محسن الطوخي - القصة القصيرة

القصة القصيرة كنص أدبي، عمل في اللغة. وهي كأحد فروع الفن، عمل جمالي موضوعه الإنسان. يملك القاص حرية مطلقة في الحركة، والتناول في حدود الإطار المعماري لهذا الفن من خصائص وأركان معلومة.

يستخدم المبدع أدواته وحيله التي تزخر بها القصة -أكثر مما يتوفر لأي فن اخر من فنون الكتابة -لعرض تجربة إنسانية، عن طريق وسيط نسميه الراوي، تتعدد صوره وأشكاله بتعدد زوايا الرؤيا التي يمكن منها رصد التجربة. قد يكون الراوي راصداً للتجربة، وقد يكون مشاركاً فيها. لكنه ليس بحال من الاحوال ممثلاً للكاتب أو للقارئ المفترض، فهو راو محايد حتى لو شارك في الأحداث ولا يمثل إلا نفسه. قد يشي ضمناً بتوجهات الكاتب، أو بانحيازاته. إذ أن الكاتب هو الذي يحدد البؤرة التي سيهتم بها الراوي. وعلى اعتبار أن الفن انتقائي، فالقارئ الذي يستطيع التمييز بين العناصر التي اهتم بها الكاتب، وبين تلك التي أهملها، يمكنه أن يقف على توجهات الكاتب وانحيازاته. والشخصية القصصية هي في الأغلب شخص من عموم الناس. ليس متفرداً ولا متميزاً عنهم، ولا يتصف بصفات خارقة، ولا يشبه المبدع ولا يمثله. لكنه يمثل الشخصية الجمعية، وهذا ما يضمن التواصل الوجداني بين القارئ والنص. فلو اتصفت الشخصية بصفات تتجاوز قدرات النموذج الإنساني المتعارف عليه، فقد النص جوهر وجوده. فمن النادر أن يتوفر الانفعال بالتجربة مالم تلمس القصة القصيرة منطقة مشتركة بين النوع الإنساني. والأهم أن يفتح الكاتب ثغرة أو طاقة تمكن القارئ من اكتشاف جوهر القوة، أو مكمن الضعف في صراع الإنسان المحتوم مع العالم. وأساليبه في التواؤم مع كون يناصبه العداء منذ لحظة الميلاد إلى أن يواريه التراب. ذلك العداء المتمثل في مهانة الإنسان تجاه الظلم، والتهميش، والجهل، والفقر. وأزمة الانسان مقابل الآلة، والسلطان، والقانون، وضآلته مقابل الطبيعة، والتاريخ، والموروث. رعب الانسان من المجهول، والغامض، والغيبي. الإنسان وحيرته مقابل طبيعته المتقلبة، وأهوائه، ونزواته، ولا وعيه.

تلك هي القضايا الأساسية للقصة القصيرة، والنص الذي يتجاهل تلك القضايا لكي يهوم في جماليات اللغة بلا مضمون، لا يدرك صاحبه جوهر وماهية فن القصة. كذلك النص الذي يعيد إنتاج مشهد من الواقع ليستدر عاطفة الشفقة أو الأسى، أو حتى البهجة.

فالواقع المعاش يمد الإنسان بفيض لا ينقطع من تلك المؤثرات، وليس من واجب القصة محاكاته، إنما على القصة أن تعاون الإنسان على اكتشاف ذاته.

والآن ماذا يمكنني ان أقدم لأبنائي، وأصدقائي من عشاق القصة القصيرة، بعد هذه المقدمة الإنشائية؟

ماذا يمكن ان يقال بعد قرابة قرنين من نشأة القصة القصيرة؟

ليس أكثر من إشارات إلى أكثر مزالق القص شيوعا من واقع متابعاتي لكتابات الشباب على مدار العقدين الأخيرين:

١-غياب الصراع

لا تستقيم القصة القصيرة دون توتر. وما يخلق التوتر هو الصراع، الذي يولد الأزمة.

والملاحظ في إبداع الشباب هو إهمال الصراع بدعوى الحداثة، على اعتبار أن الكتابة الجديدة قد ابتكرت أساليب للسرد تختلف عن القالب الكلاسيكي للقصة. فصارت القصة الحداثية لديهم أقرب إلى الخاطرة، أو اليوميات.

ما أن تذكر الصراع حتى ترفع في وجهك دعاوى الحداثة،

ونحن بسبب ذلك نستبدل بالمصطلح سيء السمعة مصطلحات دالة تفيد نفس المعنى، لكنها أكثر قبولا لدى الكتاب الجدد، مثل الأزمة، أو التوتر.

وأبسط ما يمكن أن نصف به القصة الخالية من الصراع هو فشل الحبكة.

فالحبكة المثالية هي التي تدير الأحداث بين شخصيات متناقضة، أو متضاربة المصالح وصولا إلى نقطة الأزمة، ثم هي ذاتها التي تقود الأحداث الى خاتمة تحسم فيها الصراع لصالح أحد الأطراف، وتضع حدا للتوتر.

2-إعادة انتاج الواقع

" الواقع لا يكتب قصصا، من يكتب القصص هو الأديب."

اضطر في كثير من الأحيان إلى تكرار العبارة، عندما يلجأ الكاتب إلى الدفاع عن نصه بحجة أن أحداث القصة وقعت بالفعل، ويتمادى في التبرير، فيؤكد أنه نقلها بأمانة تحريا للمصداقية. بيد أن الكاتب لابد له من بعض التحريف عندما يكون بصدد تحويل حدث ما إلى قصة قصيرة.

صحيح أن الكاتب يستمد أحداث قصصه من الواقع، لكنه يقوم بإهمال التفاصيل الهامشية، وانتخاب العناصر، والشخصيات المؤثرة، وربما يضيف شخصيات وهمية لخلق الصراع، وقد ينقل الأحداث إلى مكان غير مسرحها الأصلي بقصد إنتاج دلالة بعينها. أما عن المصداقية، فهي لا تتحقق بأمانة النقل إلا في المقال الصحفي.

الخيال هو ما يمكن الكاتب من تضفير الواقعي بالوهمي في ضفيرة نسميها الحبكة لكي يحقق هدف القص، وهو هدف جمالي (استيطيقي) بالدرجة الأولي، لا يسعى إلى عبرة، أو توثيق، أو دعاية، إنما يطرح تجربة إنسانية تحقق المتعة التي هي غاية الفن، وتكشف عن جوهر إنساني أصيل كغاية اساسية لفن القصة القصيرة.

3-التقريرية

الكاتب الموهوب يدرك التقرير بالفطرة، ويبرع في تجنبه دون توجيه أو إرشاد. وبعض الكتاب تراهم وقد قطعوا شوطا، وأنفقوا عمرا في الكتابة، لا يزالون يتخبطون في فهم التقرير.

اذكر ناقدة لامعة لها محاولات في القصة، كانت تقول مدافعة عن نصها: "لا بأس بقليل من التقرير لإيضاح المعنى". هذه دعوة لتعطيل الخيال. فالكاتب الذي يعييه تصوير المشاعر، والانفعالات إلا بشكل خبري، هو كاتب متعجل، لا يملك مهارات اللغة، ولا مهارات القص. التقرير يناسب الخبر المروي، أو الكتابة الصحفية. في حين تعتمد لغة القص على الصورة، والحوار، والتضمين، والإيحاء. تساوي الجملة التقريرية بالضبط مجموع كلماتها، بينما تحقق لغة السرد القصصي فائضا في المعنى، وهذا الفائض هو المسؤول عن تحقيق المستويات المتعددة في التلقي

ولعل من أفضل ما قيل في هذا الشأن، قول الأديب الأوروجواني "أدواردوغاليانو" : " أنا لا أطلب منك أن تصف سقوط المطر.. أنا أطلب منك أن تجعلني أتبلل ".

4- غياب التكثيف

يعد مصطلح التكثيف من أوضح مصطلحات الأدب، وأيسرها من حيث التعريف. وفي ذات الوقت يعد نفس المصطلح من أشدها إبهاما، وارتباكا عند التطبيق. ولا أستطيع أن أعفي أصحاب القصة القصيرة جدا من مسؤوليتهم عن التسبب في حالة الارتباك التي تسم هذا المصطلح.

فقد وقر في أذهان غير قليل من الكتاب أن التكثيف مرادف للاختصار.

يقدم الكاتب قصته مشفاة، ممصوصة، مبتسرة، فإذا نبهته إلى ضرورة إشباع التجربة القصصية، تعلل بالتكثيف.

لذلك وجب التمييز بين المصطلح، وبين الابتسار.

على مستوى السرد، يعني التكثيف إهمال التفاصيل التي لا يؤثر غيابها على اكتمال التجربة القصصية. واقتصار الوصف على ما يوصل الإحساس بطبيعة المكان، وما يوحي بسمات الشخصيات.

أما على مستوى اللغة، فيعني البلاغة التي قصد إليها النفري، إذ التوسع في الكلام يؤدي إلى ترهل السرد، ويمنح المتلقي إحساسا بأن الكاتب يسير بلا خطة. ولذلك كان أستاذي الكاتب المسرحي أنور صالح جعفر لا يني يردد على مسامعي القول الشائع الذي مفاده أن المبدع ليس من يجيد الكتابة، بل من يجيد الشطب.

تتسم الكتابة الأولية بالتلقائية، وغياب الخطة. والنص في أعقابها أشبه ما يكون بالماسة الخام، لن تصل إلى رونقها، وبهائها المنشود، مالم يجر عليها الصائغ مهاراته من فنون الصقل، والتهذيب. وللمسألة دخل بنرجسية المبدع. يظن الكاتب المبتدئ أن قريحته تنتج دررا، وهذا صحيح إلى حد كبير، كما أنه صحيح أيضا أن الصائغ الذي يملك كومة من الأحجار الكريمة، سوف ينتج مسخا مشوها إذا خلط هذه الكومة بشكل عشوائي، وبلا خطة. لذلك وجب على الكاتب أن يعد الكتابة الأولية بمثابة مسودة، وأن يتحلى بعزيمة الجراح، فيبتر العبارات التي تدغدغ نرجسيته، لأنها تكون في الأغلب الأعم غير منتمية للقصة، ولا تصلح لأن تجري على ألسنة الشخصيات، وإنما هي أفكاره هو ككاتب. كل من يمسك بالقلم نرجسي بشكل أو آخر. نصيحتي لك أيها المبدع: تخل عن نرجسيتك وأنت تراجع قصتك، وتهذبها قبل النشر.

5-افتعال الشعرية

أفرط الكتاب حديثا في إثقال القص بأساليب الشعر. صحيح أن القصة القصيرة قد نجحت في انتحال العديد من أساليب الفنون الأخرى، كالسينما، والشعر، وحتى الموسيقى. لكن الإفراط يفسد عملية التلقي، ويحول القصة القصيرة الى مسخ يقع بين البينين.

لغة الشعر التي تعتمد الإزاحات البلاغية تنتح من معين الشاعر، ومن قاموسه اللغوي، وهو يصور العالم من وجهة نظره، ويطرح ذاته في القصيدة، بينما تترجم اللغة في القصة العالم النفسي للشخصية. ولذلك يؤدي طغيان اللغة الشعرية إلى مسخ الشخصيات، وإهدار تباينها.

6-الخاتمة المفاجئة أو الصادمة:

وهم الخاتمة المفاجئة يعد من التأثيرات السيئة للقصة القصيرة جدا، فقد عدها منظروها من خصائصها، واشترطوا توفرها في نصوصهم، وأسموها " الخاتمة الصادمة ". وأسموها أيضا " مخالفة أفق التوقع "، وفي هذا الزعم مغالطة، ومزلق.

أما المغالطة ففي اعتبارهم أن المفاجأة أحد عناصر التمييز بين القصة القصيرة، والقصيرة جدا، إذ المستقر هو أن المفاجأة عنصر أصيل من عناصر القص عموما، ويمكن للقاص عندما تتطلب التجربة القصصية أن يحقق هذا العنصر بشرط أن يكون مبنيا على أحداث القصة، وليس دخيلا ومستوردا، كالموت الفجائي، أو الاستيقاظ من الحلم، أو ظهور عم ثري..الخ. وغياب الصدمة في الخاتمة لا ينتقص من براعة القصة، ولنا في تاريخ القصة شواهد تؤكد زعمنا.

وأما المزلق فهو ما يمكن أن نعتبره إفسادا لجيل كامل من الكتاب الشبان الذين وقر في أذهانهم وجوب الصدمة بالمفهوم السطحي، فتراهم يتعسفونها تعسفا، وفي الغالب تسيء القفلة المتعسفة إلى نصوصهم. القصة القصيرة في ظني فن واحد ذو خصائص واحدة بغض النظر عن الطول والقصر الذي تحكمه متطلبات التجربة القصصية. الجوهر فيها طزاجة التجربة الإنسانية، وفرادتها، والخاتمة يجب أن تكون مدهشة من حيث تلخيصها للتجربة المطروحة، وإضاءتها. فمتعة القارئ إنما تعود إلى اتساق سلوك الشخصيات، ومسار الحبكة، أكثر مما تعود إلى مفاجأة ما غير متوقعة.

خاتمة:

القصة القصيرة فن جميل، قد يغرى البعض من أصدقائنا -بقصره وبساطته -على الظن بأنه سهل المنال، وهذا ما دعا النقاد إلى وصفه بالفن المراوغ. استعارت القصة جمالياتها من كل الفنون، استعارت فنون السينما كتقطيع المشاهد، والفلاش باك، ومن الرواية التداعي وتيار الوعي، وصنعت بهاءها من كثافة الشعر، وتجريده، كما أنها وعاء تصطخب فيه كل أساليب البلاغة والبديع في اللسان العربي. وهي -القصة -كالمعصرة التي تستقطر ثقافه الكاتب وتبلورها في جرعة فنيه تخلب الألباب بجمالياتها وفنياتها .. وكاتب القصة مهما بلغ من مهارة البيان لن يعطى شيئا دون زاد ثقافي ومعرفي، فمن المهم الإلمام بقدر متوازن من المعرفة في مجالات متعددة. نصيحتي لكل عاشق للقصة يروم أن يبلغ فيها شأوا، أن يدرب عينه على الملاحظة، وأن يطلع على نماذج من تاريخ تطور القصة، وأن يعتبرها عملا جادا، يحتاج كغيره الى مران وتدريب. ولقد أتيح لي أن أطلع على أعمال مبكرة لبعض عباقرة القصة القصيرة، ولشد ما كانت بسيطة. مهما كانت بساطة تجربتك في القصة والفن عموما، فأنت مرشح لأن تكون من الكبار، على أن تأخذ الأمر بجدية ولا تتوانى عن عرض تجاربك والاستفادة من آراء قرائك.

محسن الطوخي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى