وصلت هذه الرسائل إلى عائلة الأسير، النائب السابق د. باسل غطّاس، متأخّرة جدًّا عن موعدها المحدّد، فزمن السجن ليس كزماننا، إذ تُصْنَعُ نسبيّته على غير نسبيّة زمان مَنْ هو خارجه.
في هذه الرسائل تسجيل لجوانب يوميّة حميميّة من حياة "أسير جديد"، يكتشف عالم السجن ومعناه، ويدوّن أفكاره وتأمّلاته.
(1)
لا نسبيّ أكثر من الزمن
بدأت أعداد جريدة "هآرتس" تصلني يوميًّا، وقد انتظرت ذلك طويلًا منذ أن رتّبت للاشتراك، ودفعت المبلغ المطلوب، أقول "طويلًا" وهذا مرتبط بمفهوم الزمن ونسبيّته، وهو موضوع أساسيّ في السجن، إذ إنّ مفهوم الزمن والوقت عندي، أنا الأسير حديث العهد، ليس كما هو عند الأسرى القدامى، فما أقيسه أنا بالساعات والأيّام لا يعني شيئًا عندهم، وكأنّها ثوانٍ بالنسبة إلى مفهومهم الزمنيّ، فكأنّنا نعيش في أزمان مختلفة أو مدارات كونيّة مختلفة؛ هم يقيسون الزمن بجدول مرتبط بحياة السجن والأسر، مثل التنقّل بين السجون، أو التنقّل بالبوسطات، أو إضرابات الطعام، أو الوقت بين كلّ قمع وقمع للوحدات الخاصّة؛ فمثلًا الأسير الّذي انتقل معي من "رامون" إلى "هداريم"، وينتظر عودته إلى "رامون"، بعد مرور ثلاثة أشهر، أو أربعة، أو حتّى نصف سنة على وجوده هنا، زيادة عمّا كان يتوقّع، فهذا أمر عاديّ لا يشعر به؛ فهو الّذي مضى على سجنه 15 سنة ومحكوم مؤبّدًا، لا تعني له هذه الأشهر الكثير، بينما لديّ فهي قد تكون الفترة كلّها منذ دخلت السجن أو ما تبقّى منه، هو يعدّها لمح البصر وأنا أعدّها دهرًا. ما قد يبدو لامبالاة عندهم بالوقت، هو سلاحهم الأكثر حدّة وقوّة؛ للتعامل مع سنوات سجنهم الطويل... فماذا يُنتظر من سجين قضى كلّ هذه السنوات بين الجدران، وقد يكون محكومًا بالسجن المؤبّد أو لمؤبّدات عدّة، ولا يعرف متى يمكن أن يرى الحرّيّة مرّةً أخرى؟ هل أستطيع أن أتخيّل كيف قضى هذا الأسير، ونحن نتقاسم العيش هنا في نفس الغرفة، الخمس عشرة سنةً في السجن؟ وكيف يستعدّ لقضاء الخمس عشرة القادمة أيضًا فيه؟ وما دور الأمل - الّذي يعشّش بالتأكيد في قلبه ووجدانه - في إمكانيّة التحرّر قريبًا؟ وماذا تعني هذه الـ "قريبًا" في قاموسه الزمنيّ؟
هل هو انتظار صفقة تبادل مع "حماس"، في مستقبل قد يكون قريبًا أو بعيدًا، على محور زمن الصراع مع إسرائيل؟ أم هل ثمّة أمل غير واضح الملامح أبدًا حول إمكانيّة التحرّر؛ من خلال المفاوضات، الّتي تبدو هذه الأيّام في أبعد نقطة، منذ بدء ما يُسمّى "عمليّة السلام"؟
ما زلت أذكر ذلك الأسير الّذي جاء يسير معي في الفورة في "سجن رامون"، وفي أثناء المشي قال لي فجأة: "هيّانا روَّحنا دكتور"... فسألته مبتهجًا لهذا الخبر: "متى موعد التحرّر؟" فقال صادمًا إيّاي: "بعد خمس سنين". خمس سنين يا إلهي! هو الّذي قضى حتّى الآن عشرين سنة في السجن يشعر بأنّها "رَوَّحَت"، وأنا بالنسبة إليّ فالسنين الخمس هي ضعفان ونصف ضعف فترة حكمي كلّها؟
نعم، كلّ شيء نسبيّ ولا نسبيّ أكثر من مفهوم الزمن. التحدّي أن أتفهّم وأن يتفهّموني، وخاصّة ألّا يعدّوني لحوحًا ولجوجًا، عندما أستبطئ البريد، أو تعيين موعد عند طبيب مثلًا، أو استعادة موادّي المكتوبة الّتي استولى عليها أفراد الوحدة الخاصّة، عندما فتّشوا الغرف الّتي أسأل عنها كلّ يوم، أقيس كلّ شيء بالساعات والأيّام، ويقيسونها بالأسابيع والأشهر، وكلانا على حقّ...
(2)
مسابقة للحمام الزاجل
منذ اليوم الأوّل لدخولي السجن، عزمت على التخلّص من عادتي السيّئة باستهلاك غير محدود للإعلام العبريّ، سواء المسموع أو المرئيّ أو عبر الشبكة العنكبوتيّة، وقرّرت من أجل توفير الوقت واستغلاله بشكل مفيد في القراءة والكتابة، الاكتفاءَ بنشرة الأخبار الصباحيّة في إحدى القنوات المتوافرة، ونشرة أخبار بالراديو ظهرًا، وكذلك برنامج إخباريّ واحد في ساعات المساء، وفعلًا نجحت في تطبيق هذا النظام، في كلّ السجون الّتي "استضافتني" فيها إدارة السجون حتّى الآن، مع تسارع الأحداث في قضايا الفساد أو ملفّات نتنياهو، وجدت نفسي أنزلق تدريجيًّا نحو استهلاك مبالغ فيه للأخبار، ولكنّي توقّفت في الوقت المناسب، وعدت إلى تقنين صارم في الوقت الّذي أصرفه على متابعة الإعلام العبريّ.
لا أستطيع ألّا أشارككم في مشاعر الشماتة والسخرية، وحتّى القرف من هذه النخب الإسرائيليّة الحاكمة، الّتي ينخر فيها الفساد حتّى العظم، وليس أقلّ من هذا، من الإعلام العبريّ المنافق والمتلوّن، المتباكي على سلطة القانون وهيبة المحاكم والنيابة، بينما يغضّ النظر عن انتهاكات القانون وحقوق الإنسان الفلسطينيّ، الّتي تقوم بها إسرائيل يوميًّا. إنّ إعلام القبيلة الإسرائيليّة العنصريّة شريك في الجريمة والفساد، ليس أقلّ من النخب الحاكمة. أسخر من هذا الذهول الّذي ألمّ بكلّ وسائل الإعلام، عن كشف تبادل الرسائل النصّيّة بين القاضية وممثّل النيابة في محاكم تمديد توقيف المتّهَمين في ملفّ 4000، وأشعر بالتخمة من كلّ هذا اللتّ والعجن، من خبراء ومعلّقي بلاط عند السلطة الرابعة الإسرائيليّة. أضغط على جهاز التحكّم لأحوّل من نشرة الأخبار الصباحيّة في القناة الإسرائيليّة، وقد رسوت عند "قناة فلسطين" الموجودة عندنا في رزمة التلفزيون في "هداريم" (بينما ممنوعة في باقي السجون)، وهي بالنسبة إلينا هنا في السجن، محطّة رئيسيّة؛ لمشاهدة أخبار المناطق المحتلّة عام 1967 ومتابعتها، ولا سيّما بثّها المباشر من مناطقَ عديدة أيّام الجمعة، ومع أنّ المحطة موالية تمامًا للسلطة، وينقصها الكثير من المهنيّة الصحافيّة حتّى لمحطّة موالية، إلّا أنّنا نشمّ من خلالها رائحة الوطن، ونتابع أخباره الأساسيّة. إنّ القناة حقيقةً تهتمّ كثيرًا، وتتابع قضايا الأسرى وتغطّي أخبار المحرَّرين منهم، وهذا يُحسَب لها. كان في القناة برنامج صباحيّ، تقابل فيه المقدّمة شخصًا ما من الأستوديو في غزّة، لم أهتمّ كثيرًا بالحديث الدائر بينهما في البداية، وفور أن ظهر عنوان على الشاشة: "مسابقة الحمام الزاجل في غزّة"، ركّزت عندئذ بالحوار الدائر، لأستوضح إن كان الحوار يدور حقًّا حول موضوع الحمام، أم ثمّة خطأ ما. فجأةً يتغيّر العنوان على الشاشة، ويظهر اسم الشخص، وإذ به أمين سرّ الاتحاد الفلسطينيّ لرياضة الحمام الزاجل، واسمه د. غسّان كلاب، طالت المقابلة كثيرًا، أكثر من ربع ساعة والأخ أمين السرّ يشرح بالتفصيل عن المسابقة، وعن الرياضة؛ فالمسابقة مثلًا تجري حول السرعة، وكذلك حول معايير جمال الحمامة، وما يدخل في حساب مكوّنات الجمال لديها، مثل نعومة الريش وعرض الصدر وما إلى ذلك، وفجأةً وجدت نفسي تنتابني نوبة من الضحك لا تتوقّف، وتغزوني أفكار لا أوّل لها ولا آخر، وقد تألّمت حقًّا بسبب هذا النقص في ثقافتي العامّة؛ إذ لم أسمع ولم أقرأ عن رياضة الحمام الزاجل من قبل.
إنّنا فعلًا شعب خاصّ، ينشغل اليهود بهموم فساد قادتهم وخراب مؤسّساتهم، ونحن، رغم الحصار الجائر على غزّة وشبه الكارثة الإنسانيّة، لا ندع ذلك يثنينا عن ممارسة رياضة خاصّة، وإقامة مسابقة رسميّة لها، وليس من الغريب - والحال هذه - توسّع استخدامات هذه الرياضة في مجالات حيويّة أخرى مهمّة، على سبيل المثال لا الحصر، مثل تحسين خدمات البريد في السجون، الّتي يعاني بسببها الأسرى الأمرّين، ولا سيّما الأسرى من قطاع غزّة الممنوعين من الزيارة. ولربّما يمكن استخدام الحمام الزاجل في كسر الحصار على غزّة، وربّما يتطوّر الأمر؛ فيسهم الحمام الزاجل في نقل الرسائل بين "إسرائيل" و"حماس" مثلًا، بديلًا عن المفاوضات المباشرة، وقد يكون لذلك أبعد الأثر في التسريع في إنهاء صفقة التبادل.
آذار، 2018
(3)
تكون في البوسطة، فتشتهي السجن
اصطحبت إلى الفورة مرّات عدّة كتاب "أرض فارغة - الهندسة المعماريّة في خدمة الاحتلال"، للبروفيسور إيال فايتسمان، وقد سمحت الإدارة بإدخاله إليّ، بعد أن منعته سابقًا بحجّة أنّه كتاب تحريضيّ، وقرأت معظمه في أثناء وجودي في الفورة. إنّ الكتاب ليس سهلًا - حقيقة – للقراءة، ويحتاج إلى وقت وإلى "قراءة النملة"؛ فهو كتاب توثيقيّ لمشروع الاستيطان الصهيونيّ في المناطق المحتلّة عام 1967، وكيفيّة تسخير التخطيط المعماريّ في خدمة هذا المشروع، بنظرة نقديّة تميّز باحثًا نقديًّا مناهضًا للصهيونيّة، فيتسمان الّذي يدرّس الهندسة المعماريّة في لندن ويبحث فيها.
في أحد الفصول، يعرض الكاتب المعابر الّتي تحوّلت إلى ما يشبه معابر الحدود الدوليّة، مثل "معبر قلنديا" وغيره، وهنا يشير الكاتب إلى البوّابة الحديديّة الدائريّة، الّتي يدخل منها المشاة الفلسطينيّون. يتحكّم بالبوّابة الجنود من الداخل؛ وهكذا يقرّرون وتيرة دخول الناس عبر الممرّ المؤدّي إلى التفتيش. إنّ المقاييس العاديّة المتّبَعة لهذه البوّابات، في كلّ العالم، تتراوح بين 75 سم و90 سم لنصف القطر؛ أي من العمود المركزيّ حتّى محيط الدائرة المعدنيّ، والجيش الإسرائيليّ يقرّر أن تكون البوّابة أصغر، ويطلب إنتاج بوّابات خاصّة له، ذات نصف قطر يبلغ 50 أو 55 سم، وتكون النتيجة ضيقًا في المسافة؛ فيجعل امرأةً حاملًا أو ذات طفل تستصعب جدًّا الدخول، وكذلك إذا كان الشخص يحمل أكياسًا أو حقيبة؛ فيجعل المرور عبر هذه البوّابات الضيّقة مهمّة عسيرة أو صعبة، وتحتاج إلى مهارة في أحسن الأحوال، ويقوم الجنود أحيانًا بوقف البوّابة، بعد أن دخل أحد الفلسطينيّين فيها، وهكذا يبقى عالقًا في داخلها حتّى تفتح من جديد. أمّا الكتاب، فيضمّ حقائق أكبر وأفظع، ولكنّ هذه المسألة تحديدًا استرعت اهتمامي: لماذا يقوم جيش محتلّ قويّ، عنده تفوّق هائل بكلّ المعايير المتعلّقة بميزان القوى مع الشعب تحت الاحتلال، لماذا يقوم ويهتمّ بمثل هذا التفصيل الصغير؟ لماذا يصغّر حجم البوّابة الدائريّة، دون أن يكون لذلك أيّ فائدة أمنيّة مثلًا، أو عمليّة، أو اقتصاديّة؟ السبب الوحيد الممكن استنتاجه، استفحال تلك العقليّة العنصريّة عند قيادات الجيش، هذه العقليّة الّتي يبدو أنّها في غياب أيّ محاسبة أو مراقبة أو احتمال دفع أيّ ثمن، تستشري وتستولي على كلّ مستعمِر، وتجعل ممارستها بعيدة عن حسابات الفائدة والخسارة، حتّى من وجهة نظر المشروع الاستعماريّ نفسه، وتنمو نحو الشرّ الكلّيّ من أجل الشرّ؛ ففي حالتنا هذه يكون الهدف أن تجعل الفلسطينيّ يشعر بالذلّ والمهانة، وبأنّه انداس من قِبَل جنود الاحتلال، في كلّ مرّة يعبر فيها بهذه البوّابة. قبل دخولي السجن، وفي عدد من المناسبات، تحدّثت عن هذه العقليّة، وبخاصّة في تعاملها مع الفلسطينيّ الفرد، بأنّها عقليّة عنصريّة فاقدة أيّ ملامح إنسانيّة، تذكّر بممارسات النازيّة والفاشيّة في أوروبّا، في ثلاثينات القرن الماضي.
جلت بناظري في باحة الفورة، بعد أن قرأت هذه المعلومات في الكتاب، وأخذت في التفكير في الهندسة المعماريّة في هذا السجن، ولكلّ الحيّز الّذي نشغله نحن الأسرى فيه، الفورة الّتي كنت أقرأ فيها مثلًا تشبه البئر العميقة الواسعة، والجدران ترتفع من الجوانب كافّة؛ فلا نستطيع أن نرى شيئًا خارجها، ويصبح منظر قمّة الجلبوّع، الّتي كنت أراها في "سجن الجلبوّع" وتغنّيت فيها آنذاك، حلمًا بعيد المنال، إذا حاولت تعويض نفسك بالنظر إلى الأعلى؛ علّك ترى شيئًا في السماء، طائرًا ما أو طائرة مثلًا، تنتبه إلى أنّه يفصلك عن السماء حاجز حديديّ، عليه سياج كالّذي يُستعمَل للأقفاص. هنا تخيّرك الهندسة المعماريّة، بين أن تشعر بأنّك في بئر عميقة وعالية الجدران، وبأنّك في قفص، ولك حرّيّة الاختيار.
قبل أيّامٍ أخذوني في البوسطة لفحوصات طبّيّة، وكره الأسير للبوسطة أمر معروف، وقد عانيت منها الأمرّين في أثناء نقلي من سجن إلى آخر، لكن هذه المرّة وجدت فيها شيئًا مفرحًا؛ استطعت بعد أشهر أن أرى منظرًا طبيعيًّا، وشجرًا، وسيّارات، ولافتات على الطريق، وفكّرت - في نفسي - في هول هذه العقليّة الباطنيّة الموغلة في الغيّ والظلم، يضعونك في ظروف في السجن، حتّى يجعلوك تشتهي البوسطة، ويضعونك في ظروف قاسية في البوسطة والمعابر، فيجعلونك تشتهي السجن، وتفكّر أيضًا في أنّهم مهما ضيّقوا علينا المكان فلن تضيق البلاد بأهلها، ولا بأحلامهم.
(4)
ميلاد أوّل
كتبت عن تشابه الأيّام في السجن، والاضمحلال التدريجيّ للفورات بينها، فتتشاكل الأيّام عند الأسير؛ فهل اليوم هو الثلاثاء؟ أم الأربعاء؟ أم الخميس؟ ما الفرق؟ تبحث عن الفوارق فهي موجودة وتذكّر بنفسها؛ مثلًا يوم الجمعة هو يوم الصلاة، والسبت والأحد يوما مباريات كرة القدم الأوروبّيّة الّتي نراها في فضائيّة الرياضة، ومؤكّد ثمّة أيّام الأعياد الّتي تحافظ على خصوصيّتها، لكنّها تمرّ بلا بهاء ولا بهجة، مع أنّه يجري الاحتفال بها بتواضع وبالحدّ الأدنى. إنّ هذا التوجّه للأعياد يسري مفعوله عند الجميع وبعفويّة وسهولة، حتّى لدى أسرى حديثي العهد مثلي، وهكذا اقترب عيد ميلادي من دون أن أشعر أو أفطن له. في صباح اليوم الثالث والعشرين من آذار، جلبت بعض أنواع الكعك والحلوى من "الكانتينا"، خبّرت شركائي في الغرفة بالموعد، ودعوت بعض الأصدقاء لاحتفال متواضع ومصغّر، في غرفتنا بعد وجبة العشاء، أبدى الجميع، ولا سيّما الشباب شركائي في الغرفة، امتعاضهم الحقيقيّ؛ لعدم إبلاغهم بالمناسبة قبل أيّام، فحرمتهم من فرصة إعداد كعكة العيد لتليق بالواجب.
إنّ أمر إعداد الحلويّات، الشرقيّة خاصّة، مثل الكنافة، والقطايف، والمدلوقة، أمر قائم بذاته، يندرج ضمن ما أسمّيه الأساطير، الّتي يبدع فيها الأسرى في الاختراع والابتكار، مستخدمين موادّ لا تخطر بالبال؛ فينتجون أصناف الكعك والحلويّات، ويتبارزون في ذلك.
في مساء 23/3، وبعد العشاء، اجتمع الأصدقاء في غرفتي الصغيرة في "سجن هداريم"؛ للاحتفال بعيد ميلادي الثاني والستّين، ولم تزد مدّة الاحتفال على ربع ساعة؛ لأنّه حسب النظام هنا، يجب أن يعود الأسرى إلى غرفهم، لكنّ من المزايا الّتي يحصل عليها "المردونات" - عمّال القسم - إمكانيّة البقاء خارج الغرف حتّى الساعة الثامنة مساءً (في التوقيت الصيفيّ)، وفي حوالي السابعة جاء عدد كبير منهم، بمرافقة ممثّل القسم، عمّار؛ للاحتفال معي مرّة أخرى، وكانت لفتة طيّبة منهم أفرحتني كثيرًا.
هكذا احتفلت بأوّل عيد ميلاد لي أقضيه في السجن، فهل يكون الأخير؟ لا أدري؛ فهذا يعتمد على قرار لجنة الثلث، الّتي ستجتمع في أيلول القادم؛ للبحث في طلبي الحصول على تخفيض ثلث المدّة.
الجمعة، 23/3/2018
(5)
فتًى يشتهي
مضى اليومَ تسعة أشهر بالضبط منذ دخولي السجن، كم كنت أرى هذا اليوم بعيدًا في بداية فترة السجن! ولكن ها هو أصبح ورائي. في الأسابيع الأخيرة فقط بدأت أشعر حقًّا بتسارع مضيّ الوقت، وبتشابه الأيّام في السجن، الّذي كان مصدرًا للإحباط والملل والشعور بثقل الوقت بسرعة.
كنت لا أطيق سماع مَنْ يريد - بحسن نيّة طبعًا - تهوين الأمور عليّ؛ بترديد القول: "غمّض عين وفتّح عين ولّا السنتين منهيّات"، وأقول في سرّي: "أيّا فتّح عين وغمّض عين، يا شيخ أو يا شيخة، اللّي إيده في المَيّ مش مثل اللّي إيده في النار".
كتبت عن تعاطي الأسرى مع الزمن، ومفاهيمه المتفاوتة عندهم، أفكّر في سبب تغيّر إحساسي بمرور الوقت، لا أعزو ذلك إلى أنّي اعتدت السجن وحياته كحال الأسرى القدامى، وإنّما لأنّي بدأت أرى الضوء في نهاية النفق، وخاصّة أنّ ثمّة مواعيد محدّدة قد بدأت تلوح في الأفق، منها الاستماع للالتماس الّذي قدّمته ضدّ إدارة السجون، بشأن الموادّ المكتوبة الّتي أُخِذت منّي، وكذلك موعد لجنة الثلث في شهر أيلول. وفي أسوأ الأحوال، ومع زيادة التخفيض المرتقب، المسمّى التخفيض الإداريّ؛ الّذي يعني تخفيض شهرين ونصف من الفترة في كلّ الأحوال؛ يعني هذا أنّني سأتحرّر بعد سنة من اليوم، وهذا في أسوأ الأحوال، وإنّ غدًا لناظره قريب، وقد صدق أبو الطيّب المتنبي عندما قال:
فتًى يشتهي طول البلاد ووقته *** تضيق به أوقاته والمقاصدُ
الإثنين، 2/4/2018
باسل غطّاس
قائد سياسيّ وبرلمانيّ فلسطينيّ سابق من أراضي 48. يقضي حكمًا بالسجن مدّة عامين في المعتقلات الإسرائيليّة بتهمة معاونة أسرى سياسيّين فلسطينيّين. حاصل على الدكتوراه في الهندسة البيئيّة من معهد 'التخنيون'، وله مؤلّف بعنوان 'بلا هوادة'، صادر عن مكتبة كلّ شيء عام 2017.
في هذه الرسائل تسجيل لجوانب يوميّة حميميّة من حياة "أسير جديد"، يكتشف عالم السجن ومعناه، ويدوّن أفكاره وتأمّلاته.
(1)
لا نسبيّ أكثر من الزمن
بدأت أعداد جريدة "هآرتس" تصلني يوميًّا، وقد انتظرت ذلك طويلًا منذ أن رتّبت للاشتراك، ودفعت المبلغ المطلوب، أقول "طويلًا" وهذا مرتبط بمفهوم الزمن ونسبيّته، وهو موضوع أساسيّ في السجن، إذ إنّ مفهوم الزمن والوقت عندي، أنا الأسير حديث العهد، ليس كما هو عند الأسرى القدامى، فما أقيسه أنا بالساعات والأيّام لا يعني شيئًا عندهم، وكأنّها ثوانٍ بالنسبة إلى مفهومهم الزمنيّ، فكأنّنا نعيش في أزمان مختلفة أو مدارات كونيّة مختلفة؛ هم يقيسون الزمن بجدول مرتبط بحياة السجن والأسر، مثل التنقّل بين السجون، أو التنقّل بالبوسطات، أو إضرابات الطعام، أو الوقت بين كلّ قمع وقمع للوحدات الخاصّة؛ فمثلًا الأسير الّذي انتقل معي من "رامون" إلى "هداريم"، وينتظر عودته إلى "رامون"، بعد مرور ثلاثة أشهر، أو أربعة، أو حتّى نصف سنة على وجوده هنا، زيادة عمّا كان يتوقّع، فهذا أمر عاديّ لا يشعر به؛ فهو الّذي مضى على سجنه 15 سنة ومحكوم مؤبّدًا، لا تعني له هذه الأشهر الكثير، بينما لديّ فهي قد تكون الفترة كلّها منذ دخلت السجن أو ما تبقّى منه، هو يعدّها لمح البصر وأنا أعدّها دهرًا. ما قد يبدو لامبالاة عندهم بالوقت، هو سلاحهم الأكثر حدّة وقوّة؛ للتعامل مع سنوات سجنهم الطويل... فماذا يُنتظر من سجين قضى كلّ هذه السنوات بين الجدران، وقد يكون محكومًا بالسجن المؤبّد أو لمؤبّدات عدّة، ولا يعرف متى يمكن أن يرى الحرّيّة مرّةً أخرى؟ هل أستطيع أن أتخيّل كيف قضى هذا الأسير، ونحن نتقاسم العيش هنا في نفس الغرفة، الخمس عشرة سنةً في السجن؟ وكيف يستعدّ لقضاء الخمس عشرة القادمة أيضًا فيه؟ وما دور الأمل - الّذي يعشّش بالتأكيد في قلبه ووجدانه - في إمكانيّة التحرّر قريبًا؟ وماذا تعني هذه الـ "قريبًا" في قاموسه الزمنيّ؟
هل هو انتظار صفقة تبادل مع "حماس"، في مستقبل قد يكون قريبًا أو بعيدًا، على محور زمن الصراع مع إسرائيل؟ أم هل ثمّة أمل غير واضح الملامح أبدًا حول إمكانيّة التحرّر؛ من خلال المفاوضات، الّتي تبدو هذه الأيّام في أبعد نقطة، منذ بدء ما يُسمّى "عمليّة السلام"؟
ما زلت أذكر ذلك الأسير الّذي جاء يسير معي في الفورة في "سجن رامون"، وفي أثناء المشي قال لي فجأة: "هيّانا روَّحنا دكتور"... فسألته مبتهجًا لهذا الخبر: "متى موعد التحرّر؟" فقال صادمًا إيّاي: "بعد خمس سنين". خمس سنين يا إلهي! هو الّذي قضى حتّى الآن عشرين سنة في السجن يشعر بأنّها "رَوَّحَت"، وأنا بالنسبة إليّ فالسنين الخمس هي ضعفان ونصف ضعف فترة حكمي كلّها؟
نعم، كلّ شيء نسبيّ ولا نسبيّ أكثر من مفهوم الزمن. التحدّي أن أتفهّم وأن يتفهّموني، وخاصّة ألّا يعدّوني لحوحًا ولجوجًا، عندما أستبطئ البريد، أو تعيين موعد عند طبيب مثلًا، أو استعادة موادّي المكتوبة الّتي استولى عليها أفراد الوحدة الخاصّة، عندما فتّشوا الغرف الّتي أسأل عنها كلّ يوم، أقيس كلّ شيء بالساعات والأيّام، ويقيسونها بالأسابيع والأشهر، وكلانا على حقّ...
(2)
مسابقة للحمام الزاجل
منذ اليوم الأوّل لدخولي السجن، عزمت على التخلّص من عادتي السيّئة باستهلاك غير محدود للإعلام العبريّ، سواء المسموع أو المرئيّ أو عبر الشبكة العنكبوتيّة، وقرّرت من أجل توفير الوقت واستغلاله بشكل مفيد في القراءة والكتابة، الاكتفاءَ بنشرة الأخبار الصباحيّة في إحدى القنوات المتوافرة، ونشرة أخبار بالراديو ظهرًا، وكذلك برنامج إخباريّ واحد في ساعات المساء، وفعلًا نجحت في تطبيق هذا النظام، في كلّ السجون الّتي "استضافتني" فيها إدارة السجون حتّى الآن، مع تسارع الأحداث في قضايا الفساد أو ملفّات نتنياهو، وجدت نفسي أنزلق تدريجيًّا نحو استهلاك مبالغ فيه للأخبار، ولكنّي توقّفت في الوقت المناسب، وعدت إلى تقنين صارم في الوقت الّذي أصرفه على متابعة الإعلام العبريّ.
لا أستطيع ألّا أشارككم في مشاعر الشماتة والسخرية، وحتّى القرف من هذه النخب الإسرائيليّة الحاكمة، الّتي ينخر فيها الفساد حتّى العظم، وليس أقلّ من هذا، من الإعلام العبريّ المنافق والمتلوّن، المتباكي على سلطة القانون وهيبة المحاكم والنيابة، بينما يغضّ النظر عن انتهاكات القانون وحقوق الإنسان الفلسطينيّ، الّتي تقوم بها إسرائيل يوميًّا. إنّ إعلام القبيلة الإسرائيليّة العنصريّة شريك في الجريمة والفساد، ليس أقلّ من النخب الحاكمة. أسخر من هذا الذهول الّذي ألمّ بكلّ وسائل الإعلام، عن كشف تبادل الرسائل النصّيّة بين القاضية وممثّل النيابة في محاكم تمديد توقيف المتّهَمين في ملفّ 4000، وأشعر بالتخمة من كلّ هذا اللتّ والعجن، من خبراء ومعلّقي بلاط عند السلطة الرابعة الإسرائيليّة. أضغط على جهاز التحكّم لأحوّل من نشرة الأخبار الصباحيّة في القناة الإسرائيليّة، وقد رسوت عند "قناة فلسطين" الموجودة عندنا في رزمة التلفزيون في "هداريم" (بينما ممنوعة في باقي السجون)، وهي بالنسبة إلينا هنا في السجن، محطّة رئيسيّة؛ لمشاهدة أخبار المناطق المحتلّة عام 1967 ومتابعتها، ولا سيّما بثّها المباشر من مناطقَ عديدة أيّام الجمعة، ومع أنّ المحطة موالية تمامًا للسلطة، وينقصها الكثير من المهنيّة الصحافيّة حتّى لمحطّة موالية، إلّا أنّنا نشمّ من خلالها رائحة الوطن، ونتابع أخباره الأساسيّة. إنّ القناة حقيقةً تهتمّ كثيرًا، وتتابع قضايا الأسرى وتغطّي أخبار المحرَّرين منهم، وهذا يُحسَب لها. كان في القناة برنامج صباحيّ، تقابل فيه المقدّمة شخصًا ما من الأستوديو في غزّة، لم أهتمّ كثيرًا بالحديث الدائر بينهما في البداية، وفور أن ظهر عنوان على الشاشة: "مسابقة الحمام الزاجل في غزّة"، ركّزت عندئذ بالحوار الدائر، لأستوضح إن كان الحوار يدور حقًّا حول موضوع الحمام، أم ثمّة خطأ ما. فجأةً يتغيّر العنوان على الشاشة، ويظهر اسم الشخص، وإذ به أمين سرّ الاتحاد الفلسطينيّ لرياضة الحمام الزاجل، واسمه د. غسّان كلاب، طالت المقابلة كثيرًا، أكثر من ربع ساعة والأخ أمين السرّ يشرح بالتفصيل عن المسابقة، وعن الرياضة؛ فالمسابقة مثلًا تجري حول السرعة، وكذلك حول معايير جمال الحمامة، وما يدخل في حساب مكوّنات الجمال لديها، مثل نعومة الريش وعرض الصدر وما إلى ذلك، وفجأةً وجدت نفسي تنتابني نوبة من الضحك لا تتوقّف، وتغزوني أفكار لا أوّل لها ولا آخر، وقد تألّمت حقًّا بسبب هذا النقص في ثقافتي العامّة؛ إذ لم أسمع ولم أقرأ عن رياضة الحمام الزاجل من قبل.
إنّنا فعلًا شعب خاصّ، ينشغل اليهود بهموم فساد قادتهم وخراب مؤسّساتهم، ونحن، رغم الحصار الجائر على غزّة وشبه الكارثة الإنسانيّة، لا ندع ذلك يثنينا عن ممارسة رياضة خاصّة، وإقامة مسابقة رسميّة لها، وليس من الغريب - والحال هذه - توسّع استخدامات هذه الرياضة في مجالات حيويّة أخرى مهمّة، على سبيل المثال لا الحصر، مثل تحسين خدمات البريد في السجون، الّتي يعاني بسببها الأسرى الأمرّين، ولا سيّما الأسرى من قطاع غزّة الممنوعين من الزيارة. ولربّما يمكن استخدام الحمام الزاجل في كسر الحصار على غزّة، وربّما يتطوّر الأمر؛ فيسهم الحمام الزاجل في نقل الرسائل بين "إسرائيل" و"حماس" مثلًا، بديلًا عن المفاوضات المباشرة، وقد يكون لذلك أبعد الأثر في التسريع في إنهاء صفقة التبادل.
آذار، 2018
(3)
تكون في البوسطة، فتشتهي السجن
اصطحبت إلى الفورة مرّات عدّة كتاب "أرض فارغة - الهندسة المعماريّة في خدمة الاحتلال"، للبروفيسور إيال فايتسمان، وقد سمحت الإدارة بإدخاله إليّ، بعد أن منعته سابقًا بحجّة أنّه كتاب تحريضيّ، وقرأت معظمه في أثناء وجودي في الفورة. إنّ الكتاب ليس سهلًا - حقيقة – للقراءة، ويحتاج إلى وقت وإلى "قراءة النملة"؛ فهو كتاب توثيقيّ لمشروع الاستيطان الصهيونيّ في المناطق المحتلّة عام 1967، وكيفيّة تسخير التخطيط المعماريّ في خدمة هذا المشروع، بنظرة نقديّة تميّز باحثًا نقديًّا مناهضًا للصهيونيّة، فيتسمان الّذي يدرّس الهندسة المعماريّة في لندن ويبحث فيها.
في أحد الفصول، يعرض الكاتب المعابر الّتي تحوّلت إلى ما يشبه معابر الحدود الدوليّة، مثل "معبر قلنديا" وغيره، وهنا يشير الكاتب إلى البوّابة الحديديّة الدائريّة، الّتي يدخل منها المشاة الفلسطينيّون. يتحكّم بالبوّابة الجنود من الداخل؛ وهكذا يقرّرون وتيرة دخول الناس عبر الممرّ المؤدّي إلى التفتيش. إنّ المقاييس العاديّة المتّبَعة لهذه البوّابات، في كلّ العالم، تتراوح بين 75 سم و90 سم لنصف القطر؛ أي من العمود المركزيّ حتّى محيط الدائرة المعدنيّ، والجيش الإسرائيليّ يقرّر أن تكون البوّابة أصغر، ويطلب إنتاج بوّابات خاصّة له، ذات نصف قطر يبلغ 50 أو 55 سم، وتكون النتيجة ضيقًا في المسافة؛ فيجعل امرأةً حاملًا أو ذات طفل تستصعب جدًّا الدخول، وكذلك إذا كان الشخص يحمل أكياسًا أو حقيبة؛ فيجعل المرور عبر هذه البوّابات الضيّقة مهمّة عسيرة أو صعبة، وتحتاج إلى مهارة في أحسن الأحوال، ويقوم الجنود أحيانًا بوقف البوّابة، بعد أن دخل أحد الفلسطينيّين فيها، وهكذا يبقى عالقًا في داخلها حتّى تفتح من جديد. أمّا الكتاب، فيضمّ حقائق أكبر وأفظع، ولكنّ هذه المسألة تحديدًا استرعت اهتمامي: لماذا يقوم جيش محتلّ قويّ، عنده تفوّق هائل بكلّ المعايير المتعلّقة بميزان القوى مع الشعب تحت الاحتلال، لماذا يقوم ويهتمّ بمثل هذا التفصيل الصغير؟ لماذا يصغّر حجم البوّابة الدائريّة، دون أن يكون لذلك أيّ فائدة أمنيّة مثلًا، أو عمليّة، أو اقتصاديّة؟ السبب الوحيد الممكن استنتاجه، استفحال تلك العقليّة العنصريّة عند قيادات الجيش، هذه العقليّة الّتي يبدو أنّها في غياب أيّ محاسبة أو مراقبة أو احتمال دفع أيّ ثمن، تستشري وتستولي على كلّ مستعمِر، وتجعل ممارستها بعيدة عن حسابات الفائدة والخسارة، حتّى من وجهة نظر المشروع الاستعماريّ نفسه، وتنمو نحو الشرّ الكلّيّ من أجل الشرّ؛ ففي حالتنا هذه يكون الهدف أن تجعل الفلسطينيّ يشعر بالذلّ والمهانة، وبأنّه انداس من قِبَل جنود الاحتلال، في كلّ مرّة يعبر فيها بهذه البوّابة. قبل دخولي السجن، وفي عدد من المناسبات، تحدّثت عن هذه العقليّة، وبخاصّة في تعاملها مع الفلسطينيّ الفرد، بأنّها عقليّة عنصريّة فاقدة أيّ ملامح إنسانيّة، تذكّر بممارسات النازيّة والفاشيّة في أوروبّا، في ثلاثينات القرن الماضي.
جلت بناظري في باحة الفورة، بعد أن قرأت هذه المعلومات في الكتاب، وأخذت في التفكير في الهندسة المعماريّة في هذا السجن، ولكلّ الحيّز الّذي نشغله نحن الأسرى فيه، الفورة الّتي كنت أقرأ فيها مثلًا تشبه البئر العميقة الواسعة، والجدران ترتفع من الجوانب كافّة؛ فلا نستطيع أن نرى شيئًا خارجها، ويصبح منظر قمّة الجلبوّع، الّتي كنت أراها في "سجن الجلبوّع" وتغنّيت فيها آنذاك، حلمًا بعيد المنال، إذا حاولت تعويض نفسك بالنظر إلى الأعلى؛ علّك ترى شيئًا في السماء، طائرًا ما أو طائرة مثلًا، تنتبه إلى أنّه يفصلك عن السماء حاجز حديديّ، عليه سياج كالّذي يُستعمَل للأقفاص. هنا تخيّرك الهندسة المعماريّة، بين أن تشعر بأنّك في بئر عميقة وعالية الجدران، وبأنّك في قفص، ولك حرّيّة الاختيار.
قبل أيّامٍ أخذوني في البوسطة لفحوصات طبّيّة، وكره الأسير للبوسطة أمر معروف، وقد عانيت منها الأمرّين في أثناء نقلي من سجن إلى آخر، لكن هذه المرّة وجدت فيها شيئًا مفرحًا؛ استطعت بعد أشهر أن أرى منظرًا طبيعيًّا، وشجرًا، وسيّارات، ولافتات على الطريق، وفكّرت - في نفسي - في هول هذه العقليّة الباطنيّة الموغلة في الغيّ والظلم، يضعونك في ظروف في السجن، حتّى يجعلوك تشتهي البوسطة، ويضعونك في ظروف قاسية في البوسطة والمعابر، فيجعلونك تشتهي السجن، وتفكّر أيضًا في أنّهم مهما ضيّقوا علينا المكان فلن تضيق البلاد بأهلها، ولا بأحلامهم.
(4)
ميلاد أوّل
كتبت عن تشابه الأيّام في السجن، والاضمحلال التدريجيّ للفورات بينها، فتتشاكل الأيّام عند الأسير؛ فهل اليوم هو الثلاثاء؟ أم الأربعاء؟ أم الخميس؟ ما الفرق؟ تبحث عن الفوارق فهي موجودة وتذكّر بنفسها؛ مثلًا يوم الجمعة هو يوم الصلاة، والسبت والأحد يوما مباريات كرة القدم الأوروبّيّة الّتي نراها في فضائيّة الرياضة، ومؤكّد ثمّة أيّام الأعياد الّتي تحافظ على خصوصيّتها، لكنّها تمرّ بلا بهاء ولا بهجة، مع أنّه يجري الاحتفال بها بتواضع وبالحدّ الأدنى. إنّ هذا التوجّه للأعياد يسري مفعوله عند الجميع وبعفويّة وسهولة، حتّى لدى أسرى حديثي العهد مثلي، وهكذا اقترب عيد ميلادي من دون أن أشعر أو أفطن له. في صباح اليوم الثالث والعشرين من آذار، جلبت بعض أنواع الكعك والحلوى من "الكانتينا"، خبّرت شركائي في الغرفة بالموعد، ودعوت بعض الأصدقاء لاحتفال متواضع ومصغّر، في غرفتنا بعد وجبة العشاء، أبدى الجميع، ولا سيّما الشباب شركائي في الغرفة، امتعاضهم الحقيقيّ؛ لعدم إبلاغهم بالمناسبة قبل أيّام، فحرمتهم من فرصة إعداد كعكة العيد لتليق بالواجب.
إنّ أمر إعداد الحلويّات، الشرقيّة خاصّة، مثل الكنافة، والقطايف، والمدلوقة، أمر قائم بذاته، يندرج ضمن ما أسمّيه الأساطير، الّتي يبدع فيها الأسرى في الاختراع والابتكار، مستخدمين موادّ لا تخطر بالبال؛ فينتجون أصناف الكعك والحلويّات، ويتبارزون في ذلك.
في مساء 23/3، وبعد العشاء، اجتمع الأصدقاء في غرفتي الصغيرة في "سجن هداريم"؛ للاحتفال بعيد ميلادي الثاني والستّين، ولم تزد مدّة الاحتفال على ربع ساعة؛ لأنّه حسب النظام هنا، يجب أن يعود الأسرى إلى غرفهم، لكنّ من المزايا الّتي يحصل عليها "المردونات" - عمّال القسم - إمكانيّة البقاء خارج الغرف حتّى الساعة الثامنة مساءً (في التوقيت الصيفيّ)، وفي حوالي السابعة جاء عدد كبير منهم، بمرافقة ممثّل القسم، عمّار؛ للاحتفال معي مرّة أخرى، وكانت لفتة طيّبة منهم أفرحتني كثيرًا.
هكذا احتفلت بأوّل عيد ميلاد لي أقضيه في السجن، فهل يكون الأخير؟ لا أدري؛ فهذا يعتمد على قرار لجنة الثلث، الّتي ستجتمع في أيلول القادم؛ للبحث في طلبي الحصول على تخفيض ثلث المدّة.
الجمعة، 23/3/2018
(5)
فتًى يشتهي
مضى اليومَ تسعة أشهر بالضبط منذ دخولي السجن، كم كنت أرى هذا اليوم بعيدًا في بداية فترة السجن! ولكن ها هو أصبح ورائي. في الأسابيع الأخيرة فقط بدأت أشعر حقًّا بتسارع مضيّ الوقت، وبتشابه الأيّام في السجن، الّذي كان مصدرًا للإحباط والملل والشعور بثقل الوقت بسرعة.
كنت لا أطيق سماع مَنْ يريد - بحسن نيّة طبعًا - تهوين الأمور عليّ؛ بترديد القول: "غمّض عين وفتّح عين ولّا السنتين منهيّات"، وأقول في سرّي: "أيّا فتّح عين وغمّض عين، يا شيخ أو يا شيخة، اللّي إيده في المَيّ مش مثل اللّي إيده في النار".
كتبت عن تعاطي الأسرى مع الزمن، ومفاهيمه المتفاوتة عندهم، أفكّر في سبب تغيّر إحساسي بمرور الوقت، لا أعزو ذلك إلى أنّي اعتدت السجن وحياته كحال الأسرى القدامى، وإنّما لأنّي بدأت أرى الضوء في نهاية النفق، وخاصّة أنّ ثمّة مواعيد محدّدة قد بدأت تلوح في الأفق، منها الاستماع للالتماس الّذي قدّمته ضدّ إدارة السجون، بشأن الموادّ المكتوبة الّتي أُخِذت منّي، وكذلك موعد لجنة الثلث في شهر أيلول. وفي أسوأ الأحوال، ومع زيادة التخفيض المرتقب، المسمّى التخفيض الإداريّ؛ الّذي يعني تخفيض شهرين ونصف من الفترة في كلّ الأحوال؛ يعني هذا أنّني سأتحرّر بعد سنة من اليوم، وهذا في أسوأ الأحوال، وإنّ غدًا لناظره قريب، وقد صدق أبو الطيّب المتنبي عندما قال:
فتًى يشتهي طول البلاد ووقته *** تضيق به أوقاته والمقاصدُ
الإثنين، 2/4/2018
باسل غطّاس
قائد سياسيّ وبرلمانيّ فلسطينيّ سابق من أراضي 48. يقضي حكمًا بالسجن مدّة عامين في المعتقلات الإسرائيليّة بتهمة معاونة أسرى سياسيّين فلسطينيّين. حاصل على الدكتوراه في الهندسة البيئيّة من معهد 'التخنيون'، وله مؤلّف بعنوان 'بلا هوادة'، صادر عن مكتبة كلّ شيء عام 2017.
رسائل من "سجن هداريم"
www.arab48.com