى ابيضاض الكون، ثم سقط على الآلاف من أعواد القصب المُتضامَّة فى استدفاء، قامت صعيديةٌ حَشْوُها الشَّهد، رشيقة ممتلئة فى آن .. ولينة، تمهّلت الشمس فى مهدها، سمِعتها تنادى الدنيا أن تصحو، ثم ارتجَّ عليها، وانخرست، راحت تراقب أختها الأرض، وقد دِيسَت بالآلاف من أقدام الجنود، بأحذيتهم المصقولة السوداء، ذات الثِّقَل، وكلهم يمتشق خيزرانة مُصمَتة، غليظة جافة فى آن وقاسية، ورَتْل من سيارات عالية يقذف بهم فى لا انتهاء. والآلة، رأيت الآلة الضخمة بلا قلب، وقد جاءت فى حمايتهم، تربض هناك وتزوم، نمر تلسعه سياط من لهيب الجوع، تراوده اهتزازة القصب، فيتحفّز عاقداً ما بين حاجبيه، عازماً قطع شوط قنصه، مهما كان الثمن.
والشمس ذات الخرس، التى تمهلت، انعكس سناها على أمواه حفّ بها شاطئان، تتموّج دفقات لكل الحيوات، وسياج من الحلفا والعاقول يحيطهما، يحدّه الزّلط، بين خطين من حديد قد تباين حجماهما، يسير أحدهما بجوار الماء كظله، والآخر الصغير ثعبان، يتلوّى فى بطن الحقول يبتعد تارة، وتارة يقترب، يعلو فوق التِّرَع، يمتطيها، عابراً إيَّاها، أو هو يسير بجوارها، يهبط فى مجرً إسمنتي، حتى يَلِجَ فَتقاً بين جدارين من حديد مصبوب، تعبره القطارات بطاناً، ويعيدها خماصاً.
والشمس ذات الخرس، أصابها إحساس بالغثيان، حين أمسك صاحب النجوم، خصر سيجارته ونادى على الجنود أن انتباه، أتاها صوته قبيحاً، كالتجشؤ. وحين تربَّع الضحى أيضاً، صنع الآلافُ من الجنود حلقةً، التقَت وتمكّنت حول أعواد القصب العزلاء، والآلة، هناك فى عمق المشهد، تلعق فى حُرقة اللذة، حبات العرق المُنعقِدة على سِكّينتها الأمامية، فيصرخ باطنها كالمجذوب.
صوت: لكن أين الفتى؟
السامع: من هو الفتى؟
كورس: زين الشباب، نَصْلُ الحق فى بطن العتام، يسير فلا تسير بجواره الحوائط، تتحسّر النساء حين يمر بهن، العقيمات منهن والأمهات، والعذارى يتلمظن توقاً إليه، تنشرح وجوههن حين يرينه، والفتيان يُطرِقون خجلاً من فتوّته.
صوت: أين (........)؟
السامع: مَن هو (........)؟
كورس: ندى الفجر فى ذُرا القصب، لمسة من حياة ملؤها الطزاجة والبراءة، رقرقة أحلام الفلاحين فى وادينا
صوت: أين هو؟
السامع: ومَن يكون؟
كورس: جذع بلوط عتيق هو، صوته موج النيل فى اندفاعه، قيثارة تنير ظلام قريتنا بنداء الآذان، تتثاءب أسماعنا على صوت ترتيلاته كل صباح، حين تتأوّد أعطاف وادينا الخصيب، يرقص القصب فرِحاً بصوته.
الراوي: مَرّ مِن هنا
كحُبِّ العذراء سِرَّا
كشهوة مكبوتة لمراهق
كتناجى الأحبة فى غسق القرى
صوت: رآه رجال ساهرون فى الحقل للرَّى.
الراوى: لم يكن أيّاً مِنّا ليصدِّق، أنه يحمل عصاه، متوجِّها لمحاربة كل هذا الجيش، حملقوا جميعاً فى وجوم أبلَه، ثم وضع كلُّهم فأسَه تحت رأسه، واحتضن زوجته، ونام.
صوت: لمحه شيخ البلد
الراوى: وهو يفتل شاربه، يسقيه هواء الفجر، حين كانت زوجة شيخ الخَفَر تتزيّن أمام المرآة، تُكمِل جريان المساحيق على وجهها، ساعتَها أقسم إنه قد جُنّ، إذ كان ذاهباً إلى هناك وحدَه.
صوت: شافه شيخ الخفر.
الراوي: وهو يزن بيده ثدى بلهاء، يعطف عليها أهل قريتنا، مقابل أن تساعد نساءهم فى تنظيف البيوت والحظائر، شافه يتحرّك شامخاً كالطّود، تلاحِقه أنوار الأعمدة فيناورها، تطيل ظله تارة، وتارة يهرب منها، فيصير نقطة، رآه شبحاً مُتحقِّقاً من عَزْم لم يعتدّ لرؤيته، فلم يفهمه.
صوت: تعرّف عليه العُمدة
الراوي: وهو يخبّ – العمدة – فى عباءته الصوفية يتهادى كالبطة، قبل أن يعترض طريقه المعتاد، يعرقل سيره، يجبر العمدةَ تقدُّمُه غيرُ المُبَالي أن يقف، يتوقّف، فيشتعل الدم فى عروقه، ولم ينسَه أبداً.
صوت : رآه ناظر المدرسة .
الراوى : وهو يخترق جموع التلاميذ ، وهو يراجع أسماء المدرسين بالدفتر رآه ، وهو يراقب تحية العَلَم فى الصباح رآه ، تعلّق بصدره خوفاً عليه أسرَّ لنفسه أنه لن يرجع أبداً ، وتمنّى أن لو كان معه .
صوت : ورأته حلقة صغيرة من الطَّلَبَة .
الراوى : وهم يراجعون دروسهم فى نور باهت تحت جميزة عتيقة ، نادوا عليه ، حذّروه سوء العاقبة ، ولمّا لم يجدوا منه إصغاء ، مطّ كلٌّ منهم شفتيه دونما اهتمام ، غير أنهم ، يعد أن اختفى .. سَرَت فى قلوبهم رعدة من خزى ، وأسرّوا النجوى ندماً على أنهم لم يكونوا معه .
صوت : وهى أيضاً رأتْه .
الراوى : من فوق سطح دارها ، حين كانت تنشر الملابس ؛ دقّت صدرها خوفاً عليه ، فتساقط قلبها قِطعاً صغيرة ، صغيرة حرّكتها تيارات الهواء لقاحاتٍ ترنو إلى التأبير .
صوت : وشيخ الجامع شافه .
وهو خارج لصلاة الفجر ، شاف فيه رفيقاً مات يوماً على شاطئ القناة ، فقرأ آية الكُرسى ، ونوى أن يتحدّث عنه فى صلاة الجمعة .
كورس : رأته أجيال أخرى فى هسهسات الرَّباب ، بيَدِ شاعر نصف أعمى ، يحكى عن رجال دفنتهم أقدام الزمن ، رأته الصبايا فى أغنيات
الفرح ، فى حكايا العجائز حول نيران الشتاء، تمنّوا جميعاً أن لو عاشوا كما عاش ، وماتوا كما مات .
*
الراوى : ورآه القصب يدافع عنه بلسانه ، وإشارات يديه ، رأى صاحب النجوم يمطّ شفتيه ويزوم ، رآه يعاود الكَرّة ، تلو الكَرّة وهم يحيطون به كالسِّوَار ، لم يَرَ بعدها غير عصيهم تنهال فى تدافُع وتهاو .
رأته القضبان الخرساء ، فى السيارة المُقفَلة، يلعق جراح معركة غير متكافئة ، رأت فى عينيه سطوع وهج العزيمة ، والإصرار على مواصلة تحدّيه .
السامع : مسكينة شمس الشموس ، لم ترَ غير الخزى يغلّف دروب قريتنا ، والناس يبتلعهم بحر السكون ، يحملقون فى اللاشيء، بأبدان مُقشعِرَّة دائماً .
الراوى : صلى على النبى
السامع : اللهم صلى عليك يا نبى
الراوى : كسرت الشمسُ عيون العساكر ، فتحرّكت الآلة للمرّة الألف ، وحشٌ كاسر يبتلع أعواد القصب المُستسلِمة ، دون أن يلوكها يلفظها ، والأرض ، الأرض مفروشة بالآلاف من جثث تنزف عصيراً مُسكّراً ، وصاحب النجوم يفحّ ضحكة صفراء ويعفرم ، ثم يلتفت ذات اليمين وذات اليسار ، كأنه ينتظر ما لا يجئ .
مومياوات بعيون مكسورة رَأَت العساكرَ ، تستنفذ كمية من الهواء النقى كبيرة ، تحوّلها إلى أسَن ، وواحدهم كما خيزرانته ساكناً ينِزّ منه العَرَق، فتتكوّن الأرض الترابية ، حول الجثث ، أشباحاً مِلحيّة لاذعة ، لا تلبث أن تنهدم .
السامع : وأهداب الشمس الطويلات المُنسدِلات ، أخجلاً وحياء أخفَت عين الشمس ، أم حزناً على ما حدث ، وصنعت لون الغروب أحمر ، انعكاس ما سال على الأرض مزيج الدّم والسُّكَّر ، وصرخة انطلقت من عربة مُقفلَة حين واجهَت الطلقات ، سحقتها ، ذرّتها نسائم الهواء رماداً فى عيون مومياوات مكسورة .
الراوى : جاء القمر سِنّاً ضاحك ، فرّق غَزْلَه على أسطح البيوت وأزِّقَّة القرية الخالية ، فسقط من الجدران أشباح غامضة تستلقى على تراب السِّكَك .
كورس : كان الناس ، كل الناس يتحوّلون ، يتخلّقون كائنات أخرى ، لها شكل واحد ، فارق العَسْكَر الأرض ، وجاء الناس يوارون الجُثَّة ترابها .. فأبَت ، وأنار القمر غابة من الخراف ، تكنس بقايا موقعة دامية ، تجوس خطامها ، تأكل بقايا آثار عجلات عربة مُقفلَة ، هربت مُخلِّفة وراءها غابة من الخراف .
السامع : مرسوم على بيت الحبيب ، عجلات قطار ، ونافورة من دخان ، بينهما يركض نهار مسافر ، نحو الجنوب مسافر ، وتحت الرسم مكتوب، أمانة يا بدر ناقص ، يا سِنّ ضاحك ، فوق رأس الجبل تاج ، تهدى حبيبى قُبلَة ، دفقة من موسيقى القلب وإن كنت بالديار جاهلاً ، يكون دليلك : مرسوم على بيت الحبيب ، عجلات قطار ، ونافورة ....
مواليد مدينة قنا 18/10/1968
حاصل على الثانوية العامة
رحل عن عالمنا في 20/9/2006
صدرت له مجموعة قصصية واحدة بعنوان "الحياة للحياة" عن سلسلة "أصوات أدبية"، بالهيئة العامة لقصور الثقافة – القاهرة - سنة 1990 في 213 صفحة من القطع الصغير، وهي المجموعة التي فاز بها في المسابقة المركزية للهيئة، مركز أول، وتضمنت إحدى عشرة قصة (هناك من يعبث بقرآني –ملاحظات على علاقة منتهية – ذات قيلولة ما – شرخ في جدار الليل –قبطية – المغامرة المثيرة لكاتب غير عادي – الوشم – الذي يعرف والذي لا يعرف – الحياة للحياة – مرأى المرأة لما تتمرأى – شفافية).
بعد رحيله بعام، وفي ذكرى تأبينه، أصدر عدد من أصدقائه كتيبًا صغيرًا عنه؛ احتفاء به وبتجربته، حمل عنوان "الحياة للحياة" أيضًا، وتضمن قصة "الحياة للحياة"، قراءة نقدية للناقد فتحي عبد السميع، في قصة "يوم في حياة شخص عابر"، عدة قصائد مهداة لروحه كتبها الشعراء (حسين عبد الله، عادل حماد سليم، عبد الحميد أحمد علي، عبد الرحيم طايع)
*****
قصة
يوميات شخص عابر
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أحمد حسين الدقر
مرسوم على بيت الحبيب، عجلات قطار، ونافورة من دخان، بينهما يركض نهار مسافر، نحو الجنوب مسافر، وتحت الرسم مكتوب، أمانة يا بدر ناقص، يا سِنّ ضاحك، فوق رأس الجبل تاج، تهدى حبيبى قُبلَة، دفقة من موسيقى القلب، وإن كنت بالديار جاهلاً، يكون دليلك: مرسوم على بيت الحبيب، عجلات قطار، ونافورة من دخان، بينهما يركض نهار مسافر، نحو الجنوب مسافر، وتحت الرسم مكتوب: أمانة ..
يا بدر ناقص، يا سِنّ ضاحك، فوق رأس الجبل، مكتوب على جبينك كل يوم تموت، ولا تسقط كما أسقَطَ الخريفُ ورقَ التوت، تدوسك المَمحاةُ – ممحاة الزمان – يا أقصرنا عمراً، أمَا يكفيك أنك الأجمل؟
الراوى: صلى على النبى
السامع: اللهم صلى عليك يا نبى
الراوى: شفت القمر عندما ارتجف، بهت لونه، ومات، جاءت الشمس كفّنته فى ابيضاض الكون، ثم سقط على الآلاف من أعواد القصب المُتضامَّة فى استدفاء، قامت صعيديةٌ حَشْوُها الشَّهد، رشيقة ممتلئة فى آن .. ولينة، تمهّلت الشمس فى مهدها، سمِعتها تنادى الدنيا أن تصحو، ثم ارتجَّ عليها، وانخرست، راحت تراقب أختها الأرض، وقد دِيسَت بالآلاف من أقدام الجنود، بأحذيتهم المصقولة السوداء، ذات الثِّقَل، وكلهم يمتشق خيزرانة مُصمَتة، غليظة جافة فى آن وقاسية، ورَتْل من سيارات عالية يقذف بهم فى لا انتهاء. والآلة، رأيت الآلة الضخمة بلا قلب، وقد جاءت فى حمايتهم، تربض هناك وتزوم، نمر تلسعه سياط من لهيب الجوع، تراوده اهتزازة القصب، فيتحفّز عاقداً ما بين حاجبيه، عازماً قطع شوط قنصه، مهما كان الثمن.
والشمس ذات الخرس، التى تمهلت، انعكس سناها على أمواه حفّ بها شاطئان، تتموّج دفقات لكل الحيوات، وسياج من الحلفا والعاقول يحيطهما، يحدّه الزّلط، بين خطين من حديد قد تباين حجماهما، يسير أحدهما بجوار الماء كظله، والآخر الصغير ثعبان، يتلوّى فى بطن الحقول يبتعد تارة، وتارة يقترب، يعلو فوق التِّرَع، يمتطيها، عابراً إيَّاها، أو هو يسير بجوارها، يهبط فى مجرً إسمنتي، حتى يَلِجَ فَتقاً بين جدارين من حديد مصبوب، تعبره القطارات بطاناً، ويعيدها خماصاً.
والشمس ذات الخرس، أصابها إحساس بالغثيان، حين أمسك صاحب النجوم، خصر سيجارته ونادى على الجنود أن انتباه، أتاها صوته قبيحاً، كالتجشؤ. وحين تربَّع الضحى أيضاً، صنع الآلافُ من الجنود حلقةً، التقَت وتمكّنت حول أعواد القصب العزلاء، والآلة، هناك فى عمق المشهد، تلعق فى حُرقة اللذة، حبات العرق المُنعقِدة على سِكّينتها الأمامية، فيصرخ باطنها كالمجذوب.
صوت: لكن أين الفتى؟
السامع: من هو الفتى؟
كورس: زين الشباب، نَصْلُ الحق فى بطن العتام، يسير فلا تسير بجواره الحوائط، تتحسّر النساء حين يمر بهن، العقيمات منهن والأمهات، والعذارى يتلمظن توقاً إليه، تنشرح وجوههن حين يرينه، والفتيان يُطرِقون خجلاً من فتوّته.
صوت: أين (........)؟
السامع: مَن هو (........)؟
كورس: ندى الفجر فى ذُرا القصب، لمسة من حياة ملؤها الطزاجة والبراءة، رقرقة أحلام الفلاحين فى وادينا
صوت: أين هو؟
السامع: ومَن يكون؟
كورس: جذع بلوط عتيق هو، صوته موج النيل فى اندفاعه، قيثارة تنير ظلام قريتنا بنداء الآذان، تتثاءب أسماعنا على صوت ترتيلاته كل صباح، حين تتأوّد أعطاف وادينا الخصيب، يرقص القصب فرِحاً بصوته.
الراوي: مَرّ مِن هنا
كحُبِّ العذراء سِرَّا
كشهوة مكبوتة لمراهق
كتناجى الأحبة فى غسق القرى
صوت: رآه رجال ساهرون فى الحقل للرَّى.
الراوى: لم يكن أيّاً مِنّا ليصدِّق، أنه يحمل عصاه، متوجِّها لمحاربة كل هذا الجيش، حملقوا جميعاً فى وجوم أبلَه، ثم وضع كلُّهم فأسَه تحت رأسه، واحتضن زوجته، ونام.
صوت: لمحه شيخ البلد
الراوى: وهو يفتل شاربه، يسقيه هواء الفجر، حين كانت زوجة شيخ الخَفَر تتزيّن أمام المرآة، تُكمِل جريان المساحيق على وجهها، ساعتَها أقسم إنه قد جُنّ، إذ كان ذاهباً إلى هناك وحدَه.
صوت: شافه شيخ الخفر.
الراوي: وهو يزن بيده ثدى بلهاء، يعطف عليها أهل قريتنا، مقابل أن تساعد نساءهم فى تنظيف البيوت والحظائر، شافه يتحرّك شامخاً كالطّود، تلاحِقه أنوار الأعمدة فيناورها، تطيل ظله تارة، وتارة يهرب منها، فيصير نقطة، رآه شبحاً مُتحقِّقاً من عَزْم لم يعتدّ لرؤيته، فلم يفهمه.
صوت: تعرّف عليه العُمدة
الراوي: وهو يخبّ – العمدة – فى عباءته الصوفية يتهادى كالبطة، قبل أن يعترض طريقه المعتاد، يعرقل سيره، يجبر العمدةَ تقدُّمُه غيرُ المُبَالي أن يقف، يتوقّف، فيشتعل الدم فى عروقه، ولم ينسَه أبداً.
صوت : رآه ناظر المدرسة .
الراوى : وهو يخترق جموع التلاميذ ، وهو يراجع أسماء المدرسين بالدفتر رآه ، وهو يراقب تحية العَلَم فى الصباح رآه ، تعلّق بصدره خوفاً عليه أسرَّ لنفسه أنه لن يرجع أبداً ، وتمنّى أن لو كان معه .
صوت : ورأته حلقة صغيرة من الطَّلَبَة .
الراوى : وهم يراجعون دروسهم فى نور باهت تحت جميزة عتيقة ، نادوا عليه ، حذّروه سوء العاقبة ، ولمّا لم يجدوا منه إصغاء ، مطّ كلٌّ منهم شفتيه دونما اهتمام ، غير أنهم ، يعد أن اختفى .. سَرَت فى قلوبهم رعدة من خزى ، وأسرّوا النجوى ندماً على أنهم لم يكونوا معه .
صوت : وهى أيضاً رأتْه .
الراوى : من فوق سطح دارها ، حين كانت تنشر الملابس ؛ دقّت صدرها خوفاً عليه ، فتساقط قلبها قِطعاً صغيرة ، صغيرة حرّكتها تيارات الهواء لقاحاتٍ ترنو إلى التأبير .
صوت : وشيخ الجامع شافه .
وهو خارج لصلاة الفجر ، شاف فيه رفيقاً مات يوماً على شاطئ القناة ، فقرأ آية الكُرسى ، ونوى أن يتحدّث عنه فى صلاة الجمعة .
كورس : رأته أجيال أخرى فى هسهسات الرَّباب ، بيَدِ شاعر نصف أعمى ، يحكى عن رجال دفنتهم أقدام الزمن ، رأته الصبايا فى أغنيات
الفرح ، فى حكايا العجائز حول نيران الشتاء، تمنّوا جميعاً أن لو عاشوا كما عاش ، وماتوا كما مات .
*
الراوى : ورآه القصب يدافع عنه بلسانه ، وإشارات يديه ، رأى صاحب النجوم يمطّ شفتيه ويزوم ، رآه يعاود الكَرّة ، تلو الكَرّة وهم يحيطون به كالسِّوَار ، لم يَرَ بعدها غير عصيهم تنهال فى تدافُع وتهاو .
رأته القضبان الخرساء ، فى السيارة المُقفَلة، يلعق جراح معركة غير متكافئة ، رأت فى عينيه سطوع وهج العزيمة ، والإصرار على مواصلة تحدّيه .
السامع : مسكينة شمس الشموس ، لم ترَ غير الخزى يغلّف دروب قريتنا ، والناس يبتلعهم بحر السكون ، يحملقون فى اللاشيء، بأبدان مُقشعِرَّة دائماً .
الراوى : صلى على النبى
السامع : اللهم صلى عليك يا نبى
الراوى : كسرت الشمسُ عيون العساكر ، فتحرّكت الآلة للمرّة الألف ، وحشٌ كاسر يبتلع أعواد القصب المُستسلِمة ، دون أن يلوكها يلفظها ، والأرض ، الأرض مفروشة بالآلاف من جثث تنزف عصيراً مُسكّراً ، وصاحب النجوم يفحّ ضحكة صفراء ويعفرم ، ثم يلتفت ذات اليمين وذات اليسار ، كأنه ينتظر ما لا يجئ .
مومياوات بعيون مكسورة رَأَت العساكرَ ، تستنفذ كمية من الهواء النقى كبيرة ، تحوّلها إلى أسَن ، وواحدهم كما خيزرانته ساكناً ينِزّ منه العَرَق، فتتكوّن الأرض الترابية ، حول الجثث ، أشباحاً مِلحيّة لاذعة ، لا تلبث أن تنهدم .
السامع : وأهداب الشمس الطويلات المُنسدِلات ، أخجلاً وحياء أخفَت عين الشمس ، أم حزناً على ما حدث ، وصنعت لون الغروب أحمر ، انعكاس ما سال على الأرض مزيج الدّم والسُّكَّر ، وصرخة انطلقت من عربة مُقفلَة حين واجهَت الطلقات ، سحقتها ، ذرّتها نسائم الهواء رماداً فى عيون مومياوات مكسورة .
الراوى : جاء القمر سِنّاً ضاحك ، فرّق غَزْلَه على أسطح البيوت وأزِّقَّة القرية الخالية ، فسقط من الجدران أشباح غامضة تستلقى على تراب السِّكَك .
كورس : كان الناس ، كل الناس يتحوّلون ، يتخلّقون كائنات أخرى ، لها شكل واحد ، فارق العَسْكَر الأرض ، وجاء الناس يوارون الجُثَّة ترابها .. فأبَت ، وأنار القمر غابة من الخراف ، تكنس بقايا موقعة دامية ، تجوس خطامها ، تأكل بقايا آثار عجلات عربة مُقفلَة ، هربت مُخلِّفة وراءها غابة من الخراف .
السامع : مرسوم على بيت الحبيب ، عجلات قطار ، ونافورة من دخان ، بينهما يركض نهار مسافر ، نحو الجنوب مسافر ، وتحت الرسم مكتوب، أمانة يا بدر ناقص ، يا سِنّ ضاحك ، فوق رأس الجبل تاج ، تهدى حبيبى قُبلَة ، دفقة من موسيقى القلب وإن كنت بالديار جاهلاً ، يكون دليلك : مرسوم على بيت الحبيب ، عجلات قطار ، ونافورة ....