عادل عصمت - سطوة الجمال.. قصة قصيرة

(1)

جمال النساء مُقلِق، خاصةً إن كان جمالًا به تمهل في الحركة ورقة في نطق الكلمات وتسبيل للعينين، كما بدا جمال «بثينة» زوجة «عبد الرحمن». الجمال المحتمل في «نخطاي» جمال مخدوش، به شرخ يجعله أليفًا ومرحًا مثل جمال الخالة فاطمة الصلب مثل الحجر، أو جمال زينب فخر الدين الذي يكشف نقصه الفم الواسع، أو جمال تحية الذي كاد أن يحرق البلد حتى أصيبت بالبهاق.

ذلك النوع المكتمل من الجمال مُربِك، يثير المخاوف والشكوك، له حضور صاخب توشك معه الحياة في كل لحظة أن تختل. كل يوم تطلع فيه الشمس وتتحرك المرأة الجميلة من باب الدار عابرة الجرن أو في طريقها إلى ماكينة الطحين، تترك وراءها انطباعًا بأن هناك شيئًا سريًا على وشك الحدوث، ممّا يُهدِّد الحياة المشغولة بصيانة نفسها؛ الحياة التي يتغلغل فيها الحرص حتى يصل إلى جمع حبوب القمح التي تناثرت من الغربال، وبقايا الأجران والمحاصيل والطحين، وكل ما يمكن أن يساعد عجلة الحياة على الدوران.
(2)

في يوم زفاف «بثينة»، وقفت الخالة «رتيبة» على عتبة الدار ساهمة. انبعثت المخاوف المطمورة في قلبها وهمست لنفسها: ربنا يستر. استعاذت بالله من الشيطان الرجيم. مخاوفها بدأت في يوم خطبة عبد الرحمن عندما رأت جمال «بثينة»، فهي تعرف أن المرأة الجميلة كالنار، يجب الإحاطة بها ورعايتها حتى لا تتسلل من وعائها وتحرق الدار. شعرت بالأعباء تتراكم على كتفها، فهل يداوي هذا العرس جراح الدار التي فقدت نوارة الشباب؟ حسين ابنها البكر الذي تخرج من الكلية في يوليو/تموز 1973 واستشهد بعد ثلاثة أشهر في معارك أكتوبر من نفس العام. لم يداوِ الجراح ذلك العِز الذي غمر الدار بعد سنوات من الشقاء بسبب التعويضات التي صرفتها الحكومة لأسرة الشهيد، فهل يداويها زواج عبد الرحمن؟

تقف على العتبة في انتظار جهاز ابنها، تحاول أن تُطمئِن نفسها وتُبعِد عن ذهنها الأفكار المُقلِقة، وتقنع نفسها بأنها قادرة على صيانة حياتها مثلما فعلت بعد موت زوجها وكان أولادها الثلاثة ما زالوا مثل كيزان الذرة الغضة. لكنها تفكر أن انقلاب الأوضاع لا ينتهي دائمًا على خير. الأرض التي اشتروها بما يشبه العوض عن روح حسين، تخاف منها ومن محاصيلها، فما أُعطي لها من قبل الحكومة لا يمكن رفضه وأيضًا لا يمكن الارتياح لوجوده؛ فالناس لا تقبل «العوض» في الأشياء الضائعة، فكيف يمكن قبول «العوض» في الأرواح؟
(3)

يوم العرس كان يومًا مشهودًا، في الناحية كلها. كان الجو باردًا. جاء الجهاز فوق جرّار زراعي وثلاثة جِمال، وزُفت العروسة في سيارة فورد قديمة لأحد الأقارب. عبد الرحمن يلبس جلبابًا من الكشمير وعباءة ويُمسِك عصا من الأبنوس لامعة. وصلت العروس قبل المغرب، وعندما فُتح باب السيارة، أطلت بطلعة بهية: وجه مستدير مثل البدر، وعيون واسعة لامعة بلون عسل النحل، وفستان أبيض، وطرحة تحيط وجهها فيشع بالضياء.

رفرفت الزغاريد من كل مكان، من فوق الأسطح ومن على عتب الدور، ومن النوافذ، حتى الصبايا الصغيرات وضعن أكفهن أعلى أفواههن ورحن يتعلمن الزغاريد. جاء الشباب والبنات من كل مكان، من البلد والبلاد المجاورة، ليُشاهدوا أجمل بنات الناحية تُزَف إلى دار الخالة رتيبة. سهر الشباب حتى الفجر، كان حدثًا، وانتاب الجميع إحساس بالفخر بأن رجال نخطاي يستحقون أجمل النساء.
(4)

في تلك الفترة كانت الخالة رتيبة تصحو في الفجر، بانتباه ورغبة في أن تحاصر القلق، مُستغرِقة في أعمال الدار ومُتابعة لما يحدث في الأرض.

لم تترك لزوجة ابنها غير سبعة أيام وفي اليوم الثامن نادتها لكي تناولها المطارح من قاعة المعاش، وبدأت تدير بحزم شئون الدار.

بعد انتهاء الخبيز حكت للفتاة الموهومة بجمالها حكاية «حسين» ابنها الذي أنهى شهادته من هنا وراح إلى الجيش واستشهد في الحرب. كانت تشير إلى أن دمه لن يُنسى في قلب الأفراح.

في الأشهر الأولى بدا لها أن مخاوفها أثناء العرس كانت وهمًا. فقد أدارت الحياة بطريقتها الحاسمة، واستطاعت أن تحجب زوجة ابنها، وتمنعها من الخروج وأن تصبح «فرجة» البلد. أشركتها في كل الأعمال من الخبيز إلى الطحين وانتهاء بجمع الروث من تحت البهائم وعجنه وتشكيله أقراصًا تُنشر في الشمس، مُصرِّة على غمس هذا الجمال بطين الأرض، حتى تحد قليلًا من إشعاعه ومن الحياة الرخية التي يثيرها.

لم تعبأ الخالة رتيبة بأن عبد الرحمن أصبح «يلوي بوزه» ويغيم وجهه عندما يخرج في الصباح ليباشر الأعمال في الأرض. أوقفته ذات يوم أمام باب الدار وذكرته: «يجب أن تأخذ بالك، الحياة الرخية التي تحياها هي روح أخيك الذي لم يتمتع بالدنيا. أُخذ من باب مدرسته إلى باب القبر. دمه تحول إلى أطيان تزرعها، وبدلًا من أن تنغرس في الطين تسير على السكك بالجلباب المُزهر ترعى الأعمال». حدّثته بهذه الطريقة كي تواجه شكواه التي بدأ يجهر بها من معاملة زوجته بقسوة. أدركت الخالة رتيبة بفطرتها أن المرأة راحت تُضيء ليل ابنها ويمكن أن يميل رأسه.
(5)

الخالة رتيبة –كعادتها- استطاعت إحكام قبضتها على تفاصيل الحياة. أوقفت المخاوف التي سرت في النفس يوم العرس. لكن قلقًا غامضًا سيطر عليها في ذلك الصيف القائظ، وهي تراقب بطن زوجة ابنها، متعجلة أن تتكور تلك البطن، حتى تتوقف عن إثارة البريق؛ فما إن تتحول المرأة إلى «أم» حتى يتوقف –قليلًا- كونها جميلة.
(6)

ذات صباح اكتشفت نوعًا آخر من القلق أشد وطأة، فقد رأت ابنها «حسن» يقف شاردًا في وسط الدار يراقب زوجة أخيه تنحني لتجرف الرماد بالفأس من محمة الفرن. النظرة عميقة والوجه شارد مشدوه، فسابت مفاصلها وشعرت أن خيبتها قد اكتملت: تحمي الدار من أن تتسلل إليها النيران من الخارج، لكنها اشتعلت فيها من الداخل. عانت من الرعب في تلك الليلة، والقلق عدة ليال بسبب أفكار لا تتوقف بالخطر؛ فقد خيل إليها أن دم «حسين» بدأ يطرح أعشابًا شيطانية. الروح التي لم تعش حياتها بدأت تُفرِز سمومًا لتفسد الحياة التي لم تعشها.

مع دخول الخريف كلّفت «عبد الرحمن» أن يصحب أخاه الصغير إلى طنطا ويؤجر له شقة يُقيم فيها حتى ينهي دراسته الجامعية. ظنت أنها استراحت قليلًا. أخذت فرجة من الوقت حتى تستطيع أن تُدبِّر أمرها، وتجد سبيلًا لعزل النار عن الزيت. لكن العروس التي لم يظهر عليها بوادر الحمل، ازدادت جمالًا. الأعمال التي تفرضها عليها الخالة تزيدها تألقًا. خدودها تحمر ويلمع عرق كالندى على جبهتها، ويُبلل طرف المنديل الأحمر الذي تربط به شعرها الطويل المائل إلى الصفرة. عينها الواسعة العسلية تفيض بالحيوية، فتشابكت مخاوفها مع قلق لا يهدأ وربطت –بدون سبب معقول- بين جمال العروس وروح حسين التي تحوم حول البيت، تحاول بطرق خفية أن تستكمل حياتها الناقصة.

في الخميس التالي رأت حسن يقف أمام الدار وفي يده حقيبته. صرخت فيه:

– ألم أقل لك إن أخاك سوف يجيء إليك بالزوادة.

أفلتت منها الكلمات وظهر الغضب والتوتر فوضع «حسن» حقيبته بجوار الباب وانسل إلى داخل الدار. بينما وقفت ساهمة أمام الباب الكبير مُشمِّرة الذارعين وعلى كفيها بقايا التبن، لا تدري ماذا تفعل. في الصباح كلّفت «حسن» بأعمال في الأرض. لم تترك له مجالًا ليبقى في الدار، وفي الليل نادته كي ينام على كنبة بجوار سريرها الكبير ذي العمدان النحاسية.
(7)

سافر «حسن» هذه المرة، ولم يرجع إلى البلد لعدة أسابيع، وظنت الخالة أن الأمور سارت في طريقها المرسوم. ذات يوم في عمق الليل سمعت طرقًا على الباب. قامت من فراشها تتعثر في الأغطية، وسمعت خطوات عبد الرحمن يسبقها إلى الباب.

وجدوا «حسن» يقف شاردًا وقد جاء من طنطا ماشيًا. كان يرتجف وينظر حوله بهلع. قادته إلى الكنبة الكبيرة بجوار سريرها. ظل يرتعش تحت الأغطية ويخرف. بقي مريضًا عدة أيام، وعندما أفاق، حكى عن العفاريت التي تطارده في شقة في طنطا، ولم يكن هناك بد من أن يقيم قليلًا في البلد.

واصلت الخالة بحثها عن طريق تعيد بها حسن إلى شقته، حتى استطاعت إقناع بعض شباب العائلة أن يسكنوا معه لكنهم هربوا بعد أسبوع لأن حسن يقوم من النوم صارخًا، ويظل يرتعش ويقول إنه سوف يقتلها، سوف يضع السكين في بطنها، ومرة أخرى وجدوا حسن في منتصف الليل يقف أمام باب الدار، جبهته مُتعرِّقة من المشي في الليل، ومريضًا يرتعش وأسنانه تصطك.
(8)

من الصعب أن يربط أحد بين رجوع حسن من طنطا في منتصف الليل هربًا من العفاريت وبين حبه لزوجة أخيه، لم يكن هو نفسه يدرك هذا الهوس بجمال زوجة أخيه الذي اعتصره وتركه مريضًا، لا يقوى على الرؤية. التفسير المقبول هو أن عملًا قد ُعمل له، وأقنعت الخالة نفسها بالأمر لكن شعورًا بالقلق يناوشها وظلت تشعر بشكل غامض الصلة بين مرضه وجمال زوجة أخيه.

لم تنفع الرقيات ولا زيارة المشايخ، ولا الصلوات في الجامع ولا الابتهال إلى الله بالإنقاذ، كل ذلك لم يوقف الحب. الجسد له قانونه السري، يفرض شروطه، وبدا أنه لا مفر من أن يبقى حسن في الدار، يسافر بالقطار كل يوم إلى الجامعة، ويعود آخر النهار. هذا ما يريده الجسد بسرية وعزم، يستريح في الدار، ينام في المجال الذي تنام فيه منْ يرغب فيها، فكفت العفاريت عن مطاردته.
(9)

في شهور الشتاء بدا أنه تعافى. أمسكته أمه من معصمه. أوقفته بجوار صومعة الغلال على رأس السلم وقالت:

– بطل لعب العيال، وسافر، ذاكر دروسك، أنقذ نفسك وأنقذنا، يكفي ما حدث لنا، ألّا تفكر في أخيك، دمه ما زال يحيطنا.

تركته غاضبة، ونزلت السلم مُتعجِّلة. ساخطة من أن إرادتها لا تجد مجالًا للنفاذ. التوتر يغمر قلبها. الخوف من الكارثة القادمة يلوح في الجو، كل ذلك جعلها لا ترى ما حولها. تعثرت في درج السلم، وتدحرجت وكُسرت ساقها.

رقدت تتأوه في باحة الدار. حملها عبد الرحمن وحسن إلى المستشفى في طنطا، والفترة التي قضتها هناك لم تترك مجالًا لحسن أن يفارقها حتى عادت إلى البلد.

لم يُعالَج الكسر بطريقة صحيحة. ترك للخالة رتيبة فوق آلام روحها آلامًا في الساق، وعندما أخبروها بأن الساق لابد أن يكسر مرة أخرى، ويعاد تجبيسه أعلنت: لو قضيت عمري على عكاز لن أدخل باب المستشفى مرة أخرى. وراحت تباشر أعمالها مستندة على عكاز من خشب السنط. أصبحت حركتها بطيئة. تؤدي أعمالها وهي تتأوه وتجلس طويلًا على المسطبة في مدخل الدار مُتعبة.
(10)

هذه الفترة تجلت «بثينة»، وراح صوتها يرتفع هنا وهناك، لكن الخالة رتيبة تعرف –مع ضعفها- كيف توقف هذا البريق. تركتها تتغندر ثم قالت لها ذات يوم: «لما أنت شاطرة، وصوتك عالي، هاتي لنا الولد يملأ علينا الدار». غام وجه بثينة وخطفت طرحتها من فوق المسطبة وطلعت إلى غرفتها، ولم تظهر إلا بعد أن ناداها عبد الرحمن أن تنزل لتحلب البهائم.

أدركت الخالة رتيبة أن شركًا يُنصب، وأن غموضًا يسري في الأجواء، الصمت يُغلِّف حركات عبد الرحمن وحسن يتوارى عنها. الغموض يحرقها ويجعلها غير قادرة على البقاء ساكنة. يوم الجمعة أصرت أن يحزم حسن ملابسه ويأخذ الزوادة ويسافر ليعيش في شقته، حتى لو أكلته العفاريت.

في الصباح نزل عبد الرحمن غائم الوجه، يكبس الطاقية، وعندما سألته عمّا به قال بطريقة غامضة: «لا تشغلي بالك». في المساء تربصت به، وأجلسته بجوارها وأصرت أن تعرف ما به. لماذا هو متبدل الحال؟ حتى باح لها بما كانت تخشى أن يحدث. لقد تحرش حسن بزوجة أخيه في غرفة المعاش. قالت له وهي غير قادرة على أن تمسك نفسها: «رد الباب».
(11)

في الفجر حزمت صرة صغيرة فيها عدة أرغفة من الخبز وقطع من الجبن القديم، وارتدت جلبابها الأسود، وانتظرت في موقف السيارات حتى بدأت أول سيارة تشق طريقها إلى طنطا في ضباب الصباح. عندما فتح حسن باب الشقة وجدها أمامه، لم يكن هناك مجال لكي يسأل كيف عرفت الطريق إلى الشقة وهي لم تجئ هنا غير مرة واحدة. الطرحة محبوكة بإحكام حول وجهها والحزم باد، والعصا التي تستند عليها مشدودة بين الأرض وبين كفها. أزاحته، دون كلمة، بلمسة من العصا إلى صدره، ودخلت الشقة. فتحت الشبابيك وتمددت على الفراش، لاحظت أن الدم قد انسحب من وجه حسن واعتبرت ذلك علامة الخطيئة.

ظلت مقرفصة على السرير، وحسن يجلس إلى المكتب، يحدق في كتبه، غير قادر على الكلام، وكلما حدّثها لا ترد عليه. لم تتأوه مرة أخرى من ألم الساق، ولم توجه إليه كلمة واحدة من لحظة دخولها من الباب. في اليوم التالي لم تطلب منه أن يوصلها إلى موقف السيارات، ظلت جالسة مكانها على السرير. يروح إلى الكلية ويعود ويجدها قد أعدت طعامه وعادت إلى مكانها، وبنفس طريقة الجلوس، في الليلة التالية أرهقه الانتظار، فسأل:

– هل حدث شيء في البلد؟

رفعت رأسها وقالت:

– جئت لتخبرني أنت بما حدث.

بدا لها على الفور من تبدل وجهه وحبس أنفاسه أنه فعلًا تهجم على زوجة أخيه. براهينها داخلية، حدوس سريعة كالشرر، تتلقاها بيقين من مصادر معارفها الغامضة، من ملامح الوجوه ونظرات الأعين، ونبرة الكلام. لا تنتظر كلامًا يُضلِّلها عن الحقيقة. صمتها العارف وصل إلى ابنها، فقال بصوت خافت:

– والله لم ألمسها، هي التي قالت لي تعال حططني… كانت تحمل قُفة القمح على رأسها… هي التي نادت.

قالت:

– وحططتها؟

وقامت واقفة. لم يظهر من كسر الساق غير ميل جهة اليسار. استندت على المكتب بكفها وأمسكت العصا باليد الأخرى، وبسطوة غضب يعمل كالحريق في قلبها ومخاوف تسري في دمها وشعورًا بأن حياتها قد تبددت وأن الفساد قد عم دارها، أخذت تضرب بالعكاز، بعزم، وبدون وعي. لم يفعل «حسن» غير أن حاول تجنب ضربات العصا التي تتوجه إلى رأسه، حتى أصبح في وضع القرفصاء. رأسه مدفونة بين ساقيه. قد تكون سمعت طقطقة عظامه، لكن ذلك لم يعد مهمًا:

– امرأة أخيك يا كلب.

جلست على طرف السرير تتلاحق أنفاسها، وهو لم يرفع رأسه من بين ساقيه.
(12)

في الطريق إلى البلد. تنظر من نافذة السيارة إلى ضوء الشمس يغمر الأرض الواسعة التي نضج قمحها، تتراجع بعيدًا إلى الوراء. تتابع ذلك التراجع غير المتناهي شاردة، تفكر أن الخيانة في دمه. فرع معوج من يوم ولادته، وبدا حزنها مصرورًا، أفضل الأبناء مات في الحرب، ولم يبق لها إلا هذا الخائن، وأخوه الكبير العويل. لم يبق لها إلا الخائن والعويل.

دخلت الدار بعد مضي ثلاثة أيام من مغادرتها. تمدّدت في الفراش متعبة مريضة. الضرب الذي تلقاه حسن، كان موجهًا إلى جسدها، تشعر بالكدمات والآلام في نفس الأماكن التي تظن أن العصا وقعت عليها من جسده، كأنها تعرف خريطة الضربات التي انهالت على جسد ابنها. ظلت راقدة في الفراش لا تريد أن تفارقه، بعد مرور عدة أيام، ظلت الدار فيها صامتة، الخيانة جعلت الجو مُخيفًا، أطلّ عليها عبد الرحمن، وذهب إلى الوحدة المجمعة وعاد ومعه الطبيب ليكشف عليها كشفًا مخصوصًا.

بعد عشرة أيام قامت من فراشها. نادت عبد الرحمن. قالت بحزم:

– اسمع ما أقول ونفذه بالحرف، بلا سؤال ولا جواب… امرأتك تلم هدومها وترجع إلى دار أبيها.

وقف عبد الرحمن مذهولًا:

– يا امه البنت مظلومة.

نطرت جسدها من فوق السرير، واتجهت إلى عصاتها:

– أنا هلم هدومي، وأمشي من بلاد الله لخلق الله.

أدرك عبد الرحمن أنه لا مناص، لن تتنازل ولن تسمح بشيء آخر.

عدة أيام مرت، عبد الرحمن لا يقوى على الحديث، شاردًا مصدومًا يُكلِّم نفسه على الطرق الضيقة الساكنة بين الغيطان وهو يتنقل بين الأراضي. البيت مظلم، ساكن، ينتظر اللحظة الحاسمة التي لم يكن عبد الرحمن قادرًا عليها. الهمس لا يتعدى الصدور، والأفكار مُشوَّشة، والخالة ساكنة في أرجاء الدار تتحرك ببطء مستندة على عصاتها.

بعد أسبوع أخذ عبد الرحمن زوجته وأعادها إلى بيت أهلها. تساءل الأقارب عمّا حدث، حتى ترجع الجميلة من حيث جاءت. أغلقت الخالة أبواب الكلام واستخدمت كامل فطنتها وردت بحسم:

– لا شيء، لم يحدث شيء، المرأة بائرة، لا يُنبت فيها زرع ولو سقاها بحر النيل بحاله، الجمال ليس صالحًا لحياة مثل حياتنا، حياتنا شقاء، لا تنفعنا البنات التي تُلف في الحرير، شقاؤنا يحتاج إلى امرأة عادية من صنفه.
(13)

في العام التالي تزوّج عبد الرحمن من فتاة عادية من البلد، وظل حسن مُقيمًا في طنطا لا يرجع إلى البلد إلا في الأعياد. بعد عام أنجب عبد الرحمن أول أبنائه، وبعد مرور سبع سنوات كان عنده ثلاثة صبيان. الخالة رتيبة لا تزال تدور في الدار، على عصاتها، لم يزد عليها غير أنها راحت تتحدث إلى روح «حسين». تظهر لها من حين إلى آخر، وتحكي عن أن حسين ما زال شابًا في الجنة. في الدنيا الناس يطولها الشيخوخة والفساد أمّا هناك لا شيء يفسد. كل شيء يبقى طازجًا طريًا كأنه في حالة ولادته الأولى. يكتسي وجهها بالفرح كأنها قد رأت «حسين» هناك يتجول بين أشجار الجنة، بين الحور العين، يجلس على إستبرق، ويختار له واحدة لم يمسسها من قبل إنس ولا جان.
(14)

بعد مرور السنوات نُسيت المرأة الجميلة، لكن أثر وجودها ظل حيًا في القلوب. الخالة رتيبة تعرف ذلك. لم يرجع حسن إلى البلد بعد أن تخرّج من كلية التجارة، وافتتح مكتبًا للمحاسبة في الشارع الرئيسي في طنطا، أحيانا تزوره –متناسية الموضوع القديم- وتحدثه عن الزواج، وتعرض عليه بنات من الأقارب، أو تسأله عن بنات بعض الأسر الطيبة هنا، لكن حسن بدا كأنه لم يعد يطيق سيرة النساء، لم يعد يهتم بأمرهن. عاش وحيدًا إلى أن تخطى الأربعين.

آخر مرة تحدثت فيها معه عن الزواج، كانت على فراشها في الدار وهي تودع الحياة. يومها طوّح رأسه مُبتسمًا، فصمتت حزينة، عرفت أنها حمت الدار من الخراب وحمت أولادها من الاقتتال من أجل امرأة، لكنها لن تتمكن من حجب الكراهية عن قلوبهم، التي تفجرت بعد موتها عندما كانوا يتقاسمون الأرض ورفع عبد الرحمن الفأس يريد أن يقتل أخاه.

ماتت الخالة رتيبة حزينة حائرة، وهي تنظر إلى وجه حسن وتعرف أنه لن يتزوج أبدًا، وأنه سيعيش أسير فتنته بزوجة أخيه، يومها رفعت عينيها تجاه النافذة المفتوحة، وسألت بصوت خفيض:

لِمَ يخلق الله النساء الجميلات؟

(تمت)
أعلى