لطيف نعمان سياوش - بهجت و النار.. حكاية من زمن الحصار

من وسط (سكرابات) بيته المتهالك حمل استاذ بهجت ابريقه العتيق وهو بعض ما تبقى لديه من خردوات البيت ، و لو كان يأتى بثمن لما كان بقي هو الاخر لحد الان .. حمله بيده ، وراح يتوسل جارته لتقرضه نفطا ..
طرق الباب بتردد طرقات خجلة تشبه طرقات الاطفال الى حد كبير ..
رفعت حسيبة الستاره التى تلى باب دار كل عائلة متحفضه لاسيما في الاحياء الشعبيه و الفقيره ، وما ان لمحت بهجت حاملا ابريقه حتى امتعضت ، وتغيّرت ملامح وجهها .. توقفت فكيها من لوكة علكتها . قالت وهي تهز طرفها المثير ، وقد بان جزءمن فخذها : اي قرض هذا؟ .. لابل قل اعطينى ابريقا من النفط .. هذه هي المرة الرابعة خلال هذا الاسبوع ..
قاطعها زوجها المسيحي الذي اسلم على دينها مذ شاهدها و تعرف عليها قبل سنوات . قال لها مو بخا و هو يرمى سيكارته بعيدا : امنحيه يا امرأه ، و لا تقفي في طريق الخير ابدأ .. هيا بسرعة .. اخذت حسيبه الابريق من ماموستا(*) بهجت و هي تدردم موجهة كلامها لزوجها : (انت الاخر لن تتخلى عن مسيحيتك المفرطة ) ..
سارت نحو صنبور النفط مسرعة .. تعثرت ، وسقطت على الارض ، و بانت اجزاء اخرى من فخذيها المكتنزين المحمرين ..
اما بهجت الذي راى هذا المنظر الغارق في الاثاره ما عاد يعره اية اهمية ، و لا يثير عنده أي حس برغم شبابه ذلك لفرط معاناته و كساده .. لا بل لو تعرت حسيبه امامه تماما بجسدها الناري لمارف له جفن !! انه يعيش عالم اخر يحول دون تفكيره باى شي ىسوى توفير خبز يوم الافواه الجائعة لو استطاع الى ذلك سبيلا ..
اما زوجها الذي صار يتابع حركاتها وهو يشعل سيكارته الاخرى و ينفث دخانها في الفضاء قائلا : استاذ بهجت اي شى تحتاج قل لي .. لفرط امتنان بهجت كاد يقبل يد جاره الطيب .
حمل ابريقه ، ثم تامل برهة وسرح بخياله بعيدا ، تألم لما آل اليه حاله فهو ما عاد يجد اي حرج من رفض الجيران مثل حسيبه او غيرها طلباته و طلبات زوجته الغزيرة و التى الفتها المحله و ملّت منها .. وزوجته ربة بيت لاتملك وسيلة لدعم الاسرة.
منذ عدة سنوات يدرّس الاستاذ بهجت توفيق عبد الله اللغة الكردية في ثانوية نوروز للبنات في عنكاوا . لم يتجاوز ال(45) ربيعا . عرف بدماثة خلقه ، وطيبة قلبه .. متزوج و له خمسة اطفال .. وجع الحصار اللعين على هذا الرجل و عائلته كان عميقا و موغلا حد العظم و فاق بقية العوائل للحد الذي لا يستطيع المرء الصمود امامه مهما بلغ من الصبر و التحمل درجة..
لم يكن الاستاذ بهجت يخجل من جوعه او فقره امام زميلاته المدرسات اللائي كن يسعين بين فترة و اخرى مد يد العون له ..
كان يقول لهن: ( لا اريد الذهاب الى البيت ، لان هناك مأساة خمسة افواه جائعة تنتظرنى .. لا نملك في البيت رغيف خبز واحد !! اريد ان ابقى هنا حتى بعد الدوام .. لقد بعت كل ما املك ، و لم يبق لى سوى طباخ سكراب ، و بعض الكتب ) ..
صباح يوم 1997/1/19 قام بتقبيل اطفاله الخمسة بعمق واحدا تلو الاخر ، وكانه يسافر الى بلد بعيد ، و لن يعود ابدا ، و هو يحاول جاهدا اخفاء حزنه العميق ، و بداخله مرارة موجعة لانه سيتركهم جوعى .. و لج الحمام حيث كان قد اعد كل شى .بعدها ظل يسكب النفط الذي اخذه من حسيبة على راسه ، وثيابه ، و جسمه الهزيل ثم اوراقه ، و كتبه التى وضعها حوله ..
ثم اشعل النار..
بعد ان سارت النار في جسده و كيانه بعض الوقت في الحمام خرج الى المحلة مسرعا و النار تلتهمه من كل حدب و صوب ، و صار يصرخ بهستريا : ( ايها الناس .. ايها الناس !!) .. تجمهر الناس مذعورين صغارا و كبارا ، رجالا و نساء . الكل يصيح بصوت عال .. الله اكبر .. الله اكبر .. انسان يحترق !! .. من انت يا هذا ؟ صرخ احدهم و هو يحاول جاهدا مع الاخرين اطفاء الشعلة الملتهبة ..
ظل يهذي ، ويخرج اصوات غريبة كمن جن جنونه ، و فقد عقله :بررررررررررم .. بررررررررررم .. انا ماموستا بهجت.. احرق نفسي احتجاجا على الجوع الذي دمرنى ، و على الزمن الحقير ، و احتجاجا على العام المعدوم من كل انسانية .. احاااا .. احاااااااااااااااااا.. بررررررررررم .. برررررم .. ها انذا اموت جائعا الى الابد الى الابااااااااااد .. برررررم .. و ااااااو .. برررررررررم ..
سقط على الارض ، و لم تمض ثوان حتى انقطع صوته ، وتوقف نبضه .. و انتهى كل شئ !!..

عنكاوا
أعلى