سعيد ناشيد في آخر حوار قبل مغادرته المغرب: قرار عزلي من الوظيفة العمومية، هو رغبة في إذلال نمط من التفكير.. حاوره: رضوان مستقيم

عندما التقينا المفكر المغربي سعيد ناشيد بمراكش، كانت تفصله ساعات قليلة عن موعد إقلاع الطائرة التي ستقله بعيدا عن بلده بعدما صدر قرار بعزله عن الوظيفة العمومية.كان لهذه المصادفة طعم خاص يذكر بترحال جان جاك روسو ومحنة باروخ دي اسبينوزا وابن رشد.
في هذا الحوار نستعيد مع سعيد ناشيد مهمة الفلسفة كمصدر لأسلوب معقلن في العيش لمواجهة الظروف الصعبة كالتي عاشها في الآونة الأخيرة.
الكاتب والمفكر سعيد ناشيد، عضو في رابطة العقلانيين العرب وأحد فرسان التنوير العمومي بالمغرب والعالم العربي، حظيت أعماله الفكرية باهتمام وانتشار واسعين في مختلف البلدان العربية، ومنها «الاختيار العلماني وأسطورة النموذج»، الحداثة والقرآن، «دليل التدين العاقل»، ؛»رسائل في التنوير العمومي»، «التداوي بالفلسفة» ؛»الطمأنينة الفلسفية»؛ «الوجود والعزاء».



اجتزتم مؤخرا أزمة بخصوص العمل، وفي تدوينة تضامنية عبر الفايسبوك للباحث والمترجم “حسن أوزال” إثر هذا العزل، شبه المحنة التي تجتازونها بمحنة ابن رشد، وأضاف “أن ما بات يتعرض له المفكرون في بلادنا هو ما يؤشر على بوادر أزمة ثقافية سياسية خانقة لم يسبق لها مثيل، أزمة أراد لها مدبروها تكميم الأفواه عبر تجويع المبدعين وتشريدهم كما هو الحال بالنسبة للأستاذ والباحث سعيد ناشيد”. في نظركم ما هي أسباب هذه الأزمة التي يعيشها المفكر المغربي؟

سبب هذه الأزمة هو أننا لم نخرج بعد من المعادلة التي قادت إلى محنة ابن رشد قديما. وللتذكير، فمحنة ابن رشد هي محنة تأسيسية لمرحلة لم نخرج منها لحد الساعة، هذه المرحلة اتسمت بأن علاقة السلطة بالمثقف هي علاقة ريبة، بل وقد تصل الى درجة العداء للمثقف الحر والمستقل. بالعودة الى ابن رشد فالملاحظ أن محنته انطلقت من لحظة تأليب السلطة للعوام على العقل أي على ابن رشد لأن بداية المحنة هي المشهد الذي كان قد استدعي إليه ابن رشد إلى بلاط الملك الموحدي في تلك الفترة واستدرج للنقاش أمام بعض الفقهاء الذين كانوا حاضرين بدعم من السلطان، والذين كانوا مستعدين للقيام بعملهم المطلوب وهو تبخيس العقل في شخص ابن رشد، وأثناء النقاش تكالبوا عليه واستصغروه وأذلوه أمام مرأى الملك الذي بارك لهم هذا العمل وخرج من هذا المجلس ذليلا. وكانت نهاية ابن رشد بهذا الشكل المهين المذل.
ولكن أيضا كان الثمن الذي دفعته حضارتنا ثمنا إغرائيا لأنه مباشرة بعد محنة ابن رشد بدأ انحدار المغرب الأقصى بدءا بفقدان الأندلس، ثم انتهاء بفقدان السيادة حتى على منطقة المغرب الأقصى التي دخلت في مرحلة مظلمة من الفتنة والاقتتال بين القبائل والعشائر والمجاعات والأوبئة الى غاية وصول المستعمر الفرنسي. خلال هذه الفترة من محنة ابن رشد الى الاستعمار الفرنسي كان مجمل التعليم المغربي يرتكز على الفقه وعلوم الدين، وحتى الرياضيات لا تدرس إلا بما يفيد الفقه (فقه المواريث أو حساب حركة النجوم والكواكب لضبط الأعياد وأوقات الصلاة وغير ذلك) أي ما يخدم فقط الدين.
بطبيعة الحال مرحلة انحطاط طويل دخل فيها المغرب واستمرت الى الاستعمار الفرنسي، ولكن ورثنا هذه المحنة التي تجعل المثقف العقلاني ضعيفا، كما أنها رغبة في تبخيس العقل نفسه. فأخشى ما تخشاه مجتمعاتنا ودولنا: الاستعمال الحر للعقل. وسلطاتنا قد تتسامح مع التطرف الديني في كثير من الأحيان ولكن من الصعب أن تتسامح مع المثقف الحر العقلاني، ولذا نجد كثيرا من المفكرين العقلانيين يفضلون الهجرة الى بلاد الغرب طلبا على الأقل ليس بالضرورة للخبز، فهو يتدبر خبزه بنفسه ولكن الأهم هو الكرامة، أن يشعر بأنه يكتب بكرامة ويتنفس الهواء بكرامة.

بالحديث عن لقمة العيش ومصدر رزق المفكرين والفلاسفة والكتاب المغاربة، كتب الصحفي رشيد نيني في تدوينة له عبر الفايسبوك: “خطأ سعيد ناشيد هو أنه ألف كتابا بعنوان التداوي بالفلسفة، كان عليه ان يؤلف كتابا بعنوان التداوي بالأعشاب، فهذه العناوين هي التي يقبل عليها الناس عندنا” مشيرا الى المأساة المتعلقة بالوظيفة وكذا الى أهم الأسباب كغياب القارئ بالمغرب. ما هو رأيكم في هذا الطرح؟

رشيد نيني ذكر هذا الأمر من باب السخرية في آخر المطاف، السخرية من المجتمع ومن الوضع العام. ولكن فيم ا يخص غياب القارئ فلا أتفق، فلولا حضور القارئ لما استمريت في الكتابة. ليس هناك أزمة قراءة بقدر ما هناك أزمة كتابة وشخصيا لا أعاني من أزمة القراءة في العالم العربي برمته، إنما هل فعلا كنت في الوضعية التي أستطيع أن أستغني فيها عن الوظيفة ؟ فالأمور ليست بهذه البساطة، فأنا ناضلت وكافحت من أجل تقاعد نسبي لأسباب صحية وأعتقد بعد سبعة وعشرين عاما من العمل يصعب لا أخلاقيا ولا قانونيا أن أقول : وداعا سأترك الجمل بما حمل لأن لدي حقوقا، فعندما تعمل طوال هذه الفترة مع جهة معينة وتصاب بأعطاب صحية فلديك حقوق وأبسطها وأوضحها هو الحق في التقاعد النسبي. كنت أريد هذا. لكن طالما قضي الأمر وكان الخيار هو الطرد تمسكت بالوضع القانوني، فطبعا انتقلت إلى المرحلة الأولى: الكفاح من أجل أن أتدبر أمري بنفسي خارج هذه البيئة المهينة التي أريدت لي في الأساس، وكما أقول دائما هي رغبة في إذلال نمط من التفكير أكثر من هي رغبة في إذلال سعيد ناشيد.

بالحديث عما أشرتم إليه عن كيفية تعاملكم مع الأزمة، في كتابكم “التداوي بالفلسفة” أجبتم عن مجموعة من الأسئلة كماهية الفلسفة، وإمكانية اعتبارها إعجازا روحيا وفكريا…هذا الكتاب وصفه مجموعة من القراء بالوسيلة الأنجع للإجابة عن التساؤلات التي لها علاقة بما يتعرض له الإنسان من أفكار سلبية ومن أزمات. هل ساعدكم هذا الكتاب في تجاوز ما تمرون به؟

في كل الضربات التي أتلقاها في حياتي، وبالمناسبة ليست هذه هي الضربات الأولى، لم أقل كل شيء ولكني قلت ما لم يكن يتطلب مني أدوات كثيرة للإقناع بما كان يبدو واضحا، لقد تفاديت أشياء كثيرة للحفاظ على ما له علاقة بالمآل الذي انتهيت إليه الذي هو الطرد من الوظيفة العمومية. أعتبر أن ما يحدث لي ليس امتحانا لي فقط، بل امتحان لإحدى أهم المدارس في تاريخ الفلسفة والتي تعلم الإنسان كيف يواجه صعوبات الحياة، كيف نواجه الشرط الدراماتيكي للحياة وهي المدرسة الرواقية والتي امتزجت مع الابيقورية في العصر الروماني، وكانت تعوض الدين في هذا العصر، ومن بين فلاسفتها الأباطرة الرومان “ماركوس”، وفي المقابل هناك فيلسوف آخر من أعظم فلاسفة الرواقية اسمه “ابيكثيتوس” وهو عبد. هذا لا تستطيع عادة أن تفعله إلا الأديان، أن تستقطب جميع طبقات المجتمع ولكن فعلته الرواقية قبيل ذلك في العصر الهيلنستي وأيضا وصولا للعصر الروماني. أدركت هذه المدرسة أن هناك شرطا دراماتيكيا للوجود البشري، نحن في هذه الحياة معرضون للموت في أي لحظة، معرضون للشيخوخة وللمرض وللفقد، كل واحد فينا قد يفقد والديه وأحبته في أية لحظة، حتى تجاربنا العاطفية هشة، معرضون لأن نخسر معظم تجاربنا العاطفية لكي نربح تجربة واحدة وقد لا نربحها كما ينبغي في آخر المطاف، حتى طموحاتنا قد لا تتحقق بالكامل كما كنا نريد لها، نأمل أن نعمل عملا معينا أو وظيفة معينة وعندما نشغلها لفترة معينة نكتشف أن الأمر لم يكن يستحق كل هذا، نقاتل من اجل الزواج ثم نكتشف بعد فترة أنه لا يستحق كل هذا. يعني أننا نعاني من الخيبات، والحياة في نهاية المطاف مجموعة من الخيبات، وكلنا نشعر بنوع من الحنين الى الطفولة في كل الأحوال ونشعر بخيبة الفقد، كما نحن معرضون لتجربة الألم.
طبعا العلم يقود معارك ضد هذا كله، لكن معاركه محدودة، وهناك مساحة فراغ، من يملأها؟ هل تملأها الأديان أم تملأها الفلسفة؟ أقول أن الأديان لايمكن ان تملأها لأنها لا تمتلك ما يكفي من الأسلحة، طبعا هي تجيب عن حاجة الإنسان لكي يكون له معتقد، لاسيما في ما يخص الموت، ومعظم الناس وكثير منهم لا يملكون ما يكفي من الحكمة لكي يتقبلوا أن يكون الموت هو النهاية، هذا يتطلب قدرا كبيرا من الحكمة ، حتى في القرآن الآية التي تقول: “ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا”، وهذا الخير الكثير هو نادر وبالتالي فأغلب الناس يحتاجون الى قدر من الدين والقناعة الدينية لمواجهة هذا الأمر ولكن مع ذلك، الخطاب الديني يكرس الشقاء في الإنسان، فأعز ما يطلبه الإنسان في الحياة هو شيئان: السعادة والسلام. يعني قد أسألك في ما تريده من الحياة وتجيب أريد أن أعمل. وقد أضيف سؤالا آخر لماذا تريد أن تعمل؟ وتقول أريد أن أسافر، وأسالك لماذا تريد أن تسافر؟ فتجيب أريد المال، ولماذا تريد المال ؟ وهكذا… ولكن إذا قلت لي أريد السعادة لا أقول لك لما تريد السعادة لأنه هدف في ذاته.



ذكرتم هذا في كتابكم “التداوي بالفلسفة” عندما قلتم: ”حين يتوقف الإنسان في البحث عن السعادة حينها سيصبح سعيدا .”

نعم لأن الأمر مرتبط بالخيبة في آخر المطاف، الأمور تأتيك في ما لا تتوقعه. عندما نبحث عن السعادة لا نبحث عنها بالذات، بل نبحث عن شرط معين للسعادة، فعندما أحصل على ذلك الشيء سأستمتع به لبعض الوقت ثم ينتهي، لأن المسألة مرتبطة بالرغبة. كل رغباتنا محدودة، فحين تتحقق الرغبة لا تبقى رغبة، بل نقع في الملل. قد أضعك في أجمل جزيرة في العالم وستستمع في اليوم الأول والثاني والثالث، أعطيك حتى اليوم العاشر كأقصى حد ثم سرعان ما تفكر في تغيير المكان ..

تماما ، عندما نصل لشيء ما نعتقد أنه موطن سعادتنا ولكن نكتشف بعدها أننا نريد التغيير. أستاذ ماهو سبب تلك الرغبة في التغيير في نظركم؟

طبعا، العامل الأساسي هو الخصومة مع الذات.عندما يكون الإنسان غير متصالح مع ذاته، فهو أصلا غير مستقل في ذاته.إذن الخلل يكمن هنا وعندما يحاول أن يعالجه خارج الذات فهو يخطأ الطريق. فالإدمان مثلا جزء أساسي منه سببه خصومة الإنسان مع ذاته. إذن المسألة تتعلق بعدم المصالحة مع الذات ولماذا نتخاصم مع الذات؟هنا نعود للفلسفة القديمة. فهي تجيبنا على عدة أشياء خطيرة مثلا “ديوجين” يجيبنا عن سؤال في هذا الإطارأننا نحاول دائما أن نكون وفق انتظارات الآخرين، تحاول أن تتصرف وفق توقعات الآخرين منك، سواء كان الآخر، أبا أو أما، صديقا،أستاذا،إدارة، سلطة, دولة،إمام مسجد…هؤلاء ينتظرون منك أشياء.وفي كثير من الأحيان نقع في فخ انتظارات الآخرين، هي ليست انتظاراتنا.هنا تبدأ حرب الإنسان مع ذاته وتجيبنا الرواقية أيضا عن الموضوع من زاوية أخرى،فهي تكملها: أتعلق بالأشياء وأعتقد أنها جزء من ذاتي. فمثلا كم من مسؤول فقد الكرسي فأصيب باكتئاب أو انتحر، لماذا؟لأنه ربط ذاته بموضوع خارج عن الذات. فعندما تتعلق بالأشياء التي لا تتحكم فيها، يصبح الأمر خطيرا لذلك يجب أن نتعلق بالأشياء التي نتحكم فيها فقط ، كما تجيبنا الأبيقورية عن هذا الأمر من زاويةمغايرة، فمعظم رغباتنا غير حقيقية. نحن نرغب في بعض الأشياء فقط لأن أصدقاءنا يرغبون فيها، ولكن نادرا ما نتأمل في الذات ونقول هل فعلا هذه رغباتنا الحقيقية؟ لأن أبيقور يقول إن هناك رغبات طبيعية وأخرى ضرورية، وهما محدودتان. فمثلا أن يكون لي مسكن، سيارة لكي أتنقل بها،الماء والخضر…هذه هي الرغبات الحقيقية والطبيعية، غير هذا ستجد أن أغلب الرغبات غير الطبيعية ستكون ضارة لصحة الإنسان، سواء الجسدية أو النفسية أو الروحية. فقد أرغب بأرفع أنواع الشكلاطة كالتي يأكلها الوزراء فأصاب بالأسى والتذمر لأنني لم أحصل عليها، ولكن بالمعطيات العلمية هذه ليست رغبات طبيعية وبالتالي بقدر ما أقتصر على حاجياتي الطبيعية، لأن كل واحد منا لديه رغباته الخاصة، فعندما يقول “سقراط”: “اعرف نفسك بنفسك” وهذا هو منطلق الحكمة،اعرف ما يحتاجه جسدك لأن ما ينفعك قد يضر الآخر والعكس صحيح.فكل شخص منا لديه ذوقه الذي يناسبه وقدرة للقيام بنوع من الأعمال التي يستطيع أن يقوم بها بشغف، وحتى نوع من المشاكل لأننا في الحياة لدينا هامش لاختيار مشاكلنا. فأنا على سبيل المثال طردت من الوظيفة العمومية، بمعنى أنني سأنتقل لمرحلة جديدة سأكون فيها ربما أكثر حرية، ولكن للحرية مخاطر أيضا فما الذي سيتغير؟ ماديا ، قد أعيش أفضل أو أقل…لا أدري لا أملك قدرة لمعرفة ما سيحدث في الأيام القليلة القادمة ولكن ما أنا متأكد منه هو شيء واحد، ستتغير نوع المشاكل التي سأتعامل معها (يضحك).

تماما.في نفس هذا السياق، وفي كتابكم”التداوي بالفلسفة” كتبتم: “ كل يوم علي أن أتوقع الأسوأ، و أن أمارس هذا التوقع كتمرين ذهني بكل ما أملكه من جرأة و خيال وحين يحدث الأسوأ، ستدرك في الحال بأنه أقل سوءا مما توقعت”.هل هذا الاقتباس يمكن اعتباره تنبؤا لما حدث لكم في الآونة الأخيرة؟

(يتفاجأ) آآه,صدقا, لا أستطيع أن أجيبك عن مسألة التنبؤ لأنه إن كانت لدى العقل البشري بعض القدرات الحدسية على التنبؤ، فأنا لا أملك معرفة كبيرة في هذا الأمر “كارل يونغ” يفتح الباب لهذه المسألة،وربما حتى أجسادنا تستشعر بعض الأمور قبل أن نفكر فيها، ربما… (يضحك)

إذا ربطنا هذا الأمر مثلا بكتاباتكم التي كنتم تنشرونها و أنتم لا تزالون في الوظيفة العمومية، هل تلقيتم حينها تحذيرات أو إنذارات؟

لا، لا لم يكن هذا بالإطلاق، ولكن من ناحية الوثائق بالعكس كانت مفاجئة.المسطرة كان فيها خرق كبير للتسلسل، ولم أتوصل بأي استفسار في إطار بناء العقوبة ولكن مع ذلك، نعم هنا قد نتقدم قليلا في الإجابة.كان لدي نوع من الشعور.أن تشعر بأن الأمور ليست على ما يرام، لاسيما عندما يأتي مثلا رئيسك المباشر و يقول لك: “ لا أعرف هؤلاء عما يبحثون، لكنني أخشى عليك…” وأنا سمعتها مرارا من رؤسائي المباشرين الذين كانوا يتعاطفون معي. صراحة جميع رؤسائي المباشرين الذين تعاملت معهم، كانوا يتعاطفون معي تعاطفا إنسانيا لا يمكن تصوره،بالقلب، بالوجدان والصدق…ولكن الأمور كانت أكبر منهم بكثير، أكبر حتى من بعض المسؤولين بالوزارة.المسألة تتعلق بتصفية حسابات من مستوى عال جدا، فيه قدر كبير من الإيديولوجية والحقد.

كيف ذلك؟

أنا أفهم الإيديولوجية عندما انطلق المشكل، حتى باعتراف البلاغ الذي سربته الوزارة. هم أنفسهم من يقولون أشياء كثيرة عن مساري، لكنهم يعترفون لغة أن المشكل بدأ سنة 2019 ، وهذا صحيح. فعندما استدعاني السيد المدير الإقليمي السابق وفوجئت أن في مكتبه أحد المسؤولين المحليين لحزب العدالة والتنمية(الإسلامي) وبدأ يهينني أمامه، ويقول كلاما لا يليق ويهددني، فطالبت بتحقيق في الجلسة من الوزير. ومع كل الأسف بدل أن يستفسرني الوزير، اكتفى باستفسار المدير الإقليمي الذي أجابه بما مفاده إنني الذي رافقت ذلك المسؤول من العدالة والتنمية لكي يدافع عني، بمعنى سعيد ناشيد، ذلك المفكر العلماني (يضحك) ترك كل النقابات والأحزاب ولجأ إلى حزب العدالة والتنمية، لكن المؤسف جدا هو تصديق الوزير لهذه الرواية، وهذا ما يصعب علي نسيانه مستقبلا (يتحدث بحرقة).



بالعودة لموضوع إبعاد المفكرين عن الأضواء كما أشار الأستاذ “حسن أوزال”، وصفتم في تدوينة لكم بعنوان “ هل دور التلفزيون هو إنتاج التفاهة؟” ظهور المفكرين والفلاسفة في الوطن العربي بالنادر جدا أو المنعدم. في نظركم و حسب هذا الوصف، ما هي أسباب غياب أو تغييب هذه الفئة عن شاشة التلفاز في الوطن العربي؟

عندما أشاهد معظم القنوات التلفزية الفرنسية، لا يمضي وقت طويل حتى أجدهم يستضيفون أحد مفكري أو فلاسفة فرنسا. يقومون ببرامج تستقبل الفلاسفة والمفكرين بشكل يومي، وهنا يتذرعون بأن هذا ما يريده المشاهد. لا،المشاهد إذا قدمت له المادة العلمية أو المعرفية ولكن بإخراج يليق به، ستستقطبه، عندما أنظر إلى البلاطو، الإخراج، طريقة الإستقبال، طريقة التصوير…في فرنسا، الفرق كبير جدا. نحن نستعمل تلك الأضواء الساطعة وتلك الجودة فقط في استضافة بعض الأنواع، لكن حين يتعلق الأمر بمفكر، و نادرا ما يتم استقباله، يكون الإخراج باهتا والأضواء شاحبة ويزعمون بعدها أن القراء أو المشاهدين لا يهتمون بالمفكرين والفلاسفة. أنا أقول لك إن المشاهدين يهتمون بالفلسفة وبهذه النوعية من البرامج. وهذا من باب التجربة، الكتب التي ألفت في الفلسفة نفدت بسرعة في العالم العربي.الأزمة ليست أزمة قراءة أو مشاهدين وإنما هي أزمة إنتاج وكتابة. ابتلينا بمسؤولين أميين والأمي لديه حقد غريزي على المثقف…



هل يمكن اعتباره حسدا؟

ربما،هي سيكولوجية الفاشل.فانطلاقا من تجربتي الشخصية في المنطقة التي عشت بها، عندما يجمع المسؤول بين حس أمني مبتذل وثقافة البداوة، يصبح المثقف في وضع لا يحسد عليه أمام هذا النوع من المسؤولين…

أستاذ سعيد، ألم يحن الوقت بعد لسن قوانين تمتع المفكرين ، الكتاب و الفلاسفة بالحصانة والحماية، تكفل لهم العيش بكرامة و تصون حقوقهم كالتي يتمتع بها البرلمانيون و الديبلوماسيون؟
– ليست لدي معرفة بهذا الجانب القانوني، ولكن يبدو لي أنه لو اكتفينا فقط بتفعيل القوانين…

كالقوانين المتعلقة بالصحافة و النشر مثلا؟

– مشكلة الصحافة، مشكلة تسيب وفوضى خطيرين، مستوى متدن ومنحط…

ماهي أسباب تدني هذا المستوى ؟

– لأنه في فترة طويلة اعتقد بعض المسؤولين سامحهم لله، بأن التفاهة وسيلة أساسية للتحكم في الناس، وهم مخطئون. يحكى أنه عندما التقى “معمر القذافي” مع “بورقيبة” وقد يكون هذا صحيحا، وإن لم يكن كذلك، فهو صحيح في الواقع نظريا، قال “القذافي” لبورقيبة”:أنت تهتم كثيرا بالتعليم ولا تخشى أن يمتلك شعبك ثقافة عالية، فيثور عليك…” فأجابه “بورقيبة”: “أن يثور علي شعب واع ومثقف، خير من أن يثور علي شعب جاهل…”. وفعلا عندما نقارن بين الثورة الليبية والتونسية، وما الذي حدث “للقذافي” نفسه، نجد أن الثورة الليبية كانت ثورة أوباش… ولكن المستوى الثقافي يعكس ذلك.

كلمة أخيرة للمتابعين الذين سيطلعون على هذا الحوار؟

سأترك الكلمة الأخيرة للمتابعين، وهي كلمة أخيرة لك أيضا، باعتبارك اخترت هذه المهنة…

مهنة المتاعب كما يسمونها…؟

أعتقد أن نقطة البدء هي التخلص من هذه العبارة السيئة.هي ليست مهنة المتاعب، بالعكس، هي مهنة قد يؤديها الإنسان بمتعة قل نظيرها، لماذا؟. تكلمنا قبل قليل عن الملل، معظم المهن مملة كونك تعيد نفس العمل يوميا عكس مهنة الصحافة. لست أمام أي عمل قد يعاد، تلتقي بأشخاص مختلفين..تقوم ببرامج..تتعامل مع أحداث و وقائع قد لا تكون متوقعة، وهذا اللاتوقع هو جزء أساسي من سعادة ومتعة الإنسان، ويجب أن نتعامل معه على هذا الأساس…







أعلى