باسم القاسم - التاريخانية الجديدة والهايكو الياباني (1)

(1)

لعلي في طرح هذا النسق من الأفكار حول الهايكو قصيدة الشعر الياباني* الأكثر تداولاً في هذه الآونة عالمياً أفتح أفقاً جديداً بين تداولات بين المهتمين والرواد من العرب لهذه القصيدة وهذا الفن الشعري أخذت سمة المراوحة بالمكان في حالة من الإزمان تركّزت على مقولات منقولة أو مترجمة أو فيها شيء من الاجتهاد صبّت اهتمامها بتركيز على البيت الداخلي لنص الهايكو وخصوصيّته الأدبية بذاته ولذاته وهو اهتمام ضروري يرقى إلى مستوى الوجودي في حياة الهايكو عند الكتّاب العرب ولكن لابد من تكامل من نوع ما يأخذ موضوعة الهايكو بكل حذافيرها خارج النص وداخل النص
ولكن ما نريد أن ننحو نحوه مع موضوعة الهايكو الياباني يختلف عن ما يطرح في ساحات الفكر الابداعي العربي ن حيث التركز على سياق تاريخي مختصر من حيث تاريخ نشأتها وأعوام آبائها وحياتهم الحافلة
هنا سنقدمها بطريقة " تاريخانية New Historicism " نريد من خلاله عرض خصوصيات فاعلة في المجتمع الياباني تجعلنا نعرف لماذا وكيف نرى الحديث عن الشعريّة اليابانية في نص الهايكو يقبل مفاهيم ويرفض أخرى عند كتاب الهايكو من غير اليابانيين وكيف أن هذه الخصوصيات الفاعلية تشكل قدر من أقدار الهايكو في حال عدم توفرها في نص فإنه يخرج عن هذا التصنيف كـ هايكو
لن نأخذ من هذه التاريخانية كمنهج أدبي إلّا بضعة سطور تختزلها وتعطي وجهة نظرها وحسب لندخل بعدها إلى صلب موضوعنا .
قامت التاريخانية الجديدة استنادًا إلى فرضية أن العمل الأدبي ينبغي أن يكون نتاج زمان ومكان وظروف، أكثر من كونه نتاج عمل منفرد في خلقه لقد حاول التاريخيون الجدد فهم العمل الأدبي من خلال سياقه التاريخي وفهم التاريخ السياسي والثقافي من خلال الأدب، والذى يقود إلى علم جديد وهو(( تاريخ الأفكار)) ظهرت لأول مرة عام 1980 في الولايات المتحدة الأمريكية مع أعمال الناقد الأدبي ستيفن جرينبلات في كتاب الصدى والأعجوبة عام 1990/
ولعلي سأتناول بشكل محوري يخدم الموضوعة مباشرة وأبدأ بشعر " الواكا " أشهر وأهم وأبرز نتاج ياباني شعري على الاطلاق فنحن لا نشير وحسب إليها بذاتها وإنّما نسحب معها "التانكا والهايكو " من ناحية أنّها امتداد تاريخي بذهنية المجتمع الياباني تجاه الفنّية التقليدية في الشعر الياباني وحتى أغانيه منذ تاريخ اليابان الضارب في القدم وحتى نهايات القرن التاسع عشر ولن نخوض أكثر من ذلك حول مراحل توليد التانكا* والهايكو من الواكا وربما نخصص لها مقال آخر
ثمّة واقع سياسي مهيمن في الفترة الممتدة بين نهايات القرن الثامن وبدايات القرن التاسع في اليابان حين نقول "كانشي" نعرّفه بداية أنّه شعر صيني ولكن في موضوعنا هنا فنحن تاريخانيّاً نقصد تماما الشعر الذي ساد في اليابان و المتأثر بالثقافة الصينية والمكتوب بالرسوم الصينية "كانشي" ولعلّه أخذ مجدهُ في بدايات عصر "هييان" ع المائة سنة الأولى ن ذاك العصر مع أيقونته الشاعر "ميتشيزاني " والذي قصائده تلتزم بشدة بقواعد وصيغ الشعر الصيني وتكتب بحروفه كانشي حيث كان البلاط الامبراطوري والأرستقراطية اليابانية تعيشان تحت هيمنة الثقافة الصينية الشديدة , الرجال كموظفين في البلاط كانوا يمثلون الأوساط الثقافية آنذاك وكان من المفروغ منه أن يدونوا أعمالهم الأدبية وليس فقط بالأمور السياسية والاقتصادية بالحروف الصينية وبالأسلوب المعروف بـ "كامبون" وهي شكل هجين صيني ياباني ولكن لا علاقة له باللغة الياباني المحكيّة
ولكن حين نقول " الواكا " فنحن تاريخانياً نقصد الشعر الياباني حين ثبت بحضوره وحيويته ومعانيه عتبة تاريخية استقلّت بهذا الأرخبيل الوطن عن أيّة هيمنة وخصوصاً عن الصينية وهذا في تلك الفترة يعد كافياً لتحقيق هذا الهدف . هذه الواكا لفظت وغنّيت بالأبجديتين "الهيراغانا والكاتاكانا" وهما ابتكار ياباني محض وجد كحاجة يابانية حيث أنها عمليّة تم تطبيقها على الرسم الصيني "كانشي" فأصبح التصويت والمقاطع الصوتية تحيلنا إلى معاني كان يقدمها الرسم الصيني "كانشي" و كأسلوب كتابي يطلق عليه "كانا" ولم تكن الواكا لتنفصل بجوهرها عن القراءة بصوت مرتفع وتكشفت حروف" الهيراغانا " عن قدرة استثنائية لمن يريدون تدوين هذه القصائد إن قصائد التانكا والهايكو تخضع لذات العملية التي أشرنا بها إلى الأم "الواكا" وللمفارقة فلقد وصل الحد مع " الواكا" أن تصبح الطريقة الوحيدة للتعبير عن المشاعر لحد أن علاقة حب ما لم تكن واردة دون الاعتماد على هذه الصيغة الشعريّة وهكذا لم يعد اليابانيون بإمكانهم الاستغناء عن حروف الهيراغانا والكاتاكانا و وأصبحت " الواكا" هي اليابانيون أنفسهم وهذه الظاهرة تحديداً هي التي جعلت عصر " هييان" عصراً ذهبياً في تاريخ اليابانيين وربّما سيكون جليّاً أكثر لو أذكّر نفسي والقرّاء أن الواكا كأهم قصيدة شعر في اليابان هي وقبل الـ "كانشي" كانت تكتب باليابانية القديمة ( ياماتو –كوتوبا) حيث أن العودة الصارخة للواكا اليابانيّة بأبجدية تخص اليابانيين بذاتهم ومن ابتكارهم بخصائصها الأدبية الهائلة ونفي الكانشي الصينيّة -مع ذكر هذه الملاحظة- سيكون لها معنىً عظيم الشأن لهذا الأرخبيل "وطن اليابان"
هل نحتاج لإحضار "الواكا" الأم في حديثنا عن مرحلة مصيرية وحاسمة في تاريخ اليابان السياسي ؟ نعم وهذا العجيب المتفرد في هذه الأمة في تلازم "السياسي مع الأدبي" حيث أن الشعر في أحلك الظروف في الزلزال الاجتماعي السياسي الذي ضرب الحياة اليابانيّة بين القرنين التاسع والعاشر ولتمتد وتهيمن مخرجاته على صعيد الأدب والشعر حتى نهاية القرن التاسع عشر كان شعر الواكا موطّداً للحكم ويستخدمه الآباطرة والبلاط بهذا الصدد بل يمنحهم ((وطنيّتهم)) أمام الشعب من حيث أنّهم حماة الشعب ومعهم الأمن والسلام .. حيث إن القرن التاسع الميلادي هو أول مائة سنة من عصر "هييان" لم يعرف ظهور أي مختارات شعريّة للواكا بأمر من البلاط إنه عصر للكانشي الصيني فقط , في حين كانت الواكا يتم تداولها بين الطبقات النبيلة الصغرى كان يتداولونها بـ" الهيراغانا والكاتاكانا" الموظفون الصغار, التجّار والبسطاء وصغار الكسبة حتى دور البغاء كانت تغنّى فيها الواكا إنّها الحالة الشعبية الحميمة مع هذا الوطن الأم بأبجديتها الخاصة به إنها باختصار شديد تعني الحريّة حقاً بأكثر تجلّياتها أبديّة وصيرورة في حياة الشعوب ألا وهي" القصيدة الشعريّة "وهذا ما حدث أمام التغوّل الثقافي الصيني .. هذا النموذج الأدبي كان المصدر لهذه الشحنة الوطنيّة الحرّة من خلال جماليات الواكا الشعريّة ليتم بعد ذلك في أوائل القرن العاشر انتقاله للإمبراطور والبلاط وموظفيه والمحاربين القادة في حدث تاريخي دراماتيكي سأختزله قدر المستطاع ببضعة أسطر/ عائلة فوجي وارا/ هيمنت وساعدت على توطيد الحكم في عصر هيان وتغلّبت على جميع القوى المنافسة لها عسكريا وسياسياً والمهم بالموضوع على صعيدين الأول -التآمر على " ميتشزاني أيقونة الكانشي" تسبب بنفيه إلى غرب اليابان وبعدها موته منفياً والصعيد الثاني - إن عدداً لا يستهان به من شعراء الواكا ينتمون لعائلات أقصاها آل "فوجي – وارا" إنهم من طبقات متواضعة داخل الأرستقراطية وجدوا أنفسه فجأة وقد أصبحوا من أعلام الثقافة حيث أن الأباطرة والقوى السياسية الأخرى من خلال رغبة حادة في الوصول إلى استقلال نسبي عن سلطة عائلة "فوجي – وارا" لم يجدوا إلّا أن يحبذوا هؤلاء الشعراء الموهوبين المتحدرين من طبقة نبيلة صغرى لقد أصبحوا ينالون تقدير واحترام عشّاق الشعر أولاً لجماليات الواكا كمنتج ياباني بحت بالإضافة إلى هذا الجو السياسي المحتقن الذي أبرزهم إلى الساحة وأعطاهم التقدير كإجراء معادي لهيمنة هذه العائلة وهذا السبب الأخير هو الذي كان له الدور الحاسم التي فرض نفسه أثناء صدور الأمر الامبراطوري بوضع المختارات الأولى للقصائد اليابانية " ديوان الواكا القديمة والحديثة " ومن جانب آخر ومهم أيضاً في هذا السياق فإن تلك الفترة تحت حكم الامبراطور المعتزل " أودا " وابنه من بعده " دايغو" هما من فتحا الطريق لهذه الحالة لأنهما وعلى الرغم من افتخارهم بـ "ميتشزاني عراب الكانشي الصيني " الذي نفاه في النهاية "أودا" إلاّ أنهما كانا عاشقين كبيرين لشعر الواكا وخصوصا " أودا" وقد يبدو مدهشاً حين نذكر أن هذا العشق للواكا كان دافعه ولعه بسحر النساء الذكيات , إن كل أحاديث الحب والجمال ودقة الوصف المشاعر الدقيقة والأحاسيس الرهيفة جميعها كانت محمولات قصيدة الواكا أساساً , ثلاث زوجات لهذا الامبراطور من بين أربعة عشر زوجة كن شاعرات موهوبات ساحرات بالواكا المكتوبة بالهيراغانا ومن بينهن من أثرت شعرياً بعصرها وهي "إساي"
وهكذا مع تجاوزنا وعدم ذكر أحداث وصراعات سادت بين القرنين التاسع والعاشر حيث أننا بصدد تاريخاني بحت فإن بداية القرن العاشر تعتبر منعطفاً حاسماً في تاريخ اليابان على الصعيد الأدبي الملازم والمؤثر في السياسي فقد كان ما يلي :
الانتقال الرسمي من شكل الكانشي الشعري الصيني إلى شكل الواكا اليابانية وإلى الأدب بحروف الهيراغانا , وانتقال من ثقافة ابداعيّة "كانشي" تسيطر عليها الارستقراطية العليا إلى معرفة إبداعية أوجدتها الطبقة النبيلة الوسطى, و انتقال تقديس الصين إلى احترام الدولة اليابانيّة
حين أصدر الامبراطور "دايغو" أمراً لإنجاز هذه المختارات من الجدير بالذكر أنه كلّف أربعة اشخاص واحد منهم فقط هو "كينو- تسورايوكي " من الطبقة العليا الارستقراطية أما الثلاثة الباقين فهم من طبقات متواضعة وذلك لأنهم كانوا ذوي مهارة فائقة الجمال في الواكا الواقع إن الامبراطور وجد فيهم نبض الشارع الياباني إن صح التعبير.

"يتبع"


___________________________________________________________________________
* قصيدة الهايكو :نمط شعري ياباني يوصف على أنه أصغر شكل شعري عالمي كنص قام على يد " ماتسو –باشو" والذي يعتبر معجزة الهايكو الياباني في العالم بنصه الشهير هايكو" الضفدع" مع مجموعة من معاصريه يطلق عليهم الآباء وأطلق على هذا النمط اسم " هايكاي" في تلك الحقبة إلّا أن هذا النمط لم يطلق عليه اسم " هايكو" إلّا مع نهاية القرن التاسع عشر على يد " ماسوأوكا – تشيكي" /
مراجع :
- محاضرات في التقاليد الشعريّة اليابانيّة /أوكا –ماكوتو/ ترجمة السوري محمد عضيمة
- مقدّمة تاريخ الهايكو الياباني / محمد عضيمة
- أنتالوجيا تاريخ الهايكو / ريو توسويا / ترجمة المغربي سعيد بو كرّامي
- دراسات / موت اللغة / باسم القاسم




تعليقات

لا توجد تعليقات.

هذا النص

ملف
هايكو
المشاهدات
1,035
آخر تحديث
أعلى