ورسالة الكندي إلى الهاشمي يردُ بها عليه، ويدعوه إلى النصرانية.. تابع ج2

-تابع-

ما عندي من أمر ديني

وأما قولك أن أكتب بما عندي من أمر ديني لتبصر فيه وتجمعه إلى ما في يدك، فما أولاك بذلك وما أجدرك بفعله، لأن الحجة عليك أوجب منها على غيرك، لما قد فضَّلك الله به من العقل والتمييز، ولما عرفته ودرسته من الكتب. والحق أهم أن تفضّله ذوو العقول على الأمور كلها. ونحن نسأله أن ينير عقلك ويفتح عين نفسك لتنظر في ما يمليه علينا الروح القدس، نظراً ينفعك الله به في العاجل والآجل. كما نسأله عزَّ وجل أن يفعل ذلك أيضاً بكل من ينظر في كتابنا هذا.

فلنبدأ الآن بتطهير قلوبنا وأسماعنا وتقديس ألسنتنا بالإخبار عن أسباب البشارة الطاهرة المقدسة، ونصدر بعض شهادات الأنبياء الذين استودعهم الله سرّه وكلمهم بوحيه، وأمرهم بأن يخبروا الناس بما سيكون من إكمال نعمه عندهم وإتمام تفضّله عليهم، ببعث ابنه الحبيب الذي هو كلمته الخالقة، فاتخذ منهم جسداً بشرياً وصار إنساناً يجب له بذلك المجد والسجود والطاعة.

نبوات عن المسيح

قال الله على لسان موسى في التوراة في سفر التكوين إن يعقوب المعروف بإسرائيل الله، لما قرُبت وفاته، دعا أولاده كلهم فباركهم، وأخبرهم بما هو مزمع أن يكون في آخر الزمان، وأودعهم هذا السر. ولم يزل يبارك واحداً فواحداً حتى انتهى إلى يهوذا، الذي من نسله وُلدت المغبوطة مريم أم المسيح مخلص العالم فقال: يَهُوذَا، إِيَّاكَ يَحْمَدُ إِخْوَتُكَ. يَدُكَ عَلَى قَفَا أَعْدَائِكَ. يَسْجُدُ لَكَ بَنُو أَبِيكَ. يَهُوذَا جَرْوُ أَسَدٍ. مِنْ فَرِيسَةٍ صَعِدْتَ يَا ابْنِي. جَثَا وَرَبَضَ كَأَسَدٍ وَكَلَبْوَةٍ. مَنْ يُنْهِضُهُ؟ لَا يَزُولُ قَضِيبٌ مِنْ يَهُوذَا وَمُشْتَرِعٌ مِنْ بَيْنِ رِجْلَيْهِ حَتَّى يَأْتِيَ شِيلُونُ وَلَهُ يَكُونُ خُضُوعُ شُعُوبٍ (تكوين 49:8-10). فانظر في هذا الكلام نظراً روحانياً. هل تليق هذه النبوّة من ذلك الشيخ المبارك إسرائيل إلا على المسيح مخلص العالم؟ لأنه هو الخارج من يهوذا بإنسانيته، وله خضع بنو إسرائيل لما دخلوا في دعوته، وصارت يد الروم التي هي يده على قفا من عاداه من بني إسرائيل، الذين جحدوا ربوبيته وكفروا به فقتلتهم الروم ومزقتهم كل ممزق فلا تقوم لهم قائمة. وهو الذي بُعث من بين الأموات حياً بعد ثلاثة أيام من صلبه، وهو الذي سجد له بنو إسرائيل حيث رأوا الأعاجيب والآيات التي أظهرها بينهم. وهو شبل الليث لأنه ابن الله القوي العزيز الجبار. لم تزل النبوة تترادف في بني إسرائيل حتى جاء المسيح رجاء البشر الذي أنبأت عنه النبوات كلها، فانقطعت النبوات عن يهوذا وبني إسرائيل، فلم يقم نبي بعد مجيئه. وإياه كانت تنتظر الشعوب، وله كانت تترجى الأمم. وكما أنه لا معنى لمجيء الرسل بعد طلوع الملك عليهم، كذلك لا معنى للأنبياء بعد ظهور الإله المسيح، الذي هو بالحقيقة ملك كما سبقت الأنبياء وسمَّته ملكاً، وتنبأ زكريا النبي عنه قائلاً: اِبْتَهِجِي جِدّاً يَا ابْنَةَ صِهْيَوْنَ، اهْتِفِي يَا بِنْتَ أُورُشَلِيمَ. هُوَذَا مَلِكُكِ يَأْتِي إِلَيْكِ. هُوَ عَادِلٌ وَمَنْصُورٌ وَدِيعٌ، وَرَاكِبٌ عَلَى حِمَارٍ وَعَلَى جَحْشٍ ابْنِ أَتَانٍ. وَأَقْطَعُ الْمَرْكَبَةَ مِنْ أَفْرَايِمَ والْفَرَسَ مِنْ أُورُشَلِيمَ وَتُقْطَعُ قَوْسُ الْحَرْبِ. وَيَتَكَلَّمُ بِالسَّلَامِ لِلْأُمَمِ، وَسُلْطَانُهُ مِنَ الْبَحْرِ إِلَى الْبَحْرِ، وَمِنَ النَّهْرِ إِلَى أَقَاصِي الْأَرْضِ (زكريا 9:9 ، 10).

فهل تصدق هذه النبوة إلا على المسيح؟ إنه جاء بالبر والخلاص والتواضع، ثم أباد بمجيئه من أورشليم التي هي صهيون جميع ما كان فيها من المراكب والخيل المعدَّة للحرب، وانكسرت القسي التي هي من آلات القتال ودالة عليه، وركب جحشاً ابن اتان تواضُعاً، وكلّم الأمم الذين هم الشعوب بالسلم والأمان، وأدخلهم في ميراث دعوته، وجعلهم أبناء ملكوت السماء الذي هو موعد الله تبارك اسمه.

وهذا داود النبي وهو لسان الله يقول مصرحاً: ( لرَّبِّ) قَالَ لِي: أَنْتَ ابْنِي. أَنَا الْيَوْمَ وَلَدْتُكَ. اِسْأَلْنِي فَأُعْطِيَكَ الْأُمَمَ مِيرَاثاً لَكَ وَأَقَاصِيَ الْأَرْضِ مُلْكاً لَكَ (مزمور 2:7 ، 8). أي إنهم مزمعون أن يدخلوا في دعوته وطاعته، وإن سلطانه يمتد إلى أقاصي الأرض. وقال أيضاً: فَا لْآنَ يَا أَيُّهَا الْمُلُوكُ تَعَقَّلُوا. تَأَدَّبُوا يَا قُضَاةَ الْأَرْضِ. اعْبُدُوا الرَّبَّ بِخَوْفٍ واهْتِفُوا بِرَعْدَةٍ. قَبِّلُوا الِا بْنَ لِئَلَّا يَغْضَبَ فَتَبِيدُوا مِنَ الطَّرِيقِ. لِأَنَّهُ عَنْ قَلِيلٍ يَتَّقِدُ غَضَبُهُ. طُوبَى لِجَمِيعِ الْمُتَّكِلِينَ عَلَيْهِ (مزمور 2:10-12). ومعنى ذلك: اقبلوا ما يأتيكم به الابن وهو المسيح ويقوله لكم، فإنكم إن لم تقبلوا ذلك غضب فيهلككم بغضبه، لأنه بعد قليل يشتد غضبه على اليهود الجاحدين لربوبيته، الذين لم يقبلوا منه ما قال فهلكوا وبدد شملهم. وطوبى للمتوكلين عليه، أي المؤمنين به والمصدقين لقوله.

وقال داود أيضاً: قَالَ الرَّبُّ لِرَبِّي: اجْلِسْ عَنْ يَمِينِي حَتَّى أَضَعَ أَعْدَاءَكَ مَوْطِئاً لِقَدَمَيْكَ . يُرْسِلُ الرَّبُّ قَضِيبَ عِّزِكَ مِنْ صِهْيَوْنَ. تَسَلَّطْ فِي وَسَطِ أَعْدَائِكَ (مزمور 110:1 ، 2). فافهم قول النبي داود هذا، فإن فيه سراً يحتاج إلى معرفته كل ناظر في كتابنا هذا ليصح عنده الأمر.. فأقول إن عادة العبرانيين منذ عهد موسى أن الأحرف التي يكتبون بها اسم الله أحرف منفردة لا يكتبون بها شيئاً غير ذلك. ففي قول داود عن الله قال الرب لربي هما اسمان مكتوبان بالأحرف التي تسمَّى المنفردة، التي لا يُكتب بها إلا اسم الله. فهذا عند اليهود والنصارى (وهما أمتان متعاديتان) لا اختلاف بينهما فيه. فافهم السر الذي ألهم الله به نبيّه، تجدْهُ تصريحاً لقوله: قال الرب لربي .

وقال في موضع آخر: لِأَنَّهُ أَشْرَفَ مِنْ عُلْوِ قُدْسِهِ. الرَّبُّ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ نَظَرَ لِيَسْمَعَ أَنِينَ الْأَسِيرِ، لِيُطْلِقَ بَنِي الْمَوْتِ (مزمور 102:19 ، 20). ومعناه موت الخطيئة الذي هو عبادة الأصنام وانقطاع الرجاء من موعد الحياة الدائمة التي بشر بها المسيح مخلصنا أنه يعطينا إياها يوم القيامة. قال: لِكَيْ يُحَدَّثَ فِي صِهْيَوْنَ بِاسْمِ الرَّبِّ وَبِتَسْبِيحِهِ فِي أُورُشَلِيمَ عِنْدَ اجْتِمَاعِ الشُّعُوبِ مَعاً والْمَمَالِكِ لِعِبَادَةِ الرَّبِّ (مزمور 102:21 ، 22). فقد كملت نبوّة داود. وهذه أورشليم تجتمع فيها الأمم يمجدون اسم الرب أي اسم الآب والابن والروح القدس، يمجدونه بأنواع التماجيد وأصناف التسابيح، بالألسن المختلفة واللغات الغريبة آناء الليل والنهار، وقد جاءوا من البلدان الشاسعة وجميع أقطار الأرض البعيدة.

وهذا إشعياء المغبوط قد تنبأ قائلاً: شَدِّدُوا الْأَيَادِيَ الْمُسْتَرْخِيَةَ، والرُّكَبَ الْمُرْتَعِشَةَ ثَبِّتُوهَا. قُولُوا لِخَائِفِي الْقُلُوبِ: تَشَدَّدُوا لَا تَخَافُوا. هُوَذَا إِلَهُكُمُ. الا ِنْتِقَامُ يَأْتِي. جِزَاءُ اللّ هِ. هُوَ يَأْتِي وَيُخَلِّصُكُمْ . حِينَئِذٍ تَتَفَتَّحُ عُيُونُ الْعُمْيِ، وَآذَانُ الصُّمِّ تَتَفَتَّحُ. حِينَئِذٍ يَقْفِزُ الْأَعْرَجُ كَا لْإِيَّلِ وَيَتَرَنَّمُ لِسَانُ الْأَخْرَسِ (إشعياء 35:3-6). وكتابك يشهد أن المسيح الإله قد فعل هذا كله، وأنه أبرأ المقعد الذي كانت قد أتت عليه ثمان وثلاثون سنة فقال له: قُمِ. احْمِلْ سَرِيرَكَ وامْشِ (يوحنا 5:5) فقام عاجلاً ومضى. وهو الذي ابرأ الأبرص والأخرس الأبكم المعتوه.

وقال إشعياء النبي أيضاً في موضع آخر مشيراً إلى مولد المسيح: يُعْطِيكُمُ السَّيِّدُ نَفْسُهُ آيَةً: هَا الْعَذْرَاءُ تَحْبَلُ وَتَلِدُ ابْناً وَتَدْعُو اسْمَهُ عِمَّانُوئِيلَ (إشعياء 7:14). ومعنى عمانوئيل الله معنا . فأي شيء يكون أكثر توضيحاً من هذا؟ فهذه بعض النبوات التي تنبأ بها الأنبياء عن مجيء السيد المسيح محيي العالم. وكنا نريد أن نزيد من الشهادات، ولكن في ما أتيناه كفاية لمن يعاند الحق ويظلم نفسه.

تحريف الإنجيل

ولقد ذكرت التحريف واحتججت علينا بأننا حرَّفنا الكلم عن مواضعه وبدلنا الكتاب، وكأن هذا القول جعلته كهفاً تستتر به. وإني لأخبرك خبراً حقاً، فاسمعه مني واقبله، فإن قولي ليس قول باغٍ ولا حاسدٍ ولا متعنتٍ معاند. أنت تعلم أننا نحن واليهود (الذين ينكرون مجيء المسيح نور العالم وضياء الدنيا) قد اجتمعنا عن غير تواطؤ على صحة هذا الكتاب، وأنه منزَل من عند الله، لا تحريف فيه ولا تبديل، ولم تلحقه زيادة ولا نقصان. وإلا فنحن ندعوك أنت أيها المدّعي علينا التحريف والتبديل (إن كنت صادقاً) بكتابٍ غير محرَّف ولا مبدَّل، يشهد لك على صحة الآيات العجيبة كما شهدت الأعاجيب للأنبياء والرسل حيث جاءونا بصحة هذا الكتاب، فقبلنا ذلك منهم، وهو في أيدينا وأيدي اليهود بلا زيادة ولا نقصان. وإني أعلم أنك لا تقدر على ذلك أبداً. وكتابك يشهد بصحة ما في أيدينا شهادة قاطعة، إذ يقول فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك، فاسأل الذين يقرأون الكتاب من قبلك. لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين (يونس 94). ثم فسر هذا القول وأكَّده، معترفاً لنا بالفضيلة التي أُوتيناها قائلاً: الَّذِينَ آتيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (سورة البقرة 2:121). شهد لنا كتابك بحق التلاوة في موضع تكون فيه تلاوتنا، وقد أمر أن نُسأل ويُقبَل منا كل ما نقوله. فكيف تقول إنه قد وقع منا التبديل والتحريف للكلم عن مواضعه؟ فهذان حكمان متناقضان. فما بالك تشنّع علينا وتقول إننا حرّفنا الكتاب وبدّلنا تنزيل الله وغيَّرنا كلامه، ونحن نتلوه حق تلاوته كما شهد لنا صاحبك. فانصف واطلب رضى ربك، وانظر من هو المحرِّف والمبدِّل، أنحن الذين أخذنا الكتاب عن قوم برهنوا صحته بالمعجزات الإلهية التي لا يستطيعها البشر، واتفقت عليه الأمم المختلفة الألسن والأهواء والديانات والبلدان البعيدة الذين لا يمكن أن يقع بينهم في مثله تواطؤ، أم الذي قبل كتاباً بلا حجة ولا دليل ولا شهادة عن نبي ولا أعجوبة تشهد له، وإنما تناوله عن ناقل نقله بلسانه ولسان أهل بلده فقط، فجعل ذلك برهاناً له، وزعم أن الكتاب الذي هذه حاله وقصته يجري مجرى فَلْق البحر وإحياء الموتى وإبراء الكمه والبرص وإقامة المقعَدين، وأخذه لذلك الكتاب عن قومٍ كانت بينهم الضغائن، وكلٌّ منهم زاد فيه ونقص وبدل وغيَّر، واجترأ حتى نسبه إلى الله تعالى، وزعم أنه دليلٌ على نبوّة نبيّه، وأنه شاهد عدل له بأنه رسول رب العزة. ثم لم يرض بهذا، بل تعدَّاه وقال: من لا يقبل كتابي هذا ويقول إنه منزل من عند الله، وإني نبي مرسَل، قتلته وسلبته ماله وسبيت ذراريه واستبحْتُ حريمه! فقبل ذلك منه كرهاً وخوفاً لما توعَّده به من البلاء والشقاء، بلا حجة ولا برهان.

معجزات المسيح

فلننظر الآن في الآيات التي جاء بها المسيح سيدنا، الدالة على سلطان ألوهيته وقدرة ربوبيته، فنقول إن أول ذلك أن الله الرحيم المتفضل على خلقه اختار من جنس آدم عذراء زكية طاهرة مقدسة نقية لا عيب فيها، لا في نفسها ولا في بدنها، ليحل فيها كلمته وروحه ويأخذ منها جسداً بشرياً تاماً فيتحد به ويخاطبنا. وجعل المبشِّر لها جبرائيل رئيس الملائكة، ائتمنه على هذه البشارة وفضَّله على سائر أجناد السماء ببعثه إياه رسولاً إلى سيدة نساء العالمين مريم المغبوطة بنت يواكيم والدة يسوع المسيح المخلص، فجاءها مبشِّراً من عند الله مكرِّماً ومهنِّئاً وقال: سلام لك أيتها المنعَم عليها. الرب معك .. ها أنت ستحبلين وتلدين ابناً وتسمينه يسوع (الذي تفسيره المخلِّص) هذا يكون عظيماً، وابن العلي يُدعى، ويعطيه الرب الإله كرسيَّ داود أبيه ويملك على بيت يعقوب إلى الأبد، ولا يكون لملكه نهاية . خاطبها جبرائيل بهذا فتعجبت وسألت: كيف يكون هذا وأنا لست أعرف رجلاً؟ فأجابها جبرائيل: الروح القدس يحل عليك وقوة العلي تظللك، فلذلك أيضاً القدوس المولود منك يُدعى ابن الله . ثم أعقب قوله ذلك بإعطائها الدليل لتزداد يقيناً ولا ترتاب بقوله: وهوذا أليصابات نسيبتك هي أيضاً حبلى بابن في شيخوختها، وهذا هو الشهر السادس لتلك المدعوَّة عاقراً . فهذه أعجوبة البشارة التي لا تكون ولا يليق مثلها إلا بهذا السيد المخلص. ويقول صاحبك: وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ واصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ واسْجُدِي وارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ,,, إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا والْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ والْحِكْمَةَ والتَّوْرَاةَ والْإِنْجِيلَ وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِا~يَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرَاً بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ والْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِا~يَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَا تَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (آل عمران 3:42 و43 و45-50). فهذا قول صاحبك وشهادته وإقراره بالحق مذعناً ومصدقاً.

ثم إن مريم الطاهرة المباركة صارت إلى أم يحيى بن زكريا، وقد كانت هي وزوجها بارين تقيين عندما حبلت بيوحنا. فلما قرعت باب منزلها بالتسليم عليها اضطرب الجنين في أحشائها فرحاً، وهتفت أمه بصوت عال قائلة: مِنْ أَيْنَ لِي ه ذَا أَنْ تَأْتِيَ أُمُّ رَبِّي إِلَيَّ؟ فَهُوَذَا حِينَ صَارَ صَوْتُ سَلَامِكِ فِي أُذُنَيَّ ارْتَكَضَ الْجَنِينُ بِابْتِهَاجٍ فِي بَطْنِي (لوقا 1:39-44). ومن قول صاحبك في زكريا هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ فَنَادَتْهُ المَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِنَ الصَّالِحِينَ (سورة آل عمران 3:38 ، 39). والمسيح هو كلمة الله وسيد ذرية آدم عليه السلام، فإن مصدقاً صفة ليوحنا، ولكن كلمة الله وسيداً ليست بصفة ليوحنا لأنه لم يؤمن بيوحنا أنه كلمة الله ولا كان سيداً. فأما حصوراً ونبياً ومن الصالحين فمن صفات يوحنا، لأنه كان نبياً وحصوراً ومن الصالحين.

ثم إنه ظهر الكوكب للمجوس في بلاد فارس ليدلهم على ميلاد الملك العظيم الذي لا زوال لملكه، وكان علماؤهم قد سبقوا فأخبروهم بخبره في الكتب وعرفوهم وقت ظهوره وأعطوهم الدليل على ذلك، والعلامة: ظهور كوكب يتقدمهم في المسير إليه وقضاء بعض حق عبادته بالسجود له والخضوع لطاعته. فلم يزل المجوس ينتظرون ذلك ويتوقعونه راجين ومؤمّلين حتى جاء الوقت وظهر الكوكب الذي هو الدليل على ميلاد السيد العظيم (متى 2:1-12). فجاءوا من بلاد فارس إلى بيت المقدس الذي هو أرض اليهودية بهداية الكوكب، حتى وقف ببيت لحم، فقضوا الغرض وأدّوا حق الطاعة، ورأوا ما كانوا يؤملونه وانصرفوا مؤمنين غير شاكين ولا مرتابين، بل فرحين مسرورين. ثم ظهر ملاك عند ولادته لقوم من الرعاة كانوا يرعون أغنامهم (لوقا 2:8-20). فقال لهم: هَا أَنَا أُبَشِّرُكُمْ بِفَرَحٍ عَظِيمٍ يَكُونُ لِجَمِيعِ الشَّعْبِ: أَنَّهُ وُلِدَ لَكُمُ الْيَوْمَ فِي مَدِينَةِ دَاوُدَ مُخَلِّصٌ (يعني لأولاد آدم جميعاً) هُوَ الْمَسِيحُ الرَّبُّ. وَه ذِهِ لَكُمُ الْعَلَامَةُ: تَجِدُونَ طِفْلاً مُقَمَّطاً مُضْجَعاً فِي مِذْوَدٍ . فلم يفرغ من كلامه حتى ظهرت لهم أجناد الملائكة مع ذلك الملاك وهي تطير ما بين السماء والأرض بتهليل وترتيل، وتهتف جميعاً بصوت عال وتسبح وتقول: المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام، وبالناس المسرة . ثم أقبل الرعاة إلى ذلك الموضع مسرعين فوجدوا المولود في مذود كما أخبرهم الملاك، فصدقوا وآمنوا وأخبروا بخبرهم وما عاينوه من أجناد الملائكة وما سمعوه من التسبيح العجيب، وقصّوا قصة مجيئهم فتعجب من ذلك كل من سمع. فهذه قصة البشارة والميلاد على غاية الاقتصار من القول.

وإليك ملخصاً كيف كان ابتداء الدعوة، فنقول: لما أتت على سيدنا المسيح ثلاثون سنة وظهر يحيى بن زكريا بتلك المعمودية بماء نهر الأردن التي للتوبة، ذهب المسيح إليه ليعتمد منه. فلما رآه يحيى قال: هُوَذَا حَمَلُ اللّ هِ الَّذِي يَرْفَعُ خَطِيَّةَ الْعَالَمِ (يوحنا 1:29). ثم قال: أنا محتاج أن أعتمد منك، وأنت تأتي إليَّ! فأجابه المسيح: اسمح الآن، لأنه هكذا يليق بنا أن نكمل كل بر . ثم لم يزل مجتهداً حتى عمّده. فلما صعد المسيح من الماء انفتحت أبواب السماء ظاهراً تجاه الذين كانوا هناك، فرأوا الروح القدس قد حلّ عليه في صورة حمامة، وإذا بهاتفٍ يهتف من السماء بصوت عال: هذا هو ابني الحبيب الذي به سُررت . فتعجب لذلك يحيى بن زكريا وجميع من حضر.

ثم ابتدأ المسيح في إظهار دعوته الناس بعد ذلك، إلى اليوم الذي صعد فيه إلى السماء، وحثَّهم على التوبة ورفض الدنيا والزهد فيها وترك الأهل والولد والأموال واللحوق به والترغيب في أعمال البر والكفّ عن المآثم والتحبيب في عمل المعروف للجميع، وترك الضغائن والحسد والأخذ بالثأر وترك معاقبة المسيء والصفح عنه والتفضل على كل واحد بما هو حسن. وأعلمهم أن هذا يقرّبهم إلى الله تبارك اسمه، وحثَّهم على فعل ذلك ليستحقوا به جزيل الثواب وعظيم الأجر في دار المآب التي لا زوال لحياتها ولا انقطاع لنعيمها، وأنذرهم بالبعث والنشور والقيام بعد الموت للحساب والثواب والعقاب. فمن عمل صالحاً فله ثواب ذلك في ملكوت السماء، ومن عمل شراً فعليه العقاب في نار جهنم خالداً فيها أبداً. وحقق قوله بعمله الأعاجيب والدلائل الواضحة التي لا يمكن للبشر أن يأتوا بمثلها، وذلك بغاية الرفق والتواضع لا يطلب على ذلك من أحد أجراً ولا شكراً إلا تمجيد الله الذي وعد بأنبيائه وتفضّل على آدم وذريته إذ بعث إليهم كلمته متجسداً، وأنقذهم من ضلالة الشيطان وسلطان الموت وعرَّفهم نفسه أنه إله واحد ذو ثلاثة أقانيم: آب وابن وروح قدس. فكان أول ما دعاهم به قوله: قَدْ كَمَلَ الّزَمَانُ واقْتَرَبَ مَلَكُوتُ اللّ هِ، فَتُوبُوا وَآمِنُوا بِالْإِنْجِيلِ (مرقس 1:15). فأوعى في آذانهم ذكر التوبة والبعْث اللذين لا عهد لهم بهما ولا يعرفونهما، ورغَّبهم في ملكوت السماء ليعملوا أعمالاً يستحقون بها الدخول إليها، وزهَّدهم في الأفعال التي كانوا مقيمين عليها والرجوع عنها إلى الأمر الذي يوجب لهم مغفرة الخطايا.

وصام أربعين يوماً بلياليها تخدمه فيها الملائكة وتتعبد له، وهو يجاهد في صومه كيد الشيطان معرِّفاً للناس أن الله قادر على أن يحيي الإنسان بغير خبز ولا ماء، ممثلاً في ذلك حال حياتنا بعد الموت في القيامة، وأنه في ذلك الوقت ترتفع عنا الحاجات كلها ونحيا بلا أكل ولا شرب.

ثم ابتدأ المسيح في فرض الشرائع والسنن الروحانية وتعليم الشرائع الإلهية التي تليق بالإله، ونفي الأمور الجسدانية. فكان من قوله في القتل: قَدْ سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ لِلْقُدَمَاءِ: لَا تَقْتُلْ، وَمَنْ قَتَلَ يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ الْحُكْمِ. وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ كُلَّ مَنْ يَغْضَبُ عَلَى أَخِيهِ بَاطِلاً يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ الْحُكْمِ، وَمَنْ قَالَ لِأَخِيهِ: رَقَا يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ الْمَجْمَعِ، وَمَنْ قَالَ: يَا أَحْمَقُ يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ نَارِ جَهَنَّمَ. فَإِنْ قَدَّمْتَ قُرْبَانَكَ إِلَى الْمَذْبَحِ، وَهُنَاكَ تَذَكَّرْتَ أَنَّ لِأَخِيكَ شَيْئاً عَلَيْكَ، فَا تْرُكْ هُنَاكَ قُرْبَانَكَ قُدَّامَ الْمَذْبَحِ، واذْهَبْ أَّوَلاً اصْطَلِحْ مَعَ أَخِيكَ، وَحِينَئِذٍ تَعَالَ وَقَدِّمْ قُرْبَانَكَ . فقطع بهذه الشريعة أصل العداوة وأسباب البغضة التي تنمي القتل. ثم قال: قَدْ سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ لِلْقُدَمَاءِ: لَا تَزْنِ. وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ كُلَّ مَنْ يَنْظُرُ إِلَى امْرَأَةٍ لِيَشْتَهِيَهَا، فَقَدْ زَنَى بِهَا فِي قَلْبِهِ . فدلّنا بهذا أن الله عارفٌ بالظاهر والباطن، لا تخفى عليه خافية، وهو المكافئ على السر علانية. ثم قال: وَقِيلَ: مَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فَلْيُعْطِهَا كِتَابَ طَلَاقٍ وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ مَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ إِلَّا لِعِلَّةِ الّزِنَى يَجْعَلُهَا تَزْنِي، وَمَنْ يَتَزَّوَجُ مُطَلَّقَةً فَإِنَّهُ يَزْنِي . ثم قال في ذمّ الكذب: أَيْضاً سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ لِلْقُدَمَاءِ:لَا تَحْنَثْ، بَلْ أَوْفِ لِلرَّبِّ أَقْسَامَكَ. وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: لَا تَحْلِفُوا الْبَتَّةَ، لَا بِالسَّمَاءِ لِأَنَّهَا كُرْسِيُّ اللّ هِ، وَلَا بِالْأَرْضِ لِأَنَّهَا مَوْطِئُ قَدَمَيْهِ، وَلَا بِأُورُشَلِيمَ لِأَنَّهَا مَدِينَةُ الْمَلِكِ الْعَظِيمِ. وَلَا تَحْلِفْ بِرَأْسِكَ، لِأَنَّكَ لَا تَقْدِرُ أَنْ تَجْعَلَ شَعْرَةً وَاحِدَةً بَيْضَاءَ أَوْ سَوْدَاءَ. بَلْ لِيَكُنْ كَلَامُكُمْ: نَعَمْ نَعَمْ، لَا لَا. وَمَا زَادَ عَلَى ذ لِكَ فَهُوَ مِنَ الشِّرِّيرِ . ثم قال في الترغيب في الصفح والامتناع من الانتقام: سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ: عَيْنٌ بِعَيْنٍ وَسِنٌّ بِسِنٍّ. وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: لَا تُقَاوِمُوا الشَّرَّ، بَلْ مَنْ لَطَمَكَ عَلَى خَدِّكَ الْأَيْمَنِ فَحَّوِلْ لَهُ الْآخَرَ أَيْضاً. وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُخَاصِمَكَ وَيَأْخُذَ ثَوْبَكَ فَا تْرُكْ لَهُ الرِّدَاءَ أَيْضاً. وَمَنْ سَخَّرَكَ مِيلاً وَاحِداً فَا ذْهَبْ مَعَهُ اثْنَيْنِ. مَنْ سَأَلَكَ فَأَعْطِهِ، وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَقْتَرِضَ مِنْكَ فَلَا تَرُدَّهُ . فقطع بهذه الوصية سبيل الخصومات وبرّد نار الملاحمات ورفع الشر القاطع بين الناس وقرَّب بعضهم من بعض وجمع بينهم بالتحابب، وألان قساوة الغلظة، وآنس وحشتها، وجعل الناس إخوة في الرحمة والشفقة. وقال في التفضل والإحسان: سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ: تُحِبُّ قَرِيبَكَ وَتُبْغِضُ عَدُّوَكَ. وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ. بَارِكُوا لَاعِنِيكُمْ. أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ، وَصَلُّوا لِأَجْلِ الَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ وَيَطْرُدُونَكُمْ، لِكَيْ تَكُونُوا أَبْنَاءَ أَبِيكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ، فَإِنَّهُ يُشْرِقُ شَمْسَهُ عَلَى الْأَشْرَارِ والصَّالِحِينَ، وَيُمْطِرُ عَلَى الْأَبْرَارِ والظَّالِمِينَ. لِأَنَّهُ إِنْ أَحْبَبْتُمُ الَّذِينَ يُحِبُّونَكُمْ، فَأَيُّ أَجْرٍ لَكُمْ؟ أَلَيْسَ الْعَشَّارُونَ أَيْضاً يَفْعَلُونَ ذ لِكَ؟ وَإِنْ سَلَّمْتُمْ عَلَى إِخْوَتِكُمْ فَقَطْ، فَأَيَّ فَضْلٍ تَصْنَعُونَ؟ أَلَيْسَ الْعَشَّارُونَ أَيْضاً يَفْعَلُونَ ه كَذَا؟ فَكُونُوا أَنْتُمْ كَامِلِينَ كَمَا أَنَّ أَبَاكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ هُوَ كَامِلٌ . ثم قال في البر: اِحْتَرِزُوا مِنْ أَنْ تَصْنَعُوا صَدَقَتَكُمْ قُدَّامَ النَّاسِ لِكَيْ يَنْظُرُوكُمْ، وَإِلَّا فَلَيْسَ لَكُمْ أَجْرٌ عِنْدَ أَبِيكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ. فَمَتَى صَنَعْتَ صَدَقَةً فَلَا تُصَّوِتْ قُدَّامَكَ بِالْبُوقِ، كَمَا يَفْعَلُ الْمُرَاؤُونَ فِي الْمَجَامِعِ وَفِي الْأَزِقَّةِ، لِكَيْ يُمَجَّدُوا مِنَ النَّاسِ. اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُمْ قَدِ اسْتَوْفَوْا أَجْرَهُمْ! وَأَمَّا أَنْتَ فَمَتَى صَنَعْتَ صَدَقَةً فَلَا تُعَرِّفْ شِمَالَكَ مَا تَفْعَلُ يَمِينُكَ، لِكَيْ تَكُونَ صَدَقَتُكَ فِي الْخَفَاءِ. فَأَبُوكَ الَّذِي يَرَى فِي الْخَفَاءِ هُوَ يُجَازِيكَ عَلَانِيَةً. ثم قال:éوَمَتَى صَلَّيْتَ فَلَا تَكُنْ كَا لْمُرَائِينَ، فَإِنَّهُمْ يُحِبُّونَ أَنْ يُصَلُّوا قَائِمِينَ فِي الْمَجَامِعِ وَفِي زَوَايَا الشَّوَارِعِ، لِكَيْ يَظْهَرُوا لِلنَّاسِ. اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُمْ قَدِ اسْتَوْفَوْا أَجْرَهُمْ! وَأَمَّا أَنْتَ فَمَتَى صَلَّيْتَ فَا دْخُلْ إِلَى مِخْدَعِكَ وَأَغْلِقْ بَابَكَ، وَصَلِّ إِلَى أَبِيكَ الَّذِي فِي الْخَفَاءِ. فَأَبُوكَ الَّذِي يَرَى فِي الْخَفَاءِ يُجَازِيكَ عَلَانِيَةً. وَحِينَمَا تُصَلُّونَ لَا تُكَرِّرُوا الْكَلَامَ بَاطِلاً كَا لْأُمَمِ، فَإِنَّهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّهُبِكَثْرَةِ كَلَامِهِمْ يُسْتَجَابُ لَهُمْ. فَلَا تَتَشَبَّهُوا بِهِمْ. لِأَنَّ أَبَاكُمْ يَعْلَمُ مَا تَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ قَبْلَ أَنْ تَسْأَلُوهُ . ثم قال: وَمَتَى صُمْتُمْ فَلَا تَكُونُوا عَابِسِينَ كَا لْمُرَائِينَ، فَإِنَّهُمْ يُغَيِّرُونَ وُجُوهَهُمْ لِكَيْ يَظْهَرُوا لِلنَّاسِ صَائِمِينَ. اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُمْ قَدِ اسْتَوْفَوْا أَجْرَهُمْ. وَأَمَّا أَنْتَ فَمَتَى صُمْتَ فَا دْهُنْ رَأْسَكَ واغْسِلْ وَجْهَكَ، لِكَيْ لَا تَظْهَرَ لِلنَّاسِ صَائِماً، بَلْ لِأَبِيكَ الَّذِي فِي الْخَفَاءِ. فَأَبُوكَ الَّذِي يَرَى فِي الْخَفَاءِ يُجَازِيكَ عَلَانِيَةً .

ثم قال في ذمّ الشَّره والحرص والبخل: لَا تَكْنِزُوا لَكُمْ كُنُوزاً عَلَى الْأَرْضِ حَيْثُ يُفْسِدُ السُّوسُ والصَّدَأُ، وَحَيْثُ يَنْقُبُ السَّارِقُونَ وَيَسْرِقُونَ. بَلِ اكْنِزُوا لَكُمْ كُنُوزاً فِي السَّمَاءِ، حَيْثُ لَا يُفْسِدُ سُوسٌ وَلَا صَدَأٌ، وَحَيْثُ لَا يَنْقُبُ سَارِقُونَ وَلَا يَسْرِقُونَ، لِأَنَّهُ حَيْثُ يَكُونُ كَنْزُكَ هُنَاكَ يَكُونُ قَلْبُكَ أَيْضاً . ثم قال: لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَخْدِمَ سَيِّدَيْنِ، لِأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يُبْغِضَ الْوَاحِدَ وَيُحِبَّ الْآخَرَ، أَوْ يُلَازِمَ الْوَاحِدَ وَيَحْتَقِرَ الْآخَرَ. لَا تَقْدِرُونَ أَنْ تَخْدِمُوا اللّ هَ والْمَالَ. لِذ لِكَ أَقُولُ لَكُمْ: لَا تَهْتَمُّوا لِحَيَاتِكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَبِمَا تَشْرَبُونَ، وَلَا لِأَجْسَادِكُمْ بِمَا تَلْبَسُونَ. أَلَيْسَتِ الْحَيَاةُ أَفْضَلَ مِنَ الطَّعَامِ، والْجَسَدُ أَفْضَلَ مِنَ اللِّبَاسِ؟ اُنْظُرُوا إِلَى طُيُورِ السَّمَاءِ: إِنَّهَا لَا تَزْرَعُ وَلَا تَحْصُدُ وَلَا تَجْمَعُ إِلَى مَخَازِنَ، وَأَبُوكُمُ السَّمَاوِيُّ يَقُوتُهَا. أَلَسْتُمْ أَنْتُمْ بِالْحَرِيِّ أَفْضَلَ مِنْهَا؟ وَمَنْ مِنْكُمْ إِذَا اهْتَمَّ يَقْدِرُ أَنْ يَزِيدَ عَلَى قَامَتِهِ ذِرَاعاً وَاحِدَةً؟ وَلِمَاذَا تَهْتَمُّونَ بِاللِّبَاسِ؟ تَأَمَّلُوا زَنَابِقَ الْحَقْلِ كَيْفَ تَنْمُو! لَا تَتْعَبُ وَلَا تَغْزِلُ. وَل كِنْ أَقُولُ لَكُمْ إِنَّهُ وَلَا سُلَيْمَانُ فِي كُلِّ مَجْدِهِ كَانَ يَلْبَسُ كَوَاحِدَةٍ مِنْهَا. فَإِنْ كَانَ عُشْبُ الْحَقْلِ الَّذِي يُوجَدُ الْيَوْمَ وَيُطْرَحُ غَداً فِي التَّنُّورِ، يُلْبِسُهُ اللّ هُ ه كَذَا، أَفَلَيْسَ بِالْحَرِيِّ جِدّاً يُلْبِسُكُمْ أَنْتُمْ يَا قَلِيلِي الْإِيمَانِ؟ فَلَا تَهْتَمُّوا قَائِلِينَ: مَاذَا نَأْكُلُ، أَوْ مَاذَا نَشْرَبُ، أَوْ مَاذَا نَلْبَسُ؟ فَإِنَّ ه ذِهِ كُلَّهَا تَطْلُبُهَا الْأُمَمُ. لِأَنَّ أَبَاكُمُ السَّمَاوِيَّ يَعْلَمُ أَنَّكُمْ تَحْتَاجُونَ إِلَى ه ذِهِ كُلِّهَا. ل كِنِ اطْلُبُوا أَّوَلاً مَلَكُوتَ اللّ هِ وَبِرَّهُ، وَه ذِهِ كُلُّهَا تُزَادُ لَكُمْ . ثم قال في اغتياب الناس: لَا تَدِينُوا لِكَيْ لَا تُدَانُوا، لِأَنَّكُمْ بِالدَّيْنُونَةِ الَّتِي بِهَا تَدِينُونَ تُدَانُونَ، وَبِالْكَيْلِ الَّذِي بِهِ تَكِيلُونَ يُكَالُ لَكُمْ. وَلِمَاذَا تَنْظُرُ الْقَذَى الَّذِي فِي عَيْنِ أَخِيكَ، وَأَمَّا الْخَشَبَةُ الَّتِي فِي عَيْنِكَ فَلَا تَفْطَنُ لَهَا؟ أَمْ كَيْفَ تَقُولُ لِأَخِيكَ: دَعْنِي أُخْرِجِ الْقَذَى مِنْ عَيْنِكَ، وَهَا الْخَشَبَةُ فِي عَيْنِكَ. يَا مُرَائِي، أَخْرِجْ أَّوَلاً الْخَشَبَةَ مِنْ عَيْنِكَ، وَحِينَئِذٍ تُبْصِرُ جَيِّداً أَنْ تُخْرِجَ الْقَذَى مِنْ عَيْنِ أَخِيكَ! . ثم قال في الطلب والتضرع إلى الله جل وعز ووعده بالإجابة: اِسْأَلُوا تُعْطَوْا. اُطْلُبُوا تَجِدُوا. اِقْرَعُوا يُفْتَحْ لَكُمْ. لِأَنَّ كُلَّ مَنْ يَسْأَلُ يَأْخُذُ، وَمَنْ يَطْلُبُ يَجِدُ، وَمَنْ يَقْرَعُ يُفْتَحُ لَهُ. أَمْ أَيُّ إِنْسَانٍ مِنْكُمْ إِذَا سَأَلَهُ ابْنُهُ خُبْزاً، يُعْطِيهِ حَجَراً؟ وَإِنْ سَأَلَهُ سَمَكَةً، يُعْطِيهِ حَيَّةً؟ فَإِنْ كُنْتُمْ وَأَنْتُمْ أَشْرَارٌ تَعْرِفُونَ أَنْ تُعْطُوا أَوْلَادَكُمْ عَطَايَا جَيِّدَةً، فَكَمْ بِالْحَرِيِّ أَبُوكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ، يَهَبُ خَيْرَاتٍ لِلَّذِينَ يَسْأَلُونَهُ! . ثم قال في اصطناع المعروف إلى الناس: فَكُلُّ مَا تُرِيدُونَ أَنْ يَفْعَلَ النَّاسُ بِكُمُ افْعَلُوا ه كَذَا أَنْتُمْ أَيْضاً بِهِمْ، لِأَنَّ ه ذَا هُوَ النَّامُوسُ والْأَنْبِيَاءُ . (مقتطفات من موعظة المسيح على الجبل - من إنجيل متى أصحاحات 5-7).

أبونا السماوي

ولعل منتقداً يعيب ألفاظ الإنجيل في إطلاق المسيح لقب الأب على الله. فنجيبه أن المسيح أراد أن يحبّب طاعة الله إلى الناس ويقرّبها من قلوبهم، لتكون طاعتهم له بالمحبة والمودة لا بالقهر والرهبة، وأن يؤلف بين قلوبهم ويُخرج العداوة منها، ويرفع ذكر التفاخر بالأنساب الذي أوقعه الشيطان بينهم، ويجعلهم متعارفين بعضهم ببعض بالأخوّة إخوة لأب واحد وأم واحدة. فقال لهم: أبوكم الذي في السموات يفعل بكم كذا وكذا . لأن الله هو الأب الرحيم المشفق المتحنن الذي بدأ فخلقنا جوداً وإحساناً، وهو يقوينا ويرزقنا بنعمته ويتفقَّدنا بجوده، ويغفر ذنوبنا ويحتمل بكرمه وطول أناته جهلنا، كما يفعل الأب المشفق على ولده. ثم إذا أدَّبنا خلط تأديبه بالرأفة والرحمة. فمن أحقّ وأوْلى أن يُسمَّى باسم الأبوّة الحقيقية من الله تبارك اسمه. فلا حجة إذاً لمن ينكر على المسيح سيدنا تسميته الله أبانا .

ثم قال في أداء الفرائض: مَتَى فَعَلْتُمْ كُلَّ مَا أُمِرْتُمْ بِهِ فَقُولُوا: إِنَّنَا عَبِيدٌ بَطَّالُونَ. لِأَنَّنَا إِنَّمَا عَمِلْنَا مَا كَانَ يَجِبُ عَلَيْنَا (لوقا 17:10). وقد تحققت لنا أقواله ووصاياه بما كان يظهر لنا من سيرته أنه كان صائماً مصلياً، لا بيت له ولا مأوى ولا شيء من القنية أكثر من ثوبين يواري بهما جسده، فقد قال له بعض السائلين: يا عظيمنا، أين منزلك لآتيك فيه؟ فأجابه: للثعالب أوجرة ولطيور السماء أوكار، وأما أنا فلا بيت لي ولا مأوى. حيث أدركتَ فهناك مبيتي، ومتى طلبتني وجدتني (قارن متى 8:20). لم يتكلم بإفك قط ولا همّ بخطيئة ولا اقترف ذنباً ولا ارتكب إثماً ولا قبيحة، ولا أعاب أحداً ولا أذاه، ولا منع طالباً ولا ردَّ سائلاً ولا أعرض عن مستغيث كما سبق قول النبي فيه (إشعياء 53). ثم أتبع ذلك فحقق قوله بالأعاجيب والآيات التي فعلها، وكان يشفي المرضى الذين لا يعرف عددهم إلا هو تبارك اسمه، ويهب لهم العافية. بكلامه طهر البرص وأخرج الشياطين وبسط أيدي العُسم وأحيا الموتى مثل لعازر أخي مريم ومرثا وابنة يايرس رئيس الكهنة وعبد خادم الملك وابن أرملة نايين. وأخبر بالغيب وبما تخفيه صدورهم، وبكلمته أبرأ المفلوج وأمر المقعد الذي أتت عليه ثمان وثلاثون سنة أن يحمل سريره ويمشي، فكان ذلك. ونادى الشياطين فأجابته مذعنة لأمره طائعة لربوبيته مقرَّة أنه كلمة الله الحي، وأنه هو الذي يبطل سلطانها. وغفر الخطايا ومحا الذنوب بالكلمة الخالقة الممجدة بروح القدس الحال فيه، وفتح أعين الأكمه المعروف بالعمى على طول الأيام، وخلق لبعضهم الأعين من الطين المجبول بريقه قدرةً منه على الخليقة، وأشبع من خمس خبزات وسمكتين خمسة آلاف رجل ما عدا النساء والصبيان، وفضل من ذلك اثنتا عشرة قفة من الكِسر، وكان مباركاً حيث كان. وغيَّر الماء المصبوب في ستة أجران إلى خمرٍ في عرس قانا الجليل. وتباركت به الصبيان ونادت به الأطفال. وزجر أمواج البحر في شدة الريح فانتهت، ومشى على الماء، وتجلى لتلاميذه في الجبل مع موسى وإيليا النبيين، وخبَّر السامرية بخبرها مع الأزواج، وأبرأ مريضة بنزيف دم منذ اثنتي عشرة سنة بمجرد لمسها ثوبه وهي تظن أنه لا يعلم بها، فعلم بالقوة التي خرجت منه وسأل الجماعة: من لمس ثوبي؟ وأتت المرأة وسجدت له وأقرَّت بما فعلت، فقال لها: إيمانك شفاك. امضي بسلام وكوني بريئة من علّتك . وأمر الشياطين أن تدخل في الخنازير وتغرق في البحر فأطاعته.

ولأنني أعلم أنك قد قرأت الإنجيل المقدس، ومن قول صاحبك وشهادته: وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ (سورة البقرة 2:87). فكيف تقول إن هذه الأفعال ليست إلهية، وكل ذي لبٍّ إذا قاسها بأفعال صاحبك تبيَّن له الحق من الباطل؟ فإن قلت إن الأنبياء كانت تفعل المعجزات التي ليس في قدرة العالمين أن يفعلوا مثلها، مثل موسى وغيره، قلنا لك: كانت الأنبياء تفعل ذلك، لكن بعد التضرع الشديد والطلب الطويل، لا بالقدرة القاهرة والأمر النافذ، لأن أولئك كانوا يفعلون الشيء المعجز كما يفعل العبيد المشفقون بحسب الطاعة لتنفيذ الأمر الذي وجِّهوا به وتبليغ الرسالة. وأنت تعلم أن موسى قبل فلق البحر لبني إسرائيل ما زال مصلياً راكعاً ساجداً طالباً حتى قال الله له: مَا لَكَ تَصْرُخُ إِلَيَّ؟ قُلْ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يَرْحَلُوا. وارْفَعْ أَنْتَ عَصَاكَ وَمُدَّ يَدَكَ عَلَى الْبَحْرِ وَشُقَّهُ، فَيَدْخُلَ بَنُو إِسْرَائِيلَ فِي وَسَطِ الْبَحْرِ عَلَى الْيَابِسَةِ (خروج 14:15 ، 16). وكذلك يشوع بن نون وإيليا وأليشع كانوا يتضرعون ويطلبون في صلواتهم، فعند ذلك يؤذن لهم في عمل الآية. على أن بعضاً دعا وصلى وتضرع فلم يُجَب مثل موسى الذي رفض الله دخوله أرض الموعد لأنه لم يصدّق ولم يقدّس اسم الله أمام بني إسرائيل، وذلك في المكان المعروف بماء الخصام لضربه الصخرة ضربتين، فحرمه من دخول أرض الميعاد. ومثل إرميا المغبوط في الأنبياء، قد دعا فقال الله: إني لا أسمع دعاءك ولا أقبل صلاتك .

فأما سيدنا يسوع المسيح، الذي هو الابن الحبيب، فقد شهد أبوه له قائلاً: ه ذَا هُوَ ابْنِي الْحَبِيبُ الَّذِي بِهِ سُرِرْتُ (متى 3:17). فإنه فعل الأشياء بالقوة القاهرة التي هي الكلمة الخالقة للسموات والأرض. فهل يقدر مخالف أن يبطل هذا القول إلا بالحسد والمعاندة للحق والافتراء على الله الآب وكلمته وروح القدس، مثل من يقول إن الشمس مظلمة والنار غير محرقة!

أتباع المسيح

وإذ قد نقلنا بعض شرائع المسيح سيدنا وأخبرنا ببعض عجائبه، لنذكر الآن كيف اتّخذ تلاميذه وبعث بهم إلى أهل العالم دُعاةً إلى الحق، فنقول إنه اتخذ قوماً أميين لا علم لهم ولا حسب، صيّادي سمك وعشّاري خراج، ففتح قلوبهم وملأها نوراً وحكمة، فقهروا بذلك كل فيلسوف حكيم، وفاقوا كل طبيب ماهر، وتذلل لهم كل سلطان شديد، ودخل في طاعتهم كل شريف، وافتقر إليهم كل غني. وقال لهم: اكْرِزُوا قَائِلِينَ: إِنَّهُ قَدِ اقْتَرَبَ مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ. اِشْفُوا مَرْضَى. طَهِّرُوا بُرْصاً. أَقِيمُوا مَوْتَى. أَخْرِجُوا شَيَاطِينَ. مَجَّاناً أَخَذْتُمْ مَجَّاناً أَعْطُوا. لَا تَقْتَنُوا ذَهَباً وَلَا فِضَّةً وَلَا نُحَاساً فِي مَنَاطِقِكُمْ، وَلَا مِزْوَداً لِلطَّرِيقِ وَلَا ثَوْبَيْنِ وَلَا أَحْذِيَةً وَلَا عَصاً، لِأَنَّ الْفَاعِلَ مُسْتَحِقٌّ طَعَامَهُ (متى 10:7-10).

فساروا بسيرته وبشَّروا الناس بالرحمة والمغفرة، ودعوهم إلى الحق، مجتهدين غير مفترين ولا مستأثرين لشيء من الدنيا. وعدة هؤلاء سبعون رجلاً وجَّههم قبل ارتفاعه إلى السماء. واختار اثني عشر رجلاً كانوا ملازمين له، وهم تلاميذه المشاهدون لكل أموره وأحواله، والناقلون أخباره بالحق والصدق إلى الأمم. وكانت مخاطبته إياهم وعهده إليهم قائلاً: إن الذي يعمل ويعلّم هذا يُدعى اسمه كبيراً في السموات وعظيماً. وإذا أنتم طلبتم فاطلبوا المغفرة لخطاياكم والرحمة وملكوت السماء والعمل بالبر. ولا تكثروا الكلام وتشغلوا قلوبكم بطلب الرزق الذي قد كُفيتموه، فإن أباكم الذي في السماء أعلم بحوائجكم وما يصلح لكم. ولكن إذا صلى أحدكم فليقُلْ: أَبَانَا الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ، لِيَتَقَدَّسِ اسْمُكَ. لِيَأْتِ مَلَكُوتُكَ. لِتَكُنْ مَشِيئَتُكَ كَمَا فِي السَّمَاءِ كَذ لِكَ عَلَى الْأَرْضِ. خُبْزَنَا كَفَافَنَا أَعْطِنَا الْيَوْمَ. واغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا كَمَا نَغْفِرُ نَحْنُ أَيْضاً لِلْمُذْنِبِينَ إِلَيْنَا. وَلَا تُدْخِلْنَا فِي تَجْرِبَةٍ، ل كِنْ نَجِّنَا مِنَ الشِّرِّيرِ. لِأَنَّ لَكَ الْمُلْكَ، والْقُّوَةَ، والْمَجْدَ، إِلَى الْأَبَدِ. آمِينَ. فَإِنَّهُ إِنْ غَفَرْتُمْ لِلنَّاسِ زَلَّاتِهِمْ، يَغْفِرْ لَكُمْ أَيْضاً أَبُوكُمُ السَّمَاوِيُّ. وَإِنْ لَمْ تَغْفِرُوا لِلنَّاسِ زَلَّاتِهِمْ، لَا يَغْفِرْ لَكُمْ أَبُوكُمْ أَيْضاً زَلَّاتِكُمْ (متى 6:9-15).

وقال لهم: هَا أَنَا أُرْسِلُكُمْ كَغَنَمٍ فِي وَسَطِ ذِئَابٍ، فَكُونُوا حُكَمَاءَ كَا لْحَيَّاتِ وَبُسَطَاءَ كَا لْحَمَامِ. وَل كِنِ احْذَرُوا مِنَ النَّاسِ، لِأَنَّهُمْ سَيُسْلِمُونَكُمْ إِلَى مَجَالِسَ، وَفِي مَجَامِعِهِمْ يَجْلِدُونَكُمْ. وَتُسَاقُونَ أَمَامَ وُلَاةٍ وَمُلُوكٍ مِنْ أَجْلِي شَهَادَةً لَهُمْ وَلِلْأُمَمِ. فَمَتَى أَسْلَمُوكُمْ فَلَا تَهْتَمُّوا كَيْفَ أَوْ بِمَا تَتَكَلَّمُونَ، لِأَنَّكُمْ تُعْطَوْنَ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ مَا تَتَكَلَّمُونَ بِهِ، لِأَنْ لَسْتُمْ أَنْتُمُ الْمُتَكَلِّمِينَ بَلْ رُوحُ أَبِيكُمُ الَّذِي يَتَكَلَّمُ فِيكُمْ. وَسَيُسْلِمُ الْأَخُ أَخَاهُ إِلَى الْمَوْتِ، والْأَبُ وَلَدَهُ، وَيَقُومُ الْأَوْلَادُ عَلَى وَالِدِيهِمْ وَيَقْتُلُونَهُمْ، وَتَكُونُونَ مُبْغَضِينَ مِنَ الْجَمِيعِ مِنْ أَجْلِ اسْمِي. وَل كِنِ الَّذِي يَصْبِرُ إِلَى الْمُنْتَهَى فَه ذَا يَخْلُصُ. وَمَتَى طَرَدُوكُمْ فِي ه ذِهِ الْمَدِينَةِ فَا هْرُبُوا إِلَى الْأُخْرَى. فَإِنِّي الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ لَا تُكَمِّلُونَ مُدُنَ إِسْرَائِيلَ حَتَّى يَأْتِيَ ابْنُ الْإِنْسَانِ.

لَيْسَ التِّلْمِيذُ أَفْضَلَ مِنَ الْمُعَلِّمِ، وَلَا الْعَبْدُ أَفْضَلَ مِنْ سَيِّدِهِ. يَكْفِي التِّلْمِيذَ أَنْ يَكُونَ كَمُعَلِّمِهِ، والْعَبْدَ كَسَيِّدِهِ. إِنْ كَانُوا قَدْ لَقَّبُوا رَبَّ الْبَيْتِ بَعْلَزَبُولَ، فَكَمْ بِالْحَرِيِّ أَهْلَ بَيْتِهِ! فَلَا تَخَافُوهُمْ. لِأَنْ لَيْسَ مَكْتُومٌ لَنْ يُسْتَعْلَنَ، وَلَا خَفِيٌّ لَنْ يُعْرَفَ. اَلَّذِي أَقُولُهُ لَكُمْ فِي الظُّلْمَةِ قُولُوهُ فِي النُّورِ، والَّذِي تَسْمَعُونَهُ فِي الْأُذُنِ نَادُوا بِهِ عَلَى السُّطُوحِ، وَلَا تَخَافُوا مِنَ الَّذِينَ يَقْتُلُونَ الْجَسَدَ وَل كِنَّ النَّفْسَ لَا يَقْدِرُونَ أَنْ يَقْتُلُوهَا، بَلْ خَافُوا بِالْحَرِيِّ مِنَ الَّذِي يَقْدِرُ أَنْ يُهْلِكَ النَّفْسَ والْجَسَدَ كِلَيْهِمَا فِي جَهَنَّمَ. أَلَيْسَ عُصْفُورَانِ يُبَاعَانِ بِفَلْسٍ؟ وَوَاحِدٌ مِنْهُمَا لَا يَسْقُطُ عَلَى الْأَرْضِ بِدُونِ أَبِيكُمْ. وَأَمَّا أَنْتُمْ فَحَتَّى شُعُورُ رُؤُوسِكُمْ جَمِيعُهَا مُحْصَاةٌ. فَلَا تَخَافُوا. أَنْتُمْ أَفْضَلُ مِنْ عَصَافِيرَ كَثِيرَةٍ. فَكُلُّ مَنْ يَعْتَرِفُ بِي قُدَّامَ النَّاسِ أَعْتَرِفُ أَنَا أَيْضاً بِهِ قُدَّامَ أَبِي الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ، وَل كِنْ مَنْ يُنْكِرُنِي قُدَّامَ النَّاسِ أُنْكِرُهُ أَنَا أَيْضاً قُدَّامَ أَبِي الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ (متى 10:16-33). وقال لهم: أَنْتُمْ مِلْحُ الْأَرْضِ، وَل كِنْ إِنْ فَسَدَ الْمِلْحُ فَبِمَاذَا يُمَلَّحُ؟ لَا يَصْلُحُ بَعْدُ لِشَيْءٍ، إِلَّا لِأَنْ يُطْرَحَ خَارِجاً وَيُدَاسَ مِنَ النَّاسِ. أَنْتُمْ نُورُ الْعَالَمِ. لَا يُمْكِنُ أَنْ تُخْفَى مَدِينَةٌ مَوْضُوعَةٌ عَلَى جَبَلٍ، وَلَا يُوقِدُونَ سِرَاجاً وَيَضَعُونَهُ تَحْتَ الْمِكْيَالِ، بَلْ عَلَى الْمَنَارَةِ فَيُضِيءُ لِجَمِيعِ الَّذِينَ فِي الْبَيْتِ. فَلْيُضِئْ نُورُكُمْ ه كَذَا قُدَّامَ النَّاسِ، لِكَيْ يَرَوْا أَعْمَالَكُمُ الْحَسَنَةَ، وَيُمَجِّدُوا أَبَاكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَات (متى 5:13-16).

وقال لهم: اُدْخُلُوا مِنَ الْبَابِ الضَّيِّقِ، لِأَنَّهُ وَاسِعٌ الْبَابُ وَرَحْبٌ الطَّرِيقُ الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى الْهَلَاكِ، وَكَثِيرُونَ هُمُ الَّذِينَ يَدْخُلُونَ مِنْهُ! مَا أَضْيَقَ الْبَابَ وَأَكْرَبَ الطَّرِيقَ الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى الْحَيَاةِ، وَقَلِيلُونَ هُمُ الَّذِينَ يَجِدُونَهُ! اِحْتَرِزُوا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ الْكَذَبَةِ الَّذِينَ يَأْتُونَكُمْ بِثِيَابِ الْحُمْلَانِ، وَل كِنَّهُمْ مِنْ دَاخِلٍ ذِئَابٌ خَاطِفَةٌ! مِنْ ثِمَارِهِمْ تَعْرِفُونَهُمْ. هَلْ يَجْتَنُونَ مِنَ الشَّوْكِ عِنَباً، أَوْ مِنَ الْحَسَكِ تِيناً؟ ه كَذَا كُلُّ شَجَرَةٍ جَيِّدَةٍ تَصْنَعُ أَثْمَاراً جَيِّدَةً، وَأَمَّا الشَّجَرَةُ الرَّدِيَّةُ فَتَصْنَعُ أَثْمَاراً رَدِيَّةً، لَا تَقْدِرُ شَجَرَةٌ جَيِّدَةٌ أَنْ تَصْنَعَ أَثْمَاراً رَدِيَّةً وَلَا شَجَرَةٌ رَدِيَّةٌ أَنْ تَصْنَعَ أَثْمَاراً جَيِّدَةً. كُلُّ شَجَرَةٍ لَا تَصْنَعُ ثَمَراً جَيِّداً تُقْطَعُ وَتُلْقَى فِي النَّارِ. فَإِذاً مِنْ ثِمَارِهِمْ تَعْرِفُونَهُمْ.

لَيْسَ كُلُّ مَنْ يَقُولُ لِي: يَا رَبُّ يَا رَبُّ، يَدْخُلُ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ. بَلِ الَّذِي يَفْعَلُ إِرَادَةَ أَبِي الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ. كَثِيرُونَ سَيَقُولُونَ لِي فِي ذ لِكَ الْيَوْمِ: يَا رَبُّ يَا رَبُّ، أَلَيْسَ بِاسْمِكَ تَنَبَّأْنَا، وَبِا سْمِكَ أَخْرَجْنَا شَيَاطِينَ، وَبِا سْمِكَ صَنَعْنَا قُّوَاتٍ كَثِيرَةً؟ فَحِينَئِذٍ أُصَرِّحُ لَهُمْ: إِنِّي لَمْ أَعْرِفْكُمْ قَطُّ! اذْهَبُوا عَنِّي يَا فَاعِلِي الْإِثْمِ! (متى 7:13-23).

ثم أنه أراد أن يكمل التواضع إلى الغاية القصوى، لم يمتنع من أيدي الكفرة حتى نالوا منه ما نالوه من صلبه على خشبة، وهو مع ذلك يقول: يَا أَبَتَاهُ، اغْفِرْ لَهُمْ، لِأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُونَ (لوقا 23:34). ثم مات بجسده، وبقي على الصليب إلى وقت الغروب من يوم الجمعة، ثم أُنزل ودُفن، وأقام في القبر إلى صبيحة يوم الأحد، ثم قام حياً بلاهوته وظهر للنسوة اللاتي جئن إلى قبره زائرات، وظهر بعد ذلك لتلاميذه، مرة في الجليل ومرتين في الغرفة التي كانوا نازلين فيها، ومرة في الطريق وبعضهم ماضٍ إلى القرية التي تُدعى عمواس، ومرة على شاطئ البحر وهم يتصيّدون السمك، وأكل معهم عدة مرار. كل ذلك في خلال أربعين يوماً. وكان يجدد عليهم الوصية ويذكرهم بالعهود التي عهدها إليهم، ويخبرهم أنه سيوجه لهم البارقليط الذي هو الروح القدس لتأييدهم. فلم يزالوا كذلك إلى أن صعد إلى السماء صعوداً ظاهراً مكشوفاً بحضرة من كان حاضراً في ذلك الوقت، وهم ينظرون إلى أبواب السماء مفتوحة، وقد نزلت الملائكة ورفعته بالتمجيد والتهليل والتسبيح، وهي تخاطب وتقول: أيها الناس ما بالكم تنظرون متعجبين حائرين؟ هذا يسوع المسيح ابن الله الوحيد قد صعد إلى السماء ممجداً، وهو مزمع أن يأتي ثانية في آخر الأيام، فيُرَى نازلاً في ذلك الوقت كما ترونه الساعة صاعداً، ليبعث من في القبور ويدين الخلائق . ثم غاب عنهم وغابت الملائكة معه. وذلك الجبل الذي صعد منه هو جبل الزيتون من بلاد الشام معروف مشهور بهذه الصفة إلى هذا الوقت.

فلنذكر بعد هذا شهادة صاحبك: إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيَا والْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ واللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ والذِّكْرِ الْحَكِيمِ (سورة آل عمران 3:55-58) فأمْعِن النظر وانصح لنفسك في الاستقصاء، ولا تَمِلْ إلى غير الحق، فإنك إن أنصفت، ظهر لك أبيض النور وتلألأ الحق.

ثم لما كان بعد صعوده إلى السماء بعشرة أيام كان التلاميذ مجتمعين في الغرفة التي كانوا ينزلون فيها معه إذ سمعوا صوتاً عظيماً، وتجلى عليهم الروح القدس الذي هو البارقليط، فصار على كل رجلٍ مثل لسان من النار، فجعل يتكلم بلسان البلد الذي وُجِّه ليبشر فيه بالمسيح مخلص العالم ومنقذه، ويدعو أهل ذلك البلد إلى النصرانية، ويريهم الآيات المعجزة. فعند ذلك تفرق كل تلميذ إلى البلد التي نُدب إليها وأُعطي معرفة لسانها وكلام أهلها، وكتبوا الإنجيل الطاهر وجميع أخبار المسيح وأقاصيصه بكل لسان عن إملاء الروح القدس، فدانت لهم الأمم واستجابوا لقولهم. ورفضوا هذه الدنيا ومالوا إلى الأمر الواضح، وتركوا أديانهم ودخلوا في النصرانية عندما أشرق لهم نور الحق وتلألأ نور البشارة، فأيقنوا وآمنوا مصدِّقين غير مرتابين حيث ميّزوا الحق من الباطل والكفر من الإيمان والهدى من الضلالة، ورأوا الأعاجيبوالآيات الباهرة والسيرة الحسنة المشابهة لسيرة المسيح التي آثارها قائمة ثابتة حتى اليوم والساعة. فنحن الذين قبلناه منهم لم نزد فيه ولم نُنقص منه، وعليه نحيا وعليه نموت ونُبعث حتى نقوم به بين يدي المسيح سيدنا يوم نقف بين يديه عندما يدين الخلق جميعهم.


وليس هذا كسيرة صاحبك وسيرة أصحابه الذين لم يزالوا يتقدمون في القتل والنهب والخبط بالسيوف وسبي الذراري والتغلّب على البلدان ونهب الناس أموالهم وهتك حريمهم واستعباد الأحرار، حتى قال عمر بن الخطاب: ألا من كان جاره نبطياً واحتاج إلى ثمنه، فليبعه . ومثل هذا كثير مما يشابهه من القول والفعل. وهذا خلاف ما كان يفعله سمعان وبولس من إبراء المرضى بطلبهما وإقامة الموتى باسم المسيح سيدنا.


رهبان اليوم


وإن قلت: ما بال الرهبان لا يفعلون اليوم من الآيات والعجائب مثلما كان التلاميذ يفعلون حيث توجهوا إلى البلدان؟ قلنا: إنهم لما مضوا للبلدان للدعوة واجتذاب الناس إلى الإقرار بربوبية المسيح، احتاجوا عند ذلك إلى كثرة الآيات وتواتر العجائب لتصحّ دعوتهم، وليعلم الذين يدعونهم صحّة دعواهم، فليس الرهبان اليوم دُعاةً، وإن كان كثير منهم يتكلّفون فعل ذلك لدى الخواص خفية، ليُعلم أن تلك النعمة ثابتة فيهم باقية. فإذا جرى لهم أمر احتاجوا إلى إظهار قوتهم للعامة أظهروها ليُعرف ذلك من أفعالهم في المشرق والمغرب وحيث حلّوا، ولو أن الرهبان تكلفوا إحياء كل ميت وشفاء كل مريض في كل وقت لم يمت أحد، ولم يكن للقيامة رجاء ولا للدنيا زوال، وكان في ذلك تكذيب لوعد الله ووعيده في الآخرة. وإنما يفعل الرهبان ما يفعلونه ويجري على أيديهم الواحد بعد الواحد ليزدادوا ثقة لما هم فيه من ذلك التعب والنصب، وليعلموا كيف مرتبتهم عند الله في طاعتهم ليلهم ونهارهم. ولا يحتاج الناس اليوم إلى معاينة الآيات في تحقيق هذا الدين، إلا من رفع نفسه عن استعمال العقل وشارك البهائم في جهلها وقلة إدراكها.


لقد شرحت لك قصة المسيح سيدنا على غاية الاختصار، وبعض أخبار التلاميذ الذين نقلنا عنهم ديانتنا، فاجمع الآن ما تريد جمعه منها إلى ما في يدك، واستعمل الإنصاف واصدق نفسك ولا تغشّها، لترث ملكوت السماء ممّن سلطانه على بدنك ونفسك، الذي يقدر أن يرحمك ويقبلك كما يقبل الآب الولد الشارد، فإنك تكون من الموفَّقين. فلا تغتر بهذه الدنيا وتتعلق بأسبابها وتنغمس في شهواتها، فإنها غدارة مهلكة لمن مال إليها، وانظر لنفسك قبل فوات النظر، وردد فكرك في ما قد كتبتُه إليك في كتابي هذا، وقس بعضها ببعض، واستعمل في ذلك قانون العدل وميزان الحق، فليس هذا الأمر من الأمور التي يجوز أن يُغفل عنها، لأنه هو الأمر المحصول عليه في الوقتين معاً: في هذه العاجلة وفي الآجِلة، وقت لا يُقبل منك فيه العذر ولا ينفع الاحتجاج. أما أنا فقد بلغتُ جهد طاقتي في النصيحة لك ولكل من نظر في كتابي، وما أبقيت عند نفسي في ذلك غاية. واسأل الله أن يوفقك وإيانا على العمل الصالح بطاعته، ويعصمنا من معاصيه، ويشركنا في ملكوته مع أوليائه الذين رضي عنهم بجوده وكرمه، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته. آمين

تعليقات

لا توجد تعليقات.

هذا النص

ملف
المناظرات والمحاورات
المشاهدات
798
آخر تحديث
أعلى