يعتقد أبو العلاء المعري ان أصل الوجود شر وأنه لا يمكن للإنسان أن يفعل شيئا لاستئصال ذلك الشر من نفسه لأنه جبلّة فيه ومرتبط بالوجود ارتباطا أبديا، والأبيات التي تحمل هذه الفكرة كثيرة تضيق بها لزومياته ومن أطرفها تلك التي تبدو فيها شجرة الوجود شجرة فاسدة جذورها فاسدة بالتالي أثمارها لا رجاء في أن تقدم ثمرا طيبا.
نشر أشجار علمت بها = شجرات اثمرت ناسـا
لم تسق عذبا ولا أرجـا = بل أذيّات وأدناسـا
وزيادة على الشر المتأصل في الوجود والمرتبط به تمتلئ الحياة البشرية بالأرزاء والآلام، فالحياة كلها تعب وشقاء والناس كلهم بائسون وان اختلفت درجات بؤسهم حسب الظروف:
ومتى رجعت إلى الحقائق لم يكـن = في العالم البشري الا بائـس
ولا أمل حسب المعري في صلاح أو إصلاح ولا حلّ للقضاء على الألم وخاصة على الشر سوى التوقف عن الإنجاب والقضاء على النسل الذي يديم الوجود الشرير ويواصله أي الانتحار الكوني الذي يضع حدا نهائيا لمأساة البشرية المتمزقة أبدا بين الشرّ والألم.
ومن هنا، كان لزاما على أبي العلاء ان يصطدم بالأديان التي لا ترى أن أصل الوجود شر بل تؤكد ان الشر والخير من خلق الله وان الإنسان قد يختار "الصراط المستقيم" أو "سبيل الضلال" ثم يحاسب على ما قدمت يداه بل إن بعض الأديان يرى أن أصل الوجود خير كما في المسيحية مثلا. وكان من الحتمي أن يثور كذلك على الدين عندما يحوله المجتمع إلى سلوك بشري اجتماعي يمارس الشرّ ويكرّسه كباقي الممارسات الاجتماعية الأخرى التي هاجمها ورفض المشاركة فيها. ومن هنا أيضا تكون ثورة المعري على الأديان شاملة تحمل عليها في مستوييها الكبيرين أي جوهرها وأسسها التي تناقض فلسفته في الحياة ونظرته إلى الوجود، وتطبيقها وإقامة شعائرها اللذين يزيدان الشر تدعيما واستفحالا في نظره.
ومهاجمة المعري للديانة في تطبيقها معناه مهاجمة رجال الدين خاصة والمؤمنين به عامة. وتفيض قصائده بكره كبير لرجال الدين وتبرز رذائلهم الكثيرة وتلحّ خاصة على نفاقهم. وهذا معنى كثير الورود فيها فالنفاق صفة قارة فيهم وتارة ينعته بالرياء وطورا يعمّمه من خلال المكر والكيد. وهكذا فإن رجال الدين كما تصورهم القصائد العلائية أولو مكر شديد يظهرون ما لا يضمرون ويقولون ما لا يفعلون ويأتون الفساد والفسوق. وبكشفهم هذا يحذّر من ألاعيبهم وتحيلهم:
رويدك قد غررت وأنت حرّ = بصاحب حيلة يعظ النساء
يحرّم فيكم الصهباء صبحا = ويشربها على عمد مســاء
يقول لكم غدوت بلا كساء = وفي لذاتها رهن الكســاء
إذا فعل الفتى ما عنه ينهى = فمن جهتين لا جهة أساء
وأمثال هذا الواعظ المنافق كثيرون في شعر المعري وفي مجتمعه بلا شك منتشرون في المساجد والشوارع التي في كل البلاد، والشر الذي يأتون متأصل فيهم ولا يقتصر على نفر منهم دون الآخرين وها هم في إحدى القصائد في مكة مثلا يتدافعون نحو الكعبة وهم سكارى لعبت الصهباء برؤوسهم وكشفت رياءهم.
ففي بطحاء مكة شرّ قـوم = وليسوا بالحماة ولا الغيـارى
قيام يدفعون الوفد شفعــا = إلى البيت الحرام وهم سكارى
ولا يسبح هؤلاء الوعّاظ والأئمة ورجال الدين عامة في بحور الخمرة والسكر فحسب بل يغرقون في بحور فساد أخرى. وكم من المشايخ الذين رغم شيبهم ووقارهم يبيتون يسبّحون ويسبحون في الخنى.
وليس عندهم دين ولا نسك = فلا تغرك أيد تحمل السبحا
وكم شيوخ غدوا بيضا مفارقهم = يسبّحون وباتوا في الخنى سبحا
وبعد ذلك يفيقون ويلبسون جبة النفاق ويصعدون على المنابر وسبحة الرباء دائما بين أصابعهم ويعظون ويرشدون وينطقون بكذب مبين إلى حد أن الشاعر يستغرب كيف لا يميل بهم المنبر ويسقطهم من فوقه:
كذب يقال على المنابر أفلا = يميد لما يقال المنبـر
وزيادة على كل هذه الرذائل نجد المعري ينعى عليهم طمعهم. وهو طمع مزدوج لأنهم لا شيء يقدسون سوى تلك الأطماع ويلهثون وراءها بلا هوادة وألسنتهم متدلية وغرائزهم متقدة وهذا المعنى الظاهر في الأبيات التي نسوقها للمعري. وهم لا ينسون طبعا ما تمنّيهم به الأديان من خيرات وملذات ومنافع تتفق وطمعهم اللامتناهي. وهكذا فإنّ من بني إيمانهم على طمع في خيرات الآخرة وفاضت نفسهم بالجشع، لا يجب ان نستغرب منهم طمعهم إلى الدنيا وطمعهم في شهواتها لأن تلك الأطماع أمست المنطق الوحيد الذي يحرك ذواتهم ويرون من خلاله الأمور:
سبح وصلّ وطف بمكة زائرا = سبعين لا سبعا فلست بناسك
جهل الديانة من إذا عرضــت = له أطماعه لم يلف بالمتماسك
وبهذا يضيف إليهم رذيلةَ الجهل ليجعلهم جاهلين بالديانة التي ينتمون إليها بل يمثلون. وليجعل صورة رجل الدين كما قدمها في قصائده حالكة جدا وممزوجة من رذائل وسيئات عديدة بعضها النفاق والفساد والكذب والطمع والجهل.
أما صورة عامة المنتمين إلى الدين فإنها لا تقل قتامة عن صورة رجاله وممثليه وان كان هاجم الأولين بعنف شديد فإنه تحدث عن هؤلاء بسخرية شديدة، فهم في قصائده غواة ضلّوا سبيل الحقيقة ومخدوعون وجهلة، وأغبياء ينهمكون في ممارسة أعمال لا طائل من ورائها ورغم ذلك ينعمون بضلالهم ويحسون بسعادة سببها جهلهم بحقائق الأمور:
ودعوا إلى الله كي يجيبهم = سيّان هو والخواسي النبـح
لا تغبط القوم في ضلالتهم = وإن رؤوا في النعيم قد سبحوا
كما جعلهم في أوضع المراتب الحيوانية وشبّههم بحيوانات ودواب كثيرة، فزيادة إلى كونهم كلابا نابحة بلا طائل وهو معنى ردده أكثر من مرة، جعلهم حميرا وماعزا، وعمّم هذه التشابيه بجعلهم مرارا كثيرة بهائم بل في قدر أسفل من ذلك لأن البهائم تكبح أن زاغت عن طريقها فتقف وتعود إلى الطريق القويم أما هم فماضون في زيغهم أبدا لأنه لا لجم لكبحهم ولا إمكانية لوضع حدّ لغوايتهم وإصلاح غرائزهم:
فليتهم كالبهائم اعترفـوا = لجما إذا بان زيغهم كبحـــوا
وقد جمع الشاعر في أحيان كثيرة بين الصورتين فتحدث عن هؤلاء وأولئك ناعتا الجميع بأصحاب الدين. وإذا بالدين يتقاسمه أهل المكر وأهل الغباوة:
وقد فتشت عن أصحاب دين = لهم نُسُك وليس لهم ريـاء
فألفيت البهائم لا عقـــول = تقيم لها الدّليل ولا ضيــاء
وإخوان الفطانة في اختيـال = كأنهم لقوم أنبيـاء
فأما هؤلاء فأهل مكر = وأما الأوّلون فأغبيـاء
إذا كان التقى بلها وعيّـا = فأعيار المذلة أتـقيـا
أما ثورة المعري على الأديان في جوهرها فأعنف بكثير سخّر لها اهتماما أكبر وخصص لها قصائد أكثر وذاك لأنه يعتبرها من أصول الشر ومنابع الفساد، وهي الأسس التي بنى عليها رجال الدين ممارساتهم الاجتماعية التي تكرس الشرّ وتزيده استفحالا وهي التعلات التي وجدوها ليمارسوا الرياء دون أن يجرؤ أحد على مناقشتهم والتعرّض الكافر لهم خاصة إذا ربطنا الدين بالسياسة كما هو موجود في تاريخ الاسلام ورأينا استمداد الكثير من الحكام الجائرين والفاسدين شرعية استبدادهم بأرواح العباد واستئثارهم بمنافع الحكم وقضائهم على كل تفكير حر بشتى التهم الملفقة من النصوص الدينية والتأويل العقائدية. ومهاجمة المعري لها بتلك الطريقة العنيفة محاولة في رأيه لاقتلاع بعض أشجار الشر من أصولها وجهد لتقويض واحد من أبينة الفساد كما تصورها.
إلا أنه لم يصل إلى خلاصاته الثائرة منذ أول وهلة بل قطع مراحل أدت إليها وأهمّها مرحلة شك مستنكر رافض تهيئ مرحلة التمرد وجحود ما اتفق عليه البشر منذ عصور بعيدة وتعدّ لها. وممّا حمله على الشك أول الأمر في المعتقدات وعدم الاطمئنان إلى مسلماتها هو تعددها واختلافها واجتهاد القائمين بها رغم ذلك في التعصّب لبعضها وتفضيله على غيرها واعتباره حقا مطلقا. ولا شك في أن أبا العلاء نظر إليها نظرة مسوّية تبذل جهدها للاقتراب من التجرد، أفلت فيها من ضغوط الانتماء التي لا تمكّن من النظر إلى الأمور إلاّ من زاوية واحدة مما يبين شمولية تفكيره ورحابة تأمله:
في اللاذقية (9) فتنـة = ما بين أحمد والمسيـح
قسّ يعالج دلبه = والشيخ من حنق يصيـح
كل يعزز دينـه = يا ليت شعري ما الصحيــــــح؟
وواضحة سخرية المعري من خلال هذه الرواية التي رواها خاصة ياقوت في "معجم البلدان". وهذه الأبيات هي من أول اصطدامات المعري بالديانات لأنه قالها في شبابه عند زيارته اللاّذقية التي كانت حينئذ بايدي الروم وقد قال ياقوت: "وكان للمسلمين بها مسجد ومؤذن وقاض، فإذا أذّن مؤذنهم دقّ الروم نواقيسهم كيادا لهم" (2)
وهذا ما يفسر الصورة الهزلية التي رسم من خلالها المؤذن الشيخ يصيح بكل قواه حانقا ومغتاظا حتى يعلو صوته على رنين النواقيس المضروبة بمكر وكيد تأكيدا على المنافسة وأحقية فرض المعتقد.
وقد كانت هذه الحادثة تمر بكل بساطة لو لم يشهدها رجل كالمعري دأب على التفكير والبحث وعدم التسليم بالأشياء دون درسها والتثبت منها. والمارُّون باللاذقية آلاف مؤلّفة لم تفعل فيهم تلك الحادثة شيئا. وفعلا فقد كان ذلك التساؤل المستغرب والحائر والهازئ والباحث في نفس الوقت أول الشرارات التي ائتلقت في ذهن المعري ولم تلبث أن تحولت إلى حريق هائل اندلع في اشعاره ليأتي على مقومات الأديان وتعاليمها وركائزها لم يستثن دينا منها سواء عرفت بالسماوية أو الوضعية وعاملها معاملة واحدة ووجّه لها انتقاده وسخريته اللاذعين والمريرين وجعلها من أكبر مصادر الشرور ومنابع الفساد وصوّرتها قصائده مليئة بالدسائس والمكر والفعال الخسيسة مهما تنوعت أو تعددت:
ومتى ركبت إلى الديانة غالا
فكر هلى حسن الضمير دسائس...
متوجسون ومسلمون ومعشـر
منتصرون وهادئون رسائس...
وبيوت نيران تزار تعبّـدا
ومساجد معمورة وكنائـس
والصابئون يعظّمون كواكبـا
وطباع كل في الشرور حبائـس
أنّى ينال أخو الديانة سـؤددا
ومآرب الرجل الشريف خسائــــــــــس
ومن بين الألفاظ التي حوتها هذه الأبيات كلمة "دسائس" وهي كلمة بنى حولها المعري كامل الأفكار التي هاجم من خلالها المعتقدات وستردّد مرادفاتها أو المعاني التي تتولد منها إلى حد يجعل الديانات في شعره مرادفا للدسائس وأسبابها وسرعان ما يحدد المسؤولية في حياكتها وتدبيرها ويلقيها كاملة على عاتق النبوّات والأنبياء. ورغم ان الشاعر هاجم في قصائده مفاهيم كثيرة وفرقا عديدة فان الجدير بالملاحظة هو أن النبوات هي التي تعرضت لأعنف هجماته وأقسى ضرباته الشعرية وذلك يعود للتسلسل الذي وعى من خلاله الأمور، فالديانات في رأيه من أهم منابع الشر والجور، أما النبوّات فهي منبع الأديان ومصدر العقائد تبشّر بها وتعلن قيامها أو تنطلق من بعضها لتزيد عليه وتعلنه على الناس في ثوب مستحدث. وصحيح أن المعري كان يعتقد أنه لا إمكانية للقضاء على الشر واستئصاله من الوجود الذي يحويه، لكنه كان يريد أن يوجّه له أكبر الضربات من خلال تهجمه على النبوات، فقد جحدها وأنكر صحتها ورفض التسليم بها رفضا قاطعا.
ولم يكتف بتكذيبها بل دعا إلى ذلك بإلحاح وإصرار كبيرين، أما الأنبياء فهم في رايه كاذبون ومزوّرون للحقائق عن قصد وبسابق إضمار، والكلام الذي يتلون زور بعيد وإن تفننوا في تنميق ألفاظه وتسطير معانيه، كما أنهم بسبب ما اختلقوا وادعوا أفسدوا الحياة البشرية وزادوها شرورا وآلاما بينما كان حال الناس أفضل بكثير قبل ذلك:
ولا تحسب مقال الرسل حقا = ولكن قول زور سطـروه
وكان الناس في عيش رغيـد = فجاؤوا بالمحال فكـدّروه
وهذا المحال الذي نتيجته تكدير حياة البشر أمثلته عديدة وأهمها في رأي الشاعر التفريق بينهم وتشتيت شملهم إلى الأبد وإلقاء عداوة بينهم شديدة الشراسة يتوارثونها إلى دور فدور ويعتبرونها طبيعية ومحتمة ويجسمونها في التقاتل والتذابح والحروب الوحشية التي تمسي مقدسة وواجبة، فتستباح الأعراض وينتشر الدمار وتتسع هوّة الشقاق والفرقة التي تفصلهم ويزداد جور الغالبين وحقد المغلوبين.
إن الشرائع ألقت بينا إحَنًـا = وأورثتنا أفانين العـداوات
وهل أبيحت نساء الروم عن عرض = لِلْعُرْبِ إلاّ بأحكام النبـوات
أما الأنبياء فقد أشار إليهم بطريقة معمّمة وغير دقيقة في بعض الأحيان ناسبا إليهم المكر والخبث وجاعلا الديانات التي أتوا بها وأعلنوها مكيدة مبيتة تهدف إلى استلاب الأذهان وانتهاب الخيرات ونتيجة لذلك يوجه إليهم الشتم دون تحرّج.
أفيقوا يا غواة فإنما = ديانتكم مكر من القدماء
أرادوا بها جمع الحطام فأدركوا = وبادوا وبادت سنّة اللؤمـاء
إلا أنه يشير إليهم في أعظم الأحيان بأسمائهم هازئا من كثرتهم وتعدّد دعواتهم واختلافها وحيرة الناس بين ما يأتي به هذا وذاك وتذبذبهم بين معتقدات تؤكد كل واحدة أنها الحقيقة المطلقة والحق المبين فاز من اتبعها وخسر من لم يفعل.
أتى عيسى فأبطل دين موسى = وجاء محمد بصلاة خمــس
وقيل يجيء دين بعد هـذا = فأودى الناس بين غد وأمـس
وما تجدر الاشارة إليه هو ان المعرّي في حديثه عن النبوات أو عن الديانات بصفة عامة يعمد غالبا إلى التعميم فيستعرض الكثير منها إذا ذكر بعضها ويراعي في معظم الأحيان تسلسلها التاريخي فيبدأ باليهودية ثم المسيحية فالإسلام وقس على ذلك أنبياء هذه الديانات، بل إنه كثيرا ما يضيف إليها المجوسية ومعتقدات الهند والصّابئة.
وقلّما نجد شاعرا نظر إلى الأديان بمثل هذه الشمولية وسوّى بينها في تفكيره واعتبرها ظاهرة واحدة. يجب أن تعامل نفس المعاملة
وقلّما نجد شاعرا حضرت في ذهنه كل تلك المعتقدات بمختلف تعاليمها وشعائرها كلما تحدث عن أحدها.
وقد يقتصر في حديثه عن دين واحد أو معتقد معيّن ولا يتعدّاه إلى سواه. ويمكن في هذا الصدد تصنيف هذا الحديث إلى نوعين أولهما لا يتحدث فيه إلا عن دين لكنه يتخذه مجرد مثل ويقصد من ورائه الأديان كلها كما في هذا المثل الذي دعا فيه إلى عدم الامتثال لأصحاب الدين لأن غايتهم الطمع وحب المنافع والفوائد وان قنّعوا ذلك بالتلاوة وبكثير من السلوك الديني:
ولا تطيعنّ قوما ما ديانتهـم
الا احتيال على أخذ الإتـاوات
وانما حمّل التوراة قارئها
كسب الفوائد لا حبّ التــــــــلاوات
فواضح هنا أن الحديث عن التوراة وقارئيها في المثل الذي ضربه على الاحتيال الديني لا يخص اليهود وديانتهم وانما ينسحب على كل الديانات بمختلف أسفارها بما في ذلك اليهود.
أما ثانيهما فحديث يختص بدين واحد دون غيره يعرّض به ويرفض أحكامه التي انفرد بها دون غيره ويهاجمه من خلال ظروف أو أحداث تاريخية اختص بها. ونجد في هذا المجال قصائد كثيرة ثار فيها على الدين الاسلامي بمختلف ميادينه. ويعود هذا إلى انتمائه إلى مجتمع إسلامي ممّا جعل مهاجمة ذلك المجتمع تقتضي وقوفا أطول عند المعتقدات والأحكام التي بني عليها ذلك الاجتماع البشري ونظمت الحياة من خلالها دون أن يطبع نظرته أو تأمله بالمحدودية والاقتصار على ذلك الدين كما رأينا. ويهاجم المعرّي المسلمين بشدّة ويجعل ما يتلون ليلا نهارا باطلا مزخرفا كغيره من تلاوات الأديان الأخرى وزورا مسطّرا ويفسّر انتشاره بحدّ السيف وإراقة الدماء وسبي المهزومين وإرغامهم على التصديق به الإذعان لأصحابه.
تلوا باطلا وجلوا صارمـــــــــــــــا = وقالوا صدقنا، فقلنا نعـــــــــــــــــم
ثم يدعو إلى تكذيبهم والإعراض عن اعتقاداتهم كما فعل مع باقي الأديان الأخرى لأنها إذا ما تُوُمِّل فيها ضعيفة دعائمها ومهلهلة ركائزها.
أفيقوا فإن أحاديثهــم = ضعاف القواعد والمُدَّعَـــمْ
كما لا يتحرّج بالتعريض برسول الاسلام أكثر من مرّة.
ولست أقول إنّ الشهب يوما = لعبث محمد جعلت رجومـا
ورفض المعرّي كذلك كثيرا من الأحكام الإسلامية التي جعلت لتسطير حياة المسلمين وتنظيمها. وتوجد منبثة في اللزوميات عدة مواقف تستنكر ما جاءت به الشريعة وتعارضها ومنها ما جاء في القرآن متعلقا بالميراث ولم يمنح الأم سوى السدس من أموال ابنها المتوفى رغم عذابها في ولادته وتربيته ورغم حنانها الأموي الذي لا يضارعه حنان امرأة أخرى.
حيران أنت فأي الناس تتبع
تجري الحظوظ وكل جاهل طبـع
والأم بالسدس عادت وهي أرأف من
بنت لها النصف أو عرس لها الرّبع
وكذلك قطع يد السارق استنكرها بشدة ورفضها.
يد بخمس مئين عسجد وديت = ما بالها قطعت في ربع دينــــار
وقد يأخذ الاستنكار لما جاء به الاسلام من أحكام وغيرها شكلا ساخرا ومستهزئا كما في قوله:
أفملّة الاسلام ينكر منكـــــــــــر = وقضاء ربّك صاغها وأتى بها؟
ويعود إنكار الديانات ومهاجمتها ورفض ما أتت به إلى اعتماد المعري العقل طريقا اوحد لأدراك حقائق الكون والحياة. وكل ما أتت به الأمم السابقة من معارف وأخبار لم يكن الشاعر يقبله مسبقا بل كان يعرضه على عقله يدرسه ويمحّصه فيقبل ما يجده منطقيا ومعقولا ويطرح جانبا ما يراه لا معقولا يعسر تصديقه ويرفض التسليم به مهما كان مصدره ومهما اتفق الناس حوله أو اصطلحوا على اعتباره صحيحا ولو منذ أقدم العصور.
وإيمان المعري بالعقل كبير جدا وهو رغم ثورته وتمرده على القيم البشرية يطيعه طاعة عمياء ويرضخ له ويحتكم إليه ويهتدي بنوره متخذا منه إماما يقود أفكاره وأعماله مقابل الامام المنتظر الذي كان كثير من معاصريه يرتقبون قدومه ليعوّضهم عن استسلامهم وسلبيتهم بقلب خارق للأوضاع اعتبره المعري وهما ومضيعة للوقت.
يرتجي الناس ان يقـوم = إمام ناطق في الكتيبة الخرســـاء
كذب الظن لا إمام ســوى = العقل مشيرا في صبحه والمساء
فإذا أطعته جلب الرحمــة = عند المسير والإرسـاء
ويلحّ على إمامة العقل الشرعية والوحيدة أكثر من مرة.
سأتبع من يدعو إلى الخير جاهـدا = وأرحل عنها ما إمامي سوى عقـلي
ولا يقف تقديس الشاعر العقل عند جعله اماما تجلب طاعته الخير والرحمة بل يتخذه نبيا أحكامه مقدسة وتصديقه واجب. وبهذه ال
صورة أراد مرة أخرى مهاجمة الأنبياء وإنكار رسالاتهم وتلاواتهم التي نعتها بالأباطيل المسطرة وأحلّ محلّها العقل النبي الصادق في تعليم البشر وارشادهم.
أيّها الغرّ ان خصصت بعقل = فاسألنه فكل عقل نبـي
ولهذا السبب كان العقل حاضرا كلّما هاجم الشاعر الأديان تأكيدا على أن رفضه وثورته ينطلقان منطلقا عقليا أساسه التأمل والبحث والتقصي والتمعن في الأمور قبل تصديقها أو تكذيبها. وكلّما جابه العقل الشرائع، تعجّب من تغلغلها في ضمائر الناس وعجب لتسليمهم بها تسليما ليس له سوى أساس واحد يرفضه الشاعر بعقله طبعا وهو التقليد الأعمى والمتوارث جيلا بعد جيل:
والعقل يعجب والشرائع كلها = خبر مقلّد لم يقسه قائـــــــس
ونقمة الشاعر على هذا التقليد شديدة لأنه يعني في نظره الكفر بالعقل وجحود نعمه ومزاياه وهذا عصيان وكفر بالعقل المقدس والنبي الذي أراده أن يسيّر حياة البشر ويحدّ من شرورها وآلامها وانغماس في الأباطيل التي تساوي آثاما في نظره تقود الإنسانية إلى الخسار:
لا يدينون بالعقول وكنن = بأباطيل زخرف كذّبــوه
وواضح من خلال استعماله لفعل "يدينون" ان المعري يؤسس لديانة بديلة اسمها العقل وهي على عكس الشرائع مبنية على الصدق ولا تقود لغير الحقيقة وتساعد البشرية على مجابهة مصيرها المليء بالشرور والجور والعذاب. وواجبات هذه الديانة كثيرة لكن أهمها وشرط الانتماء إليها والدخول فيها هو ازدراء الشرائع واحتقار ما جاءت به وطرحه في غياهب النسيان لأنها لا تحوي حسب رأيه سوى مكائد ومكر واستغلال:
إذا رجع الحصيف إلى حجاهُ = تهاون بالشرائع وازدراها
وقد دعا الشاعر إلى اعتناق هذه الديانة طويلا بذلك الهجوم المرير والطويل الذي شنّه على المعتقدات وكذلك من خلال دعوته المتواصلة إلى الإفاقة في أكثر من قصيد وكأنه أراد اخراج الناس من النوم إلى اليقظة ومن الظلمات التي ترسلها الديانة إلى النور الذي يرسله العقل:
أفيقوا يا غواة فإنما = ديانتكم مكر من القدماء
أفيقوا فان أحاديثهـم = ضعاف القواعد والمدّعـم
ويلح الشاعر على ان الحرمان من نور العقل هو العمى الحقيقي. ويتعجب بعقله دوما من تخبط الناس في "حندس" على حدّ تعبيره، قاتم من الاعتقادات اللامعقولة التي يشتركون فيها وان اختلفوا في الزمان أو المكان:
عجبت لكسرى وأشياعه = وغسل الوجوه ببول البقـر
وقول اليهود أله محبّ = رشاش الدماء وريح القتـر
وقول النصارى إله يضـام = ويظلم حقا ولا ينتصــر
وقوم أتوا من أقاصي البلاد = لرمي لجمار ولثم الحجر
فيا عجبا من مقالاتهـم = أيعمى عن الحق كل البشر؟
وتمتزج السخرية في هذه الأبيات بالمرارة التي تظهر في آخرها ويأنف المعري من المشاركة في تلك الأعمال والمقالات اللامعقولية والعمياء ويقف مناهضا لها ورافضا وذلك لأنه آمن بنقيضها أي العقل المتسائل والمفكّر. ومن آمن به عنده لا يمكن أن يؤمن بأي شريعة ومعتقد لأنهما ضدّان لا يجتمعان. وينقسم البشر في شعر المعري إلى صنفين: مؤمنون بالدين مخطئون ومؤمنون بالعقل مصيبون.
هفت الحنيفة والنصارى ما اهتدت = ويهود حارت والمجوس مضلّله
اثنان أهل الأرض ذو عقل بـلا = دين، وآخر دَيّنٌ لا عقل له
وبعقله رفض المعري كذلك الكائنات الغيبية على تنوّعها وكثرتها وخالف الأديان تقديمها للإله على أنه كائن لا يحدّه زمان ولا مكان ولم يستطع التسليم بذلك:
قلتم لنا خالق حكيـم = قلنا صدقتم كذا نقـول
زعمتموه بلا مكان = ولا زمان ألا فقولوا
هذا كلام له خبيء = معناه ليست لنا عقـول
وبهذا جعل صورة الاله كما تقدمها الأديان غير ممكنة التماشي مع تفكير عقليّ باحث. وقد قام العلاّمة أحمد تيمور ببهلوانيّات عجيبة ليبيّن أنه لا اختلاف بين الدين وبين أبيات المعري في الحديث عن الاله (3) مع أن رفض المعري واضح وصريح في البيت الأخير وفي اتهامه القائلين بالرواية الدينية بالزعم. والزعم مفهوم لغة.
وقد وفق الدكتور طه حسين في بحث عميق ودقيق في كتابه: "تجديد ذكرى أبي العلاء" إلى إثبات: "ان أبا العلاء" يفارق المسلمين، ويوافق من اليونانيين ارستطاليس في إثبات أن الله عز وجل ساكن غير متحرك، ولا منتقل. فأما المسلمون فينزّهون الله عن أن يوصف بالسكون والحركة، لأن السكون عجز، ولأن الحركة عرض، وكلاه
ما عليه محال، وأبو العلاء قد نصّ على ذلك فقال:
أما ترى ان الشهب في أفلاكها انتقلت = بقدرة من مليك غير منتقل
كما لم يطمئن إلى قصة الخلق كما أوردتها الكتب المقدسة فأشار إلى قدم العالم وقدم النوع الانساني وقال:
جائز أن يكون آدم هـذا = قبله آدم على إثـر آدم
ورفض من نفس المنطلق طبعا الاعتقاد بوجود الجنّ والملائكة أي الكائنات النارية والكائنات النورانية. ويؤكد أنه رغم عمره الطويل لم بلف ما يثبت وجودها:
قد عشت عمرا طويلا ما علمت به = حسا يحسّ لجنيّ ولا ملك
وينفي طبعا وجود عوالم غيبية في السماء أو تحت الأرض تتنقل فيها تلك المخلوقات. وليس للعقل إلا أن يجيب بالنفي كلما سئل عن هذه الأمور:
إن لم يكن في سماء فوقنا بشـر = فليس في الأرض أو ما تحتها مَلك
والخلاصة في كل هذا أن المعري يعتبر هذه التأكيدات أخبارا ملفّقة جعلت لتضليل الغافلين. وكم سخر من الجن والملائكة في رسالة الغفران وكم صوّرهم في مواضع مضحكة ونظم على ألسنتهم الشعر الغريب وعنهم يقول:
فإنما تلك أخبار ملفقــــــــــــــة = لخدعة الغافل الحشويّ حوشيتا
وإنكار هذه العوالم يجرّ حتما إلى إنكار البعث وحشر الأجسام وأبيات كثيرة للمعري تؤكد أن البشر لا يبعثون بعد هلاكهم.
ضحكنا وكان الضحك منا سفاهــة = وحقّ لأهل البسيطة أن يبكـوا
تحطمنا الأيام حتى كأنـا = زجاج ولكن لا يعاد له سبــك
وهذا الإنكار مردّه إلى العقل دوما.
كم حل حيث تبنى الحي من أمم = ثم انقضوا وسبيلا واحدا سلكـوا
إن تسأل العقل لا يوجدك من خبر = عن الأوائل الا أنهم هلكوا
ولا داعي للإطالة في ذكر الأمثلة التي تنفي البعث فهي كثيرة جدا في اللزوميات. وقد أحصاها الدكتور "طه حسين" فوجدها تفوق الستين مثالا ونحن نصدّقه. ومن أشنع ما قال المعري في هذا المجال على حد تعبير طه حسين دوما وجاء هذا في غير اللزوميات.
ريب الزمان مفرق الإلفيـــــــــــــــن = فٱحكم اِلهي بين ذاك وبينـــــــي
أنهيت عن قتل النفوس تعمّدا = وبعثت أنت لقتلها ملكيــــــــن؟
وزعمت أن لها معادا ثانيــــــــــــــا = ما كان أغناها عن الحاليـــــــــــــــن
وكما رفض البعث الذي جاءت به أديان عديدة رفض التناسخ الذي قالت به أديان أخرى ومذاهب كثيرة من مذاهب الهند التي امتدت تأثيراتها إلى المجتمعات الاسلامية. وقد ذمّ الشاعر التناسخ وشنّعه في مواضع كثيرة من نثره وشعره ورأى فيه أكاذيب وادعاءات باطلة وزعما.
وقد زعموا هذي النفوس بواقيا = تشكّل في أجسامها وتهذِّب
وتنقل منها فالسعيد مكـــــــــــــــــرّم = بما هو لاق والشقي مشذّب
وهذا الرفض عقلاني طبعا كما عهدنا.
يقولون إن الجسم ينقل روحه = إلى غيره حتى يهذبه النقـــــــــــل
فلا تقبلن ما يخبرونك ضلــــــة = إذا لم يؤيد ما أتوك به العقـــل
وفي كل هذا دليل آخر على أن المعري يهاجم ما جاء في الأديان قاطبة ويتناول بالنقد والتساؤل العقليين كل ما أتت به من مفاهيم وأحكام ولا يقتصر على دين دون ﺁخر لأنه يعتبر الدين واحدا وان تنوّعت المعتقدات وتكاثرت وينظر إليه على أنه ظاهرة بشرية تاريخية لها أهداف معينة وغايات مقصودة.
وفي اللزوميات كلام كثير موجه ضد المذاهب والدعاة وأهل الطرق ولم يرفق المعري لا بشيعة ولا بقرامطة ولا بصوفية ولا بالمذاهب الفقيهة ولا بالأولياء وأصحاب الكرامات بل سخر منهم وشنّع بأعمالهم. ولن نطيل في هذا المجال وان أطال فيه المعري وحسبنا أن نقول إن كل تلك المذاهب والطرق وما شابهها ما هي إلا وليدة الديانات وهي الفرع بالنسبة إلى الأصل ومهاجمة المعري لها جزء لا يتجزأ من ثورته على الأديان قاطبة.
ولهذا السبب خرج من نقدها بنفس النتائج التي وصل إليها من نقد المعتقد. وتتلخص هذه النتائج في انها حلقة من مسلسل المكائد الغيبية التي يرى انها تهدف إلى استغلال العامة وجمع الحطام والمسك بزمام الدنيا.
انما هذه المذاهب أسباب = لجذب الدنيا إلى الرؤسـاء
غرض القوم متعة لا يرقّــون = لدمع الشمّاء والخنسـاء
كالذي قام يجمع الزنــــــــــج = بالبصرة والقرمطي بالأحساء
ويرى الدكتور طه حسين ودارسون كثيرون أن نقمة المعري على المعتقدات متأتية من سوء فهم الناس لها وسوء تطبيقهم لتعاليمها وفي ذلك يقول: إنه "حمل على الدين ذنب أهله وعاب الشرائع بآثام أصحابها" (6) إلا أنه لا يمكن ردّ كل تلك الثورة إلى تأثر بسوء تطبيق الناس للشرائع وذلك لأسباب عديدة، فالمعري خصص عشرات القصائد ينعَى فيها على الناس سوء فهمهم للدين وتصوراتهم الخاطئة وعباداتهم المتاجرة، فهذا الأمر واضح في ذهنه وضوحا شديدا وتناوله من نواح مختلفة تماما كباقي الممارسات الاجتماعية الأخرى التي تزيد حسب رأيه الشر تكرسا واستفحالا. وهذا يعني أن هذا الموضوع نال حظه من الدرس في شعر المعري حتى لا ينساق خطأ على حسب تعبير طه حسين إلى التعميم.
ويعارض هذا الرأي كذلك إن الشاعر لم يتحدث عن دين واحد متصل بسوء فهم العامة له في مجتمعه بل استعرض معظم الأديان التي وصلت أخبارها إليه مهما تنوعت في الزمان والمكان.
كما ان ذلك الكم الهائل من مئات الأمثلة التي تعرض فيها للمعتقدات وفارقها بالبحث العقلي لا يمكن أن يكون وليد انفعال وانسياق سبّبها له جهل العامة بالدين كما يستبعد أن يكون أنكر البعث أكثر من ستين مرة وذمّ الأنبياء والرسل أكثر من ذلك بكثير لا لشيء إلا لأن فهم العامة للدين يقوم على تصورات مادية وبسيطة للثواب والعقاب وهو الرجل الذي أحاط بعلوم عصره ومعارفه وأمضى العقود الطويلة محصّلا لها ومتأملا فيها.
إن ثورة المعري على الأديان تندرج ضمن تصوّره للحياة وفهمه للوجود القائلين بتأصّل الشر في العالم البشري واستفحاله مع مرور الأزمان وتولّد العذاب والشقاء عنه. وهي ليست سوى معركة فلسفية شعرية من حرب شاملة شنّها على ذلك الوجود بكلّ ما حوى من قوانين وقيم ومعتقدات طمعا منه في القضاء على الشر بالقضاء على الوجود الذي يغذّيه عن طريق الانتحار الكوني المتمثل في الانصراف عن إدامة الحياة البشرية والامتناع عن الزواج وايقاف النسل كما أسلفنا.
وفي هذا كثير من تأثيرات الفلسفات الفارسية والهندية. ومن الطبيعي أن يفارق في هذا الصدد الأديان في جوهرها لا في تطبيقها فحسب لأنها تقدم تفسيرات مغايرة للوجود وتحضّ على الزواج والنسل والمحافظة على النوع البشري.
أمّا عن التناقض الذي قال كثير من الدارسين انه طغى على تفكير المعري وخاصة فيما يتعلق بالأديان فيمكن ان نردّه إلى أسباب معينة. وقد امتلأت عديد من اللزوميات بحمد الله ومدح الأنبياء ومدح بعض الأديان. إلا أن هذا التناقض لا يعني حتما التمزق بين المفاهيم والحيرة والشك الذي لا نهاية له. فمعروف أن اللزوميات لم ترتّب ترتيبا زمنيا وهذا ما حرمنا من الوقوف على مسيرة الرجل الفكرية والشعرية بوضوح وثبات نهائيين بل رتبها الشاعر حسب القافية فنجد تنبعا لذلك القصيدتين المتجاورتين وقد تفصل بينهما عشرات السنين فلا يكون الاختلاف في المواقف حينئذ اختلافا بل تغيرا قائما على أسباب وتطورات معينة قطعها صاحبها.
ولا يمكن أن نتصور أن المعري قد يكون وصل إلى نتائجه التي شن ثورته على المعتقد تبعا لها دفعة واحدة كما لا يمكن أن يكون بيّن نظرته إلى الوجود والحياة مرة واحدة بل إن أمرا كهذا يستغرق عشرات السنين خاصة أنّ كثيرا من إمكانيات البحث كانت تعوزه في ذلك الوقت ومن هنا يكون الحيرة والتساؤل مفهومين.
وقد يكون كثير من هذا التناقض مقصودا من المعري نفسه وذلك لأنه اتهم بالزندقة وصنّف ضمن أشهر زنادقة عصره فتكون الأبيات التي يمدح فيها الأديان محاولة منه لدفع التهمة عن نفسه وتجنب أذى الفرق والطوائف التي هاجمها.
وفي ذلك يقول طه حسين: وقد احتاط الرجل لذلك ألوانا من الاحتياط واتّقاه بضروب من التقية فألغز وغلا في الألغاز واصطنع الاستعارة والمجاز ودار حول كثير من المعاني دورانا ولم يرد أن يتعمقها في شعره أو نثره مخافة أن يظهر الناس على رأيه وان يعرفوا من أمره ما كان يجب ان يجهلوا ويطلعوا من سرّه على ما كان يؤثر أن يظلّ عليهم مستغلقا ودونهم مكتوما(7) وفي اللزوميات أقوال كثيرة تؤكد ما ذهب إليه عميد الأدب العربي فالمعري يؤكد على أنه لم يبح بأفكاره كاملة للعامة بل حفظها في صدره اتقاء أمور كثيرة.
جلال المخ
نشر أشجار علمت بها = شجرات اثمرت ناسـا
لم تسق عذبا ولا أرجـا = بل أذيّات وأدناسـا
وزيادة على الشر المتأصل في الوجود والمرتبط به تمتلئ الحياة البشرية بالأرزاء والآلام، فالحياة كلها تعب وشقاء والناس كلهم بائسون وان اختلفت درجات بؤسهم حسب الظروف:
ومتى رجعت إلى الحقائق لم يكـن = في العالم البشري الا بائـس
ولا أمل حسب المعري في صلاح أو إصلاح ولا حلّ للقضاء على الألم وخاصة على الشر سوى التوقف عن الإنجاب والقضاء على النسل الذي يديم الوجود الشرير ويواصله أي الانتحار الكوني الذي يضع حدا نهائيا لمأساة البشرية المتمزقة أبدا بين الشرّ والألم.
ومن هنا، كان لزاما على أبي العلاء ان يصطدم بالأديان التي لا ترى أن أصل الوجود شر بل تؤكد ان الشر والخير من خلق الله وان الإنسان قد يختار "الصراط المستقيم" أو "سبيل الضلال" ثم يحاسب على ما قدمت يداه بل إن بعض الأديان يرى أن أصل الوجود خير كما في المسيحية مثلا. وكان من الحتمي أن يثور كذلك على الدين عندما يحوله المجتمع إلى سلوك بشري اجتماعي يمارس الشرّ ويكرّسه كباقي الممارسات الاجتماعية الأخرى التي هاجمها ورفض المشاركة فيها. ومن هنا أيضا تكون ثورة المعري على الأديان شاملة تحمل عليها في مستوييها الكبيرين أي جوهرها وأسسها التي تناقض فلسفته في الحياة ونظرته إلى الوجود، وتطبيقها وإقامة شعائرها اللذين يزيدان الشر تدعيما واستفحالا في نظره.
ومهاجمة المعري للديانة في تطبيقها معناه مهاجمة رجال الدين خاصة والمؤمنين به عامة. وتفيض قصائده بكره كبير لرجال الدين وتبرز رذائلهم الكثيرة وتلحّ خاصة على نفاقهم. وهذا معنى كثير الورود فيها فالنفاق صفة قارة فيهم وتارة ينعته بالرياء وطورا يعمّمه من خلال المكر والكيد. وهكذا فإن رجال الدين كما تصورهم القصائد العلائية أولو مكر شديد يظهرون ما لا يضمرون ويقولون ما لا يفعلون ويأتون الفساد والفسوق. وبكشفهم هذا يحذّر من ألاعيبهم وتحيلهم:
رويدك قد غررت وأنت حرّ = بصاحب حيلة يعظ النساء
يحرّم فيكم الصهباء صبحا = ويشربها على عمد مســاء
يقول لكم غدوت بلا كساء = وفي لذاتها رهن الكســاء
إذا فعل الفتى ما عنه ينهى = فمن جهتين لا جهة أساء
وأمثال هذا الواعظ المنافق كثيرون في شعر المعري وفي مجتمعه بلا شك منتشرون في المساجد والشوارع التي في كل البلاد، والشر الذي يأتون متأصل فيهم ولا يقتصر على نفر منهم دون الآخرين وها هم في إحدى القصائد في مكة مثلا يتدافعون نحو الكعبة وهم سكارى لعبت الصهباء برؤوسهم وكشفت رياءهم.
ففي بطحاء مكة شرّ قـوم = وليسوا بالحماة ولا الغيـارى
قيام يدفعون الوفد شفعــا = إلى البيت الحرام وهم سكارى
ولا يسبح هؤلاء الوعّاظ والأئمة ورجال الدين عامة في بحور الخمرة والسكر فحسب بل يغرقون في بحور فساد أخرى. وكم من المشايخ الذين رغم شيبهم ووقارهم يبيتون يسبّحون ويسبحون في الخنى.
وليس عندهم دين ولا نسك = فلا تغرك أيد تحمل السبحا
وكم شيوخ غدوا بيضا مفارقهم = يسبّحون وباتوا في الخنى سبحا
وبعد ذلك يفيقون ويلبسون جبة النفاق ويصعدون على المنابر وسبحة الرباء دائما بين أصابعهم ويعظون ويرشدون وينطقون بكذب مبين إلى حد أن الشاعر يستغرب كيف لا يميل بهم المنبر ويسقطهم من فوقه:
كذب يقال على المنابر أفلا = يميد لما يقال المنبـر
وزيادة على كل هذه الرذائل نجد المعري ينعى عليهم طمعهم. وهو طمع مزدوج لأنهم لا شيء يقدسون سوى تلك الأطماع ويلهثون وراءها بلا هوادة وألسنتهم متدلية وغرائزهم متقدة وهذا المعنى الظاهر في الأبيات التي نسوقها للمعري. وهم لا ينسون طبعا ما تمنّيهم به الأديان من خيرات وملذات ومنافع تتفق وطمعهم اللامتناهي. وهكذا فإنّ من بني إيمانهم على طمع في خيرات الآخرة وفاضت نفسهم بالجشع، لا يجب ان نستغرب منهم طمعهم إلى الدنيا وطمعهم في شهواتها لأن تلك الأطماع أمست المنطق الوحيد الذي يحرك ذواتهم ويرون من خلاله الأمور:
سبح وصلّ وطف بمكة زائرا = سبعين لا سبعا فلست بناسك
جهل الديانة من إذا عرضــت = له أطماعه لم يلف بالمتماسك
وبهذا يضيف إليهم رذيلةَ الجهل ليجعلهم جاهلين بالديانة التي ينتمون إليها بل يمثلون. وليجعل صورة رجل الدين كما قدمها في قصائده حالكة جدا وممزوجة من رذائل وسيئات عديدة بعضها النفاق والفساد والكذب والطمع والجهل.
أما صورة عامة المنتمين إلى الدين فإنها لا تقل قتامة عن صورة رجاله وممثليه وان كان هاجم الأولين بعنف شديد فإنه تحدث عن هؤلاء بسخرية شديدة، فهم في قصائده غواة ضلّوا سبيل الحقيقة ومخدوعون وجهلة، وأغبياء ينهمكون في ممارسة أعمال لا طائل من ورائها ورغم ذلك ينعمون بضلالهم ويحسون بسعادة سببها جهلهم بحقائق الأمور:
ودعوا إلى الله كي يجيبهم = سيّان هو والخواسي النبـح
لا تغبط القوم في ضلالتهم = وإن رؤوا في النعيم قد سبحوا
كما جعلهم في أوضع المراتب الحيوانية وشبّههم بحيوانات ودواب كثيرة، فزيادة إلى كونهم كلابا نابحة بلا طائل وهو معنى ردده أكثر من مرة، جعلهم حميرا وماعزا، وعمّم هذه التشابيه بجعلهم مرارا كثيرة بهائم بل في قدر أسفل من ذلك لأن البهائم تكبح أن زاغت عن طريقها فتقف وتعود إلى الطريق القويم أما هم فماضون في زيغهم أبدا لأنه لا لجم لكبحهم ولا إمكانية لوضع حدّ لغوايتهم وإصلاح غرائزهم:
فليتهم كالبهائم اعترفـوا = لجما إذا بان زيغهم كبحـــوا
وقد جمع الشاعر في أحيان كثيرة بين الصورتين فتحدث عن هؤلاء وأولئك ناعتا الجميع بأصحاب الدين. وإذا بالدين يتقاسمه أهل المكر وأهل الغباوة:
وقد فتشت عن أصحاب دين = لهم نُسُك وليس لهم ريـاء
فألفيت البهائم لا عقـــول = تقيم لها الدّليل ولا ضيــاء
وإخوان الفطانة في اختيـال = كأنهم لقوم أنبيـاء
فأما هؤلاء فأهل مكر = وأما الأوّلون فأغبيـاء
إذا كان التقى بلها وعيّـا = فأعيار المذلة أتـقيـا
أما ثورة المعري على الأديان في جوهرها فأعنف بكثير سخّر لها اهتماما أكبر وخصص لها قصائد أكثر وذاك لأنه يعتبرها من أصول الشر ومنابع الفساد، وهي الأسس التي بنى عليها رجال الدين ممارساتهم الاجتماعية التي تكرس الشرّ وتزيده استفحالا وهي التعلات التي وجدوها ليمارسوا الرياء دون أن يجرؤ أحد على مناقشتهم والتعرّض الكافر لهم خاصة إذا ربطنا الدين بالسياسة كما هو موجود في تاريخ الاسلام ورأينا استمداد الكثير من الحكام الجائرين والفاسدين شرعية استبدادهم بأرواح العباد واستئثارهم بمنافع الحكم وقضائهم على كل تفكير حر بشتى التهم الملفقة من النصوص الدينية والتأويل العقائدية. ومهاجمة المعري لها بتلك الطريقة العنيفة محاولة في رأيه لاقتلاع بعض أشجار الشر من أصولها وجهد لتقويض واحد من أبينة الفساد كما تصورها.
إلا أنه لم يصل إلى خلاصاته الثائرة منذ أول وهلة بل قطع مراحل أدت إليها وأهمّها مرحلة شك مستنكر رافض تهيئ مرحلة التمرد وجحود ما اتفق عليه البشر منذ عصور بعيدة وتعدّ لها. وممّا حمله على الشك أول الأمر في المعتقدات وعدم الاطمئنان إلى مسلماتها هو تعددها واختلافها واجتهاد القائمين بها رغم ذلك في التعصّب لبعضها وتفضيله على غيرها واعتباره حقا مطلقا. ولا شك في أن أبا العلاء نظر إليها نظرة مسوّية تبذل جهدها للاقتراب من التجرد، أفلت فيها من ضغوط الانتماء التي لا تمكّن من النظر إلى الأمور إلاّ من زاوية واحدة مما يبين شمولية تفكيره ورحابة تأمله:
في اللاذقية (9) فتنـة = ما بين أحمد والمسيـح
قسّ يعالج دلبه = والشيخ من حنق يصيـح
كل يعزز دينـه = يا ليت شعري ما الصحيــــــح؟
وواضحة سخرية المعري من خلال هذه الرواية التي رواها خاصة ياقوت في "معجم البلدان". وهذه الأبيات هي من أول اصطدامات المعري بالديانات لأنه قالها في شبابه عند زيارته اللاّذقية التي كانت حينئذ بايدي الروم وقد قال ياقوت: "وكان للمسلمين بها مسجد ومؤذن وقاض، فإذا أذّن مؤذنهم دقّ الروم نواقيسهم كيادا لهم" (2)
وهذا ما يفسر الصورة الهزلية التي رسم من خلالها المؤذن الشيخ يصيح بكل قواه حانقا ومغتاظا حتى يعلو صوته على رنين النواقيس المضروبة بمكر وكيد تأكيدا على المنافسة وأحقية فرض المعتقد.
وقد كانت هذه الحادثة تمر بكل بساطة لو لم يشهدها رجل كالمعري دأب على التفكير والبحث وعدم التسليم بالأشياء دون درسها والتثبت منها. والمارُّون باللاذقية آلاف مؤلّفة لم تفعل فيهم تلك الحادثة شيئا. وفعلا فقد كان ذلك التساؤل المستغرب والحائر والهازئ والباحث في نفس الوقت أول الشرارات التي ائتلقت في ذهن المعري ولم تلبث أن تحولت إلى حريق هائل اندلع في اشعاره ليأتي على مقومات الأديان وتعاليمها وركائزها لم يستثن دينا منها سواء عرفت بالسماوية أو الوضعية وعاملها معاملة واحدة ووجّه لها انتقاده وسخريته اللاذعين والمريرين وجعلها من أكبر مصادر الشرور ومنابع الفساد وصوّرتها قصائده مليئة بالدسائس والمكر والفعال الخسيسة مهما تنوعت أو تعددت:
ومتى ركبت إلى الديانة غالا
فكر هلى حسن الضمير دسائس...
متوجسون ومسلمون ومعشـر
منتصرون وهادئون رسائس...
وبيوت نيران تزار تعبّـدا
ومساجد معمورة وكنائـس
والصابئون يعظّمون كواكبـا
وطباع كل في الشرور حبائـس
أنّى ينال أخو الديانة سـؤددا
ومآرب الرجل الشريف خسائــــــــــس
ومن بين الألفاظ التي حوتها هذه الأبيات كلمة "دسائس" وهي كلمة بنى حولها المعري كامل الأفكار التي هاجم من خلالها المعتقدات وستردّد مرادفاتها أو المعاني التي تتولد منها إلى حد يجعل الديانات في شعره مرادفا للدسائس وأسبابها وسرعان ما يحدد المسؤولية في حياكتها وتدبيرها ويلقيها كاملة على عاتق النبوّات والأنبياء. ورغم ان الشاعر هاجم في قصائده مفاهيم كثيرة وفرقا عديدة فان الجدير بالملاحظة هو أن النبوات هي التي تعرضت لأعنف هجماته وأقسى ضرباته الشعرية وذلك يعود للتسلسل الذي وعى من خلاله الأمور، فالديانات في رأيه من أهم منابع الشر والجور، أما النبوّات فهي منبع الأديان ومصدر العقائد تبشّر بها وتعلن قيامها أو تنطلق من بعضها لتزيد عليه وتعلنه على الناس في ثوب مستحدث. وصحيح أن المعري كان يعتقد أنه لا إمكانية للقضاء على الشر واستئصاله من الوجود الذي يحويه، لكنه كان يريد أن يوجّه له أكبر الضربات من خلال تهجمه على النبوات، فقد جحدها وأنكر صحتها ورفض التسليم بها رفضا قاطعا.
ولم يكتف بتكذيبها بل دعا إلى ذلك بإلحاح وإصرار كبيرين، أما الأنبياء فهم في رايه كاذبون ومزوّرون للحقائق عن قصد وبسابق إضمار، والكلام الذي يتلون زور بعيد وإن تفننوا في تنميق ألفاظه وتسطير معانيه، كما أنهم بسبب ما اختلقوا وادعوا أفسدوا الحياة البشرية وزادوها شرورا وآلاما بينما كان حال الناس أفضل بكثير قبل ذلك:
ولا تحسب مقال الرسل حقا = ولكن قول زور سطـروه
وكان الناس في عيش رغيـد = فجاؤوا بالمحال فكـدّروه
وهذا المحال الذي نتيجته تكدير حياة البشر أمثلته عديدة وأهمها في رأي الشاعر التفريق بينهم وتشتيت شملهم إلى الأبد وإلقاء عداوة بينهم شديدة الشراسة يتوارثونها إلى دور فدور ويعتبرونها طبيعية ومحتمة ويجسمونها في التقاتل والتذابح والحروب الوحشية التي تمسي مقدسة وواجبة، فتستباح الأعراض وينتشر الدمار وتتسع هوّة الشقاق والفرقة التي تفصلهم ويزداد جور الغالبين وحقد المغلوبين.
إن الشرائع ألقت بينا إحَنًـا = وأورثتنا أفانين العـداوات
وهل أبيحت نساء الروم عن عرض = لِلْعُرْبِ إلاّ بأحكام النبـوات
أما الأنبياء فقد أشار إليهم بطريقة معمّمة وغير دقيقة في بعض الأحيان ناسبا إليهم المكر والخبث وجاعلا الديانات التي أتوا بها وأعلنوها مكيدة مبيتة تهدف إلى استلاب الأذهان وانتهاب الخيرات ونتيجة لذلك يوجه إليهم الشتم دون تحرّج.
أفيقوا يا غواة فإنما = ديانتكم مكر من القدماء
أرادوا بها جمع الحطام فأدركوا = وبادوا وبادت سنّة اللؤمـاء
إلا أنه يشير إليهم في أعظم الأحيان بأسمائهم هازئا من كثرتهم وتعدّد دعواتهم واختلافها وحيرة الناس بين ما يأتي به هذا وذاك وتذبذبهم بين معتقدات تؤكد كل واحدة أنها الحقيقة المطلقة والحق المبين فاز من اتبعها وخسر من لم يفعل.
أتى عيسى فأبطل دين موسى = وجاء محمد بصلاة خمــس
وقيل يجيء دين بعد هـذا = فأودى الناس بين غد وأمـس
وما تجدر الاشارة إليه هو ان المعرّي في حديثه عن النبوات أو عن الديانات بصفة عامة يعمد غالبا إلى التعميم فيستعرض الكثير منها إذا ذكر بعضها ويراعي في معظم الأحيان تسلسلها التاريخي فيبدأ باليهودية ثم المسيحية فالإسلام وقس على ذلك أنبياء هذه الديانات، بل إنه كثيرا ما يضيف إليها المجوسية ومعتقدات الهند والصّابئة.
وقلّما نجد شاعرا نظر إلى الأديان بمثل هذه الشمولية وسوّى بينها في تفكيره واعتبرها ظاهرة واحدة. يجب أن تعامل نفس المعاملة
وقلّما نجد شاعرا حضرت في ذهنه كل تلك المعتقدات بمختلف تعاليمها وشعائرها كلما تحدث عن أحدها.
وقد يقتصر في حديثه عن دين واحد أو معتقد معيّن ولا يتعدّاه إلى سواه. ويمكن في هذا الصدد تصنيف هذا الحديث إلى نوعين أولهما لا يتحدث فيه إلا عن دين لكنه يتخذه مجرد مثل ويقصد من ورائه الأديان كلها كما في هذا المثل الذي دعا فيه إلى عدم الامتثال لأصحاب الدين لأن غايتهم الطمع وحب المنافع والفوائد وان قنّعوا ذلك بالتلاوة وبكثير من السلوك الديني:
ولا تطيعنّ قوما ما ديانتهـم
الا احتيال على أخذ الإتـاوات
وانما حمّل التوراة قارئها
كسب الفوائد لا حبّ التــــــــلاوات
فواضح هنا أن الحديث عن التوراة وقارئيها في المثل الذي ضربه على الاحتيال الديني لا يخص اليهود وديانتهم وانما ينسحب على كل الديانات بمختلف أسفارها بما في ذلك اليهود.
أما ثانيهما فحديث يختص بدين واحد دون غيره يعرّض به ويرفض أحكامه التي انفرد بها دون غيره ويهاجمه من خلال ظروف أو أحداث تاريخية اختص بها. ونجد في هذا المجال قصائد كثيرة ثار فيها على الدين الاسلامي بمختلف ميادينه. ويعود هذا إلى انتمائه إلى مجتمع إسلامي ممّا جعل مهاجمة ذلك المجتمع تقتضي وقوفا أطول عند المعتقدات والأحكام التي بني عليها ذلك الاجتماع البشري ونظمت الحياة من خلالها دون أن يطبع نظرته أو تأمله بالمحدودية والاقتصار على ذلك الدين كما رأينا. ويهاجم المعرّي المسلمين بشدّة ويجعل ما يتلون ليلا نهارا باطلا مزخرفا كغيره من تلاوات الأديان الأخرى وزورا مسطّرا ويفسّر انتشاره بحدّ السيف وإراقة الدماء وسبي المهزومين وإرغامهم على التصديق به الإذعان لأصحابه.
تلوا باطلا وجلوا صارمـــــــــــــــا = وقالوا صدقنا، فقلنا نعـــــــــــــــــم
ثم يدعو إلى تكذيبهم والإعراض عن اعتقاداتهم كما فعل مع باقي الأديان الأخرى لأنها إذا ما تُوُمِّل فيها ضعيفة دعائمها ومهلهلة ركائزها.
أفيقوا فإن أحاديثهــم = ضعاف القواعد والمُدَّعَـــمْ
كما لا يتحرّج بالتعريض برسول الاسلام أكثر من مرّة.
ولست أقول إنّ الشهب يوما = لعبث محمد جعلت رجومـا
ورفض المعرّي كذلك كثيرا من الأحكام الإسلامية التي جعلت لتسطير حياة المسلمين وتنظيمها. وتوجد منبثة في اللزوميات عدة مواقف تستنكر ما جاءت به الشريعة وتعارضها ومنها ما جاء في القرآن متعلقا بالميراث ولم يمنح الأم سوى السدس من أموال ابنها المتوفى رغم عذابها في ولادته وتربيته ورغم حنانها الأموي الذي لا يضارعه حنان امرأة أخرى.
حيران أنت فأي الناس تتبع
تجري الحظوظ وكل جاهل طبـع
والأم بالسدس عادت وهي أرأف من
بنت لها النصف أو عرس لها الرّبع
وكذلك قطع يد السارق استنكرها بشدة ورفضها.
يد بخمس مئين عسجد وديت = ما بالها قطعت في ربع دينــــار
وقد يأخذ الاستنكار لما جاء به الاسلام من أحكام وغيرها شكلا ساخرا ومستهزئا كما في قوله:
أفملّة الاسلام ينكر منكـــــــــــر = وقضاء ربّك صاغها وأتى بها؟
ويعود إنكار الديانات ومهاجمتها ورفض ما أتت به إلى اعتماد المعري العقل طريقا اوحد لأدراك حقائق الكون والحياة. وكل ما أتت به الأمم السابقة من معارف وأخبار لم يكن الشاعر يقبله مسبقا بل كان يعرضه على عقله يدرسه ويمحّصه فيقبل ما يجده منطقيا ومعقولا ويطرح جانبا ما يراه لا معقولا يعسر تصديقه ويرفض التسليم به مهما كان مصدره ومهما اتفق الناس حوله أو اصطلحوا على اعتباره صحيحا ولو منذ أقدم العصور.
وإيمان المعري بالعقل كبير جدا وهو رغم ثورته وتمرده على القيم البشرية يطيعه طاعة عمياء ويرضخ له ويحتكم إليه ويهتدي بنوره متخذا منه إماما يقود أفكاره وأعماله مقابل الامام المنتظر الذي كان كثير من معاصريه يرتقبون قدومه ليعوّضهم عن استسلامهم وسلبيتهم بقلب خارق للأوضاع اعتبره المعري وهما ومضيعة للوقت.
يرتجي الناس ان يقـوم = إمام ناطق في الكتيبة الخرســـاء
كذب الظن لا إمام ســوى = العقل مشيرا في صبحه والمساء
فإذا أطعته جلب الرحمــة = عند المسير والإرسـاء
ويلحّ على إمامة العقل الشرعية والوحيدة أكثر من مرة.
سأتبع من يدعو إلى الخير جاهـدا = وأرحل عنها ما إمامي سوى عقـلي
ولا يقف تقديس الشاعر العقل عند جعله اماما تجلب طاعته الخير والرحمة بل يتخذه نبيا أحكامه مقدسة وتصديقه واجب. وبهذه ال
صورة أراد مرة أخرى مهاجمة الأنبياء وإنكار رسالاتهم وتلاواتهم التي نعتها بالأباطيل المسطرة وأحلّ محلّها العقل النبي الصادق في تعليم البشر وارشادهم.
أيّها الغرّ ان خصصت بعقل = فاسألنه فكل عقل نبـي
ولهذا السبب كان العقل حاضرا كلّما هاجم الشاعر الأديان تأكيدا على أن رفضه وثورته ينطلقان منطلقا عقليا أساسه التأمل والبحث والتقصي والتمعن في الأمور قبل تصديقها أو تكذيبها. وكلّما جابه العقل الشرائع، تعجّب من تغلغلها في ضمائر الناس وعجب لتسليمهم بها تسليما ليس له سوى أساس واحد يرفضه الشاعر بعقله طبعا وهو التقليد الأعمى والمتوارث جيلا بعد جيل:
والعقل يعجب والشرائع كلها = خبر مقلّد لم يقسه قائـــــــس
ونقمة الشاعر على هذا التقليد شديدة لأنه يعني في نظره الكفر بالعقل وجحود نعمه ومزاياه وهذا عصيان وكفر بالعقل المقدس والنبي الذي أراده أن يسيّر حياة البشر ويحدّ من شرورها وآلامها وانغماس في الأباطيل التي تساوي آثاما في نظره تقود الإنسانية إلى الخسار:
لا يدينون بالعقول وكنن = بأباطيل زخرف كذّبــوه
وواضح من خلال استعماله لفعل "يدينون" ان المعري يؤسس لديانة بديلة اسمها العقل وهي على عكس الشرائع مبنية على الصدق ولا تقود لغير الحقيقة وتساعد البشرية على مجابهة مصيرها المليء بالشرور والجور والعذاب. وواجبات هذه الديانة كثيرة لكن أهمها وشرط الانتماء إليها والدخول فيها هو ازدراء الشرائع واحتقار ما جاءت به وطرحه في غياهب النسيان لأنها لا تحوي حسب رأيه سوى مكائد ومكر واستغلال:
إذا رجع الحصيف إلى حجاهُ = تهاون بالشرائع وازدراها
وقد دعا الشاعر إلى اعتناق هذه الديانة طويلا بذلك الهجوم المرير والطويل الذي شنّه على المعتقدات وكذلك من خلال دعوته المتواصلة إلى الإفاقة في أكثر من قصيد وكأنه أراد اخراج الناس من النوم إلى اليقظة ومن الظلمات التي ترسلها الديانة إلى النور الذي يرسله العقل:
أفيقوا يا غواة فإنما = ديانتكم مكر من القدماء
أفيقوا فان أحاديثهـم = ضعاف القواعد والمدّعـم
ويلح الشاعر على ان الحرمان من نور العقل هو العمى الحقيقي. ويتعجب بعقله دوما من تخبط الناس في "حندس" على حدّ تعبيره، قاتم من الاعتقادات اللامعقولة التي يشتركون فيها وان اختلفوا في الزمان أو المكان:
عجبت لكسرى وأشياعه = وغسل الوجوه ببول البقـر
وقول اليهود أله محبّ = رشاش الدماء وريح القتـر
وقول النصارى إله يضـام = ويظلم حقا ولا ينتصــر
وقوم أتوا من أقاصي البلاد = لرمي لجمار ولثم الحجر
فيا عجبا من مقالاتهـم = أيعمى عن الحق كل البشر؟
وتمتزج السخرية في هذه الأبيات بالمرارة التي تظهر في آخرها ويأنف المعري من المشاركة في تلك الأعمال والمقالات اللامعقولية والعمياء ويقف مناهضا لها ورافضا وذلك لأنه آمن بنقيضها أي العقل المتسائل والمفكّر. ومن آمن به عنده لا يمكن أن يؤمن بأي شريعة ومعتقد لأنهما ضدّان لا يجتمعان. وينقسم البشر في شعر المعري إلى صنفين: مؤمنون بالدين مخطئون ومؤمنون بالعقل مصيبون.
هفت الحنيفة والنصارى ما اهتدت = ويهود حارت والمجوس مضلّله
اثنان أهل الأرض ذو عقل بـلا = دين، وآخر دَيّنٌ لا عقل له
وبعقله رفض المعري كذلك الكائنات الغيبية على تنوّعها وكثرتها وخالف الأديان تقديمها للإله على أنه كائن لا يحدّه زمان ولا مكان ولم يستطع التسليم بذلك:
قلتم لنا خالق حكيـم = قلنا صدقتم كذا نقـول
زعمتموه بلا مكان = ولا زمان ألا فقولوا
هذا كلام له خبيء = معناه ليست لنا عقـول
وبهذا جعل صورة الاله كما تقدمها الأديان غير ممكنة التماشي مع تفكير عقليّ باحث. وقد قام العلاّمة أحمد تيمور ببهلوانيّات عجيبة ليبيّن أنه لا اختلاف بين الدين وبين أبيات المعري في الحديث عن الاله (3) مع أن رفض المعري واضح وصريح في البيت الأخير وفي اتهامه القائلين بالرواية الدينية بالزعم. والزعم مفهوم لغة.
وقد وفق الدكتور طه حسين في بحث عميق ودقيق في كتابه: "تجديد ذكرى أبي العلاء" إلى إثبات: "ان أبا العلاء" يفارق المسلمين، ويوافق من اليونانيين ارستطاليس في إثبات أن الله عز وجل ساكن غير متحرك، ولا منتقل. فأما المسلمون فينزّهون الله عن أن يوصف بالسكون والحركة، لأن السكون عجز، ولأن الحركة عرض، وكلاه
ما عليه محال، وأبو العلاء قد نصّ على ذلك فقال:
أما ترى ان الشهب في أفلاكها انتقلت = بقدرة من مليك غير منتقل
كما لم يطمئن إلى قصة الخلق كما أوردتها الكتب المقدسة فأشار إلى قدم العالم وقدم النوع الانساني وقال:
جائز أن يكون آدم هـذا = قبله آدم على إثـر آدم
ورفض من نفس المنطلق طبعا الاعتقاد بوجود الجنّ والملائكة أي الكائنات النارية والكائنات النورانية. ويؤكد أنه رغم عمره الطويل لم بلف ما يثبت وجودها:
قد عشت عمرا طويلا ما علمت به = حسا يحسّ لجنيّ ولا ملك
وينفي طبعا وجود عوالم غيبية في السماء أو تحت الأرض تتنقل فيها تلك المخلوقات. وليس للعقل إلا أن يجيب بالنفي كلما سئل عن هذه الأمور:
إن لم يكن في سماء فوقنا بشـر = فليس في الأرض أو ما تحتها مَلك
والخلاصة في كل هذا أن المعري يعتبر هذه التأكيدات أخبارا ملفّقة جعلت لتضليل الغافلين. وكم سخر من الجن والملائكة في رسالة الغفران وكم صوّرهم في مواضع مضحكة ونظم على ألسنتهم الشعر الغريب وعنهم يقول:
فإنما تلك أخبار ملفقــــــــــــــة = لخدعة الغافل الحشويّ حوشيتا
وإنكار هذه العوالم يجرّ حتما إلى إنكار البعث وحشر الأجسام وأبيات كثيرة للمعري تؤكد أن البشر لا يبعثون بعد هلاكهم.
ضحكنا وكان الضحك منا سفاهــة = وحقّ لأهل البسيطة أن يبكـوا
تحطمنا الأيام حتى كأنـا = زجاج ولكن لا يعاد له سبــك
وهذا الإنكار مردّه إلى العقل دوما.
كم حل حيث تبنى الحي من أمم = ثم انقضوا وسبيلا واحدا سلكـوا
إن تسأل العقل لا يوجدك من خبر = عن الأوائل الا أنهم هلكوا
ولا داعي للإطالة في ذكر الأمثلة التي تنفي البعث فهي كثيرة جدا في اللزوميات. وقد أحصاها الدكتور "طه حسين" فوجدها تفوق الستين مثالا ونحن نصدّقه. ومن أشنع ما قال المعري في هذا المجال على حد تعبير طه حسين دوما وجاء هذا في غير اللزوميات.
ريب الزمان مفرق الإلفيـــــــــــــــن = فٱحكم اِلهي بين ذاك وبينـــــــي
أنهيت عن قتل النفوس تعمّدا = وبعثت أنت لقتلها ملكيــــــــن؟
وزعمت أن لها معادا ثانيــــــــــــــا = ما كان أغناها عن الحاليـــــــــــــــن
وكما رفض البعث الذي جاءت به أديان عديدة رفض التناسخ الذي قالت به أديان أخرى ومذاهب كثيرة من مذاهب الهند التي امتدت تأثيراتها إلى المجتمعات الاسلامية. وقد ذمّ الشاعر التناسخ وشنّعه في مواضع كثيرة من نثره وشعره ورأى فيه أكاذيب وادعاءات باطلة وزعما.
وقد زعموا هذي النفوس بواقيا = تشكّل في أجسامها وتهذِّب
وتنقل منها فالسعيد مكـــــــــــــــــرّم = بما هو لاق والشقي مشذّب
وهذا الرفض عقلاني طبعا كما عهدنا.
يقولون إن الجسم ينقل روحه = إلى غيره حتى يهذبه النقـــــــــــل
فلا تقبلن ما يخبرونك ضلــــــة = إذا لم يؤيد ما أتوك به العقـــل
وفي كل هذا دليل آخر على أن المعري يهاجم ما جاء في الأديان قاطبة ويتناول بالنقد والتساؤل العقليين كل ما أتت به من مفاهيم وأحكام ولا يقتصر على دين دون ﺁخر لأنه يعتبر الدين واحدا وان تنوّعت المعتقدات وتكاثرت وينظر إليه على أنه ظاهرة بشرية تاريخية لها أهداف معينة وغايات مقصودة.
وفي اللزوميات كلام كثير موجه ضد المذاهب والدعاة وأهل الطرق ولم يرفق المعري لا بشيعة ولا بقرامطة ولا بصوفية ولا بالمذاهب الفقيهة ولا بالأولياء وأصحاب الكرامات بل سخر منهم وشنّع بأعمالهم. ولن نطيل في هذا المجال وان أطال فيه المعري وحسبنا أن نقول إن كل تلك المذاهب والطرق وما شابهها ما هي إلا وليدة الديانات وهي الفرع بالنسبة إلى الأصل ومهاجمة المعري لها جزء لا يتجزأ من ثورته على الأديان قاطبة.
ولهذا السبب خرج من نقدها بنفس النتائج التي وصل إليها من نقد المعتقد. وتتلخص هذه النتائج في انها حلقة من مسلسل المكائد الغيبية التي يرى انها تهدف إلى استغلال العامة وجمع الحطام والمسك بزمام الدنيا.
انما هذه المذاهب أسباب = لجذب الدنيا إلى الرؤسـاء
غرض القوم متعة لا يرقّــون = لدمع الشمّاء والخنسـاء
كالذي قام يجمع الزنــــــــــج = بالبصرة والقرمطي بالأحساء
ويرى الدكتور طه حسين ودارسون كثيرون أن نقمة المعري على المعتقدات متأتية من سوء فهم الناس لها وسوء تطبيقهم لتعاليمها وفي ذلك يقول: إنه "حمل على الدين ذنب أهله وعاب الشرائع بآثام أصحابها" (6) إلا أنه لا يمكن ردّ كل تلك الثورة إلى تأثر بسوء تطبيق الناس للشرائع وذلك لأسباب عديدة، فالمعري خصص عشرات القصائد ينعَى فيها على الناس سوء فهمهم للدين وتصوراتهم الخاطئة وعباداتهم المتاجرة، فهذا الأمر واضح في ذهنه وضوحا شديدا وتناوله من نواح مختلفة تماما كباقي الممارسات الاجتماعية الأخرى التي تزيد حسب رأيه الشر تكرسا واستفحالا. وهذا يعني أن هذا الموضوع نال حظه من الدرس في شعر المعري حتى لا ينساق خطأ على حسب تعبير طه حسين إلى التعميم.
ويعارض هذا الرأي كذلك إن الشاعر لم يتحدث عن دين واحد متصل بسوء فهم العامة له في مجتمعه بل استعرض معظم الأديان التي وصلت أخبارها إليه مهما تنوعت في الزمان والمكان.
كما ان ذلك الكم الهائل من مئات الأمثلة التي تعرض فيها للمعتقدات وفارقها بالبحث العقلي لا يمكن أن يكون وليد انفعال وانسياق سبّبها له جهل العامة بالدين كما يستبعد أن يكون أنكر البعث أكثر من ستين مرة وذمّ الأنبياء والرسل أكثر من ذلك بكثير لا لشيء إلا لأن فهم العامة للدين يقوم على تصورات مادية وبسيطة للثواب والعقاب وهو الرجل الذي أحاط بعلوم عصره ومعارفه وأمضى العقود الطويلة محصّلا لها ومتأملا فيها.
إن ثورة المعري على الأديان تندرج ضمن تصوّره للحياة وفهمه للوجود القائلين بتأصّل الشر في العالم البشري واستفحاله مع مرور الأزمان وتولّد العذاب والشقاء عنه. وهي ليست سوى معركة فلسفية شعرية من حرب شاملة شنّها على ذلك الوجود بكلّ ما حوى من قوانين وقيم ومعتقدات طمعا منه في القضاء على الشر بالقضاء على الوجود الذي يغذّيه عن طريق الانتحار الكوني المتمثل في الانصراف عن إدامة الحياة البشرية والامتناع عن الزواج وايقاف النسل كما أسلفنا.
وفي هذا كثير من تأثيرات الفلسفات الفارسية والهندية. ومن الطبيعي أن يفارق في هذا الصدد الأديان في جوهرها لا في تطبيقها فحسب لأنها تقدم تفسيرات مغايرة للوجود وتحضّ على الزواج والنسل والمحافظة على النوع البشري.
أمّا عن التناقض الذي قال كثير من الدارسين انه طغى على تفكير المعري وخاصة فيما يتعلق بالأديان فيمكن ان نردّه إلى أسباب معينة. وقد امتلأت عديد من اللزوميات بحمد الله ومدح الأنبياء ومدح بعض الأديان. إلا أن هذا التناقض لا يعني حتما التمزق بين المفاهيم والحيرة والشك الذي لا نهاية له. فمعروف أن اللزوميات لم ترتّب ترتيبا زمنيا وهذا ما حرمنا من الوقوف على مسيرة الرجل الفكرية والشعرية بوضوح وثبات نهائيين بل رتبها الشاعر حسب القافية فنجد تنبعا لذلك القصيدتين المتجاورتين وقد تفصل بينهما عشرات السنين فلا يكون الاختلاف في المواقف حينئذ اختلافا بل تغيرا قائما على أسباب وتطورات معينة قطعها صاحبها.
ولا يمكن أن نتصور أن المعري قد يكون وصل إلى نتائجه التي شن ثورته على المعتقد تبعا لها دفعة واحدة كما لا يمكن أن يكون بيّن نظرته إلى الوجود والحياة مرة واحدة بل إن أمرا كهذا يستغرق عشرات السنين خاصة أنّ كثيرا من إمكانيات البحث كانت تعوزه في ذلك الوقت ومن هنا يكون الحيرة والتساؤل مفهومين.
وقد يكون كثير من هذا التناقض مقصودا من المعري نفسه وذلك لأنه اتهم بالزندقة وصنّف ضمن أشهر زنادقة عصره فتكون الأبيات التي يمدح فيها الأديان محاولة منه لدفع التهمة عن نفسه وتجنب أذى الفرق والطوائف التي هاجمها.
وفي ذلك يقول طه حسين: وقد احتاط الرجل لذلك ألوانا من الاحتياط واتّقاه بضروب من التقية فألغز وغلا في الألغاز واصطنع الاستعارة والمجاز ودار حول كثير من المعاني دورانا ولم يرد أن يتعمقها في شعره أو نثره مخافة أن يظهر الناس على رأيه وان يعرفوا من أمره ما كان يجب ان يجهلوا ويطلعوا من سرّه على ما كان يؤثر أن يظلّ عليهم مستغلقا ودونهم مكتوما(7) وفي اللزوميات أقوال كثيرة تؤكد ما ذهب إليه عميد الأدب العربي فالمعري يؤكد على أنه لم يبح بأفكاره كاملة للعامة بل حفظها في صدره اتقاء أمور كثيرة.
جلال المخ