باسم أحمد القاسم - التاريخانيّة الجديدة والهايكو الياباني (2)

(2)

إنّها "كوكين واكا شو" وتختصر إلى " كوكين –شو " تضم 10100 قصيدة (واكا قديمة وحديثة) وللعلم أنها ليست أول مختارات ففي عصور اليابان القديمة لدينا " مانيشو" أي ديوان الألف صفحة باللغة اليابانية القديمة " ياماتو- كوتوبا" في منتصف القرن الثامن هناك 150 سنة بينها وبين "كوكين – شو" وهنا كان فرضاً أن يعترف الحكام والمحاربون أن رقّة شعر الواكا هي وحدها من يمثل القيم وجوهر المثال الجمالي الياباني وفجأة يتحول شكل الواكا الذي كان مخصوص كما أسلفت سابقاً في الطبقات النبيلة الصغرى والوسطى الموظفون الصغار, التجّار والبسطاء وصغار الكسبة إلى شكل رسمي في البلاط والواقع أن عبارة " موضوع بأمر الامبراطور "الموجودة "على رأس المختارات تعني "اختارها الامبراطور بنفسه " فتصور بعد هذه العبارة ماذا تعني من القداسة عند اليابانيين وصلتهم بالسلطة الحاكمة. إن الانسجام الذي هو جوهر الواكا الحقيقي الذي دعت له مقدّمة هذه المختارات هذه المقدّمة الراسخة في ذهن كل كتاب الشعر الياباني على مدة عشرة قرون أخرج الواكا من إطار فن شعري بسيط وأخذت على أنها خلاصة مبادئ الازدهار والسلام في اليابان وعلى الأباطرة والجنرالات احترامه وهكذا تستمر مختارات شعرية امبراطورية أخرى على مدى 500 عام وفي عهد 21 امبراطوراً متلاحقا لم تكن فيه مؤلفات شعرية وحسب بل كانت على الصعيد السياسي تثبت للجميع أن عهد الامبراطور والحكام الذين تحت مظلته هو عهد ازدهار وسلام
ولكن أين الفرق البنيوي بين الكانشي و الواكا ؟
إن بالضبط ما كان يقصده الصينيون بالـ "كانشي " هو أن يكون من الطبيعي إظهار "الأنا" في القصيدة وتؤكد بوضوح نفسها إزاء المجتمع كان التميّز والتمييز بل وحتى التناقض منذ الأساس موجوداً في "كانشي " بين الذات والموضوع
مع "الواكا" اليابانية هذه الأم العظيمة الحبلى بالتانكا والهايكو يندر جداً إثبات "الفاعل – الذات" أو الاشارة إليه في علاقاته مع المجتمع أو المحيط المباشر يتم في هذا الشكل الشعري عموماً إسقاط الفاعل الذات وغالباً ما ينظر إلى الذات والموضوع ليس في تناقضهما بل في جانبهما الاندماجي ولكن ما وراء هذا الالغاء للذات الفاعل إنه بدلاً من التعبير عن فرديته يذوب طواعية مع الطبيعة المحيطة به بغية التوحّد معها توحداً وحده هو الذي يتسامى بالأنا ومما يلفت النظر أن اليابانيين بطبيعتهم وحياتهم العادية عجزوا تماما عن التمييز بين الذات والآخرين كما عجزوا تماماً عن النظر إلى الخصومات والمواجهات بصفتها أشياء طبيعية .! لم تتبدل هذه الذهنية عندهم إلّا عندما بدأ التأثر الكبير بالفكر الغربي والعالم الحديث ونزعته الفردية مع نهايات القرن التاسع عشر .إنه أيها السادة مبدأ الانسجام الذي أطلقه "كينو –تسورايوكي" في مقدّمة المقدّسة" مختارات الواكا القديمة والحديثة إنّ هذه المقدّمة العظيمة تبقى ملازمة لجوهرانية التانكا والهايكو ولن نتفاجأ بعد ذلك أنّه في هذا العصر وهذا الأوان يوجد مليون شاعر واكا في اليابان فإنّه مع إعلان صدور الأمر الإمبراطوري في منتصف القرن التاسع بإنجاز مختارات الواكا القديمة والحديثة فإنّه لا يختلف باحث أو محاضر أو ناقد ياباني منذ تلك اللحظة التاريخية إلى بدايات القرن العشرين على أن تطوّر معنى الجميل ونضجه في الشعر الياباني بكل أصنافه مها تعددت وحتى في الأشكال الفنيّة الأخرى على أسس مقدّمة " كينو –تسورايوكي" للمختارات وذلك من أجل أخذ مستند "معنوي" يدعم نظريّاته الخاصّة وكذلك في مختارات أخرى ظهرت بعد هذه المختارات من أباطرة متسلسلين بحيث أن كل واحدة مثّلت عصراً معيّناً وأمّا فيما يخص التانكا و الهايكو فسنخرج هنا قليلاً عن التاريخانية لأورد موضوعات من البنية وهي ضرورية عند هذا السياق, سنأخذ مقتطفات عن مقدّمة "تسورايوكي" وحديث اليابانيين عنها :((هل يمكن أن نتصور كائناً حيّاً واحداً لا يكتب شعراً عندما يسمع غناء العندليب فوق شجرة مزهرة أو صوت ضفدعة " الكاجيا" المقيمة في المياه زلزلة الأرض والسماء, إثارة أرواح الموتى اللامرئيّة ,تهدئة قلب المحارب المقدام- دون اللجوء إلي القوّة- تلك استطاعة وقدرة شعر الواكا )) وفي استمرار للمقدمة يتجلّى لنا من خلال القراءة أنّ أفكار هذه المقدّمة تكوّن نسيجاً لا يشترك فيه مجمل الشعر الياباني وحسب بل النثر والمذكرات والسرد القصصي ولكن ماهو هذا النسيج ؟ إّنه أسلوب العيش الياباني الأصيل الذي لم يتوقّف عن رفع الأفعال اليوميّة إلى مستوى الفن إنّه النسيج الذي يضم بشكل عام مجمل المجتمع بطقوسه ويومياته , والمقدّمة بمعطياتها تشير وتأكّد أنّ الصيغة الشعريّة المكونة من كلمات معدودة تحتجز داخلها طاقة لرجّ الكائنات الفو طبيعية إنّها هي الملائمة أكثر من القصائد الطويلة بمعنى أنها تؤثر أكثر في دوام الإيحاء وتستدعي خيال القارئ والسامع دائماً // وهنا يمر الاقتضاب في الكلمات و يمر التكثيف والإيحائيّة وكل ما يتحدّث به العالم خصائص قصيدة الهايكو في البنية // ولكنها تمر في المقدّمة على أنها وحدة النسيج المجتمعي الياباني وروحه الخلّاقة -وأضيف من وجهة نظري التاريخانية - "و وطنيّته" وذلك قبل أن يتم شكلنتها في أواخر القرن التاسع عشر كعمليّة براغماتية بحتة تساير النقد الغربي )) وكذلك قصيدة "تانكا " فهي بإجماع دارسي الشعر الياباني وتقاليده من اليابانيين النقّاد هي عندهم الصيغة البسيطة الأوليّة للواكا بجوهرها وذات التقطيع الصوتي بمقاطعه 7/7 5/7/5 لـ " تانكا " : أغنية قصيرة وللمعلومات إن "تانكا" قصيدة ضاربة في القدم قبل الهايكو بقرون وجدت من نماذجها الكثير في " مانيشو" وكثيراً ما يقول اليابانيون واكا ويعنون تانكا أو العكس كذلك ولكن فيما أعنيه هنا في المقال عندما أقول قصيدة الواكا الحبلى بـ" التانكا* والهايكو" هي تماماً التانكا بعد إصدار مقدمة المختارات مع " كينو-تسورايوكي " ..وهنا نصل إلى أغاني الـ " رنغا" وأين هي من هذه التصنيفات في الواقع أنها عند الدراسين وكتاب تاريخ الواكا من اليابانيين لا يخذ لها أي اعتبار من ناحية الجوهر والمكانة إنها كتابة يقوم بتأليفها سلسلة من الأشخاص تربط نصوص قصيرة لتشكل قصيدة طويلة وهي تعرف/ بطريقة /" رنغا " أو طريقة " رينكو " وهي تستند إلى التانكا حتماً والهوكو وسمّيت بكلمة " ربنشي" ليست ثمّة معنى جوهري فيها يغاير التانكا أو الهايكو لذلك لم تأخذ دوراً مهماً في التسلسل ما بين واكا /تانكا/ هوكو/ هايكاي/ هايكو, إنها أخذت على أنها طريقة توسع الحدود الضيّقة لـ "تانكا" هي نطقت وغنّيت بالهيراغانا و الكاتاكانا "
وفي سياق آخر وللطائف الفريدة فإنّ "ماساوكا شيكي" وكل هذه الهالة تارة من ناحية أنه أول من أطلق اسم هايكو أو حتى اللعنات التي صبّت عليه بأنّه أحضر العقل الغربي الواقعية الجديدة والشكلنة إلى الشعريّة اليابانية ومهاجمة " ماتسو – باشو" ولكن إن كل ما فعله "شيكي" في مضمونه هو قائم ومستند تاريخانياً على الواكا ولكن في حقبة معيّنة منه حيث سيطر " شعر المشهد الطبيعي" مع بداية القرن الرابع عشر ومجيء المحاربين الى السلطة ظهرت عصبة شعراء الطبيعة ولقد جمعت قصائدهم في ديوانين مختارين بأمر الامبراطور وهما " ديوان أفضل قصائد الواكا " و"قصائد الواكا الأنيقة والمهفهفة "
يمكن بخلاصة تاريخانيّة القول إن الهايكو اليابانية هي الوطنيّة بحد ذاتها مع أكبر تجلياتها في الأبدية تلك الوطنيّة المقصودة في هذا السياق حصراً هي ما أراده جان جاك روسو حيث لم تنفصل الوطنية عن الحرية عنده، وجادل باستحالتها في مجتمع مستعبد، كما عَبَّرَ عن ارتيابه ممن يُظهرون انتمائهم للإنسانية دون التزامٍ لأقوامهم ..



ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*قصيدة " تانكا " : هي الصيغة البسيطة الأوليّة للـ "واكا" تحمل صفاتها ولا تختلف بالتقطيع الصوتي
مراجع :
- محاضرات في التقاليد الشعريّة اليابانيّة /أوكا –ماكوتو/ ترجمة السوري محمد عضيمة
- مقدّمة تاريخ الهايكو الياباني / محمد عضيمة / مقدمة كتاب "تاكو بوكو الأعمال الكاملة " عضيمة
- أنتالوجيا تاريخ الهايكو / ريو توسويا / ترجمة المغربي سعيد بو كرّامي
- مدوّنة اليابان الالكترونية








تعليقات

لا توجد تعليقات.

هذا النص

ملف
هايكو
المشاهدات
1,019
آخر تحديث
أعلى