أسماء رمرام - ديوان "سقط شيء من شيء" للشاعر محمد القليني.. قراءة

بين تعريف "قدامة بن جعفر" للشعر بأنه "قول موزون مقفى يدل على معنى" وتعريف "محمود درويش" الذي يقول فيه: "الكلام الذي نقول حين نسمعه أو نقرؤه: هذا شعر! ولا نحتاج إلى برهان"، تقف الدواوين بين يدي القراء لتتخذ لها طريقا في عقولهم وقلوبهم، وأي قراء؟ في ظل عزوف الناس عن القراءة.
يقول محمد القليني في أحد نصوصه:
"حاول الرئيس أن يبدو مثقفا
فقال في حوار تلفزيوني
الشعراء تخلوا عن الوزن والقافية
من أجل الحداثة
فلماذا لا يتخلى الناس عن الطعام والشراب
من أجل الوطن؟
سأل عامل المقهى زبونا شارك في الثورة
ما معنى الحداثة؟
أنا لا أقرأ حتى!
ولا أهتم إلا بطعام أبنائي الصغار".
يقول "غازي القصيبي": "الشعر ترف لعقول الخاصة، والرواية طعام دسم لعقول العامة".
أتوقف بعد التعاريف المذكورة أعلاه، لأعود إلى قصائد ديوان "سقط شيء من شيء"، للشاعر المصري محمد القليني، الذي تقترب نصوصه كثيرا من الواقع، من التفاصيل الصغيرة في الحياة اليومية، وإرهاصات النفس البشرية.
كمن به مس من الشعر، خرجت من هذا الديوان بتنهيدة،كيف لا وقد كتبه قلم يعرف كيف يلتقط التفاصيل الصغيرة بشاعرية تدل على رهافة حس صاحبها؟.
قسم الشاعر ديوانه إلى أبواب، كل باب يحمل عنوانا رئيسيا يتضمن مجموعة من القصائد، بدأها بقصائد الذكريات،حيث يقول محمد في أحد هذه النصوص:
"طرقت باب رأسي ثلاث طرقات
فتجمعت الذكريات خلف الباب
وفتحت إحداهن وهي تسأل:
من؟!"
هل سقطت الذكرى من رأس الشاعر لتعود إلى نصه؟! بكل تأكيد. كل شاعر "شاعر" لا بدّ وأن تكون له ملكة الإمساك بالتفاصيل الصغيرة والأحاسيس المكنونة وتحويلها على الورق إلى صور شعرية.
ها هو الشاعر إذن يكتب نصه الرئيسي "سقط شيء من شيء" والذي هو عنوان المجموعة. يفتتحه بالقول:
"في الشعر الحديث
يشترك القارىء مع الشاعر
في كتابة القصيدة"،
وهذا ما يفتح باب الشك للقارىء الشكاك، للتساؤل:
ما هو الشيء الذي سقط؟ ومن أي شيء سقط؟
في نهاية النص يجيب محمد المتسائلين في القصيدة:
"الشاعر الحزين كمركب قديم مسجون في ورشة نجارة
فهو الوحيد الذي يعرف
أنه كان يقصد
سقط المفتاح من جيبي
لا أحد يفتح لي حين أعود إلى البيت".
تتوالى الأبواب التي تضم العناوين التالية: (طردوني من العمل، قصيدتان منهكتان، قصائد تدور على حل شعرها، قصيدتان تعلقان كلماتهما على مسامير، قصيدة أصيبت بمغص بمجرد أن قضمت المعنى، قصيدة البحر، قصائد تتعارك من ستمسك نهدي الورقة أولا، فقيرات يلدن ديوكا، قصائد تطل من شرفة آيلة للسقوط، قصائد تخرج عارية في صباح ممطر، قصائد قصيرة).
أكثر نص مؤثر بالنسبة لي في المجموعة هو نص "ميراث":
"أبي وأُمّي وَقّعا وَرَقةَ طلاقِهما
قالت لي أُمّي: الطلاقُ ليس سيِّئًا كما تظُنُّ
وقال لي أبي: أصدقاؤك لديهم بَيتٌ واحدٌ
وسيكونُ لك بيتانِ يا محظوظُ.
ظلَّت غُرفتي في بيتِ أمّي كما هي
وجهّزَ لي أبي غُرفةً في بَيتِهِ الجديدِ.
بمِنشارٍ قديمٍ
قَسَما جسَدي إلى نِصفَينِ.
تركتُ نِصفي الأيسرَ عِندَ أُمّي
حَيثُ العينُ اليُسرَى
والذِّراعُ اليُسرَى
والقدَمُ اليُسرَى.
وذهَبتُ بعَينِي اليُمنَى
وذِراعي اليُمنَى
وقدَمي اليُمنَى
معَ أبي.
لكنَّ أبي كان يصفَعُني
لو حدَّثتُهُ عن اشتِياقي
إلى نِصفِي الآخَر.
وأُمّي كانَت تَحبِسُ نِصفِي
داخِلَ غُرفةٍ مُغلقةٍ
كي لا يجتَمِعَ بالنِّصفِ الذي يَملِكُهُ أبي.
أمّا مُدَرِّسُ الألعابِ
فَقَد رَفَضَ انضِمامي إلى فَريقِ كُرةِ القَدَمِ
بِدَعوَى أنَّهم يَحتاجونَ إلى لاعِبٍ بقَدَمَينِ
يُراوِغُ المُنافِسينَ بقَدَمٍ
ويُمَرِّرُ الكُرَةَ بالقَدَمِ الأُخرَى.
وتَرَكَتني فَتاتي
لأنَّ حِضني لا يكُونُ دافِئًا
بذِراعٍ واحِدةٍ.
ظلَّت عَينِي اليُمنَى تبتَسِمُ لأبي
وعَينِي اليُسرَى تبتَسِمُ لأُمّي
لم أستَطِعْ أن أقولَ لهُما:
لديَّ بَيتانِ
وغُرفَتانِ
وسَريرانِ
لكِنَّ رُوحي تنامُ في الشارعِ"
ولعل المتأمل لعناوين الأبواب المذكورة أعلاه، سيلاحظ أنسنة القصائد، والأنسنة كما يقول النقاد هي "إعطاء الشيء غير العاقل مشاعر الإنسان وصفاته تفكيرا وإحساسا وحركة وكل ما فيه وبه". وبين تعريف الأنسنة وقول "كونديرا" في رواية الخلود: "ليست وظيفة الشعر أن يبهرنا بفكرة غير متوقعة، بل أن يفهم لحظة من لحظات الكائن، فيحولها إلى لحظة لا تنسى، جديرة بحنين لا يطاق"، أجد نفسي أقرأ لموهبة حقيقية، جمعت ما بين قوة الصورة الشعرية والمشاعر الإنسانية المتدفقة.
هذا الديوان إضافة رائعة للمكتبة العربية.
_
أسماء رمرام.


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى