الأغنية الملتزمة أو السياسية أو البديلة في تونس، لا تخلو التسمية ذاتها من اعتبارات سياسية لكون مضمونها و مواضيعها ولمن تتوجه ومن هم الفاعلون عليها هو ما يبرر الاختلاف في التسمية, وهذا التحديد الاصطلاحي هو بحد ذاته موضوع بحث.
الحديث عن الأغنية السياسية الملتزمة يحتاج فهم الظروف التي ظهر فيه هذا النوع من الفن الذي يطرح نفسه بديلا عن السائد الذي تقدمه السلطة الرسمية خاصة بعد النكسة أواخر الستينات , ما أطلق حناجر الشعراء والفنانين للتعبئة والحشد النفسي والعاطفي للجماهير التي تجرعت طعم الهزيمة فغنى الشيخ إمام في مصر صحبة نجم وغنى مارسيل خليفة في لبنان مع درويش والأخوين رحباني مع فيروز وفي المغرب مع الحسين تولالي والعربي باطمة مع ناس الغيوان ثم جيل جيلالة ,,,طبعا لم تكن تونس خارج السياق رغم بعدها عن مناطق التوتر المباشرة لكن الإحساس بوحدة الدم والروح مع ما يحدث في فلسطين و مصر ولبنان واليمن و حتى ظفار في عمان , لكن انطلاق الأغنية الملتزمة بمعناها السياسي الثوري بدا بعد أحداث الخميس الأسود في 26 جانفي 1978 بعد تزايد غلاء المعيشة والتفاوت الاجتماعي المجحف – ترافق في نفس الفترة نفس الأحداث تقريبا في مصر – فغنى محمد بحر في أول الثمانينات عن سعيد ماسح الأحذية الذي سقط بنيران الجيش في هذه الإحداث بينما كان يجلس على الرصيف يمسح أحذية سادة قومه الذين سيصبحون وزراء فيخاطبه بحر " ما ذنبك يا سعيد أن تكون ماسحا وان تصيبك رصاصة طائشة ...وهم أصحاب المصانع يصبحون وزراء وزراء "...
فالمد الذي عرفته الحركات الاجتماعية في تونس خاصة العمالية والطلابية ثم التلمذية بعد ذلك في أواخر السبعينات وبداية الثمانينات نتيجة تزايد الفقر والفوارق الاجتماعية والقمع الوحشي مع الإحساس المتزايد بالغبن والهزيمة و الانكسار حرك مشاعر النخبة المثقفة للإبداع الشعري و الموسيقي خاصة بعد تسرب شرائط الشيخ إمام من مصر بعيدا عن أعين الرقابة و كسرت حاجز الخوف فظهرت مجموعة أصحاب الكلمة كفرقة تؤدي أغاني رمزية دون مضامين سياسية واضحة تتحدث عن "المال قليل " "مشايخ دوارنا"و "الكون فاني " وتذكرنا ببطولات "الدغباجي" في ضرب من التباكي على الماضي واستدعاء أمجاد الأجداد الذين قاوموا الاستعمار لاستلهام الدروس و حفز همم الشباب للوقوف ضد ظلم مشايخ الدوار الجدد بعد أن عدل بورقيبة الدستور نحو رئاسة مدى الحياة ,,و الحقيقة أن هذه الفرقة لم يكن لأصحابها لون سياسي واضح .
والحال أن النخبة المسيسة والواعية بطبيعة المرحلة كانت تقبع في السجون وتتعرض للمحاكمات ولم تكن برغم نضجها واعية بدور الفن الملتزم أو ربما لم يكن لها الوقت لطرح هذا الموضوع للبحث والنقاش – ربما بعد ظهور كتاب الأدب الملتزم لسارتر سيتغير الموقف – فكانت النخبة المسيسة من تجمع الدراسات والعمل الاشتراكي تطوع الأغاني الشعبية لمضامين سياسية من باب التصدي والتلهية وربما قهر ظروف السجن والسجان بأغاني مثل التي كان يغنيها صالح الفرزيط " هانا جينا يا لميمة رانا موضامين ...نستناو في العفو يجينا من ستة وسبعين " أو أغنية " طالوا ليام يا حمة " وهي أغنية تراثية شعبية من الجنوب الغربي تم تطويع كلماتها على حمة الهمام .
بعد أحداث الخميس الأسود و في أوائل الثمانينات وتزايد المد الطلابي بالجامعة التونسية تفتقت قريحة الشعراء عن قصائد ثورية ووطنية تشحذ الهمم لثورة مرتقبة تحقق العدالة الاجتماعية والحرية والكرامة الإنسانية فكانت قصائد المولدي زليلة – عم خميس - و علي سعيدان و مختار اللغماني و بلقاسم اليعقوبي ومحمد الصغير أولاد احمد والمهدي بن نصيب وعبد الجبار العش و منصف المزغني وكمال الغالي و ادم فتحي ...ليتلقفها موسيقيون هواة ومسيسون مهرة من المنتمين اساسا إلى النخبة اليسارية التي عرف اغلب منتسبيها المنافي والسجون أو التهميش و التجويع مثل مجموعة امازيغن و حمادي العجيمي ومحمد بحر و الهادي قلة والبحث الموسيقي بقابس والزين الصافي ولزهر الضاوي وعشاق الأرض والحمائم البيض ...
فتغنى الشباب المهاجر بأغنية "بابور زمر خش البحر" للهادي قلة و تعرف الطلبة على واقعهم في أغنية "خوذ البسيسة والتمر يا مضنوني " للبحث الموسيقي وعرفوا حقيقة من يخونهم ويغدر بهم في أغنية " بشرفك قلي آه يا شعبي " عن الخميس الأسود لكمال الغالي وأداء البحث الموسيقي ليصطدموا بحقيقة من يقتلهم فعلا في إحداث انتفاضة الخبز في جانفي 1984 باستشهاد الطالب اليساري واحد رموز الحركة الطلابية في ما يشتبه انه اغتيال سياسي مقصود من بوليس بورقيبة فغنى له محمد بحر " لفاضل غنوا كل الغناء وزعوا القرنفل على الشهداء ...هذا الشهر متى يرحل ..." ثم ليربط في بين استشهاد فاضل وسعيد بين حدثين متشابهين " هذا فاضل هذا سعيد ...القلب على اليسار والنار تشتعل...." وليلهب لزهر الضاوي حماسة الطلبة قبيل انعقاد المؤتمر الثامن عشر للاتحاد العام لطلبة تونس الذي انتظرته اجيال من المؤسسين " يا شهيد ..الخبزة رجعت ...يا شهيد الخبزة ثور "...
بعد انعقاد مؤتمر الطلبة حدث تراخي و جزر في الحركة الطلابية مع خروج جيل المؤسسين من الجامعة وتزايد قمع السلطة النوفمبرية الصاعدة للحركة الطلابية بسياسة التجنيد القسري و الطرد من التعليم والتجويع بالتعطيل عن العمل والانتداب و تمدد التيار الاسلامي الصاعد الذي انخرط في الموجة الثورية بمجموعات فنية مثل "مجموعة عشاق الوطن" والبحري العرفاوي ...
فانعطفت مسيرة الاغنية الانعطافة الاخيرة نحو التسييس الحزبي واصبحت الاغنية الملتزمة سجينة شعارات حزبية ضيقة واصبحت المجموعات تنعت بلونها السياسي الحزبي فلكل حركة سياسية حزب فرقة غنائية فظهرت الجسر او عشاق الارض ثم الشراع بلون واحد ثم البحث الموسيقي التي ستنقسم بدورها إلى مجموعتين عيون الكلام والبحث الموسيقي التزمت الاولى بالنخبوية والرمزية والثانية بخطها الشعبي الجماهيري التقليدي . واولاد المناجم ثم بعد ذلك فرقة الكرامة و اجراس و جمال قلة ورضا الشمك ...
لتنتهي الاغنية الملتزمة بعد 14 جانفي إلى الشعبوية واللهث وراء الظهور او الربح دون تقديم اضافة جديدة او حتى مراجعة وتقييم تجربتها وتعديل مسارها ما بفسر ربما عزوف الناس عن سماعها خاصة جيل الشباب المتعطش إلى الحرية ليرتمي في احضان لون جديد للأغنية المتمردة "الراب" .
لنخلص إلى ان الاغنية الملتزمة في تونس عرفت مراحل ثلاث :
الهادي عبد الحفيظ (أبو ناظم المرزوقي)
قابس - تونس
الحديث عن الأغنية السياسية الملتزمة يحتاج فهم الظروف التي ظهر فيه هذا النوع من الفن الذي يطرح نفسه بديلا عن السائد الذي تقدمه السلطة الرسمية خاصة بعد النكسة أواخر الستينات , ما أطلق حناجر الشعراء والفنانين للتعبئة والحشد النفسي والعاطفي للجماهير التي تجرعت طعم الهزيمة فغنى الشيخ إمام في مصر صحبة نجم وغنى مارسيل خليفة في لبنان مع درويش والأخوين رحباني مع فيروز وفي المغرب مع الحسين تولالي والعربي باطمة مع ناس الغيوان ثم جيل جيلالة ,,,طبعا لم تكن تونس خارج السياق رغم بعدها عن مناطق التوتر المباشرة لكن الإحساس بوحدة الدم والروح مع ما يحدث في فلسطين و مصر ولبنان واليمن و حتى ظفار في عمان , لكن انطلاق الأغنية الملتزمة بمعناها السياسي الثوري بدا بعد أحداث الخميس الأسود في 26 جانفي 1978 بعد تزايد غلاء المعيشة والتفاوت الاجتماعي المجحف – ترافق في نفس الفترة نفس الأحداث تقريبا في مصر – فغنى محمد بحر في أول الثمانينات عن سعيد ماسح الأحذية الذي سقط بنيران الجيش في هذه الإحداث بينما كان يجلس على الرصيف يمسح أحذية سادة قومه الذين سيصبحون وزراء فيخاطبه بحر " ما ذنبك يا سعيد أن تكون ماسحا وان تصيبك رصاصة طائشة ...وهم أصحاب المصانع يصبحون وزراء وزراء "...
فالمد الذي عرفته الحركات الاجتماعية في تونس خاصة العمالية والطلابية ثم التلمذية بعد ذلك في أواخر السبعينات وبداية الثمانينات نتيجة تزايد الفقر والفوارق الاجتماعية والقمع الوحشي مع الإحساس المتزايد بالغبن والهزيمة و الانكسار حرك مشاعر النخبة المثقفة للإبداع الشعري و الموسيقي خاصة بعد تسرب شرائط الشيخ إمام من مصر بعيدا عن أعين الرقابة و كسرت حاجز الخوف فظهرت مجموعة أصحاب الكلمة كفرقة تؤدي أغاني رمزية دون مضامين سياسية واضحة تتحدث عن "المال قليل " "مشايخ دوارنا"و "الكون فاني " وتذكرنا ببطولات "الدغباجي" في ضرب من التباكي على الماضي واستدعاء أمجاد الأجداد الذين قاوموا الاستعمار لاستلهام الدروس و حفز همم الشباب للوقوف ضد ظلم مشايخ الدوار الجدد بعد أن عدل بورقيبة الدستور نحو رئاسة مدى الحياة ,,و الحقيقة أن هذه الفرقة لم يكن لأصحابها لون سياسي واضح .
والحال أن النخبة المسيسة والواعية بطبيعة المرحلة كانت تقبع في السجون وتتعرض للمحاكمات ولم تكن برغم نضجها واعية بدور الفن الملتزم أو ربما لم يكن لها الوقت لطرح هذا الموضوع للبحث والنقاش – ربما بعد ظهور كتاب الأدب الملتزم لسارتر سيتغير الموقف – فكانت النخبة المسيسة من تجمع الدراسات والعمل الاشتراكي تطوع الأغاني الشعبية لمضامين سياسية من باب التصدي والتلهية وربما قهر ظروف السجن والسجان بأغاني مثل التي كان يغنيها صالح الفرزيط " هانا جينا يا لميمة رانا موضامين ...نستناو في العفو يجينا من ستة وسبعين " أو أغنية " طالوا ليام يا حمة " وهي أغنية تراثية شعبية من الجنوب الغربي تم تطويع كلماتها على حمة الهمام .
بعد أحداث الخميس الأسود و في أوائل الثمانينات وتزايد المد الطلابي بالجامعة التونسية تفتقت قريحة الشعراء عن قصائد ثورية ووطنية تشحذ الهمم لثورة مرتقبة تحقق العدالة الاجتماعية والحرية والكرامة الإنسانية فكانت قصائد المولدي زليلة – عم خميس - و علي سعيدان و مختار اللغماني و بلقاسم اليعقوبي ومحمد الصغير أولاد احمد والمهدي بن نصيب وعبد الجبار العش و منصف المزغني وكمال الغالي و ادم فتحي ...ليتلقفها موسيقيون هواة ومسيسون مهرة من المنتمين اساسا إلى النخبة اليسارية التي عرف اغلب منتسبيها المنافي والسجون أو التهميش و التجويع مثل مجموعة امازيغن و حمادي العجيمي ومحمد بحر و الهادي قلة والبحث الموسيقي بقابس والزين الصافي ولزهر الضاوي وعشاق الأرض والحمائم البيض ...
فتغنى الشباب المهاجر بأغنية "بابور زمر خش البحر" للهادي قلة و تعرف الطلبة على واقعهم في أغنية "خوذ البسيسة والتمر يا مضنوني " للبحث الموسيقي وعرفوا حقيقة من يخونهم ويغدر بهم في أغنية " بشرفك قلي آه يا شعبي " عن الخميس الأسود لكمال الغالي وأداء البحث الموسيقي ليصطدموا بحقيقة من يقتلهم فعلا في إحداث انتفاضة الخبز في جانفي 1984 باستشهاد الطالب اليساري واحد رموز الحركة الطلابية في ما يشتبه انه اغتيال سياسي مقصود من بوليس بورقيبة فغنى له محمد بحر " لفاضل غنوا كل الغناء وزعوا القرنفل على الشهداء ...هذا الشهر متى يرحل ..." ثم ليربط في بين استشهاد فاضل وسعيد بين حدثين متشابهين " هذا فاضل هذا سعيد ...القلب على اليسار والنار تشتعل...." وليلهب لزهر الضاوي حماسة الطلبة قبيل انعقاد المؤتمر الثامن عشر للاتحاد العام لطلبة تونس الذي انتظرته اجيال من المؤسسين " يا شهيد ..الخبزة رجعت ...يا شهيد الخبزة ثور "...
بعد انعقاد مؤتمر الطلبة حدث تراخي و جزر في الحركة الطلابية مع خروج جيل المؤسسين من الجامعة وتزايد قمع السلطة النوفمبرية الصاعدة للحركة الطلابية بسياسة التجنيد القسري و الطرد من التعليم والتجويع بالتعطيل عن العمل والانتداب و تمدد التيار الاسلامي الصاعد الذي انخرط في الموجة الثورية بمجموعات فنية مثل "مجموعة عشاق الوطن" والبحري العرفاوي ...
فانعطفت مسيرة الاغنية الانعطافة الاخيرة نحو التسييس الحزبي واصبحت الاغنية الملتزمة سجينة شعارات حزبية ضيقة واصبحت المجموعات تنعت بلونها السياسي الحزبي فلكل حركة سياسية حزب فرقة غنائية فظهرت الجسر او عشاق الارض ثم الشراع بلون واحد ثم البحث الموسيقي التي ستنقسم بدورها إلى مجموعتين عيون الكلام والبحث الموسيقي التزمت الاولى بالنخبوية والرمزية والثانية بخطها الشعبي الجماهيري التقليدي . واولاد المناجم ثم بعد ذلك فرقة الكرامة و اجراس و جمال قلة ورضا الشمك ...
لتنتهي الاغنية الملتزمة بعد 14 جانفي إلى الشعبوية واللهث وراء الظهور او الربح دون تقديم اضافة جديدة او حتى مراجعة وتقييم تجربتها وتعديل مسارها ما بفسر ربما عزوف الناس عن سماعها خاصة جيل الشباب المتعطش إلى الحرية ليرتمي في احضان لون جديد للأغنية المتمردة "الراب" .
لنخلص إلى ان الاغنية الملتزمة في تونس عرفت مراحل ثلاث :
- المرحلة الاولى : مرحلة العفوية وعدم النضج نشأت في السجن اوخر الستينات والسبعينات بتطويع الاغاني الشعبية نحو مضامين هادفة او التغني بمواضيع غير محرمة كالهجرة و فقد المال و قلة ذات اليد او اغاني عن فلسطين – اغاني الهادي قلة و حمادي لعجيمي و اصحاب الكلمة و تسرب اعمال ناس الغيوان و الحسين تولالي وجيل جلالة ذات المنحى الموسيقي الصوفي الحزين .
- المرحلة الثانية : مرحلة النضج والوعي والابداع : فترة الثمانينات مع المد الطلابي والعمالي صارت المضامين اكثر وضوحا تتجاوز البعد الاحتجاجي السطحي لتكشف عن بدائل سياسية واجتماعية اكثر وضوحا مع احتداد الصراع الطبقي والاجتماعي على السلطة والتامر على القضايا الوطنية و القومية مثل القضية الفلسطينية التي كان لها حضور في كل اعمال الفنانين تقريبا .
- مرحلة التسييس و التشظي : وهي مرحلة تهاوي الأغنية الملتزمة و خفوتها لتسقط في الشعاراتية و تتحول المجموعات الغنائية إلى أبواق دعاية حزبية تخنق الإبداع ما سيدفع بأجيال الشباب اللاحقة إلى الانخراط في الأغاني الجريئة الإيقاعية الفوضوية و المتمردة مثل الراب .
الهادي عبد الحفيظ (أبو ناظم المرزوقي)
قابس - تونس