رغم أنني غالباً ما أجلس وحيداً في قلبِ الصمت، لساعات، لأسابيع، لشهور، إلا أنه ثمّة صعوبة في أن أكتب مقالة رأي هذه الأيام. الأمر ليس كما هو فيما مضى، ربما لصعوبةِ وصفِ كل ما جرى، أو ما اعتقدُ أنه قد جرى. يرى ساباتو أن مهمّة الكاتب؛ هي تقيّؤ عالمه الداخلي. وأنا بطبعي لا أكتب بلا اندفاع، بلا رغبة، وبلا اصطخاب، ودون البراءة التي تأخذ بمخيلتي إلى عوالمٍ غير مطروقة، دون القلق المصاحب لعمليةِ الكتابة ذاتها، المسكون بالقشعريرة، بالأساطير، بالأمثال، بالاستعارات، بالكلمات النادرة، بالصيحات، بالقوافي، وبالشرارة التي تقفز من صفحة إلى أخرى، والأهم من كل ذلك: بمحبة وبشغف مُطلَقين. وحين أفعل ذلك، أشعرُ كما لو أنني أختلق ذلك فقط، رغم أن الكتابة السردية على عمومها، ليست سوى (اختلاق " ليس بمعناه اللغوي" )، لكنه اختلاق لذيذ وصادق، يُحسُّ المرء وهو يطالع ما كُتِب بأنه كُتِب من أجله، وفي سبيل وجعه، وألمه، وهواجسه.
أحيانا أقول؛ أنّه مهما عشنا الحلم، أيّاً يكُن ذلك الحلم، فإننا لا نستطيع تحويله إلى واقع متحقّق، أو إلى قول، إلا في الروايات، حيث يستطيع الروائي وهو يلعب دور الخالِق، بلمسةٍ لغويةٍ سحرية، أن يصطاد الأحلام بكامل تفاصيلها. وهو يفعل هذا عبر القيام بعمليةٍ سريالية، فيها يتحقق المُتجسّد الروائي المتكامِل. ولكي تكتمل دورة هذا المُتجسّد، ينبغي أن يختلق عوالمه المكانية من مدنٍ، وبراري، وقرى، وأرياف، بحيواناتها، وإنسانها الافتراضي. ومن ثم يتحتّم عليه أن يضع له: مواصفاته وسماته. يُميته ويُحييه. يعود فيغزُل الخيوط من جديد، يمنحه وجهاً، له أفكار وطقوس وتعويذات. وجهاً نعرفه في بيتنا، عند أصدقائنا، عند أقربائنا، في طفولتنا وشيخوختنا، أو على الأقل في الحارة، أو في المدرسة، أو في الجامعة، أو في النادي. يواجه نفس المشاكل؛ التي يُعاني منها بطلنا الافتراضي، نفس الظلام المُطلق، النّور المُطلق، اليأس الأخير، والأمل الأخير. يشتركان في عنفوانهما، في ثورتهما، في حالاتِ عشقٍ جارفة، وفي الثمن الذي ينبغي أن يدفعاه جرّاء سلوكهما. ها هو ذا بطلنا الافتراضي، يسير في الهجيرِ وحمّارة القيظ، وحيداً مثل درويشٍ عجوز، تائهاً في شكوكه، يتعثّر في وِجهته، مثخن بالجراح، ينتحب ألماً، خائر القوى، يتصبّب عرقاً، يائسا. هل سيتنصر؟ هل سينهزم؟ هل سيموت؟ هل سيحيا؟ إلى أين ستفضي به الحال؟ وأيُ حياة يقتضيها وجوده؟ نحن لا نعرف بكل تأكيد، والكاتب لا يعرف، لأنه سيمضي في الحكِي دون أن يعرف إلى أين سيصل، أو حتى يعرف إن كان سيصل إلى أي مكان، فكل شيء يمشي على عواهِنه، دون تدخل غير مُلزم، ولكن هذا ما تقرّره الصفحات القادمة، وِفْق الحكاية، وِفْق الحبكة السردية، وِفْق الفلاش باك، ووِفْق ما ينصبُ في صالح النص. كما نعرف أن الروائي "الخالِق"، لن يهتم كثيراً بمصير مخلوقاته من الناحية الشخصية. قد يتحاور معهم، قد يتعاطف معهم، قد يبكي لأجلهم، وقد يفكر فيهم كل الوقت، لكنه يمضي قُدماً على أية حال، ولن يرحمهم. لا يسمح لنفسه بأن يكون حسّاساً، بأن يكون عاطفياَ، بأن تسيطر عليه مشاعر الشفقة، لا يفكر بالناس ولا الحيوانات، لا بالدم ولا الدموع، ولا بالفضائل والأفكار. إنه يُحِبُ كل هذا، مع ذلك سوف يترك الأمر لقدَرِ الحكاية، يترك الحبل يسير مع القارب، إلى أن يبلغ الضفاف، باحثا عن روافد صغيرة وراء الأفق الآخر، عن مَرْسَى معلوم.
وربما بعد ذلك، بعد أن يكونوا قد ماتوا، أو تاهوا، أو انتصروا بعد معاناة، أو عشقوا بعد عذاب، سيفكر فيهم، كثيرا، وقد يندم لأنه "خلقهم"، وابتدع لهم مصيراً تعيساً كهذا. وبالطبع لن يجد السلام، فهم لا يبارحون روحه، ولهذا وحتى يحصل على السلام وعلى الطمأنينة، يختلق كائنات أخرى موازية، يعيش معها السلام الذي يرجوه، لكنه قد يرتكب نفس الغلطة التي عذّبتهُ، ويندم مرة أخرى.
وهكذا دائماً، تستمر المداورة العجيبة. قال ماريو برْغاس يوسا؛ بأننا نطارد القصص كي نتحرّر منها. لكننا لا نتعلّم من الدّرس، ونُكرّر الأمر ذاته، ونختلق العوالم السردية مجددا، نُمارس معها كل أنواع الظلم والاضطهاد البشريّين، فالقسوة كما يقول جوزيه ساراماغو "اختراع بشري". ويمكننا قبل أن تُنكّل الحكاية بأرواحنا، ونغرق في اليأس، حين نرى أن لا طائل من الاستمرار في الكتابة، أو ملاحقة الشخصيات عندما تتعقّد مشاكلها، أو عند ما لا نتّفق مع السّارد، أن نعود إلى قراءة الكتُب، أو مراجعة مقطع من مسرحية "العنبر رقم 6" لأنطون تشيخوف، وآخر من "عرس الدم" للوركا، ثم نتوقف عند "الملك لير" لشكسبير. فإذا رأينا أننا قد شعرنا بشُحنات كهربائية، تدفع بنا إلى مواصلة الكتابة، واختلاق الكثير من القصص، عُدنا إلى شُخوصِنا، وطوّرناها، وصارت أكثر تمايُزاً من الشُّخوص الأخرى، بحيث تستطيع أن تقول من بين عشرات الشخصيات: "أنا موجود"، وصار هناك أبطالا ثانويين، وأبطالا رئيسيين، يأخذون بعُنق الحكاية، حتى أصبحوا هم ونحن سواء، على غرار ما قاله فلوبير ذات مرّة: " أنا مدام بوفاري". يمكنني أن أقول أنا أيضا؛ " أنا بشير الزّين" في رماد الجذور، و "لاكْ تانكيه " في سيمفونية الجنوب، و"دُنقس" في الجزء الأخير من الثلاثية، التي سأنتهي منها في غضون عدة أشهر. هذا إذا أعانتْني مقولة درويش " حظ المهارة إذْ تجتهد" على مواصلةِ الكتابة، في خِضم الإحباطات، والتجاذبات الحياتية المُتراكمة.
طاهر النّور
أحيانا أقول؛ أنّه مهما عشنا الحلم، أيّاً يكُن ذلك الحلم، فإننا لا نستطيع تحويله إلى واقع متحقّق، أو إلى قول، إلا في الروايات، حيث يستطيع الروائي وهو يلعب دور الخالِق، بلمسةٍ لغويةٍ سحرية، أن يصطاد الأحلام بكامل تفاصيلها. وهو يفعل هذا عبر القيام بعمليةٍ سريالية، فيها يتحقق المُتجسّد الروائي المتكامِل. ولكي تكتمل دورة هذا المُتجسّد، ينبغي أن يختلق عوالمه المكانية من مدنٍ، وبراري، وقرى، وأرياف، بحيواناتها، وإنسانها الافتراضي. ومن ثم يتحتّم عليه أن يضع له: مواصفاته وسماته. يُميته ويُحييه. يعود فيغزُل الخيوط من جديد، يمنحه وجهاً، له أفكار وطقوس وتعويذات. وجهاً نعرفه في بيتنا، عند أصدقائنا، عند أقربائنا، في طفولتنا وشيخوختنا، أو على الأقل في الحارة، أو في المدرسة، أو في الجامعة، أو في النادي. يواجه نفس المشاكل؛ التي يُعاني منها بطلنا الافتراضي، نفس الظلام المُطلق، النّور المُطلق، اليأس الأخير، والأمل الأخير. يشتركان في عنفوانهما، في ثورتهما، في حالاتِ عشقٍ جارفة، وفي الثمن الذي ينبغي أن يدفعاه جرّاء سلوكهما. ها هو ذا بطلنا الافتراضي، يسير في الهجيرِ وحمّارة القيظ، وحيداً مثل درويشٍ عجوز، تائهاً في شكوكه، يتعثّر في وِجهته، مثخن بالجراح، ينتحب ألماً، خائر القوى، يتصبّب عرقاً، يائسا. هل سيتنصر؟ هل سينهزم؟ هل سيموت؟ هل سيحيا؟ إلى أين ستفضي به الحال؟ وأيُ حياة يقتضيها وجوده؟ نحن لا نعرف بكل تأكيد، والكاتب لا يعرف، لأنه سيمضي في الحكِي دون أن يعرف إلى أين سيصل، أو حتى يعرف إن كان سيصل إلى أي مكان، فكل شيء يمشي على عواهِنه، دون تدخل غير مُلزم، ولكن هذا ما تقرّره الصفحات القادمة، وِفْق الحكاية، وِفْق الحبكة السردية، وِفْق الفلاش باك، ووِفْق ما ينصبُ في صالح النص. كما نعرف أن الروائي "الخالِق"، لن يهتم كثيراً بمصير مخلوقاته من الناحية الشخصية. قد يتحاور معهم، قد يتعاطف معهم، قد يبكي لأجلهم، وقد يفكر فيهم كل الوقت، لكنه يمضي قُدماً على أية حال، ولن يرحمهم. لا يسمح لنفسه بأن يكون حسّاساً، بأن يكون عاطفياَ، بأن تسيطر عليه مشاعر الشفقة، لا يفكر بالناس ولا الحيوانات، لا بالدم ولا الدموع، ولا بالفضائل والأفكار. إنه يُحِبُ كل هذا، مع ذلك سوف يترك الأمر لقدَرِ الحكاية، يترك الحبل يسير مع القارب، إلى أن يبلغ الضفاف، باحثا عن روافد صغيرة وراء الأفق الآخر، عن مَرْسَى معلوم.
وربما بعد ذلك، بعد أن يكونوا قد ماتوا، أو تاهوا، أو انتصروا بعد معاناة، أو عشقوا بعد عذاب، سيفكر فيهم، كثيرا، وقد يندم لأنه "خلقهم"، وابتدع لهم مصيراً تعيساً كهذا. وبالطبع لن يجد السلام، فهم لا يبارحون روحه، ولهذا وحتى يحصل على السلام وعلى الطمأنينة، يختلق كائنات أخرى موازية، يعيش معها السلام الذي يرجوه، لكنه قد يرتكب نفس الغلطة التي عذّبتهُ، ويندم مرة أخرى.
وهكذا دائماً، تستمر المداورة العجيبة. قال ماريو برْغاس يوسا؛ بأننا نطارد القصص كي نتحرّر منها. لكننا لا نتعلّم من الدّرس، ونُكرّر الأمر ذاته، ونختلق العوالم السردية مجددا، نُمارس معها كل أنواع الظلم والاضطهاد البشريّين، فالقسوة كما يقول جوزيه ساراماغو "اختراع بشري". ويمكننا قبل أن تُنكّل الحكاية بأرواحنا، ونغرق في اليأس، حين نرى أن لا طائل من الاستمرار في الكتابة، أو ملاحقة الشخصيات عندما تتعقّد مشاكلها، أو عند ما لا نتّفق مع السّارد، أن نعود إلى قراءة الكتُب، أو مراجعة مقطع من مسرحية "العنبر رقم 6" لأنطون تشيخوف، وآخر من "عرس الدم" للوركا، ثم نتوقف عند "الملك لير" لشكسبير. فإذا رأينا أننا قد شعرنا بشُحنات كهربائية، تدفع بنا إلى مواصلة الكتابة، واختلاق الكثير من القصص، عُدنا إلى شُخوصِنا، وطوّرناها، وصارت أكثر تمايُزاً من الشُّخوص الأخرى، بحيث تستطيع أن تقول من بين عشرات الشخصيات: "أنا موجود"، وصار هناك أبطالا ثانويين، وأبطالا رئيسيين، يأخذون بعُنق الحكاية، حتى أصبحوا هم ونحن سواء، على غرار ما قاله فلوبير ذات مرّة: " أنا مدام بوفاري". يمكنني أن أقول أنا أيضا؛ " أنا بشير الزّين" في رماد الجذور، و "لاكْ تانكيه " في سيمفونية الجنوب، و"دُنقس" في الجزء الأخير من الثلاثية، التي سأنتهي منها في غضون عدة أشهر. هذا إذا أعانتْني مقولة درويش " حظ المهارة إذْ تجتهد" على مواصلةِ الكتابة، في خِضم الإحباطات، والتجاذبات الحياتية المُتراكمة.
طاهر النّور
Bei Facebook anmelden
Melde dich bei Facebook an, um dich mit deinen Freunden, deiner Familie und Personen, die du kennst, zu verbinden und Inhalte zu teilen.
www.facebook.com