سليم بطي - صادجة.. قصة قصيرة

شرب القهوة برشفة واحدة وتلمظ ، وأخذ يملأ غليونه من كيس صغير بين يديه والجمع من حوله ينتظر قصته بفارغ الصبر ، فتكلم وهو يمد يده إلى كومة النار أمامه ليأخذ له عوداً يولع به غليونه .
.... الصبر إذا ما حلّ القضاء والقدر ، فقد سيدي كل شيء في تلك الليلة ، ليلة الانتقام الهائلة ، فقد قبيلته ، أملاكه ووطنه الذي بقي يحن إليه إلى أن لفظ نفسه الأخير .
هربنا في تلك الليلة الدموية لننجو بأنفسنا ، وهو يحمل طفلته التي لم تكمل السنة من عمرها وأنا وراءه أحمل ما خف حمله وغلا ثمنه ، كانت سفرة طويلة وهجرة بعيدة انتهت بالتجائنا إلى قبيلة تسكن على شاطيء " الهور " في أكواخ البردي ، أعزنا القوم واحترموا سيدي لما عرفوا نسبه ، ولم يبق لسيدي في الدنيا سوى ابنته ( صادجة ) فأصبحت عزاءه الوحيد يفرح لما يراها أمامه تنمو سائرة في طريق الصبا يفتخر بحسنها وفتنتها .
كانت المواسم تأتي وتمر وأنا أحسب عمر ( صادجة ) ، ولما عبرت سن الطفولة أطمأن بال سيدي ولم يعد يفكر بشيء لا بقبيلته ولا بالانتقام من مشرديه ، حتى ولا بأهله وأوطانه ، فقد وجد سعادته بابنته صادجة ، ولكنه رغم هنائه وقناعته لم أكنْ لأرتاح لنمو الفتاة واكتمال انوثتها ، فقد كانت إذا مشت بين فتيات القرية تبدو كغزال بين قطعان الماشية ، وقد أصبح اسمها على كل لسان وفتنتها مضرب الأمثال وتغنى بجمالها شباب القبيلة فكنتُ أخافُ عليها كما يخافُ الإنسان من شرارة لهب تمتد إلى أكواخ من القش ....
شاع أن شيخ إحدى القبائل المجاورة يطمع بالزواج من ( صادجة ) فانخلع فؤادي رغم أنه كان رجلاً شجاعاً وجميلاً ومهوباً ومحبوباً من الجميع لأنه لا يجاري نبل سيدي ونسبه ، وفي إحدى الليالي ورجال القرية يجتمعون في كوخ سيدي سمع أزيز رصاصة في سكون الليل أعقبه صوت ينادي :
ــ من هناك .... ؟ أأصدقاء أنتم ؟
فأجابه صوت من " الهور " :
ــ أنا دهام
فصاح واحدٌ من رؤساء القبيلة :
ــ حذار ، إن بنادقنا محشوة ، ما حاجتك ؟
فأجاب دهام :
ــ جئتُ أطلب يد فتاة من والدها .
فصاح آخر :
ــ ومن تكون ؟
فأجاب دهام :
ــ الجوهرة المطمورة في الأوساخ ، زهرة واحدة في أشواككم .
فتهامس رجال القرية بينهم :
ــ جاء يطلب صادجة .
وسرى الخبر سريان النار في الهشيم ، وبقي سيدي في مكانه لا يتحرك كقطعة من الخشب ، وأخيراً التفت إلى رجلٍ بجواره وتناول منه بندقيته وصوبها نحو مصدر الصوت وأطلقها ، فدوى على الاثر صراخ قوي أعقبه سكون عميق ووصل إلينا نسيم الليل الهادئ يحمل حفيف أعشاب البردي أعقبه صوت دهام يدوي كالرعد :
ــ ابن عمي رحمة الله عليك ، سآخذ بثأرك أنا ابن عمك دهام ، أيها الكلاب ، لا أريد فصلاً من النساء ، لأنني لا أريد منكم إلا إمرأة واحدة ، رجالي يطوقونكم وسوف لا نبقي لكم اثراً إذا لم تسلموا عند منتصف الليل سبعين قطعة من الذهب فدية ابن عمي .
فراح القوم يتجادلون ويتحاورون بعض الساعة وصاح أحدهم بعدئذ :
ــ موافقون ، موافقون ....
وقاموا من توهم يجمعون الفدية من كل بيت ، وبعد مدة طويلة صاح أحدهم :
ــ خمسون قطعة لا نملك غيرها .
فجاء صوت دهام كالهدير :
ــ سبعون أو نطلق النار .
فصاح آخر :
ــ تعال وفتشْ .
فأجاب دهام :
ــ حسناً ، ليحملها إليّ أحدكم .
فانساب قاربٌ إليهم ولما رجع صرخ دهام :
ــ ادفنوا ابن عمي دفناً يليق بمقامه إذا ما عثرتم عليه وسأرجع في طلب صادجة .
انبثق الفجر واجتمع القوم يتحدثون عن الليلة المشؤومة والكل يلعن سيدي وصادجة ، وجاء رؤساؤهم يطلبون منا الرحيل قبل أن تحل بهم مصيبة أعظم فأجابهم سيدي غاضباً :
ــ لا أخشى أن أكلم قوماً جبناء مثلكم ، إنني لم أطلب حمايتكم عندما حللتُ دياركم بل سكنتُ بعيداً منكم ، ولكنكم تقربتم مني لتستفيدوا من خبرتي ، وتفاخروا القبائل الأخرى باستيطان شيخ من قريش بين ظهرانيكم ، ولما أصبحتُ بحاجة إلى المعونة أخذتم تتملصون منها ، أنتم كلاب أولاد كلاب ، فأنا لا أحتاج إلى حمايتكم ، الموت ولا فقدان الشرف ، سأبقى في مكاني ولا أتحرك عنه شبراً واحداً ، إذا كان بقائي لا يحلو لكم ارحلوا أنتم من هذهِ الديار فأرض الله واسعة ، فأجاب أكبرهم سناً :
ــ ما هذهِ الإهانة ؟ إذا ما نضجت الفاكهة وجب قطفها ، وإذا ما شبت الفتاة وجب تزويجها ، لماذا تعصي أمر الله وسنة الرسول ، وتجلبُ لنفسك ولنا الدمار ، زوجها من أحد رجالنا ، أليس كلامي هذا مصيباً .
فصرخ سيدي هازئاً :
ــ أُزوِّجُ ابنتي من أحد رجالكم ، ابداً .
فخرج الكل ، وسمعتُ بعضهم يقول :
ــ لتقع المصيبة على رأسه وحده .
ودعاني إليه وقال :
ــ إننا لم ندفع حصتنا من الفدية ولا أريد أن يقولوا عني فقير لا أتمكن من دفع حصتي ، استعرْ قارب جارنا لنذهب ونبيع حصراننا ونعتق ذمتنا .
حملنا الحصران إلى القارب وسرنا ووجهتنا إحدى القرى لبيعها ، وكانت صادجة في المؤخرة تدير دفة القارب وأبوها أمامها صامتاً كأن على رأسه الطير ، إن اللسان ليعجز عن وصف جمال صادجة وهي في وضعها هذا وبقيت تتمتع بذلك الجمال الملائكي ، بذلك القد الذي كان ينثني وهو يحرك المجداف كأنه الغصن لما يميل تحت تأثير النسيم وبالشعر الناعم المسترسل على كتفيها بضفائر ثخينة متدلية من تحت طرحتها ، وبتلك العينين السوداوين اللتين يشع منها النور كأنها سهام فتاكة .
وصلنا إلى قناة ارتفعت أوراق البردي على جانبيها وسمعنا حركة وراء الأوراق فتكلم سيدي آمراً :
ــ ارجع إلى القرية .
فتملكتنا الدهشة أنا وصادجة ، لماذا يخاف إلى هذا الحد ، فتكلمت صادجة وقد توردت وجنتيها :
ــ لا نرجع يا أبي قبل أن تنتهي المهمة التي جئنا من أجلها ، لم هذا الخوف ونحن مسلحون ؟
فلم يأبه والدها بكلامها وصرخ فيّ قائلاً :
ــ ألم آمرك بالرجوع يا ابن الكلاب ، لعنة الله عليك أتجسر أن تعارضني وأنا سيدك .
وأدرتُ القارب بحركة سريعة من مجدافي ، وبقي مجداف صادجة غاطساً في الماء خذولاً ، ولما التقى نظري بنظر سيدي شعرتُ بقشعريرة تسري في جسدي لأنني شهدتُ الذل يعلو جبينه في تلك اللحظة ، وظهر لي أنه قد تقدم في السن دهراً ، فقد تقوس ظهره وغارت عيناه وشاعت الكآبة في وجهه .
وصلنا القرية وتركتنا صادجة وقصدت الكوخ دون أن تكلمنا ، وبقي والدها ينظر إليّ بحزن وهو جالس في مكانه لا يتحرك وأخيراً تكلم قائلاً :
ــ ألم تلاحظ ؟
فأجبتُ مندهشاً :
ــ كلا لم أسمع إلا حركة وراء أوراق البردي
فأجاب بصوت متهدج :
ــ لم أسألك عما سمعت ، ألم تر شيئاً ؟
فأجبتُ وقد زادت دهشتي :
ــ كلا يا سيدي .
فدمدم وهو يترك القارب :
ــ الويل والثبور لي ولابنتي .
فأخذتُ الحصران لأرجعها إلى الكوخ دون أن اتفوه بكلمة ، فالتفت إليّ وافهمني بأننا راجعون غداً عند الفجر لبيعها وسينتهي كل شيء ومشى ، ولما اقتربتُ من الكوخ كان كل شيء هادئاً ، ولم أسمع حركة حتى وراء مخدع صادجة وكان الشيخ جالساً ، فأشعلتُ النار لأجهز له القهوة وأخذتُ أنظرُ إليه على ضوئه فجمد الدم في عروقي ، وشعرتُ بقلبي ينخلع من مكانه ، وجدته يبكي والدموع تنحدر على خديه وتختفي بالتجعدات التي ظهرت في وجهه ، فسمرتُ بصري في وجهه وكتمتُ بعد لحظة صرخة كادت تفلت من حنجرتي :
ــ لقد فقد سيدي بصره .
انقضت الليلة ودنا الفجر ، ورجعنا بالقارب من حيث سرنا في اليوم الفائت ، وبعد سير ساعة أشار إليّ قائلاً :
ــ سرْ يساراً إلى جزيرة ( أم الفروخ ) .
تجهم وجه صادجة ولكنها لم تتكلم إذ فكرت أن والدها يطيل الطريق خشية أن نلتقي بدهام ، كان القارب يسيرُ ببطء ، ولم يكن سيدي يطلبُ الاسراع ، فشعرتُ إن قضية بيع الحصران ما هي إلا لعبة تخفي وراءها أمراً مُخيفاً ، وكانت الحصران وهي في قاع القارب تظهر لي كجثة وحفيف البردي أصوات النائحات .
أعلنتُ وصولنا ( أم الفروخ ) ، وهي جزيرة منعزلة فنزل الشيخ إلى البر يقود صادجة ، وقال لي دون أن يلتفت :
ــ لا تترك مكانك إلى أن أعود إليك .
ومشى هو وابنته يداً بيد وغابا عن نظري وكان الهواء في ذلك اليوم جامداً قد كتم أنفاسه خائفاً من النتيجة ، وبعد مدة طويلة حمل إليّ نسيمٌ خفيف حديثهما وكنتُ أسمعهُ بوضوح فانكشف لي سر مجيئنا إلى هذهِ الجزيرة فأحنيتُ رأسي إلى مشيئة الله .
سألته وفي صوتها رعبٌ شديد :
ــ ما هذهِ الأطوار يا والدي ، ولما هذا الوجوم والإطراق ، لماذا جئت إلى هذهِ الجزيرة المخيفة المملوءة قبوراً .
فأجابها بصوتٍ أجش :
ــ جرمك يجعلك خائفة ، إذا دنست إمرأة شرف أهلها فما هو جزاؤها في عرف الأجداد ؟ أليس هو الموت ؟
فصرخت فزعة باكية :
ــ لا تقلْ ذلك يا والدي .
فأكمل :
ــ وإذا اشتهت إمرأة منا زوجاً ليس من دمها وأقل نبلاً ونسباً من نسبها ألا تُدنس شرف قبيلتها ؟
فأجابت بمرارة :
ــ هذا ما كنتً تلقنني إياه يا والدي .
فقال بصوتٍ مرتجف :
ــ إذن عرفت لماذا جئتُ بكِ إلى هنا .
فصرخت :
ــ لا ، لا ، يا والدي لا تقدر أن تقتلني إذ أنا كل شيء عندك في هذهِ الدنيا ، لا تقدر أن تعيش بدوني ، ألستُ ابنتك ؟ ألستُ من دمك ؟
فلم يحرْ جواباً ، فأكملت :
ــ ألا لعنة الله على النسوة اللواتي سممن أفكارك ، وذهبن بحكمتك ، فكر في حزنك القاتل بعد أن أموت ، ما هي الحالة التي ستصبح بها لما تتحقق من براءتي ؟
فصرخ كالأسد الجريح :
ــ لا يمكنُ أن يؤثر عليّ إنسان ، كيف أكذِّبُ عيني ؟ إلا أذا كنتَ أعمى ، كما أنا الآن .
فصرخت صادجة فزعة :
ــ أنت أعمى الآن ؟ مسكينٌ يا والدي .
فأجاب الشيخُ باكياً :
ــ نعم أعمى الآن ، ولكن قبل أن يذهب آخر بصيص من عيني عرفتُ البرهان القاطع ، لما سمعتُ الأصوات وراء البردي كانت عيناي في عينيك فوجدتُ بها الحقيقة الناصعة ، نور الحب .
فصرخت :
ــ إنه ادعاء فارغ ، إنك كنت دائماً تحبُ نور عيني وصفاءهما ، وهذا البريق كان نور الشمس .
فأجاب الشيخُ بصوتٍ مخنوقٍ بالعبرات :
ــ كنتُ أتمنى أن أكون مخدوعاً ولكنْ كيف ، وقد شهدتُ عيون زوجاتي الكثيرات ، لا يُنجيك الآن إلا الموت .
فأجابتهُ متوسلة :
ــ اعف عني يا والدي ، اعف عني !!
ودوت صرخة قوية مزقت سكون الجزيرة :
ــ إليّ ... إليّ ... إليّ يا دهام يا حبيبي .
انقلب دمي في تلك اللحظة إلى ماء وجمد في عروقي وشعرتُ بكابوس يهد بدني فهربتُ لا ألوي على شيء ، ورجعتُ إلى القرية .
رجعتُ في اليوم الثاني مع بعض الرجال ، ولم نكد نصل الجزيرة حتى طلع علينا شيخٌ جاحظ العينين عاري الجسم ملطخٌ بالدم والوحل ... هو دهام وصرخ بنا :
ــ ارجعوا كلكم ... أنا وحدي أدفنُ موتاي .

سليم بطي
بغداد

///////////////

بَعْضُ التَعْقِيب على قِصَّة ( صادجة )

بِقَلَمِ : شذى توما مرقوس
الجُمعة 17 / 2 / 2017 م ـ السبت 18 / 3 / 2017 م .

عَثَرْتُ وكمَا ذَكرْتُ على قِصَّتينِ قَصِيرَتينِ لسليم بطي مَنْشُورَتين في مَجَلَّة ِالأَدِيب اللُبْنَانِيَّة الشَهْرِيَّة ، وهما : بِنْتُ الطحَّان وصادجة ، لا تَعْقِيب لي على قِصَّةِ بِنْتُ الطحَّان فهي وافِيَة ، لكِنَّ لي ما أَكْتُبهُ عَنْ قِصَّتِهِ ( صادجة ) .
الَّذِي دعاني لِكتَابَة تَعْقيبٍ على هذِهِ القِصَّة هو سِيَاقُ الأَحْدَاث فيها ، فهَلْ إِنَّ القِصَّة فيها مِنْ الغرَابَةِ ما فيها ، أَمْ إِنَّ الزَمَنَ الَّذِي نَعيشُ فيه جَعلَ مِنْ أَحْدَاثِها الغرَابَة عيْنها ؟
تَتَناولُ القِصَّة الأَحْدَاث في مُجْتَمعٍ عشَائرِيّ تَحْكُمهُ الأَعْرافُ والتَقَاليد ، والقِصَّة غارِقَة في الغرَابَة ، فكُلُّ أَمْرٍ غرِيبٍ يَتْبَعهُ الأَغْرَبُ مِنْهُ ، حَتَّى لأَنَّ الفَرْدَ القَارِئ يَتَساءل إِنْ كانَ يَقْرأُ عَنْ تَصَرُفاتِ أَشْخاصٍ أَسْوِياء أَمْ مُخْتَّلين .
القِصَّة تُثِيرُ نُقْطَة حيَوِيَّة وتَقُودنا إِلى نَتَائجها أَلا وهي غِيَابُ الحِوار بَيْنَ الأَطْرَاف ، غِيَابُ الحِوار بَيْنَ الأَب وابْنَتِهِ ، بَيْنَ العاشِق ( دهام ) وبَيْنَ والِد حبِيبَتِهِ ( صادجة ) ، غِيَابُ الحِوار بَيْنَ الأَب وبَقِيَّة أَفْرَاد العشِيرَة ، ( هي نُقْطَة يُعاني مِنْها المُجْتَمع الإِنْسَانِيّ على اخْتِلافَاتِهِ وعلى مَرِّ العصُورِ بِنِسَبٍ مُتَفاوِتَة ) ، وكُلّ ما يَتَبادلَهُ الجَمِيع مِنْ حِوارٍ ( إِنْ كانَ يُسْمَحُ بِطيِّهِ في قَائمةِ الحِوار ) هو الشَتَائم والمَسَبَّات .
غِيَابُ الحِوار يُؤَدِّي إِلى نَتَائج مَأْساوِيَّة ، لأَنَّ بِغِيَابِهِ تَبْقَى المشَاكِلُ قَائمة ، وفي الوَقْتِ ذَاتهِ لا يَتِمُّ التَعْرِيف بِها ومُحاولَة عِلاجِها بِطُرُقٍ سلِيمَة .
كما يُلاحَظُ في القِصَّة الإِعْلان عَنِ الحُبِّ زَلَةً لا تُغْتَفر لا يَكونُ عِلاجَها غَيْر المَوْت قَصَاصاً ، حَتَّى وإِنْ كانَ هذَا الحُبّ غَيْر مُعْلَن وسرِيّ وغَيْر مُبَاحٍ بِهِ ، فمُحاسَبَة الآخَرِين حَتَّى على مَشَاعِرِهِم الخَفيَّة والخَاصَّة بِهم وَحْدَهم كسِرٍّ مِنْ أَسْرارِ نفُوسِهِم أَمْرٌ مُسَلَّمٌ بِهِ ، وهذَا يَدْعو لِلعجَبِ والغرَابَةِ ، وإِنْ كانَ الحالُ في مُجْتَمعٍ عشَائرِيّ.
ثُمَّ يَأْتي أَمْرُ اعْتِبارِ الجمَالِ والفِتْنَة بَلِيَّة تَرُوحُ صَاحِبَتُهُ ضَحِيَّةً لَهُ رَغْمَ إِنَّ لا ذَنْبَ لَها في كوْنِها جمِيلَة وفَاتِنَة إِذْ حَبَتْها الطبِيعة بِذَلِك (فقد كانت إذا مشت بين فتيات القرية تبدو كغزال بين قطعان الماشية ، وقد أصبح اسمها على كل لسان وفتنتها مضرب الأمثال وتغنى بجمالها شباب القبيلة فكنتُ أخافُ عليها كما يخافُ الإنسان من شرارة لهب تمتد إلى أكواخ من القش ...)
أَمَّا الطرِيقَة الغرِيبَة الَّتِي يَأْتي بِها العاشِقُ لِطلَبِ يَدِ حبِيبَتِهِ مِنْ والِدِها فهي لا تُثِيرُ العجَب فحسْب وإِنَّما تَدْعُو لِلتَسَاؤلِ إِنْ كانَتْ الأمُور تَجْرِي فِعْلاً هكذَا ( في زَمَنِ القِصَّة ) ، فهو يَأْتي لَيْلاً ويُطْلِقُ الرَصَاص مُعْلِناً عَنْ قدُومِهِ ثُمَّ يُهِينُ القَوْمَ الَّذِي يَقْصُدهُم ( فيَقُول بِأَنَّهُ جاءَ لِيَطْلُبَ يَدَ الجَوْهرَةِ المَطْمُورَةِ في الأَوْسَاخ ، زَهْرَة واحِدَة في أَشْواكِكم ) ، ثُمَّ يُواصِلُ شَتْمَهُ لِلقَوْمِ بَعْدَ مَقْتَلِ ابْنِ عَمِّهِ ( أَيُّها الكِلاب ) ويَتَوَعَّدهُم بِالويْل إِنْ لَمْ يَدْفَعوا الفدْيَة ثَمَناَ لِدَمِهِ ، فيَنْصاعون لَهُ ، وبَعْدَ أَنْ يَسْتَلِمَ مِنْهُم الفدْيَة يُطالِبَهُم بِاَنَّ يَدْفنُوا ابْنَ عَمِّهِ بِطرِيقَةٍ تَلِيقُ بِمَقَامِهِ إِنْ عثَروا على جُثَّتِهِ ويُخْبِرهُم بِأَنَّهُ سيَعودُ فيما بَعْد لِطلَبِ يَدِ حبِيبَتِهِ ، والأَغْرَب هو رَدُّ فِعْلِ والِد الفتَاة ( الَّذِي يُصَوَّرُ في القِصَّة كشَيْخٍ حكِيمٍ وقُور ) حَيْثُ يَرُدُّ بِرَصَاصَةٍ على المُتَقَدِّم لِطلَبِ ابْنَتِهِ فيَقْتُلَ شَخْصاً دُوْنَ سَبَب ( ابْن عمّ دهام ) ويَمْضِي أَكْثَر في غَرَابَتِهِ فيُحاسِبُ ابْنَتَهُ على ما قَرأَهُ في عَيْنَيْها ( وفي النِهايَة يَقْتُلَها ) ، ثُمَّ مَوْقِفه مِنْ أَهْلِ القَرْيَة وشَتْمِهِ لَهُم وإِهانَتِهِم بِكلِمَاتٍ جارِحة ( جُبنَاء ، كِلاب أَوْلاد كِلاب ) ، وكُلّ هذَا وهو الشَيْخ الوقُور ذُو الحسَبِ الرَفِيع والنَسَب والدَّمُ الأَصِيل ووو .......
تَأْتي النُقْطَة الأُخْرَى فيما يَتَعلَّقُ بِشَخْصِيَّة راوِي القِصَّة الغَارِقَة في السَلْبِيَّة ، فهو يَشْهَدُ قَتْلَ أَبٍ لابْنَتِهِ فيَنْحنِي لِمَشِيئةِ الأَقْدار ( وهي في الحقِيقَة مَشِيئة سَيِّدِهِ والِد صادجة ) ، ولَيْسَ هذَا فَقَطْ ، بَلْ يَفُرُّ مِنْ المَكانِ كأَيِّ جبَانٍ عائداً إِلى القَرْيَة ، دُوْنَ أَنْ يُحاوِلَ أَمْراً لِمَنْعِ جَرِيمَةٍ تُمَارسُ باسْمِ النَسَب الرَفِيع والشَرَفِ والمَنْزِلَة ، ثُمَّ نَراهُ يُولْوِلُ على ما حَدَث .
أَمَّا الجزِيرَة الَّتِي حدَثَتْ فيها الجَرِيمَة ، وكأَنَّها المَكان الَّذِي يَقْتُلُ كُلَّ مَنْ شَاء أَحَداً فيها ويَدْفُنهُ هُنَاك ثُمَّ يَعُودُ وكأَنَّ أَمْراً لَمْ يَحْدُثْ .
القِصَّة لا تَخْلُو مِنْ أَوْصَافٍ جَمِيلَةٍ مُعبِّرَة : ( فكنتُ أخافُ عليها كما يخافُ الإنسان من شرارة لهب تمتد إلى أكواخ من القش ... ) ، (وكانت الحصران وهي في قاع القارب تظهر لي كجثة وحفيف البردي أصوات النائحات) .
لَمْ يَكُنْ المُؤَلِّف مُوَفَّقاً في طرِيقَةِ صِياغتِهِ لِلوَصْف : ( فقد كانت إذا مشت بين فتيات القرية تبدو كغزال بين قطعان الماشية ) فالجُمْلَة غَيْرُ عادِلَة بِحقِّ فَتياتِ القَرْيَة ، وأَيْضاً بِحقِّ المَاشِيَة كحيَواناتٍ جَمِيلَة في حقِيقَتِها تَمَّ تَصْوِيرها على إِنَّها قَبِيحة ضِمْنَ هذَا الوَصْف ، أَمَّا الكِلاب ، هذِهِ الحيَوانَات الجَمِيلَة الوَفِيَّة ، فكانَ لَها النَصِيبُ الأَكْبَر مِنْ الظُلْم في هذِهِ القِصَّة .
فِكْرَةُ القِصَّة لَمْ تُنْتِجْ الحبْكةَ القِصَصِيَّة الوافِيَة ، فجاءَ بِنَاءُ الأَحْدَاث في عازَةٍ لِتَرَابُطٍ وإِتْقَانٍ أَوْفَى ، والحِوار لَمْ يَخْدُمْ مُجْريَات القِصَّة بِالشَكْلِ اللازِم .

على خَيْرٍ نَلْتَقِي أَخَواتي / إِخْوتي مِنْ المُتَابِعاتِ والمُتَابِعين ، شُكراً لِصَبْرِكُم وتَواصُلِكُم .
أعلى