أفلت أخيراً الأتراك من أيديهم قوة كانت لهم أولاً سلاحاً وأصبحت آخراً داءً وبيلاً ومرضاً عضالاً. فكان لهذا الحادث وقع غريب في العالمين الشرقي والغربي، وأصبح الناس يتوقعون من ورائه حوادث ذات بال، لأن الدور السياسي الذي لعبته الخلافة في الماضي جعل لها أهمية لا مثيل لها في التاريخ الحديث.
يصعب كثيراً على من هو غير مسلم، أو من هو بعيد عن معرفة حالات المسلمين النفسية أن يبني حكماً بشأن الخلافة وأهميتها وتأثيرها. وعندي أنّ أكثر المسلمين لم يكونوا يدركون من أمر الخلافة وموقفها إزاء العالم الإسلامي في السنين الأخيرة شيئاً حقيقياً راسخاً. فالتاريخ يفيدنا أنّ الخلافة بطلت في العقود الأخيرة من السنين أن تكون فائدة العالم الإسلامي وحاملة لوائهم ومرجع كلمتهم. فإن الخلفاء العثمانيين ارتكبوا في الماضي أموراً كثيراً لا أعتقد أنها كانت معبّرة عن الرأي العام الإسلامي. والحقيقة هي أنّ الخلافة كان يجب أن تُنزع من يد الأتراك منذ زمن طويل. ولكن شريعة إبقاء الخلافة في أقوى سلطان في الإسلام حالت دون ذلك، وتمسُّك المسلمين بالحرف حفظ للخلافة كرامتها وأبقى لها تأثيراً كان يقل تدريجاً. فلما جاءت الحرب العالمية لم يكن قد بقي للخلافة تأثير ما على الإطلاق. وانكسار تركية في الحرب لم يلاقِ أقل استياءً في طول العالم الإسلامي وعرضه.
كل ما طالعته بشأن الخلافة في الصحف الغربية في المدة الأخيرة يدل على استغراب عمل حكومة أنقرة بإخراج الخلافة من تركية. وتتوقع تلك الصحف حدوث نتائج خطيرة وانقلابات عظيمة. وتهتم لمصير الخلافة الدول الأوروبية كلها، فإنهم في العالم الغربي لا يزالون يتكلمون عن الخلافة كما لو كانت لا تزال تلك القوة الهائلة القابضة على أعناق الأربعمائة مليون مسلم على وجه البسيطة، مسيِّرة هذه الملايين كيفما شاءت أهواء الخليفة وأنى أرادت، بصفته أمير المؤمنين. لذلك ترى الدول الأوروبية تتسابق إلى إقامة خليفة من عبيدها وصنائعها لكي يكون لها بواسطته نفوذ عند العالم الإسلامي كله.
لقد مضى الزمن الذي كان يحتاج فيه الإسلام إلى قوة تدرأ عنه الاضطهاد من حيث إنه دين، لأن اضطهاد الأديان بعضها بعضاً لم يعد له معنى في القرن الحاضر. ففي هذا الزمن كل إنسان يمارس دينه دون أن يفكر أحد بالتعرض له. ولأن الإسلام في هذا الجيل ليس حركة القصد منها «محاربة الكفار»، لذلك لم يعد هنالك ضرورة لجعل الخلافة في أقوى أمير في الإسلام. ومن راقب الخلافة في سنيها الأخيرة في آل عثمان، وجد أنّ الخليفة منهم لم يكن الحاكم بأمره بين المسلمين ولا أميرهم المطاع. وانتفاض العرب وغيرهم من الأمم الإسلامية على الأتراك أثناء الحرب برهان قوي يؤيد هذه النظرية، ويوضح الحقيقة بأن الخلافة لم تعد لازمة للإسلام أكثر من لزوم الباباوية للمسيحية، أي بإبقائها قوة روحية لا علاقة لها بالسياسة والاقتصاد وما شاكل. وعلى هذا لا أرى في إخراج الخلافة من الأتراك غرابة، وأظن أنّ ما يتوقف على هذا العمل من الحوادث سيكون على غير ما تخمن الدول الغربية.
إنّ النكبات يعقبها الانقلابات والتنبه. وعلى قدر عِظَم النكبات تعظم الانقلابات. ومن لم يكن ينتظر حدوث إنقلابات عظيمة عقيب الحرب التي هي أروع النكبات التي نزلت بالعالم يحتاج إلى درس التاريخ، وأن يدرسه كثيراً. ومن يريد أن يتغير كل شيء في العالم وأن لا يتغير شيء في الإسلام، فهو يعني أنّ الإسلام وجد جامداً وسيبقى كذلك، أو هو يعني أنّ العالم الإسلامي ليس جزءاً من الإنسانية ليكون له نصيب من تطورها، وهذا غير الحقيقة. وإنّ التنبه الذي عقب الحرب قد تناول الشرق كما تناول الغرب، واهتزت له الأمم كلها من مسيحية وإسلامية وبوذية وغيرها. والإصلاح الذي ظهرت طلائعه في جزء من العالم آخذ في أن يعمَّ العالم كله.
في جملة ما تنبهت إليه الأمم الإسلامية أنها لم تعد جماعات دينية تسير بموجب ما يأمرها به رئيس دينها، كما كانت في بدء إسلامها. بل هي الآن أمم يتطلب منها هي أن تقرر مصيرها وتعمل ما تراه موافقاً لحياتها وتقدمها في مضمار العمران. والحقيقة أنّ وجود الخلافة في تركية أو عدمه ليس له علاقة جوهرية بحياة الأمم الإسلامية. ويعود ما علّقه المسلمون في العالم على إخراج الخليفة من تركية من الأهمية إلى أمرين: الأول منهما عدم تعودهم مثل هذا لانقلاب، و ثانيهما إهمالهم أمر الخليفة وعدم استعدادهم لتقرير مصيره. وأعتقد أنّ من الخطأ حسبان اهتمام المسلمين بأمر الخلافة عائداً إلى ما للخلافة من التأثير على كيانهم وحياتهم القومية. والذي عندي أنّ عمل الأتراك سيفتح أعين سائر الأمم الإسلامية ويكون مثالاً لها في الاعتماد على قواها هي الأدبية والروحية والمادية، من حيث إنها أمم لا من حيث إنها جماعات دينية تأتمر بأمر زعيم ديني. وقد يتخذ بعضهم انتقال الخلافة من الأتراك إلى العرب وسيلة للقيام بسعاية منظمة لتقوية سلطة الخليفة الزمنية وبسط نفوذها في الأصقاع الإسلامية كلها. ولكني أثق من أنّ هذه السعاية تنتهي بالفشل التام، لأن الأمم الإسلامية كلها التي انتبهت الآن من رقادها أخذت تفهم أنّ اتكالها في شؤونها على الخلافة لا يفيدها شيئاً، وأنّ الواجب عليها إذا كانت تريد أن تحيا حياة استقلالية حرة أن تهبّ للعمل متكلة على تضامنها القومي ومقدرتها الروحية والمادية. وهي تراقب الآن عمل تركية ومصر اللتين نهضتا نهوضهما العجيب بعين ساهرة وعقل واعٍ، لتتخذ من عملهما مثالاً تنسج على منواله وقدوة صالحة تنهج منهاجها.
إنّ سلطة الخلافة لم تعد ضرورية للإسلام في الجيل الحاضر، بل هي لا لزوم لها مطلقاً. والعقود الأخيرة من سني الخلافة ترينا أنّ تجريد الخليفة من سلطة التصرف بملايين البشر المختلفي الأجناس والأشكال والمتبايني العوائد والأخلاق واجب لتقدم الأمم الإسلامية وارتقائها. ولما كانت الخلافة لا تعني توحيد البشر بالقوة، ولما كان المذهب الإسلامي غير مهدد من خطر ما فضلاً عن أنه دين معترف به في العالم كله، فإن كل هذه تؤيد وجوب انتزاع كل سلطة من الخلافة إلا السلطة الروحية البحتة. وهذا ما لا بدّ من حدوثه إن عاجلا وإن آجلاً. ويمكننا الآن ن نقول إنّ تركية ومصر قد نفذتاه، فإنهما تسيران في أعمالهما على أسس القومية والوطنية لا على أسس الديانة والخلافة. وقد نجحتا نجاحاً باهراً سيؤدي إلى اتباع الأمم الإسلامية الأخرى أعمالهما واقتفاء خطواتهما.
أعتقد أنّ سقوط الخلافة في تركية أعظم حادث مؤثر على الشرق عقب الحرب. فإن هذا العمل الذي لم يسبق له مثيل في الإسلام منذ بدء ظهوره إلى اليوم سيؤدي إلى حركة خواطر تنتاب العالم الإسلامي كله، وتُنبهه إلى أمور كثيرة إذا وضحت له وأدرك حقيقتها أدت إلى حوادث ليست في حسبان الدول الغربية التي تراقب سير مسألة الخلافة في شخصية الخليفة وأمياله، لا في يقظة الأمم الإسلامية ونواياها. ففتح مسألة الخلافة الآن على هذه الكيفية يبعث بفريق كبير من مفكري المسلمين ومتنوريهم على التساؤل والبحث في أمور كثيرة منها: هل العالم الإسلامي مضطر لأن يبقي الخلافة في أقوى أمير في الإسلام؟ هل إبقاء السلطة الزمنية في الخلافة واجب للإسلام ومفيد للأمم الإسلامية كلها؟ أيجب أن تبقى الأمم الإسلامية عاملة كجماعات دينية لا تفعل إلا ما يوحيه إليها الخليفة؟ هل يجوز لخليفة ذي صبغة سياسية وطنية أن يتصرف بملايين البشر المسلمين حسبما تدفعه الروح السياسية أو الوطنية المتأثر هو بها؟ هل فصل الدين عن السياسة بتاتاً يضر بالإسلام؟ وأظن أنه متى ابتدأ المفكرون والمتنورون يعللون هذه المسائل ويحللونها، تمكنوا من إخراج حكم نهائي بشأن الخلافة ومصيرها يقضي بتجريدها من السلطة الزمنية ومنع الدين من التدخل في الأمر السياسية، داعين الأمم الإسلامية إلى التمشي على الخطة التي جرت عليها الأمة التركية في هذا الأمر.
إنّ سلطة الخلافة السابقة التي كانت لخلفاء الأتراك، كانت في كثير من الأوقات سلاح إنكلترة الوحيد في منع الهنود من الثورة عليها وإعلان استقلالهم. فكان إذا حدّثت الهنود المسلمين أنفسهم بشيء من ذلك، أسرعت إنكلترة إلى سلطان الأتراك وطبت منه أن يرسل منشوراً يدعو فيه مسلمي الهند إلى الطاعة للإنكليز والإخلاد إلى السكينة. فكانت مناشير الخليفة سلاحاً سحرياً في يد إنكلترة تخفت به صوت الحرية وتهدّىء براكين الثورة في مستعمراتها. ومن هذا يبدو لك جلياً كم هي خطرة سلطة الخلافة على الأمم الإسلامية. فإذا راجع مفكرو الأمم الإسلامية التاريخ، أمكنهم التثبت من وجوب نزع السلطة الزمنية من الخلافة. ولا أخالهم إلا فاعلين.
إنّ الحسين هو الأمير الوحيد بين أمراء العالم الإسلامي الذي بايعه الخلافة رسمياً جزء من الإسلام. وأرجّح أن الخلافة ستستقر فيه لأنه أَوْلى بها من كل أمير آخر بعد الأتراك. ومع ذلك فهنالك كثير من الأمراء غيره قد رشحوا أنفسهم أو رشحتهم الدول التي لها مصالح استعمارية في بعض أمم الإسلام للخلافة. وحتى الساعة لا يزال النزاع قائماً دون أن يصدر العالم الإسلامي كله حكمه في هذه المسألة. وعندي أنّ إطالة أمر هذا النزاع أمر مفيد جداً للأمم الإسلامية، لأنه ينبهها ويفسح لها المجال للتفكير في الأمر قبل إعلان إرادتها، والإسراع في إقامة خليفة جديد ليس له داعٍ الآن. لذلك يمكن تلك الأمم أن تفكر ملياً في الطريقة المثلى التي يجب أن تتمشى عليها إزاء هذه المسألة.
التنازع على الخلافة يفيد الأمم الإسلامية، لأنه يفتح عيونها أكثر فأكثر ويريها طمع الآخرين بها وخطر سلطة الخلافة على حياتها القومية والسياسية، ويجعلها أن تتنبه إلى أنها ليست عائشة بالدين فقط لكي يكون لرئيس دينها الحق بالتصرف بحياتها كما يشاء.
ليطل التنازع على الخلافة إلى ما شاء الله، لأنه إذا لم يكن العالم الإسلامي على استعداد لخلع نير الخلافة عن عنقه فإن هذا التنازع سيجعله يستعد له. وأظن أنه لا يمضي وقت طويل حتى يصبح الخليفة نائباً روحياً لا حق له بالخروج عن دائرة وظيفته الروحية. ومن يعش يرَ.
أنطون سعاده
المجلة، سان باولو،
السنة 10، الجزء 3، 1/4/1924
يصعب كثيراً على من هو غير مسلم، أو من هو بعيد عن معرفة حالات المسلمين النفسية أن يبني حكماً بشأن الخلافة وأهميتها وتأثيرها. وعندي أنّ أكثر المسلمين لم يكونوا يدركون من أمر الخلافة وموقفها إزاء العالم الإسلامي في السنين الأخيرة شيئاً حقيقياً راسخاً. فالتاريخ يفيدنا أنّ الخلافة بطلت في العقود الأخيرة من السنين أن تكون فائدة العالم الإسلامي وحاملة لوائهم ومرجع كلمتهم. فإن الخلفاء العثمانيين ارتكبوا في الماضي أموراً كثيراً لا أعتقد أنها كانت معبّرة عن الرأي العام الإسلامي. والحقيقة هي أنّ الخلافة كان يجب أن تُنزع من يد الأتراك منذ زمن طويل. ولكن شريعة إبقاء الخلافة في أقوى سلطان في الإسلام حالت دون ذلك، وتمسُّك المسلمين بالحرف حفظ للخلافة كرامتها وأبقى لها تأثيراً كان يقل تدريجاً. فلما جاءت الحرب العالمية لم يكن قد بقي للخلافة تأثير ما على الإطلاق. وانكسار تركية في الحرب لم يلاقِ أقل استياءً في طول العالم الإسلامي وعرضه.
كل ما طالعته بشأن الخلافة في الصحف الغربية في المدة الأخيرة يدل على استغراب عمل حكومة أنقرة بإخراج الخلافة من تركية. وتتوقع تلك الصحف حدوث نتائج خطيرة وانقلابات عظيمة. وتهتم لمصير الخلافة الدول الأوروبية كلها، فإنهم في العالم الغربي لا يزالون يتكلمون عن الخلافة كما لو كانت لا تزال تلك القوة الهائلة القابضة على أعناق الأربعمائة مليون مسلم على وجه البسيطة، مسيِّرة هذه الملايين كيفما شاءت أهواء الخليفة وأنى أرادت، بصفته أمير المؤمنين. لذلك ترى الدول الأوروبية تتسابق إلى إقامة خليفة من عبيدها وصنائعها لكي يكون لها بواسطته نفوذ عند العالم الإسلامي كله.
لقد مضى الزمن الذي كان يحتاج فيه الإسلام إلى قوة تدرأ عنه الاضطهاد من حيث إنه دين، لأن اضطهاد الأديان بعضها بعضاً لم يعد له معنى في القرن الحاضر. ففي هذا الزمن كل إنسان يمارس دينه دون أن يفكر أحد بالتعرض له. ولأن الإسلام في هذا الجيل ليس حركة القصد منها «محاربة الكفار»، لذلك لم يعد هنالك ضرورة لجعل الخلافة في أقوى أمير في الإسلام. ومن راقب الخلافة في سنيها الأخيرة في آل عثمان، وجد أنّ الخليفة منهم لم يكن الحاكم بأمره بين المسلمين ولا أميرهم المطاع. وانتفاض العرب وغيرهم من الأمم الإسلامية على الأتراك أثناء الحرب برهان قوي يؤيد هذه النظرية، ويوضح الحقيقة بأن الخلافة لم تعد لازمة للإسلام أكثر من لزوم الباباوية للمسيحية، أي بإبقائها قوة روحية لا علاقة لها بالسياسة والاقتصاد وما شاكل. وعلى هذا لا أرى في إخراج الخلافة من الأتراك غرابة، وأظن أنّ ما يتوقف على هذا العمل من الحوادث سيكون على غير ما تخمن الدول الغربية.
إنّ النكبات يعقبها الانقلابات والتنبه. وعلى قدر عِظَم النكبات تعظم الانقلابات. ومن لم يكن ينتظر حدوث إنقلابات عظيمة عقيب الحرب التي هي أروع النكبات التي نزلت بالعالم يحتاج إلى درس التاريخ، وأن يدرسه كثيراً. ومن يريد أن يتغير كل شيء في العالم وأن لا يتغير شيء في الإسلام، فهو يعني أنّ الإسلام وجد جامداً وسيبقى كذلك، أو هو يعني أنّ العالم الإسلامي ليس جزءاً من الإنسانية ليكون له نصيب من تطورها، وهذا غير الحقيقة. وإنّ التنبه الذي عقب الحرب قد تناول الشرق كما تناول الغرب، واهتزت له الأمم كلها من مسيحية وإسلامية وبوذية وغيرها. والإصلاح الذي ظهرت طلائعه في جزء من العالم آخذ في أن يعمَّ العالم كله.
في جملة ما تنبهت إليه الأمم الإسلامية أنها لم تعد جماعات دينية تسير بموجب ما يأمرها به رئيس دينها، كما كانت في بدء إسلامها. بل هي الآن أمم يتطلب منها هي أن تقرر مصيرها وتعمل ما تراه موافقاً لحياتها وتقدمها في مضمار العمران. والحقيقة أنّ وجود الخلافة في تركية أو عدمه ليس له علاقة جوهرية بحياة الأمم الإسلامية. ويعود ما علّقه المسلمون في العالم على إخراج الخليفة من تركية من الأهمية إلى أمرين: الأول منهما عدم تعودهم مثل هذا لانقلاب، و ثانيهما إهمالهم أمر الخليفة وعدم استعدادهم لتقرير مصيره. وأعتقد أنّ من الخطأ حسبان اهتمام المسلمين بأمر الخلافة عائداً إلى ما للخلافة من التأثير على كيانهم وحياتهم القومية. والذي عندي أنّ عمل الأتراك سيفتح أعين سائر الأمم الإسلامية ويكون مثالاً لها في الاعتماد على قواها هي الأدبية والروحية والمادية، من حيث إنها أمم لا من حيث إنها جماعات دينية تأتمر بأمر زعيم ديني. وقد يتخذ بعضهم انتقال الخلافة من الأتراك إلى العرب وسيلة للقيام بسعاية منظمة لتقوية سلطة الخليفة الزمنية وبسط نفوذها في الأصقاع الإسلامية كلها. ولكني أثق من أنّ هذه السعاية تنتهي بالفشل التام، لأن الأمم الإسلامية كلها التي انتبهت الآن من رقادها أخذت تفهم أنّ اتكالها في شؤونها على الخلافة لا يفيدها شيئاً، وأنّ الواجب عليها إذا كانت تريد أن تحيا حياة استقلالية حرة أن تهبّ للعمل متكلة على تضامنها القومي ومقدرتها الروحية والمادية. وهي تراقب الآن عمل تركية ومصر اللتين نهضتا نهوضهما العجيب بعين ساهرة وعقل واعٍ، لتتخذ من عملهما مثالاً تنسج على منواله وقدوة صالحة تنهج منهاجها.
إنّ سلطة الخلافة لم تعد ضرورية للإسلام في الجيل الحاضر، بل هي لا لزوم لها مطلقاً. والعقود الأخيرة من سني الخلافة ترينا أنّ تجريد الخليفة من سلطة التصرف بملايين البشر المختلفي الأجناس والأشكال والمتبايني العوائد والأخلاق واجب لتقدم الأمم الإسلامية وارتقائها. ولما كانت الخلافة لا تعني توحيد البشر بالقوة، ولما كان المذهب الإسلامي غير مهدد من خطر ما فضلاً عن أنه دين معترف به في العالم كله، فإن كل هذه تؤيد وجوب انتزاع كل سلطة من الخلافة إلا السلطة الروحية البحتة. وهذا ما لا بدّ من حدوثه إن عاجلا وإن آجلاً. ويمكننا الآن ن نقول إنّ تركية ومصر قد نفذتاه، فإنهما تسيران في أعمالهما على أسس القومية والوطنية لا على أسس الديانة والخلافة. وقد نجحتا نجاحاً باهراً سيؤدي إلى اتباع الأمم الإسلامية الأخرى أعمالهما واقتفاء خطواتهما.
أعتقد أنّ سقوط الخلافة في تركية أعظم حادث مؤثر على الشرق عقب الحرب. فإن هذا العمل الذي لم يسبق له مثيل في الإسلام منذ بدء ظهوره إلى اليوم سيؤدي إلى حركة خواطر تنتاب العالم الإسلامي كله، وتُنبهه إلى أمور كثيرة إذا وضحت له وأدرك حقيقتها أدت إلى حوادث ليست في حسبان الدول الغربية التي تراقب سير مسألة الخلافة في شخصية الخليفة وأمياله، لا في يقظة الأمم الإسلامية ونواياها. ففتح مسألة الخلافة الآن على هذه الكيفية يبعث بفريق كبير من مفكري المسلمين ومتنوريهم على التساؤل والبحث في أمور كثيرة منها: هل العالم الإسلامي مضطر لأن يبقي الخلافة في أقوى أمير في الإسلام؟ هل إبقاء السلطة الزمنية في الخلافة واجب للإسلام ومفيد للأمم الإسلامية كلها؟ أيجب أن تبقى الأمم الإسلامية عاملة كجماعات دينية لا تفعل إلا ما يوحيه إليها الخليفة؟ هل يجوز لخليفة ذي صبغة سياسية وطنية أن يتصرف بملايين البشر المسلمين حسبما تدفعه الروح السياسية أو الوطنية المتأثر هو بها؟ هل فصل الدين عن السياسة بتاتاً يضر بالإسلام؟ وأظن أنه متى ابتدأ المفكرون والمتنورون يعللون هذه المسائل ويحللونها، تمكنوا من إخراج حكم نهائي بشأن الخلافة ومصيرها يقضي بتجريدها من السلطة الزمنية ومنع الدين من التدخل في الأمر السياسية، داعين الأمم الإسلامية إلى التمشي على الخطة التي جرت عليها الأمة التركية في هذا الأمر.
إنّ سلطة الخلافة السابقة التي كانت لخلفاء الأتراك، كانت في كثير من الأوقات سلاح إنكلترة الوحيد في منع الهنود من الثورة عليها وإعلان استقلالهم. فكان إذا حدّثت الهنود المسلمين أنفسهم بشيء من ذلك، أسرعت إنكلترة إلى سلطان الأتراك وطبت منه أن يرسل منشوراً يدعو فيه مسلمي الهند إلى الطاعة للإنكليز والإخلاد إلى السكينة. فكانت مناشير الخليفة سلاحاً سحرياً في يد إنكلترة تخفت به صوت الحرية وتهدّىء براكين الثورة في مستعمراتها. ومن هذا يبدو لك جلياً كم هي خطرة سلطة الخلافة على الأمم الإسلامية. فإذا راجع مفكرو الأمم الإسلامية التاريخ، أمكنهم التثبت من وجوب نزع السلطة الزمنية من الخلافة. ولا أخالهم إلا فاعلين.
إنّ الحسين هو الأمير الوحيد بين أمراء العالم الإسلامي الذي بايعه الخلافة رسمياً جزء من الإسلام. وأرجّح أن الخلافة ستستقر فيه لأنه أَوْلى بها من كل أمير آخر بعد الأتراك. ومع ذلك فهنالك كثير من الأمراء غيره قد رشحوا أنفسهم أو رشحتهم الدول التي لها مصالح استعمارية في بعض أمم الإسلام للخلافة. وحتى الساعة لا يزال النزاع قائماً دون أن يصدر العالم الإسلامي كله حكمه في هذه المسألة. وعندي أنّ إطالة أمر هذا النزاع أمر مفيد جداً للأمم الإسلامية، لأنه ينبهها ويفسح لها المجال للتفكير في الأمر قبل إعلان إرادتها، والإسراع في إقامة خليفة جديد ليس له داعٍ الآن. لذلك يمكن تلك الأمم أن تفكر ملياً في الطريقة المثلى التي يجب أن تتمشى عليها إزاء هذه المسألة.
التنازع على الخلافة يفيد الأمم الإسلامية، لأنه يفتح عيونها أكثر فأكثر ويريها طمع الآخرين بها وخطر سلطة الخلافة على حياتها القومية والسياسية، ويجعلها أن تتنبه إلى أنها ليست عائشة بالدين فقط لكي يكون لرئيس دينها الحق بالتصرف بحياتها كما يشاء.
ليطل التنازع على الخلافة إلى ما شاء الله، لأنه إذا لم يكن العالم الإسلامي على استعداد لخلع نير الخلافة عن عنقه فإن هذا التنازع سيجعله يستعد له. وأظن أنه لا يمضي وقت طويل حتى يصبح الخليفة نائباً روحياً لا حق له بالخروج عن دائرة وظيفته الروحية. ومن يعش يرَ.
أنطون سعاده
المجلة، سان باولو،
السنة 10، الجزء 3، 1/4/1924