مقدمة
عندما توقف قلب الأديب الموسوعي «محمد لطفي جمعة»، عن نبضه في ١٥ / ٦ / ١٩٥٣، توقف بالتالي هذا السَّيْل المنهمر من الكتابات الأدبية الثَّرِيَّة، التي خُطَّت بيَدِ هذا الأديب. وصار أدبه في طيِّ النسيان، إلا من بعض المقالات اليسيرة، التي كانت تُدبَّج في بعض المناسبات، وخصوصًا من قِبَل أوفى أبناء الأدباء، المستشار رابح محمد لطفي جمعة. ذلك الابن الذي حافظ على تراث أبيه المخطوط، أكثر من حفاظه على حياته وصحته، بل ودافع عن أبيه وعن أدبه دفاع المُستمِيت، الذي لا يتورَّع عن فِعْل أي شيء في سبيل الحفاظ على اسم أبيه نقيًّا، وعن أدبه مرفوعًا إلى عَنان السماء.
وإذا قمنا بعمليَّة إحصائية عما كُتِب عن لطفي جمعة منذ وفاته وحتى عام ١٩٩٢، سنفاجأ بأنه لا يَعدو عِدَّة صفحات في بعض الصحف والمجلات والكتب التعريفيَّة. أما ما كُتِب عن لطفي جمعة، أو طُبِع له منذ عام ١٩٩٣ وحتى هذه اللحظة، فهو كثير بالنسبة لما سَبق!
وتفسير هذا الأمر يتمثَّل في أن لطفي جمعة له من الإنتاج المخطوط ما يفوق أضعاف إنتاجه المطبوع! وهذا التراث المخطوط، كان أبناؤه يتوارثونه الابن بعد الآخر؛ أملًا في تنفيذ وصية والِدِهم بطَبْع هذه المخطوطات بعد وفاته. ولكن مشاغل الحياة لم تُعطِ الأبناء فرصةَ تنفيذ هذه الوصية، واكتفى كلُّ ابنٍ بالحفاظ على هذا الإرث الأدبي، حتى يُسلِّمه لمَن يَلِيه … وهكذا حتى وصل أخيرًا إلى الابن … رابح لطفي جمعة.
فما كان من هذا الابن البار إلَّا أن استغلَّ كلَّ فرصة ليُظهِر هذا التراث والتحدُّث عنه في كلِّ مناسبة متاحة، وظلَّ هكذا حتى شاء القدر أن يلتقي بأحد الكُتاب المتخصِّصين في نَبْش قبور الأدباء المنسيِّين والدفاع عنهم، وإظهارهم بقوة للعيان مرة أخرى؛ وهو الكاتب «أحمد حسين الطماوي».
استحضر أحمد الطماوي كلَّ إمكاناته الفكرية الذهنية والشخصية، وركَّزها تركيزًا شديدًا على لطفي جمعة، وعكف على تراثه الأدبي، المخطوط منه والمطبوع، وأخرج كتابًا وافِر المادة تحت عنوان «محمد لطفي جمعة في موكب الحياة والأدب» عام ١٩٩٣، ليكون أول كتاب دَرَس معظم أعمال لطفي جمعة المطبوعة والمخطوطة، علاوةً على كمٍّ كبير من مقالاته الموزَّعة في الدوريات. ولم يكتفِ الطماوي بذلك، بل ذيَّل كتابَه بببليوجرافيا — تكاد تكون — شاملة عما كتبه لطفي جمعة، وعما كُتب عنه، لتكون مِفتاحًا لأيَّة دراسة تُكتَب عن لطفي جمعة بعد ذلك.
وهكذا أخرج الطماوي لطفي جمعة من قبره مرة أخرى، كعنقاء الأدب الحديث، أو كمَارِدِ القُمقُم الذي حُبِس فيه لسنوات كثيرة. ومنذ خروج هذا الكتاب، أصبح للطفي جمعة شأن آخر! فتهافتت أقلام الكُتَّاب والباحثين وأساتذة الجامعات على دراسة أدب لطفي جمعة، منطلقةً من كتاب أحمد حسين الطماوي.
ولعل القارئ يتساءل: ألَم يحاول لطفي جمعة في حياته نشْرَ هذا الكمِّ الهائل من المخطوطات الأدبية، وبالأخص المخطوطات المسرحية؟! وألَم يحاول مِن بعدِه أبناؤه القيام بهذه المَهَمَّة؟! والإجابة عن هذا التساؤل، تجعلنا — تبعًا لما بين أيدينا من وثائق ومعلومات — أن نقول: لقد حاول الأب، وأيضًا حاول الأبناء … ولكنْ دون جدوى!
ففي عام ١٩١٦، وبعدَ تمثيل مسرحية «قلب المرأة» — من قِبَل جوق أبيض وحجازي — أرسل لطفي جمعة خطابًا إلى أحد الناشرين — وهو غرزوزي حبيب — من أجل نشر المسرحية، وقد وضع لطفي بعض الشروط في هذا الخطاب. وبعد أيام قليلة جاء الردُّ، وفيه قال غرزوزي: «سيدي الفاضل، وافاني كتابكم الكريم المملوء من العواطف النبيلة ما يعجز عن وصفه الجنان … أشكركم شكرًا وافرًا لما أوْلَيْتُموني من الجميل بإظهار ثِقتكم بي وثنائكم عليَّ، ومن خصوص طبع الرواية فأنا مستعدٌّ لقبول شروطكم، وإنما ثمن الورق الآن مُرتفِع جدًّا، ولا سيما الجيِّد منه، وهو يكاد أن يكون معدومًا، ولكن ذلك لا يمنع من تهيئة الأصول للطبع، وفي أول فرصة مناسبة أُبادِر بطلبها منكم. المخلِص غرزوزي حبيب.»
ومرَّت الأيام والسنون دون أن يطلب الناشر الأصول، وما كان سيطلبها في يوم من الأيام؛ لأن أسلوب التهرُّب من طبع المسرحية، واضحٌ بصورة جليَّة في الخطاب، وهذه كانت المحاولة الأولى.
أما المحاولة الثانية، فكانت في عام ١٩٢٣، عندما أرسل أمين الريحاني، رسالةً إلى لطفي جمعة، نفهم منها أن لطفي جمعة — في هذه الفترة — كان يائسًا من طبْع مسرحياته، فيقول له أمين الريحاني في رسالته: «وما أحزنني في كتابك أنه في سؤالك بخصوص طبْع رواياتك التمثيليَّة تقول إن المصريين لا يفهمون إلى الآن معنى Pieces du Theatre فإذا كانت لا تُفهَم عندكم يا أخي يا لطفي، أتظنُّها تُفهَم في أمريكا؟ وهل تُفهَم في سوريا، أو في العراق؟ لا تيأس يا أخي، إن السياسة اليوم مستولية على العقليَّة المصرية الاستيلاء المطلق التام، وبعد قليل إن شاء الله تعودون إلى الأدب فتطبع إذ ذاك رواياتك ويكون عليها الإقبال الذي تستحقُّه إنْ شاء الله.»
١
لازَم هذا اليأس لطفي جمعة لسنوات طويلة، حتى وصل إلى مرحلة الزهد. فقد قال في مذكراته: «إنني منذ سنة ١٩٤٠ — وهو تاريخ آخِر ما نشرتُ من الكتب — عكفتُ على الكتابة والاختزان، وكففتُ عن الطبع والنشر، وجعلتُ هذه المخطوطات أمانةً عند أولادي، وقد أشركتُ بعضَهم في تحضيرها وتدوينها، وقصدتُ بهذه المخطوطات — وهي أنواع شتَّى في الفلسفة والتاريخ والأدب والقصص والمسرحيات والمذكرات — إشباع رغبتي ونَهَمي في التدوين والانتفاع بالقدرة ما دامت، والاعتراف بفضل الله عليَّ بتمكيني من الدرس والتأليف، فهذا نوع من العبادة والتمجيد لله والعرفان.»
٢
وبمرور الأيام شعر لطفي جمعة بدنوِّ أجَلِه، وبالتالي عدم تحقيق أمنيته في رؤية مخطوطاته مطبوعة ومنشورة، ومتداولة بين أيدي القُرَّاء! فما كان منه إلَّا أن كتب وصيةً خاصة بهذه المخطوطات، في شكل خطاب أرسله إلى أحد أصدقائه — وهو محمد خالد صاحب جريدة الدستور — قال فيه: «أشعر بأنك الإنسان الوحيد في هذه الحياة الذي أستطيع أن أكتب إليه هذه الرسالة طالبًا منه تنفيذ ما فيها على بساطته وسهولته … إنني شعرتُ بأنني مُقبِل على الانتقال من هذه الدنيا، وعندي مسألتان لهما أهمية في نظري؛ الأولى: كُتبي التي جمعتُها والمخطوطات التي أنجزتُها على مدى سنوات طويلة … فالكتب المطبوعة؛ فأحبُّ أن تتصرَّف فيها أنت بشخصك بأن تقدِّمها هديةً إلى أحد المعاهد العامة هبةً بلا شرط ولا قَيْد سوى عدم تَفْريقها. المخطوطات التي جَرَتِ العادة بتسميتها مؤلَّفات مبالغةً، أن تودِعَها أيضًا مكانًا عامًّا كوديعة يتسلَّمها أولادي عند بلوغهم سنَّ الرشد؛ خشية أن تُبَعثَر أو تُباع بالميزان، وقد يكون فيها ما ينفع أحدًا من الناس.»
٣
وبالفعل مرت السنون، وبلغ بعض الأبناء سنَّ الرشد، وشرعوا في تنفيذ وصية أبيهم، وكانت محاولتهم الأولى في عام ١٩٦٣، عندما حاولوا نشر المسرحيات المخطوطة. وعن هذه المحاولة يقول رابح لطفي جمعة: «أما المسرحيات المخطوطة؛ فهي أعمال أدبيَّة كاملة كنَّا قد تقدَّمنا بها سنة ١٩٦٣ للجنة إحياء التراث بوزارة الثقافة والإرشاد لطَبْعها وإخراجها إلى عالم النور، فظلَّت باللجنة أمَدًا طويلًا ثم استردَدْناها!»
٤
كانت المحاولة الثانية، في عهد الرئيس أنور السادات، و«يحكي الأستاذ رابح أن الرئيس الراحل أنور السادات — رحمه الله — عَرَض على المرحوم زكريا لطفي جمعة، وكان عضوًا بمجلس الشعب آنذاك، أن يُوافِيَه بكُتب والده لتُطبَع على نفقة الدولة، لكنه للأسف ترك هذه الفرصة تضيع.»
٥
لم تتوفر أيَّة فرصة بعد ذلك لأبناء لطفي جمعة، كي ينفِّذوا وصية أبيهم، من خلال طبع ونشر مخطوطاته. وعندما آلت تركة هذه المخطوطات إلى الأستاذ رابح، بدأ في تنفيذها بصورة جدية. ففي عام ١٩٧٥، أصدر كتابًا عن والده من خلال مذكراته. وفيه نادَى بنَشْر مسرحيات والده المخطوطة، قائلًا: «الأمل معقود على القائمين على النشر وإحياء النهضة المسرحية أن تَخْرُج هذه المسرحيات والتمثيليات إلى النور، فقد كانت إحدى أمنيات لطفي جمعة أن تُطبَع هذه المسرحيات وأن تُمثَّل.»
٦
وظل هذا النداء أكثر من خمس عشرة سنة، دون مجيب! ولم ييأس رابح فأتبع نداءه الأول بنداء ثانٍ — من خلال كتابه الثاني عن أبيه — عام ١٩٩١، قائلًا فيه: «ترك لطفي جمعة مؤلَّفات عديدة لا تزال مخطوطة وماثلة للطبع، تُعدُّ ذخائر ثمينة في الدِّين والأدب والتاريخ والاجتماع والفلسفة والتصوف والسياسة والاقتصاد والقصة والمسرح والترجمة الذاتية … والأمل معقود في أن تتحرك الهيئة المصرية العامة للكتاب ودُور النشر عندنا لطبع هذه المؤلفات المخطوطة المُتعدِّدة الجوانب لهذا الرائد من روَّاد نهضتنا الفكرية والثقافية الحديثة، وتقديمها للجيل الجديد خدمةً للفكر والأدب.»٧
وبكل أسف كانت نتيجة النداء الثاني، هي نفس نتيجة النداء الأول؛ لا مجيب! وظلَّت وصية لطفي جمعة تؤرِّق الابن رابح ليلَ نهار، وبدأ تأثير الزمن يَظهَر عليه ويُهدِّده ويُنذِره ويدفعه إلى تنفيذ الوصية بكلِّ وسيلة ممكنة، قبل فوات الأوان! تزامن هذا الشعور مع ظهور أحمد حسين الطماوي، الذي قرأ وفهم ودرس تراث لطفي جمعة المخطوط، قبل أن تمسسه يدُ الآخرين. هنا قرَّر رابح أن يُنفِّذ الوصية بنفسه!
فقد عكف على مخطوطات والده، بالقراءة والإعداد والتصحيح والتنقيح والمراجعة؛ ومن ثَمَّ نشرها وطباعتها على نفقته الخاصة، واستطاع في وقت قياسي أن ينشر أغلب تراث والده المخطوط، الذي لم يَبْقَ منه سوى القليل. هذا المجهود الخارق لهذا الابن البارِّ، كان له محلُّ تقدير واحترام من قِبَل أعضاء لجنة الدراسات الأدبية واللغوية بالمجلس الأعلى للثقافة؛ وذلك من خلال تكليفهم لي بإعداد هذا المجلَّد عن مخطوطات مسرحيات لطفي جمعة، ليَظهَر في احتفالية كبرى يُقيمها المجلس الأعلى للثقافة يوم ٢٠ / ١ / ٢٠٠١، تحت عنوان «لطفي جمعة أديبًا موسوعيًّا».
رحم الله محمد لطفي جمعة وأسكنه فسيح جناته، ولْتسكُن روحه هادئةً في قبرها؛ فقد تمَّ تنفيذ الوصية، فإذا كان الله قد خلق رابح لطفي جمعة ليكون مستشارًا وأبًا وزوجًا وإنسانًا؛ فهذا كله لا يُعادل أنْ خَلَقه الله ليكون ابنًا بارًّا حافظًا لتراث أبيه، ومنفِّذًا لوصيته!
والله ولي التوفيق.
دكتور سيد علي إسماعيل
القاهرة في: ٣٠ / ١٢ / ٢٠٠٠
* «حوار المفكرين: رسائل أعلام العصر إلى محمد لطفي جمعة خلال نصف قرن ١٩٠٤–١٩٥٣»، عالم الكتب، ط١، ٢٠٠٠
عندما توقف قلب الأديب الموسوعي «محمد لطفي جمعة»، عن نبضه في ١٥ / ٦ / ١٩٥٣، توقف بالتالي هذا السَّيْل المنهمر من الكتابات الأدبية الثَّرِيَّة، التي خُطَّت بيَدِ هذا الأديب. وصار أدبه في طيِّ النسيان، إلا من بعض المقالات اليسيرة، التي كانت تُدبَّج في بعض المناسبات، وخصوصًا من قِبَل أوفى أبناء الأدباء، المستشار رابح محمد لطفي جمعة. ذلك الابن الذي حافظ على تراث أبيه المخطوط، أكثر من حفاظه على حياته وصحته، بل ودافع عن أبيه وعن أدبه دفاع المُستمِيت، الذي لا يتورَّع عن فِعْل أي شيء في سبيل الحفاظ على اسم أبيه نقيًّا، وعن أدبه مرفوعًا إلى عَنان السماء.
وإذا قمنا بعمليَّة إحصائية عما كُتِب عن لطفي جمعة منذ وفاته وحتى عام ١٩٩٢، سنفاجأ بأنه لا يَعدو عِدَّة صفحات في بعض الصحف والمجلات والكتب التعريفيَّة. أما ما كُتِب عن لطفي جمعة، أو طُبِع له منذ عام ١٩٩٣ وحتى هذه اللحظة، فهو كثير بالنسبة لما سَبق!
وتفسير هذا الأمر يتمثَّل في أن لطفي جمعة له من الإنتاج المخطوط ما يفوق أضعاف إنتاجه المطبوع! وهذا التراث المخطوط، كان أبناؤه يتوارثونه الابن بعد الآخر؛ أملًا في تنفيذ وصية والِدِهم بطَبْع هذه المخطوطات بعد وفاته. ولكن مشاغل الحياة لم تُعطِ الأبناء فرصةَ تنفيذ هذه الوصية، واكتفى كلُّ ابنٍ بالحفاظ على هذا الإرث الأدبي، حتى يُسلِّمه لمَن يَلِيه … وهكذا حتى وصل أخيرًا إلى الابن … رابح لطفي جمعة.
فما كان من هذا الابن البار إلَّا أن استغلَّ كلَّ فرصة ليُظهِر هذا التراث والتحدُّث عنه في كلِّ مناسبة متاحة، وظلَّ هكذا حتى شاء القدر أن يلتقي بأحد الكُتاب المتخصِّصين في نَبْش قبور الأدباء المنسيِّين والدفاع عنهم، وإظهارهم بقوة للعيان مرة أخرى؛ وهو الكاتب «أحمد حسين الطماوي».
استحضر أحمد الطماوي كلَّ إمكاناته الفكرية الذهنية والشخصية، وركَّزها تركيزًا شديدًا على لطفي جمعة، وعكف على تراثه الأدبي، المخطوط منه والمطبوع، وأخرج كتابًا وافِر المادة تحت عنوان «محمد لطفي جمعة في موكب الحياة والأدب» عام ١٩٩٣، ليكون أول كتاب دَرَس معظم أعمال لطفي جمعة المطبوعة والمخطوطة، علاوةً على كمٍّ كبير من مقالاته الموزَّعة في الدوريات. ولم يكتفِ الطماوي بذلك، بل ذيَّل كتابَه بببليوجرافيا — تكاد تكون — شاملة عما كتبه لطفي جمعة، وعما كُتب عنه، لتكون مِفتاحًا لأيَّة دراسة تُكتَب عن لطفي جمعة بعد ذلك.
وهكذا أخرج الطماوي لطفي جمعة من قبره مرة أخرى، كعنقاء الأدب الحديث، أو كمَارِدِ القُمقُم الذي حُبِس فيه لسنوات كثيرة. ومنذ خروج هذا الكتاب، أصبح للطفي جمعة شأن آخر! فتهافتت أقلام الكُتَّاب والباحثين وأساتذة الجامعات على دراسة أدب لطفي جمعة، منطلقةً من كتاب أحمد حسين الطماوي.
ولعل القارئ يتساءل: ألَم يحاول لطفي جمعة في حياته نشْرَ هذا الكمِّ الهائل من المخطوطات الأدبية، وبالأخص المخطوطات المسرحية؟! وألَم يحاول مِن بعدِه أبناؤه القيام بهذه المَهَمَّة؟! والإجابة عن هذا التساؤل، تجعلنا — تبعًا لما بين أيدينا من وثائق ومعلومات — أن نقول: لقد حاول الأب، وأيضًا حاول الأبناء … ولكنْ دون جدوى!
ففي عام ١٩١٦، وبعدَ تمثيل مسرحية «قلب المرأة» — من قِبَل جوق أبيض وحجازي — أرسل لطفي جمعة خطابًا إلى أحد الناشرين — وهو غرزوزي حبيب — من أجل نشر المسرحية، وقد وضع لطفي بعض الشروط في هذا الخطاب. وبعد أيام قليلة جاء الردُّ، وفيه قال غرزوزي: «سيدي الفاضل، وافاني كتابكم الكريم المملوء من العواطف النبيلة ما يعجز عن وصفه الجنان … أشكركم شكرًا وافرًا لما أوْلَيْتُموني من الجميل بإظهار ثِقتكم بي وثنائكم عليَّ، ومن خصوص طبع الرواية فأنا مستعدٌّ لقبول شروطكم، وإنما ثمن الورق الآن مُرتفِع جدًّا، ولا سيما الجيِّد منه، وهو يكاد أن يكون معدومًا، ولكن ذلك لا يمنع من تهيئة الأصول للطبع، وفي أول فرصة مناسبة أُبادِر بطلبها منكم. المخلِص غرزوزي حبيب.»
ومرَّت الأيام والسنون دون أن يطلب الناشر الأصول، وما كان سيطلبها في يوم من الأيام؛ لأن أسلوب التهرُّب من طبع المسرحية، واضحٌ بصورة جليَّة في الخطاب، وهذه كانت المحاولة الأولى.
أما المحاولة الثانية، فكانت في عام ١٩٢٣، عندما أرسل أمين الريحاني، رسالةً إلى لطفي جمعة، نفهم منها أن لطفي جمعة — في هذه الفترة — كان يائسًا من طبْع مسرحياته، فيقول له أمين الريحاني في رسالته: «وما أحزنني في كتابك أنه في سؤالك بخصوص طبْع رواياتك التمثيليَّة تقول إن المصريين لا يفهمون إلى الآن معنى Pieces du Theatre فإذا كانت لا تُفهَم عندكم يا أخي يا لطفي، أتظنُّها تُفهَم في أمريكا؟ وهل تُفهَم في سوريا، أو في العراق؟ لا تيأس يا أخي، إن السياسة اليوم مستولية على العقليَّة المصرية الاستيلاء المطلق التام، وبعد قليل إن شاء الله تعودون إلى الأدب فتطبع إذ ذاك رواياتك ويكون عليها الإقبال الذي تستحقُّه إنْ شاء الله.»
١
لازَم هذا اليأس لطفي جمعة لسنوات طويلة، حتى وصل إلى مرحلة الزهد. فقد قال في مذكراته: «إنني منذ سنة ١٩٤٠ — وهو تاريخ آخِر ما نشرتُ من الكتب — عكفتُ على الكتابة والاختزان، وكففتُ عن الطبع والنشر، وجعلتُ هذه المخطوطات أمانةً عند أولادي، وقد أشركتُ بعضَهم في تحضيرها وتدوينها، وقصدتُ بهذه المخطوطات — وهي أنواع شتَّى في الفلسفة والتاريخ والأدب والقصص والمسرحيات والمذكرات — إشباع رغبتي ونَهَمي في التدوين والانتفاع بالقدرة ما دامت، والاعتراف بفضل الله عليَّ بتمكيني من الدرس والتأليف، فهذا نوع من العبادة والتمجيد لله والعرفان.»
٢
وبمرور الأيام شعر لطفي جمعة بدنوِّ أجَلِه، وبالتالي عدم تحقيق أمنيته في رؤية مخطوطاته مطبوعة ومنشورة، ومتداولة بين أيدي القُرَّاء! فما كان منه إلَّا أن كتب وصيةً خاصة بهذه المخطوطات، في شكل خطاب أرسله إلى أحد أصدقائه — وهو محمد خالد صاحب جريدة الدستور — قال فيه: «أشعر بأنك الإنسان الوحيد في هذه الحياة الذي أستطيع أن أكتب إليه هذه الرسالة طالبًا منه تنفيذ ما فيها على بساطته وسهولته … إنني شعرتُ بأنني مُقبِل على الانتقال من هذه الدنيا، وعندي مسألتان لهما أهمية في نظري؛ الأولى: كُتبي التي جمعتُها والمخطوطات التي أنجزتُها على مدى سنوات طويلة … فالكتب المطبوعة؛ فأحبُّ أن تتصرَّف فيها أنت بشخصك بأن تقدِّمها هديةً إلى أحد المعاهد العامة هبةً بلا شرط ولا قَيْد سوى عدم تَفْريقها. المخطوطات التي جَرَتِ العادة بتسميتها مؤلَّفات مبالغةً، أن تودِعَها أيضًا مكانًا عامًّا كوديعة يتسلَّمها أولادي عند بلوغهم سنَّ الرشد؛ خشية أن تُبَعثَر أو تُباع بالميزان، وقد يكون فيها ما ينفع أحدًا من الناس.»
٣
وبالفعل مرت السنون، وبلغ بعض الأبناء سنَّ الرشد، وشرعوا في تنفيذ وصية أبيهم، وكانت محاولتهم الأولى في عام ١٩٦٣، عندما حاولوا نشر المسرحيات المخطوطة. وعن هذه المحاولة يقول رابح لطفي جمعة: «أما المسرحيات المخطوطة؛ فهي أعمال أدبيَّة كاملة كنَّا قد تقدَّمنا بها سنة ١٩٦٣ للجنة إحياء التراث بوزارة الثقافة والإرشاد لطَبْعها وإخراجها إلى عالم النور، فظلَّت باللجنة أمَدًا طويلًا ثم استردَدْناها!»
٤
كانت المحاولة الثانية، في عهد الرئيس أنور السادات، و«يحكي الأستاذ رابح أن الرئيس الراحل أنور السادات — رحمه الله — عَرَض على المرحوم زكريا لطفي جمعة، وكان عضوًا بمجلس الشعب آنذاك، أن يُوافِيَه بكُتب والده لتُطبَع على نفقة الدولة، لكنه للأسف ترك هذه الفرصة تضيع.»
٥
لم تتوفر أيَّة فرصة بعد ذلك لأبناء لطفي جمعة، كي ينفِّذوا وصية أبيهم، من خلال طبع ونشر مخطوطاته. وعندما آلت تركة هذه المخطوطات إلى الأستاذ رابح، بدأ في تنفيذها بصورة جدية. ففي عام ١٩٧٥، أصدر كتابًا عن والده من خلال مذكراته. وفيه نادَى بنَشْر مسرحيات والده المخطوطة، قائلًا: «الأمل معقود على القائمين على النشر وإحياء النهضة المسرحية أن تَخْرُج هذه المسرحيات والتمثيليات إلى النور، فقد كانت إحدى أمنيات لطفي جمعة أن تُطبَع هذه المسرحيات وأن تُمثَّل.»
٦
وظل هذا النداء أكثر من خمس عشرة سنة، دون مجيب! ولم ييأس رابح فأتبع نداءه الأول بنداء ثانٍ — من خلال كتابه الثاني عن أبيه — عام ١٩٩١، قائلًا فيه: «ترك لطفي جمعة مؤلَّفات عديدة لا تزال مخطوطة وماثلة للطبع، تُعدُّ ذخائر ثمينة في الدِّين والأدب والتاريخ والاجتماع والفلسفة والتصوف والسياسة والاقتصاد والقصة والمسرح والترجمة الذاتية … والأمل معقود في أن تتحرك الهيئة المصرية العامة للكتاب ودُور النشر عندنا لطبع هذه المؤلفات المخطوطة المُتعدِّدة الجوانب لهذا الرائد من روَّاد نهضتنا الفكرية والثقافية الحديثة، وتقديمها للجيل الجديد خدمةً للفكر والأدب.»٧
وبكل أسف كانت نتيجة النداء الثاني، هي نفس نتيجة النداء الأول؛ لا مجيب! وظلَّت وصية لطفي جمعة تؤرِّق الابن رابح ليلَ نهار، وبدأ تأثير الزمن يَظهَر عليه ويُهدِّده ويُنذِره ويدفعه إلى تنفيذ الوصية بكلِّ وسيلة ممكنة، قبل فوات الأوان! تزامن هذا الشعور مع ظهور أحمد حسين الطماوي، الذي قرأ وفهم ودرس تراث لطفي جمعة المخطوط، قبل أن تمسسه يدُ الآخرين. هنا قرَّر رابح أن يُنفِّذ الوصية بنفسه!
فقد عكف على مخطوطات والده، بالقراءة والإعداد والتصحيح والتنقيح والمراجعة؛ ومن ثَمَّ نشرها وطباعتها على نفقته الخاصة، واستطاع في وقت قياسي أن ينشر أغلب تراث والده المخطوط، الذي لم يَبْقَ منه سوى القليل. هذا المجهود الخارق لهذا الابن البارِّ، كان له محلُّ تقدير واحترام من قِبَل أعضاء لجنة الدراسات الأدبية واللغوية بالمجلس الأعلى للثقافة؛ وذلك من خلال تكليفهم لي بإعداد هذا المجلَّد عن مخطوطات مسرحيات لطفي جمعة، ليَظهَر في احتفالية كبرى يُقيمها المجلس الأعلى للثقافة يوم ٢٠ / ١ / ٢٠٠١، تحت عنوان «لطفي جمعة أديبًا موسوعيًّا».
رحم الله محمد لطفي جمعة وأسكنه فسيح جناته، ولْتسكُن روحه هادئةً في قبرها؛ فقد تمَّ تنفيذ الوصية، فإذا كان الله قد خلق رابح لطفي جمعة ليكون مستشارًا وأبًا وزوجًا وإنسانًا؛ فهذا كله لا يُعادل أنْ خَلَقه الله ليكون ابنًا بارًّا حافظًا لتراث أبيه، ومنفِّذًا لوصيته!
والله ولي التوفيق.
دكتور سيد علي إسماعيل
القاهرة في: ٣٠ / ١٢ / ٢٠٠٠
* «حوار المفكرين: رسائل أعلام العصر إلى محمد لطفي جمعة خلال نصف قرن ١٩٠٤–١٩٥٣»، عالم الكتب، ط١، ٢٠٠٠