في الأوقات التي كنتُ أجد مَن ينوب عنّي في الدّكان، كنتُ أبتعد في دروب المدينة وشوارعها، بلا بَوصلة في غالب الأحيان. أركب درّاجة أو أسير إلى اللامكان؛ لا هدفَ مُحدّداً إلا الابتعاد قدْرَ الإمكان. الابتعاد شُرود يُذكّرني بالتّخَلي والهجر والغياب. كثيراً ما كنتُ أنتهي إلى ساحة المصلى، حيثُ المكتبة الأشهر في الحيّ كله. أختار من الصحف ما يروق تطلعي أو جديدَ الإصدارات ممّا لم يكنْ ذلك البائس، المُوزّع، يُحضره لي. أعرف جوابه لو كنتُ سألته لمَ لا يُحضر لي الصحف حديثة الصّدور. سيجيبُني، وبين شفتيه السّيجارة الرّخيصة، كأنـّها سيجارة الأيام والشّهور السّابقة نفسُها، لا تنطفئ أبدا:
-لا تستطيع أن تبيع حتى هذا العدد القليل من الصحف الرّائدة، فما بالك بجديد المطابع!؟
أدفع ثمن صحيفتين أو ثلاثٍ مما لا يصلني وأنسحب من أمام المكتبيّ الشّهير، بوجهه العابس على الدّوام وبقايا شعره الأجعد الذي طبقت شهرته الآفاق ذاتَ “هِيبّيزمْ”. وفي مكتبتي، هناك، في ذلك الشّارع الخلفيّ، سأجلس لاحقاً وأطالع آخرَ ما لفظتْ مطابع المملكة.
كانتْ، بين الفينة والأخرى، تصدر صحف جديدة وتختفي أخرى. أذكر أنّني طالعتُ، يوماً، عدداً من يومية حديثة الصّدور. قرأت عناوين صفحتها الأولى وتصفّحتُ البقية. ووفق البلوى القديمة، كان لا بدّ من تسجيلِ ملحوظات عن الأخطاء الإملائية والنحوية وحتى الترقيمية والفنية. سارعتُ إلى تدوين بعض ملحوظاتي على المطبوع نفسِه وأرسلتُه، في ظرف كبير، إلى عنوان الجريدة وقد “زوّقتُه” بالأحمر. كانت الجريدة من إصدار اسم يساريّ معروف. استغربتُ كيف تسللتْ إلى المطبوعة في عددها الأول كلّ تلك الأخطاء. ألا يضرب هذا مصداقيتك كاسمٍ بارز في جغرافيا الأدب، وقد دخلتَ عالم مهنة المتاعب؟ ألم تُخطط لتوظيف مسخوطِ صحافة يُخلّص مطبوعتك من شوارد وشوائب كلام الصّحافيين؟ أم تُراك غيرَ مُهتمّ لأنْ تُقترَف كلّ هذه المجازر في حقّ اللغة، في حقّ كان وأخواتِها، في حقّ النّقطة والفاصلة وأخواتهما؟!
لمْ أتلقّ ردّا على ملحوظاتي من إدارة الصحيفة المُوقرة. لم يُجشّم أحدٌ نفسَه عناءَ الرّد على ملحوظات مهووسٍ بلغةِ كُتب الأدب إلى درجة أنه صار يظنّ أنْ من الطبيعي ألا يكون بين اللغتين فروق؛ لكنْ هيهات! في كلّ يومٍ ومع العناوين الصّادرة، يتبيّن له أنْ لو كُتِب لأضعفِ أدباء العصور الماضيّة أن يقرأ ما صار يُكتب في مطبوعاتنا لظنّ أنّ الأمر يتعلق بلغة أخرى غير لغة الضّاد!
لمْ تُعمّر اليومية طويلاً. توقفتْ عن الصّدور بعد أعداد قليلة دون أن يسمع بها أحد. بالنسبة إليّ، يتوقف نجاح أيّ مطبوعٍ أو فشلُه على نسبة الأغلاط التي تُقترَفُ على ظهر صفحاتها، خصوصا في أيامها الأولى؛ ما عدا ذلك من عوامل الفشل الأخرى تبقى مُجرّدَ تبريراتِ ثانوية.
كنتُ، دوماً، أمنّي النفس بالاشتغال في الميدان. قياسا إلى مُيولي الأدبيّة وإلى ذلك التكوين الذي أمضيتُ فيه سنتين إضافيّتين من عُمري في تعلم تقنيات إعداد المطبوع للنشر، أقنعتُ نفسي بأنْ لا وظيفة تُناسبني بعيداً عن القراءة والكتابة.
أذكر، دوماً، كيف كان كثيرون من رفاق مشوار الدّراسة يضحكون من أحلامي ويمضون في طريق البحث عن وظيفْ مع الدّولة، يَقيهم شرّ الاضطرار إلى الاشتغال لدى “إخوانهم” في القطاع الخاصّ. كانوا مُحقّين إلى أبعد الحدود؛ اكتشفتُ ذلك مُتأخّراً جدّا، مع الأسف. خرجتُ من تجاربي في الاشتغال مع بعض النماذج البشرية من أصحاب رؤوس المال في هذا البلد المسكين بخلاصة واحدة: بالنسبة إلى هؤلاء الإقطاعيين، الذين يحمل الواحد منهم -تعسّفاً ومن غير استحقاق- صفة رجل أعمال، ما نحنُ إلا مجموعة بؤساء يسعون وراءَ كسرة خبز! ومن ثمّ، مقتتُ جلّ من اشتغلتُ معهم في القطاع الخاصّ، وكنتُ لا أفلح في إخفاء ازدرائي فكرَهم البئيس ونظرتهم القاصر. تبعاً لتلك الحال، لم أكنْ أمضي فترة طويلة في أيّ عملٍ التحقتُ به.
مَن لم يستثمر في الرّأسمال البشري في المغرب حريٌّ به ألا يستثمر من الأساس؛ رأسمالنا الحقيقي والأهمّ في هذي البلاد هم أبناؤها؛ لكنْ لا حياةَ لمن تنادي!
*أضاعوني.. أوراق من سيرة مُجاز معطّل
* (نُشرت معظم حلقاتها في يومية "المساء" بين 2009 و2010، وبعد ذلك، في نسخة مزيدة ومنقّحة، في كتاب -صدور 2016)
-لا تستطيع أن تبيع حتى هذا العدد القليل من الصحف الرّائدة، فما بالك بجديد المطابع!؟
أدفع ثمن صحيفتين أو ثلاثٍ مما لا يصلني وأنسحب من أمام المكتبيّ الشّهير، بوجهه العابس على الدّوام وبقايا شعره الأجعد الذي طبقت شهرته الآفاق ذاتَ “هِيبّيزمْ”. وفي مكتبتي، هناك، في ذلك الشّارع الخلفيّ، سأجلس لاحقاً وأطالع آخرَ ما لفظتْ مطابع المملكة.
كانتْ، بين الفينة والأخرى، تصدر صحف جديدة وتختفي أخرى. أذكر أنّني طالعتُ، يوماً، عدداً من يومية حديثة الصّدور. قرأت عناوين صفحتها الأولى وتصفّحتُ البقية. ووفق البلوى القديمة، كان لا بدّ من تسجيلِ ملحوظات عن الأخطاء الإملائية والنحوية وحتى الترقيمية والفنية. سارعتُ إلى تدوين بعض ملحوظاتي على المطبوع نفسِه وأرسلتُه، في ظرف كبير، إلى عنوان الجريدة وقد “زوّقتُه” بالأحمر. كانت الجريدة من إصدار اسم يساريّ معروف. استغربتُ كيف تسللتْ إلى المطبوعة في عددها الأول كلّ تلك الأخطاء. ألا يضرب هذا مصداقيتك كاسمٍ بارز في جغرافيا الأدب، وقد دخلتَ عالم مهنة المتاعب؟ ألم تُخطط لتوظيف مسخوطِ صحافة يُخلّص مطبوعتك من شوارد وشوائب كلام الصّحافيين؟ أم تُراك غيرَ مُهتمّ لأنْ تُقترَف كلّ هذه المجازر في حقّ اللغة، في حقّ كان وأخواتِها، في حقّ النّقطة والفاصلة وأخواتهما؟!
لمْ أتلقّ ردّا على ملحوظاتي من إدارة الصحيفة المُوقرة. لم يُجشّم أحدٌ نفسَه عناءَ الرّد على ملحوظات مهووسٍ بلغةِ كُتب الأدب إلى درجة أنه صار يظنّ أنْ من الطبيعي ألا يكون بين اللغتين فروق؛ لكنْ هيهات! في كلّ يومٍ ومع العناوين الصّادرة، يتبيّن له أنْ لو كُتِب لأضعفِ أدباء العصور الماضيّة أن يقرأ ما صار يُكتب في مطبوعاتنا لظنّ أنّ الأمر يتعلق بلغة أخرى غير لغة الضّاد!
لمْ تُعمّر اليومية طويلاً. توقفتْ عن الصّدور بعد أعداد قليلة دون أن يسمع بها أحد. بالنسبة إليّ، يتوقف نجاح أيّ مطبوعٍ أو فشلُه على نسبة الأغلاط التي تُقترَفُ على ظهر صفحاتها، خصوصا في أيامها الأولى؛ ما عدا ذلك من عوامل الفشل الأخرى تبقى مُجرّدَ تبريراتِ ثانوية.
كنتُ، دوماً، أمنّي النفس بالاشتغال في الميدان. قياسا إلى مُيولي الأدبيّة وإلى ذلك التكوين الذي أمضيتُ فيه سنتين إضافيّتين من عُمري في تعلم تقنيات إعداد المطبوع للنشر، أقنعتُ نفسي بأنْ لا وظيفة تُناسبني بعيداً عن القراءة والكتابة.
أذكر، دوماً، كيف كان كثيرون من رفاق مشوار الدّراسة يضحكون من أحلامي ويمضون في طريق البحث عن وظيفْ مع الدّولة، يَقيهم شرّ الاضطرار إلى الاشتغال لدى “إخوانهم” في القطاع الخاصّ. كانوا مُحقّين إلى أبعد الحدود؛ اكتشفتُ ذلك مُتأخّراً جدّا، مع الأسف. خرجتُ من تجاربي في الاشتغال مع بعض النماذج البشرية من أصحاب رؤوس المال في هذا البلد المسكين بخلاصة واحدة: بالنسبة إلى هؤلاء الإقطاعيين، الذين يحمل الواحد منهم -تعسّفاً ومن غير استحقاق- صفة رجل أعمال، ما نحنُ إلا مجموعة بؤساء يسعون وراءَ كسرة خبز! ومن ثمّ، مقتتُ جلّ من اشتغلتُ معهم في القطاع الخاصّ، وكنتُ لا أفلح في إخفاء ازدرائي فكرَهم البئيس ونظرتهم القاصر. تبعاً لتلك الحال، لم أكنْ أمضي فترة طويلة في أيّ عملٍ التحقتُ به.
مَن لم يستثمر في الرّأسمال البشري في المغرب حريٌّ به ألا يستثمر من الأساس؛ رأسمالنا الحقيقي والأهمّ في هذي البلاد هم أبناؤها؛ لكنْ لا حياةَ لمن تنادي!
*أضاعوني.. أوراق من سيرة مُجاز معطّل
* (نُشرت معظم حلقاتها في يومية "المساء" بين 2009 و2010، وبعد ذلك، في نسخة مزيدة ومنقّحة، في كتاب -صدور 2016)