بطرس نباتي - الهذيان الاخير للملك (نبونائيد) (1)

منذ الضياءات الأولى للفجر.. وآلاف الفراشات السوداء تفترش بحدة اطراف سماء مدينتي.. لا تبارحها ليل نهار وكأنها معلقة بشبكة سميكة مصنوعة من مادة نسيج رهيب لا زالت تحجب بأجنحتها مسارات الشمس المتسللة بوجل نحو البيوت الهاجعة في الظلمة المخيف.. طنينها يملأ الفضاء برهبة الموت والخواء.. والخوف مزروع في كل شبر، يفكر الإنسان أن يضع فوقه قدمه المترددة.

ما بين شغاف الحلم واليقظة، أطل علي ذو الجمجمة الكبيرة والمميزة كإحدى علاماته الفارقة والتي لا يقوى حتى على حملها.. غالباً ما كنا نعيره بها… أبمثل هذا الرأس خرجت للدنيا؟.. وهل ولدت أولاً براسك هذا أم بدونه؟.. بذات عينيه المغشيتين بسحابة من الحزن العميق والتي اعرفها عنه منذ ان ذقنا معاً طعم الخبز المتعفن المجبول برائحة الرطوبة للسواتر الأمامية لخط النار الملتهب أبداً.. كنا قد افترقنا على اثر إصابته بشظية.. اخترقت بسهولة فخذه الأيمن لتستقر عند عظمة الفخذ.. أتذكر حينها كيف حملناه في بطانية مهملة.. كان ثقيلاً.. بلغ بنا التعب واللهاث حداً حتى أجبرنا على التخلي عنه وتركه في نقطة بعيدة على ذلك الطريق النسيمي.. نعم تركناه هناك يلعق جرحه النازف حد الموت.. هو ذا صاحب الجمجمة الكبيرة يطل علي مرة أخرى.. إذاً هو لم يمت كما توقعت.. انه كالقطط بسبعة أرواح وربما أكثر. قال :- لدي فكرة رائعة\، لم لا نشرب نخب تلك الليلة المفزعة؟ وافقته على الفور، وبدأنا نرتشف الكؤوس الواحدة تلو الأخرى، وفجأة بدأت طبول الحزن والتي عادة ما تنذر بالشؤم تملأ الفضاء وعلى دقاتها المنتظمة كانت الفراشات السوداء تتأرجح.. اصواتها تقترب والهلع يسري في أوصال صاحبي.. همست بصوتي المبحوح..
- لقد أعلن القصر الملكي منذ الصباح.. تأجيل (أعياد اكيتو..) (2) وكل الاحتفالات الاخرى..
العاهل (نبونائيد الأخير) لازال تحت وطأة الحمى ويقال بأنه يهذي كثيراً ..
عرفت من استغراقه في التأمل والتفكير أنه يعلم بالأمر ويعرف أيضاً أشياء أخرى ستحدث قريباً لا أعرفها.. ولربما لا تخطر على بال أحد.. إنه يعرف الكثير ويتنبأ بالكثير.. ألم يلعق جرحه النازف ؟ ألم يقهر الموت في منتصف ذلك الطريق النيسمي؟ وبدأنا نرتشف كؤوسنا محاولين اجترار بعض تلك القصص القديمة التي أصدأت عقولنا بأحداثها بحيث باتت شخوصها وهماً أو خيالاً وتحولوا بقدرة قادر إلى أشباح أو أنصاف آلهة.. معظمها ينتمي الى عالم السحر والكهنوت.. ومعظم نسائها بغايا المعابد القديمة أو ملكات العصور القديمة.. وعندما بدأت ازحزح بعض الصدأ القديم والمقرف المخيم فوق الطبقة العليا من جمجمته الكبيرة وأعيد صقله رويداً رويداً قطع علينا المنادي الملكي الذي اخذ يزمجر وسط الاحياء المظلمة في مدينتي.. الملك (نبونائيد الاخير) لن يباشر كالعادة بالحضور وافتتاح احتفالات رأس السنة.. ولن يدخل الى (بيوت اكيتو). وعندما يضرب العاهل هكذا.. فلا الخصوبة ستعود الى الأرض.. (والشاب سينام في مخدعه والفتاة عند صديقاتها) (3) وستستمر المناحة حتى في شهر نيسان والآلهة انصابا ستغادر الأرض حزينة مهشمة.. وعشتار ستدع حبيبها دموزي يتألم بعذابات العالم السفلي.. ستدعه هناك وحده بين براثن (اريشكيكال) اميرة العالم المفزع.. من يجرؤ غير عشتار على النزول عبر بوابات العالم السفلي السبع.. من غيرها سيتخلى عن الصولجان عند البوابة الأولى والتاج المرصع بالياقوت واللازورد وحتى من الملابس المقدسة عند البوابة السابعة..

من يقتحم كل هذه البوابات ويهدد عالم الأحياء والأموات؟. من يا ترى يقلب سكينة أرواح العالم السفلي؟. في الليل ظلت محظيات الملك، وعذارى المعابد مرابطات في الهيكل يندبن حظهن العاثر.

ويًنِحنّ على دموزي من جديد.. بعدها أطبق النواح على سائر أرجاء المملكة.. بعد أن فارقته الحمى قليلاً استوى (نبونائيد الاخير) في عرشه ودخل في هذيان متواصل واخذ يحلف أمام المجلس المقدس بأنليل رب السماء وبرأس ابنه البكر..
- لن يترك (ديلمون) (4) في سلام .. لن يترك شبابها ينعمون بالشباب الدائم ولن يدع شاتها ترعى مع الذئاب بطمأنينة قالها (نبونائيد الأخير) أمام مجلسه المقدس .
- ديلمون هي سبب حزننا وبلائنا، هي التي جعلت مملكتي تتضور جوعاً وتنعم هي بالنعم والسلام.
- سأدك أسوارك يا ديلمون وأجعل غربان العالم تنعق داخلك.. سأجعلك ملعونة إلى الأبد..

زحفت الفراشات السوداء داخل الظلام الدامس وتحت ستاره الكثيف وعلى دقات الطبول الحزينة دكت حصون ديلمون القابعة في أحضان الهزيمة.. مرت مركبة العاهل (نبونائيد الأخير) من أمامنا فيما كنت مع صاحبي نرتشف الكأس الأخيرة من القارورة الأولى.. ومن كوة مركبته الملوكية أخرج الملك سبابته ودعاني إليه.

- اصعد معي لترى ما فعلته بهذه العاهرة ديلمون تركت صاحبي في وسط دهشته العارمة والفزع مرتسم على قسمات وجهه من نظرات العاهل وحراسه الأشاوس قطعنا الطرق الخاوية.. فلا احد يجرؤ على السير أمام أو حتى خلف العربة الملوكية غير جماعته يتبعونه ككلاب مدربة أمينة ومطيعة..

أمام بوابة كبيرة أوقف السائس عربة الموكب الملوكي، ترجل منها العاهل مشيراً لي بأصبعه بأن اتبعه.. سرنا معا عبر طرق فرعية مُسيجة لقصر كبير.. وقفت مشدوها أتطلع من النافذة الصغيرة إلى الداخل..

واذا بأنين خافت يترادف الى مسامعي.. لم اتعرف على نبرات الصوت.. ولكن العبارات والجمل كانت من النوع المألوف، وقد طرقت فكري عشرات المرات.. نعم اعرفها جيداً واعرف قائلها.. ما كدت اتمم اجترار ما سمعته حتى طرق سمعي من الغرقة المجاورة انين آخر وآخر.. وآخر. اصوات خافتة.. يقابلها حفيف الفراشات السوداء التي تملأ المكان.. تطلعت إلى الجدار الأسود المصبوغ بحمرة قانية.. مبثوثة في بعض أجزائه وفي أجزاء أخرى بقع محفورة بعمق وكأن مخالب قطط قوية حفرتها على الجدران.. خطوط مستقيمة وأخرى متعرجة.. تطلعت ملياً.. إنها خارطة تعرفت على ملامحها لكونها محفورة بين طيات ذاكرتي منذ الدرس الأول في مدرستي الابتدائية، وفجأة أحسست بغشاوة قاسية تصحبها هالة ضبابية اللون اكتسحت مخيلتي... وصرت اسمع صوتاً ضعيفاً يردد (أهل البلاط ليس دأبهم سوى خزن العداء ضدي فواحد يقول، اني سأحرمه من الحياة، وثان يعلن سأسيطر على ما استودعه، الثالث ينافق ضدي أمام الملك (أدامت الآلهة ظله)، ورابع يعلن سأدخل بيته لأخطف زوجته، وخامس يقول اقلب مكتبته وسادس وسابع يضطهدان الروح الذي يحميني). التفتَ إلى الملك فإذا هو يصرخ بأعلى صوته:
- ألا تعرف صاحب الصوت هذا؟

أجبته متلعثماً إني قد قرأت هذه العبارات في......
قاطعني بفضاضة وهو يطلق ضحكته التي تشبه مواء القطط في شهر شباط .
- انه اللعين (الكاتب شوبش شاكان) (5). انه لا يبطل هذا الهذيان.. يطلق العنان لحنجرته يقول ما يشاء.. ما عساه فاعل وهو بين هذه الحيطان الاربع..

ومرة اخرى ترادفت الى مسامعي همسات ضعيفة وكأنها صادرة من هوة سحيقة مصحوبة بلحن موسيقي حزين.
(كانت الصلاة لأجل الملك فرحة لي وكانت الموسيقى التي تنشد أمامه سعادة لي....)

أطلق الملك ضحكته تلك التي باتت تؤرقني وقال مكشراً عن أنيابه :
- هذا الأخر.. اللعين الذي تسمعه رغم إنني رميته في أقذر زنزانة. فهو لا يتردد من مدحي والاطراء على صفاتي ومحاسني .. رغم العذابات المستمرة التي أذيقه، إلاّ انه ظل مخلصاً ووفياً لي ..

وصوت آخر وكأنه همس بعيد كان يردد.. (ماذا فعلت انا يا الهي لم اعرف سوى االعقاب والاضطراب والفوضى.. السقف الذي يحميني قد تطاير واصبح قطعاً) .

نظر الي الملك نبونائيد وقال إنه خادمي المطيع الشاعر والكاهن الأعلى (لأيساكيلا) (6) ثم صرخ هل تريد أن تسمع المزيد. أم ماذا ؟

وبدأت الجدران المحفورة تزحف نحوي بقوة وتلك الخارطة المرتسمة فوقها بدأت تزحف أيضاً نحو أبعد نقطة أراها وكادت تتلاشى وبدأت تقترب من باخرة عملاقة تحملها صوب البلاد البعيدة كان على متنها (شاكان الكاتب وشالكي) ومجموعة أخرى كانت المجاميع تزحف وهي تحتضن الخارطة بقوة وتطبع على حواشيها بصمات والمزيد من حمامات بيضاء. وبدأت الفراشات السوداء تتلاشى بعيداً نحو الأعماق السحيقة عادت اسراب الحمائم البيضاء المهاجرة.. إفتحوا الأبواب أنها في طريقها إلى أعشاشها لتردد هديل الحرية... ورأيت عموداَ من النور يصاحب خروج دموزي من عالمه السفلي من جديد.


الهوامش
(1) الملك نبونائيد، آخر ملوك بابل في فترة حكمه (555- 539 ق م) حدث الغزو الميدي لبابل والقضاء على الحكم الكلداني.
(2) اعياد اكيتو (أعياد رأس السنة البابلية الشورية) طقوسها تبدأ في 1| 4 من كل عام وتنتهي في 12\4
(3) العبارة وردت بهذا النص في اسطورة نزول عشتار الى العالم السفلي.
(4) ديلمون، هناك نص ادبي حول هذه المدينة او البقعة والتي يعتقد بانها (بحرين) الحالية حيث توصف بانها جنة السلام والوئام على الارض ويتفق الوصف مع ما ورد عنها في سفر التكوين.
(5) الكاتب شوبش شاكان، كاتب من العهد البابلي الاخير .
(6) الايساكيلا، المعبد الريفي في بابل ومعناه مكان سكنة الالهة. كانت تنطلق منه جميع مراسيم تنصيب العاهل واحتفالات الراس السنة ويدها.


(*) جميع العبارات المؤطرة بأقواس هي من الادب البابلي.
أعلى