أمل خالد أمين - الوبـــاء.. قصة قصيرة

جلس (ثاقب) في حديقة منزله، ارتشف الشاي بالنعناع وهو يسحب دفتر مذكراته، ارتدى منظاره الطبي، ثم اتكئ على الكرسي ببطئ، عجباً كم تمر السنين بسرعة، لقد غطت الشعرات البيضاء رأسه، وارتسمت على وجهه تجاعيد الزمن، تنحنح في مكانه ثم بدأ بالقراءة:
اسمي (ثاقب)، أو يمكنكم مناداتي بعود الثقاب، نعم يمكنكم تسميتي بهذا الاسم، لا بأس فلقد اعتدت عليه، إنه اسم "ظريف" أطلقه أصدقائي علي كوني طويل ونحيل، حسناً دعونا من هذا الهراء، سأبدأ بكتابة ما حدث اليوم.
في يوم عادي من بدايات شهر يناير لعام ٢٠٢٠، وفي سنتي الدراسية الأولى بالمرحلة الثانوية، عدت الى المنزل بعد يومٍ طويل وممل في المدرسة.
بصراحة لا أعلم أن كانت الدروس هي من تزداد صعوبة ام انا من يزداد غبائاُ، رميت حقيبتي جانباً ثم استلقيت على الفراش، رن هاتفي، لقد كان المتصل صديقي (عمر)، كانت محادثتنا طويلة، ما فهمته أنه هنالك فيروس خطير يدعى كورونا، ظهر في الصين، وسببه كان تناول سكانه الخفافيش!
قال لي صديقي (عمر) أن احتاط جيدا، وان استعمل مطهرات لتعقيم يدي، كما انه أخبرني بأنه سيذهب للمدرسة يوم غد مرتديا الكمامات وقفازات الايدي، لم اعر الموضوع اهتماماً، (عمر) وسواسي جداً، أن ارتدى هذا الأبله الكمام والقفازات سأتظاهر بأنني لا اعرفه.
مر الاسبوع بسرعة، وبدأ اسم الفايروس ينتشر في كل مكان، أصبح موضوع الناس وشغلهم الشاغل، نوهت وزارة التربية والتعليم عن توقف التعلم الحضوري، وأقرت باتباع آلية التعلم عن بعد.
بصراحة شديدة لقد كان التعلم في تلك الفترة فوضى عارمة، مر الفصل ثقيلاً وبدأت الاجازة الصيفية، بدأ الناس يشعرون بالملل القاتل، لقد اقبل شهر رمضان والمساجد مغلقة، كم أنا آسف وحزين من هذا الوضع.
لقد ازداد خطر هذا الوباء، المئات من الناس أصيبوا وهم يعانون في غرف المستشفيات، تتأرجح أرواحهم بين الحياة والموت.. لا يعرفون مصائرهم.
حمل الناس آمالا كبيرة بأن تنتهي هذه الجائحة وأن تعود الحياة كما كانت، مر العام الأول ولكن الوضع لم يتغير، بدأت السنة الجديدة.. انها مشابهة لسنة 2020 بشكل مثير للريبة، فهذا الوباء يتطور ويزداد خطورة، كثير من خمن بأن ما قد حصل هو عقاب من الله، انا مؤمن ايضاً بهذا الامر تمام اليقين، فالبشر تمادوا كثيرا في جبروتهم وعصيانهم، العالم أصبح كئيبا جداً وخال من الاطمئنان.
الأيام أصبحت متشابهة لا جديد فيها سوى الخوف والقلق من المستقبل، أفضل الموت على هذه الحياة، لقد مرت ست سنوات دون أن نرى بصيصاً من النور، الوضع يزداد سوءاً حيث ازدادت نسبة السمنة بشكل يفوق التوقعات! مؤكد بأن السبب هو الاكتئاب والافراط في تناول الطعام وعدم ممارسة الرياضة، نظرت إلى صوري القديمة، كم اشتاق إلى حياتي السابقة، وكم اشتقت للقب عود الثقاب، لكن يبدوا اني أصبحت علبة الثقاب الآن.
توصل الأطباء الى اللقاح أخيرا بعد ظهور الفايروس بثلاث سنوات، ولكنهم لم يعثروا على لقاح للمرض الجديد وهو (الحمى السوداء)! او ما يسمى (داء الليشيمينيات الحشوي) والذي ينتقل من اناث بعوض يسمى الفاصدة الباباتاسية.
هذه الحشرات المقززة تعيش في المناطق المدارية، لكنها تكاثرت بشكل مفرط في السنوات الاخيرة، ازدادت اعدادها بشكل هائل فبدأت بالانتقال الى جميع أرجاء العالم كي تحصل على غذائها.
حسناً.. هذه المرة السادسة التي خرجت بها من منزلي خلال الأربع سنوات الماضية، احضرت دفتري وها انا اكتب فيه، لم اعتد قط على كتابة مذكراتي، انا انسان فوضوي ولا أحب الاحتفاظ بذكرياتي، اشعر كما لو أني أعيش أحداث فيلماً سينمائياً.
يا إلهي ما هذا؟! هنالك موجة عملاقة من بعوض الفاصدة التي تعرضت إلى إشعاعات نتيجة حادث انفجار المصنع النووي في السنة الماضية، أصيبت حينها بخلل في جيناتها فأصبحت ضخمة في الحجم! لا أريد ان تكون نهايتي ملتهماً من قبل بعوض عملاق لعين.
جلست واخوتي في صالة منزلنا لنسلي أنفسنا بألعاب الفيديو، أخذ (ايهم) يصيح بي غاضباً، كنت انظر اليه وأنا اضحك باستفزاز فقد كنت اهزمه في اللعبة باستمرار، فجأة ومن دون سابق انذار توقف الانترنت، ذهبنا الى والدي لنخبره عن المشكلة.
اتصل ابي في الشركة ولكن في اثناء مكالمته اتضح أن الانترنت انقطع في جميع انحاء العالم! ذكرت له الموظفة أن ما حصل نتيجة الضغط الشديد على الشبكات.
اغلق ابي الهاتف وهو يزفر قائلاً بضيق:
ـ لابد أن المشكلة ستدوم لفترة طويلة.
ولقد كان ابي محقاً، لقد مر شهر طويل وثقيل، تساءلت في نفسي كيف كان الناس يعيشون حياتهم من دون الانترنت؟!
حياتنا تغيرت بعد انقطاع الانترنت، في بداية الأمر كنت اظن بأنني لن أستطيع ان استغني عنه لكنني اكتشفت بأنني كنت أهدر وقتي في عوالم افتراضية لا نفع منها، في هذا الوقت أصبحت اقضي وقتي مع اخوتي واسرتي، ربما الهواتف والأجهزة هي من كانت تبعدنا آلاف المترات عن بعضنا البعض بينما نعيش تحت سقف واحد.
لقد تعلمت مهارات جديدة، وأصبحت أحب القراءة أكثر مما سبق، أصبح لي صديق جديد هو الكتاب، ولا أنسى دفتر مذكراتي الذي رافقني في كل مغامرة.
سمعت اليوم خبراً بأن الدول ستستخدم مبيداً قوياً لإبادة الحشرات المسببة للأمراض، لكنهم يدركون جيداً بأن هذا المبيد سيترك اثراً قوياً على جميع النباتات، من الممكن ان يقتلها، ولكن كيف سيعيش البشر حينها؟!
اخذ ابي بعض الأوراق والصحف وقام بتثبيتها بالشريط اللاصق على منافذ أبواب المنزل، في منتصف اليوم التالي سمعنا أصوات الطائرات في حينا، لابد أنهم بدئوا برش المبيد، خرجنا من بيوتنا بعد أسبوع لنرى كيف أصبح المشهد! لقد كانت الشوارع مغطاة بالحشرات الميتة! أخذت دوريات التنظيف تلف الطرقات.
حزن الناس بموت الطبيعة جراء استخدام هذا المبيد، ونظير ذلك نظموا حملة عالمية بعنوان (لنعد الأرض خضراءُ كما كانت) أو (make the earth green again)، ارتدى الجميع كماماتهم وتوجهوا الى زراعة النباتات.
فالصين واليابان وتايوان، عملوا على صناعة آلات تخدم البيئة، مهمتها شفط الغازات السامة والهواء الملوث وتخزين الغازات والأشعة الضارة ثم اعادة تركيبها كيميائياً كي تصبح غير ضارة للطبيعة، اما أمريكا وكندا فقد ابتكروا طرقا لإنشاء مصانعا لا تساعد على تلوث البيئة، بينما المانيا وسويسرا وفرنسا وبريطانيا قاموا بصنع سيارات كهربائية، حتى يقللوا احتمالية تلوث البيئة من جديد، وقامت تايلاند وروسيا باستعمال غواصاتهم واستخراج أكياس البلاستيك ومساعدة الحيوانات المتضررة.
بعد مرور أربع سنوات سجلت الدراسات نسبةً كبيرة بانخفاض معدل الأمراض، أصبحت الحياة خالية من الأوبئة، بدأت الحياة تعود إلى مجاريها، بل أفضل مما كانت عليه.
أدرك الجميع بأن كوكبنا هو أمانة اعطانا اياها الله، يجب ان نرعاها بأعيننا، لقد تعلمنا من هذه التجربة ألا يجد اليأس والإحباط والتشاؤم الى قلوبنا طريقاً، ربما كانت هذه التجربة هي النهاية للفساد في الأرض، لقد تعلمنا منها الكثير، وأنا سعيد بذلك.


امل خالد امين

* فازت القصة بالمركز الثالث مكرر في مسابقة القصة القصيرة على مستوى المدارس الثانوية في مملكة البحرين - مدرسة الشيخ عبد العزير بن محمد ال خليفة الثانوية للبنين


1621838395875.png


1621838621499.png
أعلى