سنتناول مفهوم العقلانية في المجال الفلسفي و العلمي والسياسي، باعتباره انتصارا للعقل و مولدا
لإنسان جديد هو الإنسان العاقل، الحر، الذي بشرت به الثورة الفكرية في القرن 17 وجسدته الثورات السياسية في أوروبا في القرن 18 و 19 .
سنحاول تتبع انتصارات العقل هذه من خلال [ظهور ] فكرة " القانون ".
1 - ديكارت أو الإعلان الفلسفي عن مولد " العقلانية " :
يعتبر ديكارت -عند الجميع- مؤسس العصر الحديث؛ و فيلسوف العقلانية و التنوير، لأنه أول من دعا بوضوح إلى ضرورة تحطيم الأسس القديمة للمعرفة ( الحس ) و تأسيسها على أسس جديدة ذهنية (رياضية هذه المرة). هذه المحاولة الجريئة يصفها هو نفسه في " مقالة الطريقة " بقوله : " بنشري مبادئ الفلسفة التي استخدمتها إنما افتح النوافذ وأدع ضوء النهار يدخل إلى الكهف الذي انغلق فيه أصحابه " فليس أصدق تعبيرا من وصف العصر الوسيط برمته بالكهف المظلم المنغلق على أصحابه. وليست وضعية ديكارت من عصره سوى أشبه بوضعية سجين أفلاطون المتحرر من كهفه (وهو مثال ونموذج الفيلسوف)، وليست عملية التحرر هذه سوى عملية تبدأ في الإنسان ذاته نحو الإنسان كذات؛ ولعلها تلك هي مزية ديكارت الكبرى الي مثلها في ميتافيزيقاه بدءا بالكوجيتو كجوهر للذات نحو أفق هذه الذات وهو امتلاك الوجود كله باعتباره وجود هذه الذات المتحررة حيث " نصبح أسيادا للطبيعة ومالكين لها" كما يقول ديكارت ، تدعمنا في ذلك القدرة الإلهية الخلاقة وهذا ما نلمسه لدى ديكارت في كتابه "تأملات ميتافيزيقية في الفلسفة الأولى" الذي نشره للمرة الأولى باللغة اللاتينية لغة الخاصة، قاصدا بذلك إبقاءه ضمن حيز العلماء ورجال الدين.
و لعل هذا الكتاب هو ثاني كتاب يكتب باللاتينية و يوجه إلى الخاصة من الناس بعد كتاب "مقالة
الطريقة " الذي قدم فيه ديكارت بعض تطبيقات منهجه العلمي على علوم مثل: البصريات - الهندسة - الآثار العلوية - وهذين الكتابين في الحقيقة جاءا ردة فعل وتفسير لحركة سحب كتابه الشهير " العالم أو رسالة في الضوء " من المطبعة سنة 1633 إبان محاكمة غاليلي في إيطاليا، و لعله بذلك حاول إخفاء خوفه و تقدم تفسيراته و اعتذاراته لرجال الدين حتى لا يساء الظن به. و لعل ديكارت وحده يعلم أنه يفكر ضد الكنيسة بطريقة عقلانية مغايرة للتفكير السائد، و إلا لما خشي من الكنيسة أو لما اعتذر لرجال الدين.
فكيف فكر ديكارت بطريقة عقلانية مغايرة ؟ و ماهي أسس العقلانية الجديدة التي أسس لها ؟
لنعتمد فقط كتاب " التأملات " و نرى كيف يعكس بنائه وحركة أفكاره توجه عقلاني جديد يختلف عن كل ما هو سائد في ذلك العصر؟.
الأمر الذي كان فعلا مدعاة للخشية و الخوف من نشر أي مؤلف دون طلب توضيح لرجال الدين لما يريد نشره أو قوله !! وخاصة فيما يتعلق بمسائل الميتافيزيقا التي يعتقد الجميع إنه يمكن البرهنة عليها فقط ببراهين اللاهوت.
فغاية ديكارت الأولى و التي جعلت عملا مثل هذا العمل ينال حظوة و أهمية عند المحدثين و المعاصرين هي كون ديكارت كان منذ البدء يحاول البرهنة على فكرة وجود الله و خلود الروح و تميزها عن الجسم بأدلة الفلاسفة العقلية، و لعلها تلك هي خطورة مثل هذا العمل. الخطورة التي تتطلب إيضاحا، لذلك كتب إلى رجال الدين و عمداء كلية باريس تبريرا لهذا العمل قائلا : " دائما ما اعتقدت أن معضلتي الله و النفس هما من أخطر المعاضل، الي ينبغي أن تبرهن بأدلة الفلسفة خيرا من أن تبرهن بأدلة اللاهوت. إذ و إن كان يكفينا التسليم نحن معشر المؤمنين، بأن ثمة الها و بأن النفس البشرية لا تموت بموت الجسم فمن غير الممكن أن نجعل الكافرين يسلمون بحقيقة دين و لا حتى بفضيلة أخلاقية، إذا كنا لا نثبت لهم أولا هتين المعضلتين بالعقل الطبيعي ". [ من مقدمة كتاب التأملات ].
فديكارت بدأ بالشك في الحواس و في جميع المعارف المتأتية من الحس، ليثبت في النهاية ذاته كشيء يفكر( Res Cogitans )هذا الإثبات الذي صار أهم ما يعرف عن ديكارت و المقصود هنا الكوجيتو [ أنا أفكر أنا موجود ] (cogito ergo sum). الذي سيعتبره بعد ذلك قاعدة كل معرفة مقبلة (1). و الحقيقة أن هذا الشك يمكن تأويله و فهمه من مستويين:
مستوى منهجي :
مستوى إبستملوجي:
- منهجي: لإثبات أن الحواس في ذاتها لا تقود إلى معرفة يقينية، و أننا لا نبلغ اليقين إلا متى تخلصنا من سيطرة الحواس- و إن بلوغ اليقين يستلزم جهد معرفي نقدي تتطلب حنكة الفيلسوف و عناد العارف.
- إبستمولوجي: لإثبات أن العلوم القديمة ( الارسطية ) فاسدة لاعتمادها على مبادئ الحس، وإن
فسادها يستلزم منا التفكير في تأسيسها على مبادئ غير مبادئ الحس.
و عليه، يمكننا أن نستنتج، أن المشروع الديكارتي القائم على الشك المنهجي، لم يكن ليميز بين الجانب الفلسفي و الجانب العلمي لما كان يريد ديكارت تأسيسه. لذلك سيعمد مباشرة بعد اكتشاف الكوجيتو إلى القيام بتجربة علمية، يثبت من خلالها قدرة العقل على معرفة أشياء العالم الخارجي. و المقصود بالطبع، تجربة قطعة الشمع التي كان يدركها بخواصها الحسية ثم أصبح بعد تقريبها من النار يدركها بخواص ذهنية هندسية من حيث هي امتداد وحركة وشكل.
و نجد ديكارت يعلن عن هذا الضرب الجديد من المعرفة الذهنية بأنه " لمعة من لمعات الذهن ".
يقول: " إن ما يجب إيضاحه هو أن إدراكي إياها لم يعد إبصارا أو تلمسا أو تخيلا هو ليس شيئا من ذلك مطلقا و إن كان قد بدأ أنه كذلك من قبل و إنما هو لمعة من لمعات الذهن " [ التأمل الثاني ] ، ولو سائلنا ديكارت عن معنى هذه اللمعة للذهن لأجابنا بهذا المثال الذي يوضح به المسألة : " و لو نظرت مصادفة من النافذة ، و شاهدت رجالا يسيرون في الشارع ، لقلت عند رؤيتي لهم إني أرى رجالا بعينهم: كما أقول أني أرى شمعة بعينها ، و لكن هل أرى بالواقع من النافذة غير قبعات ، و معاطف، قد تكون أغطية لآلات صناعية تحركها لوالب ؟ مع ذلك أحكم أنهم أناس، إذن أنا أحكم بمحض ما في ذهني من قوة الحكم.؛ ما كنت احسب أني أراه بعيني" اذن فما نعنيه بالإدراك هنا ليس سوى إدراك عقلي محض، هو "لمعة من لمعات الذهن" يسميه ديكارت "قوة الحكم" التي للذهن، فهو ضرب من المعرفة العقلية الصادقة الي تنبجس في الذات فجأة و تنقدح في الذهن نسميه حدسا عقليا. و هو ما سيبشر بعصر معرفي جديد افتتحه ديكارت، عصر إطلاقية العقل و لا محدوديته ، عصر يبشر بميلاد تصور جديد للإنسان: إنسان حر يمتلك مطلق الإرادة التي تجعله " سيدا للطبيعة و مالكا لها " بل سيدا للعالم بأسره لعله ذلك الإنسان الذي وجد تحققه الفعلي في انتصاره السياسي والاجتماعي على أنظمة العصر الوسيط و الذي بشرت به الثورة الفرنسية(2) كما سنرى ذلك لاحقا.
2) العقلانية و القانون العلمي :
إن سؤال لماذا تحدث الأشياء على النحو الذي تحدث عليه ؟ الذي كان يسأله القدامى كان ينم عن
غائية و سببية يبحثها القدامى، لأن المعرفة عندهم هي معرفة " بالأسباب و العلل " كما كان يقول أرسطو. و لكن كان امتلاك السبب و معرفته معناه امتلاك الظاهرة، وهو ما سيسمى اليوم بالقانون العلمي، لذلك كان الفيلسوف عند القدامى هو الذي يمنح القوانين، لا يتلقاها كما يقول أرسطو: " الذي يعرف الأسباب بالشكل الأدق و القادر على أن يعلمها هو في كل نوع من أنواع العلم أكثر علما و كذلك العلم الذي يختارونه للفوائد الي يحققها... فلا ينبغي أن يتلقى الفيلسوف القوانين، إذ أنه هو الذي يمنحها و على الآخر أن يطيعه " (3).
فمعرفة حقيقة الشيء أو الظاهرة يسمى قانون و هذه المعرفة لا يمكن أن يمنحها إلا الفيلسوف لأنه يعتمد المعرفة العقلية. و العقل وحده قادر على كشف خفايا الظواهر. لذلك أصبح العلم يعرف اليوم بأنه "معرفة ما هو مخفي " كما يقول باشلار " il n’y a de science que de ce qui est caché ". لذلك نفهم لماذا لا يستطيع الحس أن يبلغ إلى حقيقة الظاهرة، و لماذا لا يستطيع إلا العقل الرياضي الذي ستؤسسه العقلانية الحديثة مع ديكارت كشف خفايا الظاهرة.
لذلك سوف لن نجد اهتماما عند علماء العصر الحديث- منذ ديكارت- بأسباب الظاهرة بقدر ما نهتم بكيفية فعلها و خواص هذا الفعل. و هو ما سيعرف بالمنهج الكمي الرياضي الذي ستطبقه الفيزياء على معرفة المادة منذ غاليلي و ديكارت و سيصبح القانون العلمي بهذا المعنى هو" العلاقة الضرورية بين الظواهر "(4). بالمعنى الرياضي لكلمة "الضرورة" أي لزوم النتيجة أو الأثر عن السبب دون تعارض أو فساد. و هذا ما حاول العقل الحديث الذي يسميه السيد لالاند بالعقل المكوّن، (la raison constituante).أن يثبته في تناوله للظاهرات الطبيعية، وذلك لجعل حقيقتها عارية أمامه. إنه يسعى إلى جعل هذه الظواهر قابلة للعقلنة (intelligible)، الأمر الذي سيمكن هذا العقل نفسه من "اقتصاد في التفكير" يعفينا من تلك الأخطاء و المشاق الى كان يتكبدها العلماء، من قبل كما يقول ديكارت: " و لما كنا فرضنا هذه القاعدة ( و يقصد هنا قاعدة الحفاظ أو قانون العطالة loi d’inertie- -القانون الأول لديكارت ) أصبحنا في حل من العناء الذي يتكبده العلماء..." (5).
فعقلنة الظاهرة أو ما نسميه " بالقانون العلمي " يمكننا لا فقط من فهم حاضر الظاهرة، بل كذلك و الأهم فهم مستقبلها و التنبؤ بحدوثها، بنفس الدرجة الي يحدث بما الآن، حسب التحديد الذي سيصوغه لابلاس بعد ذلك لما سيُسمى مبدأ الحتمية(déterminisme ). ويعني "أن ننظر كما يقول لابلاس، إلى حالة العالم الراهنة باعتبارها نتيجة لحالته السابقة وعلة لحالته اللاحقة " لأن الحتمية تعني أن الظاهرة متحددة ضرورة بعدد معين و مضبوط من الشروط لوجودها، إذا توفرت لابد من توقع ظهورها و إن لم تبدو واضحة للعيان أو على النحو الي هي بادية عليه. يقول غاستون باشلار في هذا الصدد موضحا حتمية وعقلانية القانون العلمي : " إن كل الأجسام تسقط ، حتى تلك الي لا تسقط ! إن الورقة اليابسة الي تسقط في شكل حلزوني نحو الأسفل تسقط عموديا. و إن كانت نسمات ريح الخريف تفسد استقامة السقوط، فإن ذلك يعتبر عرضيا بالنسبة للفكر العقلاني الذي أكتشف المغزى العميق لقانون السقوط العمودي رغم مظاهر السقوط المائل. إن عقلانية قانون السقوط الي تصاغ في تلك القاعدة البسيطة؛ (6)، موصوفة في حركة كل جسم على الأرض " (7).
فتحديد قانون للظاهرة الطبيعية معناه إذن عقلنتها، هذه العقلنة التي كان لابد منها لفهم قيام تصور
جديد للعالم وللإنسان؛ يكون فيه هذا الأخير هو السيد الأوحد والمالك كما يقول ديكارت؛ وهو الموقف الذي يوافق عليه الفيلسوف كانط في كتابه نقد العقل المحض :"ينبغي أن يتقدم العقل إلى الطبيعة، ماسكا بيد مبادئه الى تستطيع هي وحدها أن تمنح الظواهر المتطابقة سلطة القوانين، و باليد الأخرى التجريب الذي تخيله وفق تلك المبادئ، حتى يتعلم من الطبيعة لا محالة، لكن لا كتلميذ يدع المعلم يقول كل ما يحلو له قوله، بل على العكس من ذلك كالقاضي يجلس للقضاء، فيحمل الشهود على الإجابة عما يطرح عليهم من الأسئلة"(8).
إن عملية العقلنة هذه قد تمت وفق منهج رياضي كمي، يحول الطبيعة الحسية إلى أشبه بالفضاء
الإقليدي لا تحدده إلا أبعاده الثلاثة الغير منتهية : الطول والعرض و العمق، فضاء نتصوره تصورا جديدا هذه المرة على أنه مفتوح، متجانس، لا متناه [ isotrope ,homogène, infinie ]، فضاء لا يميز بين الفوق و التحت؛ ولا بين مكان و آخر، و لا بين الحركة أو السكون.
وهو الأمر الذي يوضحه لنا أينشتاين [ في كتابه منهج الفيزياء النظرية ] : " إني مقتنع بأن البناء
الرياضي المحض يمكننا من اكتشاف المفاهيم و القوانين التي تصل بينها، و التي تعطينا مفتاح فهم الظواهر الطبيعية، و يمكن للتجربة بطبيعة الحال أن تقودنا في اختيارنا المفاهيم الرياضية التي ينبغي أن نستعملها. غير أنه لا يمكن أن تكون المصدر الذي تنبع منه هذه المفاهيم. و لئن ظلت التجربة بالتأكيد مقياس المنفعة الوحيد لبناء رياضي ما في خصوص الفيزياء، فإن المبدأ الخلاق بحق يكمن في الرياضيات - إنه يصح عندي إذن على نحو ما- أن الفكر المحض قادر على فهم الواقع، وذلك ما كان القدامى يحلمون به "(9). و لكن المشكل يتجلى حسب أينشتاين، لا في إمكان تعقل الرياضيات للواقع؛ بل في مدى و حدود هذا التعقل.
هل نعتبر أن هذا التعقل لا محدود كما كان يتصور ديكارت أو نيوتن ؟ أم أن عملية التجريد الذهني للطبيعة يجب أن تقف عند حد، يجعل القانون العلمي نفسه قانونا نسبيا كما سيقول أينشتاين بعد ذلك؟ حين سيشبه عمل العالم يمثل من ينظر إلى ساعته فلا يرى منها سوى ميناءها، يقول : [ في كتابه تطور الأفكار في الفيزياء، صحبة وانفيلد ]|: " نحن نكاد نكون في المجهود الذي نبذله لفهم العالم كمن يسعى إلى فهم آلية ساعة مغلقة. فهو يرى الإطار و العقارب تتحرك و يسمع الدقات، و لكن لا يملك لفتح العلبة حيلة. إنه يستطيع؛ إذا كان فطنا أن يحصل على صورة ما عن الآلية يجعلها علة كل ما يلاحظه. غير أنه لن يتأكد أبدا من أن الصورة التي يكونها هي وحدها كفيلة بتفسير ملاحظاته "(10).
فإن أصبح القانون العلمي نسبيا، غير مطلق؛ فهل هذا يجعل منه محل مراجعة مستمرة؛ إن لم نقل محل تشكيك مستمر, على النحو الذي فعله دافيد هيوم في القرن 18 أو على النحو الذي فعله نيتشة بعد ذلك، حين سيخضع كل معارفنا المتأتية عن العقل إلى ضربات المطرقة الهدامة، باعتبارها أوهاما لا حقائق !!؟
لكن يجب أن لا نفهم هذا التشكيك أو الهدم على أنه تخلى عن العلم نحو ضرب آخر للمعرفة. لا بل أن العلم لا يتقدم إلا بمثل هذا النقد و التشكيك كما سيبين لنا باشلار حين اعتبر أن " تاريخ العلم هو تاريخ أخطائه و تراجعاته " - بل لعل العقل البشري ذاته- و هو ما أرسته العقلانية الحديثة- لا يسعى إلى الانغلاق داخل نسق معين إلى درجة أنه يتحجر فيه، بل يظل مفتوحا دوما. لأن العقل المنغلق على ذاته عقل ميت، نقيض ذاته، لأنه نقيض الحرية كما نجد ذلك في تعريف كانط للأنوار: " لا شيء مطلوب غير الحرية, أي تلك الي تقبل على استخدام علني للعقل في كل الميادين "(11).
3) عقلانية القانون الوضعي(المدني) :
ليس هناك اختلاف حول شمولية النزعة العقلانية في الفكر الحديث، شموليتها في جميع المجالات ( كما قال كانط )؛ و لا أحد ينكر كذلك مدى تأثير التحولات الفكرية في الفكر العلمي على المجالات الأخرى كالسياسة و الأخلاق.
لذلك سنعتبر عقلانية الفكر السياسي امتدادا " للثورة الكوبرنيكية " التي شملت العلوم في القرن 17 . و سنعتبر أن الفكر السياسي الحديث قد أحدث بدوره " قطيعة إبستملوجية " مع الفكر القديم على قاعدة العقل كذلك، مثلما هو الشأن في الفيزياء و باقي العلوم الأخرى. و إذ نتناول مسألة " القانون الوضعي "ونشأة دولة القانون"، فباعتبارها إحدى النتائج الضرورية لهذا التحول الإبستمي العظيم الذي عرفه عصر الحداثة، بل باعتبارها التحقق الفعلي لأفكار الثورة العلمية، أي الإستتباعات العملية لهذا التحول بالذات.
فعندما نتحدث اليوم عن دولة الحق " أو دولة القانون " بالمعنى الهيقلي، فإن هذا يتطلب منا تحديد دلالات هذا المفهوم، و هو كما نعرف مفهوم حديث يتعارض مع التصور التقليدي للدولة الفارغة من كل محتوى كما عبر عن ذلك هيقل قاصدا بذلك الدولة الدينية " الثيوقراطية ". فهل ما نعنيه "بدولة القانون" هو ما نقصده اليوم بالدولة الديموقراطية ؟
يجيب الأستاذ علي الشنوفي عن هذا السؤال : " فدولة القانون أو بالأحرى دولة الحق، لا تعني... ما صرنا نتمثله اليوم بكثير من الغموض أحيانا عبر مقولات احترام الحقوق الأساسية و فصل السلطة و حيادها، و حماية الحريات المدنية، و الدفاع عن حقوق الإنسان و المواطن، و الحد من تدخل الدولة في شؤون المجتمع المدني، هذا الخليط الذي صار يتماهى مع عبارة الديمقراطية "(12). فدولة القانون هي مفهوم حديث، وليد العصر الحديث، و تحديدا وليد الفلسفة التعاقدية مع هوبز و سبينوزا و روسو و خاصة مع هيقل فيما بعد، حين يعني دولة مدنية تتجاوز الشكل الكهنوتي للسلطة الدينية البابوية القائمة على نظرية الحق الإلهي المقدس للملوك، دولة تقوم هذه المرة على محتوى، هو "فكرة الإرادة" كما يقول هيقل. لكن هذه الفكرة التي هي بالأساس فكرة عقلية تبقى في جوهرها فكرة افتراضية؛ نظرية قد لا تطابق بالضرورة الواقع .
فهل تقوم دولة القانون كدولة واقعية فعلية على الإلزام أم على الخضوع الطوعي ؟
يمكن فهم هذه المسألة، إذا عرفنا أن جميع الأفراد متساوون بالطبيعة في الحقوق و أن هذه الحقوق ثابتة. و نقصد هنا بالحق قدرة الفرد على أن يكون فاعلا في العالم الخارجي طبقا لإرادته و ذلك باعتباره كائنا عاقلا عكس الحيوان. إذ الإنسان مستطيع إلى أبعد من لحظته الراهنة و هذا الحق نعني به الحرية إذ " الطبيعة وحدها - يقول روسو- تعمل كل شيء في تصرفات الحيوان بينما يقوم الإنسان بتصرفاته بصفته فاعلا حرا ". فالناس أحرار باعتبارهم كائنات عاقلة، غير
أنهم في حالة الطبيعة تركوا عرضة للانفعالات و هو ما أوقعهم في ذلك الصراع الرهيب الذي لا مهرب منه؛ سوى تغليب العقل على هذه الانفعالات باعتبارهم أساس الاتفاق و التفاهم بين الناس كما سيرى ذلك سبينوزا إذ يكتب في الفصل 4 من الأخلاق: " و بقدر ما يعيش الناس متبعين العقل تتفق طبيعتهم دائما بالضرورة " إذ "ليس أنفع لإنسان في الطبيعة من إنسان يعيش متبعا للعقل ".
وهكذا يبدو لنا الحل العقلاني حلا طوعيا نحو دولة القانون " دولة يتساوى فيها جميع الناس على أساس العقل» باعتبار العقل هو " الأعدل توزعا و قسمة بين الناس " كما كان يقول ديكارت .
و الحقيقة أن العقل ليس وحده يدفع الإنسان إلى الاتفاق و التواضع؛ بل قد تكون الانفعالات السلبية بدورها دافعا للخروج من حالة الطبيعة نحو التنظيم المدني، لأن الإنسان في هذه الحالة سيكون مضطرا إلى التنازل عن حقوقه الطبيعية وأهمها حق الحرية، كما عند روسو، مقابل تحقيق الأمن و السلام أي ضمان حقه في البقاء كما سنجد ذلك في حالة دولة هوبز.
ولكن هل حيازة السلام تستلزم المجازفة بالحرية؟
إذا كانت الحرية معناها أن لا يكون الإنسان عبدا لإنسان بعينه، أي أن يتنازل عن حقوقه لصالح فرد آخر، و إذا كان ما يتم في العقد الاجتماعي ليس تنازل لفرد بعينه، بل تنازل جماعي بموجبه لا يكون الإنسان عبدا لإنسان بعينه بل عبدا للجميع، وإذا كان كما يقول روسو : "من يهب نفسه للجميع لا يهب نفسه لأحد" ، فإن التنازل في دولة الحق ليس تنازلا عن حقوق، بل تنازلا من أجل القانون، وهو التنازل الذي لابد منه لتحقيق الحرية المدنية والسياسية في النظام المدني الحديث نظام دولة القانون. هذا النظام الذي ستتضح معالمه أكثر مع هيقل في "مبادئ فلسفة الحق "، حيث سيتخلى هيقل عن فكرة العقد الاجتماعي و يعتبرها حلا افتراضيا، لا يلائم العقلانية الحقة، التي تنطبق على واقع الدولة الواقعة فعلا آنذاك. فبعد أن كان هيقل يؤكد على أهمية الصراع في "فينومينولوجيا الروح" وبخاصة على مستوى جدلية السيد و العبد، فأننا نراه في "مبادئ فلسفة الحق "، يسعى إلى بيان أن الدولة تتعالى عن الصراع باعتبارها " دولة القانون "؛ لا توجد للأفراد، بل الأفراد يوجدون لأجلها. فالفرد لا يحقق فرديته وحريته كما يقول هيقل إلا فيها وهذا ما يجعل من " دولة القانون أو دولة الحق " عند هيقل "العقل في ذاته و لذاته " بل هي الكلى العقلي أو ما يسميه هيقل " الإرادة الكلية "، بما هي هذا الكلى العقلي وقد تحقق فعلا في التاريخ. فلم يعد الكلي" إذن نمط الفيزياء الكلاسيكية, ولا نموذج العقلانية الحديثة " بل أصبح هذا النموذج لا يتحقق في المجرد، بل في التاريخ حين أصبح التطابق كليا بين المفهوم و التاريخ، بين العقل والواقع حين أصبح " كل ما هو عقلاني واقعي وكل ما هو واقعي عقلاني" .
المراجع و الهوامش
" و لكني سرعان ما لاحظت، و أنا أحاول على هذا المنوال أن أعتقد بطلان كل شيء أنه يلزمني ضرورة أنا صاحب الاعتقاد أن أكون شيئا من الأشياء، و لما رأيت أن هذه الحقيقة " أنا أفكر أذن أنا موجود " هي من الرسوخ بحيث لا تزعزعها فروض الريبين مهما يكن فيها من شطط، حكمت بأنيٍ أستطيع مطمئنا أن أتخذها مبدأ أول للفلسفة الي كنت أبحث عنها " ( مقالة الطريقة -ترجمة جميل صاليبا- الجزء الرابع ).
يقول سارتر: "في عهد النبلاء الجدد و الرأسمالية التجارية تمكنت طبقة بورجوازية من الحقوقيين و التجار و أصحاب المعارف من إدراك بعض الجوانب من ذاتها بواسطة الديكارتية". -مسائل في المنهج- طبعة قاليمار-GALLIMARD 1960 ص7 -10 .
ما بعد الطبيعة : مقالة الألف 982 أ - 14 -20 .[ أرسطو ].
سيعلق أحد المحدثين بعد ذلك قائلا : " إن فكرة القانون قد هبطت من السماء إلى الأرض "
ديكارت : [ كتاب العالم - فصل 7 ].
لعله يقصد الصياغة الرياضية الي وضعها غاليلي لقانون السقوط الحر على عمود على النحو التالي: ² g. t x=1/(2 )
قاستون باشلار : العقلانية المطبقة - طبعة المطابع الجامعية الفرنسية -PUF ص 293.
كانط : نقد العقل المحض -طبعة “PUF - 1968 ص 17 - 18 .
أينشتاين : في منهج الفيزياء النظرية. - طبعة بايوت PAYOT
أينشتاين و أنفليد: تطور الأفكار في الفيزياء - طبعة بايوت PAYOT
كانط : ما هي الأنوار -طبعة PUF
علي الشنوفي : من مقال " دولة القانون " ورد ف المجلة التونسية للدراسات الفلسفية صادرة عن الجمعية التونسية للدراسات الفلسفية سنة 1986 عدد 8 . :
الهادي عبد الحفيظ - قابس/تونس
لإنسان جديد هو الإنسان العاقل، الحر، الذي بشرت به الثورة الفكرية في القرن 17 وجسدته الثورات السياسية في أوروبا في القرن 18 و 19 .
سنحاول تتبع انتصارات العقل هذه من خلال [ظهور ] فكرة " القانون ".
1 - ديكارت أو الإعلان الفلسفي عن مولد " العقلانية " :
يعتبر ديكارت -عند الجميع- مؤسس العصر الحديث؛ و فيلسوف العقلانية و التنوير، لأنه أول من دعا بوضوح إلى ضرورة تحطيم الأسس القديمة للمعرفة ( الحس ) و تأسيسها على أسس جديدة ذهنية (رياضية هذه المرة). هذه المحاولة الجريئة يصفها هو نفسه في " مقالة الطريقة " بقوله : " بنشري مبادئ الفلسفة التي استخدمتها إنما افتح النوافذ وأدع ضوء النهار يدخل إلى الكهف الذي انغلق فيه أصحابه " فليس أصدق تعبيرا من وصف العصر الوسيط برمته بالكهف المظلم المنغلق على أصحابه. وليست وضعية ديكارت من عصره سوى أشبه بوضعية سجين أفلاطون المتحرر من كهفه (وهو مثال ونموذج الفيلسوف)، وليست عملية التحرر هذه سوى عملية تبدأ في الإنسان ذاته نحو الإنسان كذات؛ ولعلها تلك هي مزية ديكارت الكبرى الي مثلها في ميتافيزيقاه بدءا بالكوجيتو كجوهر للذات نحو أفق هذه الذات وهو امتلاك الوجود كله باعتباره وجود هذه الذات المتحررة حيث " نصبح أسيادا للطبيعة ومالكين لها" كما يقول ديكارت ، تدعمنا في ذلك القدرة الإلهية الخلاقة وهذا ما نلمسه لدى ديكارت في كتابه "تأملات ميتافيزيقية في الفلسفة الأولى" الذي نشره للمرة الأولى باللغة اللاتينية لغة الخاصة، قاصدا بذلك إبقاءه ضمن حيز العلماء ورجال الدين.
و لعل هذا الكتاب هو ثاني كتاب يكتب باللاتينية و يوجه إلى الخاصة من الناس بعد كتاب "مقالة
الطريقة " الذي قدم فيه ديكارت بعض تطبيقات منهجه العلمي على علوم مثل: البصريات - الهندسة - الآثار العلوية - وهذين الكتابين في الحقيقة جاءا ردة فعل وتفسير لحركة سحب كتابه الشهير " العالم أو رسالة في الضوء " من المطبعة سنة 1633 إبان محاكمة غاليلي في إيطاليا، و لعله بذلك حاول إخفاء خوفه و تقدم تفسيراته و اعتذاراته لرجال الدين حتى لا يساء الظن به. و لعل ديكارت وحده يعلم أنه يفكر ضد الكنيسة بطريقة عقلانية مغايرة للتفكير السائد، و إلا لما خشي من الكنيسة أو لما اعتذر لرجال الدين.
فكيف فكر ديكارت بطريقة عقلانية مغايرة ؟ و ماهي أسس العقلانية الجديدة التي أسس لها ؟
لنعتمد فقط كتاب " التأملات " و نرى كيف يعكس بنائه وحركة أفكاره توجه عقلاني جديد يختلف عن كل ما هو سائد في ذلك العصر؟.
الأمر الذي كان فعلا مدعاة للخشية و الخوف من نشر أي مؤلف دون طلب توضيح لرجال الدين لما يريد نشره أو قوله !! وخاصة فيما يتعلق بمسائل الميتافيزيقا التي يعتقد الجميع إنه يمكن البرهنة عليها فقط ببراهين اللاهوت.
فغاية ديكارت الأولى و التي جعلت عملا مثل هذا العمل ينال حظوة و أهمية عند المحدثين و المعاصرين هي كون ديكارت كان منذ البدء يحاول البرهنة على فكرة وجود الله و خلود الروح و تميزها عن الجسم بأدلة الفلاسفة العقلية، و لعلها تلك هي خطورة مثل هذا العمل. الخطورة التي تتطلب إيضاحا، لذلك كتب إلى رجال الدين و عمداء كلية باريس تبريرا لهذا العمل قائلا : " دائما ما اعتقدت أن معضلتي الله و النفس هما من أخطر المعاضل، الي ينبغي أن تبرهن بأدلة الفلسفة خيرا من أن تبرهن بأدلة اللاهوت. إذ و إن كان يكفينا التسليم نحن معشر المؤمنين، بأن ثمة الها و بأن النفس البشرية لا تموت بموت الجسم فمن غير الممكن أن نجعل الكافرين يسلمون بحقيقة دين و لا حتى بفضيلة أخلاقية، إذا كنا لا نثبت لهم أولا هتين المعضلتين بالعقل الطبيعي ". [ من مقدمة كتاب التأملات ].
فديكارت بدأ بالشك في الحواس و في جميع المعارف المتأتية من الحس، ليثبت في النهاية ذاته كشيء يفكر( Res Cogitans )هذا الإثبات الذي صار أهم ما يعرف عن ديكارت و المقصود هنا الكوجيتو [ أنا أفكر أنا موجود ] (cogito ergo sum). الذي سيعتبره بعد ذلك قاعدة كل معرفة مقبلة (1). و الحقيقة أن هذا الشك يمكن تأويله و فهمه من مستويين:
مستوى منهجي :
مستوى إبستملوجي:
- منهجي: لإثبات أن الحواس في ذاتها لا تقود إلى معرفة يقينية، و أننا لا نبلغ اليقين إلا متى تخلصنا من سيطرة الحواس- و إن بلوغ اليقين يستلزم جهد معرفي نقدي تتطلب حنكة الفيلسوف و عناد العارف.
- إبستمولوجي: لإثبات أن العلوم القديمة ( الارسطية ) فاسدة لاعتمادها على مبادئ الحس، وإن
فسادها يستلزم منا التفكير في تأسيسها على مبادئ غير مبادئ الحس.
و عليه، يمكننا أن نستنتج، أن المشروع الديكارتي القائم على الشك المنهجي، لم يكن ليميز بين الجانب الفلسفي و الجانب العلمي لما كان يريد ديكارت تأسيسه. لذلك سيعمد مباشرة بعد اكتشاف الكوجيتو إلى القيام بتجربة علمية، يثبت من خلالها قدرة العقل على معرفة أشياء العالم الخارجي. و المقصود بالطبع، تجربة قطعة الشمع التي كان يدركها بخواصها الحسية ثم أصبح بعد تقريبها من النار يدركها بخواص ذهنية هندسية من حيث هي امتداد وحركة وشكل.
و نجد ديكارت يعلن عن هذا الضرب الجديد من المعرفة الذهنية بأنه " لمعة من لمعات الذهن ".
يقول: " إن ما يجب إيضاحه هو أن إدراكي إياها لم يعد إبصارا أو تلمسا أو تخيلا هو ليس شيئا من ذلك مطلقا و إن كان قد بدأ أنه كذلك من قبل و إنما هو لمعة من لمعات الذهن " [ التأمل الثاني ] ، ولو سائلنا ديكارت عن معنى هذه اللمعة للذهن لأجابنا بهذا المثال الذي يوضح به المسألة : " و لو نظرت مصادفة من النافذة ، و شاهدت رجالا يسيرون في الشارع ، لقلت عند رؤيتي لهم إني أرى رجالا بعينهم: كما أقول أني أرى شمعة بعينها ، و لكن هل أرى بالواقع من النافذة غير قبعات ، و معاطف، قد تكون أغطية لآلات صناعية تحركها لوالب ؟ مع ذلك أحكم أنهم أناس، إذن أنا أحكم بمحض ما في ذهني من قوة الحكم.؛ ما كنت احسب أني أراه بعيني" اذن فما نعنيه بالإدراك هنا ليس سوى إدراك عقلي محض، هو "لمعة من لمعات الذهن" يسميه ديكارت "قوة الحكم" التي للذهن، فهو ضرب من المعرفة العقلية الصادقة الي تنبجس في الذات فجأة و تنقدح في الذهن نسميه حدسا عقليا. و هو ما سيبشر بعصر معرفي جديد افتتحه ديكارت، عصر إطلاقية العقل و لا محدوديته ، عصر يبشر بميلاد تصور جديد للإنسان: إنسان حر يمتلك مطلق الإرادة التي تجعله " سيدا للطبيعة و مالكا لها " بل سيدا للعالم بأسره لعله ذلك الإنسان الذي وجد تحققه الفعلي في انتصاره السياسي والاجتماعي على أنظمة العصر الوسيط و الذي بشرت به الثورة الفرنسية(2) كما سنرى ذلك لاحقا.
2) العقلانية و القانون العلمي :
إن سؤال لماذا تحدث الأشياء على النحو الذي تحدث عليه ؟ الذي كان يسأله القدامى كان ينم عن
غائية و سببية يبحثها القدامى، لأن المعرفة عندهم هي معرفة " بالأسباب و العلل " كما كان يقول أرسطو. و لكن كان امتلاك السبب و معرفته معناه امتلاك الظاهرة، وهو ما سيسمى اليوم بالقانون العلمي، لذلك كان الفيلسوف عند القدامى هو الذي يمنح القوانين، لا يتلقاها كما يقول أرسطو: " الذي يعرف الأسباب بالشكل الأدق و القادر على أن يعلمها هو في كل نوع من أنواع العلم أكثر علما و كذلك العلم الذي يختارونه للفوائد الي يحققها... فلا ينبغي أن يتلقى الفيلسوف القوانين، إذ أنه هو الذي يمنحها و على الآخر أن يطيعه " (3).
فمعرفة حقيقة الشيء أو الظاهرة يسمى قانون و هذه المعرفة لا يمكن أن يمنحها إلا الفيلسوف لأنه يعتمد المعرفة العقلية. و العقل وحده قادر على كشف خفايا الظواهر. لذلك أصبح العلم يعرف اليوم بأنه "معرفة ما هو مخفي " كما يقول باشلار " il n’y a de science que de ce qui est caché ". لذلك نفهم لماذا لا يستطيع الحس أن يبلغ إلى حقيقة الظاهرة، و لماذا لا يستطيع إلا العقل الرياضي الذي ستؤسسه العقلانية الحديثة مع ديكارت كشف خفايا الظاهرة.
لذلك سوف لن نجد اهتماما عند علماء العصر الحديث- منذ ديكارت- بأسباب الظاهرة بقدر ما نهتم بكيفية فعلها و خواص هذا الفعل. و هو ما سيعرف بالمنهج الكمي الرياضي الذي ستطبقه الفيزياء على معرفة المادة منذ غاليلي و ديكارت و سيصبح القانون العلمي بهذا المعنى هو" العلاقة الضرورية بين الظواهر "(4). بالمعنى الرياضي لكلمة "الضرورة" أي لزوم النتيجة أو الأثر عن السبب دون تعارض أو فساد. و هذا ما حاول العقل الحديث الذي يسميه السيد لالاند بالعقل المكوّن، (la raison constituante).أن يثبته في تناوله للظاهرات الطبيعية، وذلك لجعل حقيقتها عارية أمامه. إنه يسعى إلى جعل هذه الظواهر قابلة للعقلنة (intelligible)، الأمر الذي سيمكن هذا العقل نفسه من "اقتصاد في التفكير" يعفينا من تلك الأخطاء و المشاق الى كان يتكبدها العلماء، من قبل كما يقول ديكارت: " و لما كنا فرضنا هذه القاعدة ( و يقصد هنا قاعدة الحفاظ أو قانون العطالة loi d’inertie- -القانون الأول لديكارت ) أصبحنا في حل من العناء الذي يتكبده العلماء..." (5).
فعقلنة الظاهرة أو ما نسميه " بالقانون العلمي " يمكننا لا فقط من فهم حاضر الظاهرة، بل كذلك و الأهم فهم مستقبلها و التنبؤ بحدوثها، بنفس الدرجة الي يحدث بما الآن، حسب التحديد الذي سيصوغه لابلاس بعد ذلك لما سيُسمى مبدأ الحتمية(déterminisme ). ويعني "أن ننظر كما يقول لابلاس، إلى حالة العالم الراهنة باعتبارها نتيجة لحالته السابقة وعلة لحالته اللاحقة " لأن الحتمية تعني أن الظاهرة متحددة ضرورة بعدد معين و مضبوط من الشروط لوجودها، إذا توفرت لابد من توقع ظهورها و إن لم تبدو واضحة للعيان أو على النحو الي هي بادية عليه. يقول غاستون باشلار في هذا الصدد موضحا حتمية وعقلانية القانون العلمي : " إن كل الأجسام تسقط ، حتى تلك الي لا تسقط ! إن الورقة اليابسة الي تسقط في شكل حلزوني نحو الأسفل تسقط عموديا. و إن كانت نسمات ريح الخريف تفسد استقامة السقوط، فإن ذلك يعتبر عرضيا بالنسبة للفكر العقلاني الذي أكتشف المغزى العميق لقانون السقوط العمودي رغم مظاهر السقوط المائل. إن عقلانية قانون السقوط الي تصاغ في تلك القاعدة البسيطة؛ (6)، موصوفة في حركة كل جسم على الأرض " (7).
فتحديد قانون للظاهرة الطبيعية معناه إذن عقلنتها، هذه العقلنة التي كان لابد منها لفهم قيام تصور
جديد للعالم وللإنسان؛ يكون فيه هذا الأخير هو السيد الأوحد والمالك كما يقول ديكارت؛ وهو الموقف الذي يوافق عليه الفيلسوف كانط في كتابه نقد العقل المحض :"ينبغي أن يتقدم العقل إلى الطبيعة، ماسكا بيد مبادئه الى تستطيع هي وحدها أن تمنح الظواهر المتطابقة سلطة القوانين، و باليد الأخرى التجريب الذي تخيله وفق تلك المبادئ، حتى يتعلم من الطبيعة لا محالة، لكن لا كتلميذ يدع المعلم يقول كل ما يحلو له قوله، بل على العكس من ذلك كالقاضي يجلس للقضاء، فيحمل الشهود على الإجابة عما يطرح عليهم من الأسئلة"(8).
إن عملية العقلنة هذه قد تمت وفق منهج رياضي كمي، يحول الطبيعة الحسية إلى أشبه بالفضاء
الإقليدي لا تحدده إلا أبعاده الثلاثة الغير منتهية : الطول والعرض و العمق، فضاء نتصوره تصورا جديدا هذه المرة على أنه مفتوح، متجانس، لا متناه [ isotrope ,homogène, infinie ]، فضاء لا يميز بين الفوق و التحت؛ ولا بين مكان و آخر، و لا بين الحركة أو السكون.
وهو الأمر الذي يوضحه لنا أينشتاين [ في كتابه منهج الفيزياء النظرية ] : " إني مقتنع بأن البناء
الرياضي المحض يمكننا من اكتشاف المفاهيم و القوانين التي تصل بينها، و التي تعطينا مفتاح فهم الظواهر الطبيعية، و يمكن للتجربة بطبيعة الحال أن تقودنا في اختيارنا المفاهيم الرياضية التي ينبغي أن نستعملها. غير أنه لا يمكن أن تكون المصدر الذي تنبع منه هذه المفاهيم. و لئن ظلت التجربة بالتأكيد مقياس المنفعة الوحيد لبناء رياضي ما في خصوص الفيزياء، فإن المبدأ الخلاق بحق يكمن في الرياضيات - إنه يصح عندي إذن على نحو ما- أن الفكر المحض قادر على فهم الواقع، وذلك ما كان القدامى يحلمون به "(9). و لكن المشكل يتجلى حسب أينشتاين، لا في إمكان تعقل الرياضيات للواقع؛ بل في مدى و حدود هذا التعقل.
هل نعتبر أن هذا التعقل لا محدود كما كان يتصور ديكارت أو نيوتن ؟ أم أن عملية التجريد الذهني للطبيعة يجب أن تقف عند حد، يجعل القانون العلمي نفسه قانونا نسبيا كما سيقول أينشتاين بعد ذلك؟ حين سيشبه عمل العالم يمثل من ينظر إلى ساعته فلا يرى منها سوى ميناءها، يقول : [ في كتابه تطور الأفكار في الفيزياء، صحبة وانفيلد ]|: " نحن نكاد نكون في المجهود الذي نبذله لفهم العالم كمن يسعى إلى فهم آلية ساعة مغلقة. فهو يرى الإطار و العقارب تتحرك و يسمع الدقات، و لكن لا يملك لفتح العلبة حيلة. إنه يستطيع؛ إذا كان فطنا أن يحصل على صورة ما عن الآلية يجعلها علة كل ما يلاحظه. غير أنه لن يتأكد أبدا من أن الصورة التي يكونها هي وحدها كفيلة بتفسير ملاحظاته "(10).
فإن أصبح القانون العلمي نسبيا، غير مطلق؛ فهل هذا يجعل منه محل مراجعة مستمرة؛ إن لم نقل محل تشكيك مستمر, على النحو الذي فعله دافيد هيوم في القرن 18 أو على النحو الذي فعله نيتشة بعد ذلك، حين سيخضع كل معارفنا المتأتية عن العقل إلى ضربات المطرقة الهدامة، باعتبارها أوهاما لا حقائق !!؟
لكن يجب أن لا نفهم هذا التشكيك أو الهدم على أنه تخلى عن العلم نحو ضرب آخر للمعرفة. لا بل أن العلم لا يتقدم إلا بمثل هذا النقد و التشكيك كما سيبين لنا باشلار حين اعتبر أن " تاريخ العلم هو تاريخ أخطائه و تراجعاته " - بل لعل العقل البشري ذاته- و هو ما أرسته العقلانية الحديثة- لا يسعى إلى الانغلاق داخل نسق معين إلى درجة أنه يتحجر فيه، بل يظل مفتوحا دوما. لأن العقل المنغلق على ذاته عقل ميت، نقيض ذاته، لأنه نقيض الحرية كما نجد ذلك في تعريف كانط للأنوار: " لا شيء مطلوب غير الحرية, أي تلك الي تقبل على استخدام علني للعقل في كل الميادين "(11).
3) عقلانية القانون الوضعي(المدني) :
ليس هناك اختلاف حول شمولية النزعة العقلانية في الفكر الحديث، شموليتها في جميع المجالات ( كما قال كانط )؛ و لا أحد ينكر كذلك مدى تأثير التحولات الفكرية في الفكر العلمي على المجالات الأخرى كالسياسة و الأخلاق.
لذلك سنعتبر عقلانية الفكر السياسي امتدادا " للثورة الكوبرنيكية " التي شملت العلوم في القرن 17 . و سنعتبر أن الفكر السياسي الحديث قد أحدث بدوره " قطيعة إبستملوجية " مع الفكر القديم على قاعدة العقل كذلك، مثلما هو الشأن في الفيزياء و باقي العلوم الأخرى. و إذ نتناول مسألة " القانون الوضعي "ونشأة دولة القانون"، فباعتبارها إحدى النتائج الضرورية لهذا التحول الإبستمي العظيم الذي عرفه عصر الحداثة، بل باعتبارها التحقق الفعلي لأفكار الثورة العلمية، أي الإستتباعات العملية لهذا التحول بالذات.
فعندما نتحدث اليوم عن دولة الحق " أو دولة القانون " بالمعنى الهيقلي، فإن هذا يتطلب منا تحديد دلالات هذا المفهوم، و هو كما نعرف مفهوم حديث يتعارض مع التصور التقليدي للدولة الفارغة من كل محتوى كما عبر عن ذلك هيقل قاصدا بذلك الدولة الدينية " الثيوقراطية ". فهل ما نعنيه "بدولة القانون" هو ما نقصده اليوم بالدولة الديموقراطية ؟
يجيب الأستاذ علي الشنوفي عن هذا السؤال : " فدولة القانون أو بالأحرى دولة الحق، لا تعني... ما صرنا نتمثله اليوم بكثير من الغموض أحيانا عبر مقولات احترام الحقوق الأساسية و فصل السلطة و حيادها، و حماية الحريات المدنية، و الدفاع عن حقوق الإنسان و المواطن، و الحد من تدخل الدولة في شؤون المجتمع المدني، هذا الخليط الذي صار يتماهى مع عبارة الديمقراطية "(12). فدولة القانون هي مفهوم حديث، وليد العصر الحديث، و تحديدا وليد الفلسفة التعاقدية مع هوبز و سبينوزا و روسو و خاصة مع هيقل فيما بعد، حين يعني دولة مدنية تتجاوز الشكل الكهنوتي للسلطة الدينية البابوية القائمة على نظرية الحق الإلهي المقدس للملوك، دولة تقوم هذه المرة على محتوى، هو "فكرة الإرادة" كما يقول هيقل. لكن هذه الفكرة التي هي بالأساس فكرة عقلية تبقى في جوهرها فكرة افتراضية؛ نظرية قد لا تطابق بالضرورة الواقع .
فهل تقوم دولة القانون كدولة واقعية فعلية على الإلزام أم على الخضوع الطوعي ؟
يمكن فهم هذه المسألة، إذا عرفنا أن جميع الأفراد متساوون بالطبيعة في الحقوق و أن هذه الحقوق ثابتة. و نقصد هنا بالحق قدرة الفرد على أن يكون فاعلا في العالم الخارجي طبقا لإرادته و ذلك باعتباره كائنا عاقلا عكس الحيوان. إذ الإنسان مستطيع إلى أبعد من لحظته الراهنة و هذا الحق نعني به الحرية إذ " الطبيعة وحدها - يقول روسو- تعمل كل شيء في تصرفات الحيوان بينما يقوم الإنسان بتصرفاته بصفته فاعلا حرا ". فالناس أحرار باعتبارهم كائنات عاقلة، غير
أنهم في حالة الطبيعة تركوا عرضة للانفعالات و هو ما أوقعهم في ذلك الصراع الرهيب الذي لا مهرب منه؛ سوى تغليب العقل على هذه الانفعالات باعتبارهم أساس الاتفاق و التفاهم بين الناس كما سيرى ذلك سبينوزا إذ يكتب في الفصل 4 من الأخلاق: " و بقدر ما يعيش الناس متبعين العقل تتفق طبيعتهم دائما بالضرورة " إذ "ليس أنفع لإنسان في الطبيعة من إنسان يعيش متبعا للعقل ".
وهكذا يبدو لنا الحل العقلاني حلا طوعيا نحو دولة القانون " دولة يتساوى فيها جميع الناس على أساس العقل» باعتبار العقل هو " الأعدل توزعا و قسمة بين الناس " كما كان يقول ديكارت .
و الحقيقة أن العقل ليس وحده يدفع الإنسان إلى الاتفاق و التواضع؛ بل قد تكون الانفعالات السلبية بدورها دافعا للخروج من حالة الطبيعة نحو التنظيم المدني، لأن الإنسان في هذه الحالة سيكون مضطرا إلى التنازل عن حقوقه الطبيعية وأهمها حق الحرية، كما عند روسو، مقابل تحقيق الأمن و السلام أي ضمان حقه في البقاء كما سنجد ذلك في حالة دولة هوبز.
ولكن هل حيازة السلام تستلزم المجازفة بالحرية؟
إذا كانت الحرية معناها أن لا يكون الإنسان عبدا لإنسان بعينه، أي أن يتنازل عن حقوقه لصالح فرد آخر، و إذا كان ما يتم في العقد الاجتماعي ليس تنازل لفرد بعينه، بل تنازل جماعي بموجبه لا يكون الإنسان عبدا لإنسان بعينه بل عبدا للجميع، وإذا كان كما يقول روسو : "من يهب نفسه للجميع لا يهب نفسه لأحد" ، فإن التنازل في دولة الحق ليس تنازلا عن حقوق، بل تنازلا من أجل القانون، وهو التنازل الذي لابد منه لتحقيق الحرية المدنية والسياسية في النظام المدني الحديث نظام دولة القانون. هذا النظام الذي ستتضح معالمه أكثر مع هيقل في "مبادئ فلسفة الحق "، حيث سيتخلى هيقل عن فكرة العقد الاجتماعي و يعتبرها حلا افتراضيا، لا يلائم العقلانية الحقة، التي تنطبق على واقع الدولة الواقعة فعلا آنذاك. فبعد أن كان هيقل يؤكد على أهمية الصراع في "فينومينولوجيا الروح" وبخاصة على مستوى جدلية السيد و العبد، فأننا نراه في "مبادئ فلسفة الحق "، يسعى إلى بيان أن الدولة تتعالى عن الصراع باعتبارها " دولة القانون "؛ لا توجد للأفراد، بل الأفراد يوجدون لأجلها. فالفرد لا يحقق فرديته وحريته كما يقول هيقل إلا فيها وهذا ما يجعل من " دولة القانون أو دولة الحق " عند هيقل "العقل في ذاته و لذاته " بل هي الكلى العقلي أو ما يسميه هيقل " الإرادة الكلية "، بما هي هذا الكلى العقلي وقد تحقق فعلا في التاريخ. فلم يعد الكلي" إذن نمط الفيزياء الكلاسيكية, ولا نموذج العقلانية الحديثة " بل أصبح هذا النموذج لا يتحقق في المجرد، بل في التاريخ حين أصبح التطابق كليا بين المفهوم و التاريخ، بين العقل والواقع حين أصبح " كل ما هو عقلاني واقعي وكل ما هو واقعي عقلاني" .
المراجع و الهوامش
" و لكني سرعان ما لاحظت، و أنا أحاول على هذا المنوال أن أعتقد بطلان كل شيء أنه يلزمني ضرورة أنا صاحب الاعتقاد أن أكون شيئا من الأشياء، و لما رأيت أن هذه الحقيقة " أنا أفكر أذن أنا موجود " هي من الرسوخ بحيث لا تزعزعها فروض الريبين مهما يكن فيها من شطط، حكمت بأنيٍ أستطيع مطمئنا أن أتخذها مبدأ أول للفلسفة الي كنت أبحث عنها " ( مقالة الطريقة -ترجمة جميل صاليبا- الجزء الرابع ).
يقول سارتر: "في عهد النبلاء الجدد و الرأسمالية التجارية تمكنت طبقة بورجوازية من الحقوقيين و التجار و أصحاب المعارف من إدراك بعض الجوانب من ذاتها بواسطة الديكارتية". -مسائل في المنهج- طبعة قاليمار-GALLIMARD 1960 ص7 -10 .
ما بعد الطبيعة : مقالة الألف 982 أ - 14 -20 .[ أرسطو ].
سيعلق أحد المحدثين بعد ذلك قائلا : " إن فكرة القانون قد هبطت من السماء إلى الأرض "
ديكارت : [ كتاب العالم - فصل 7 ].
لعله يقصد الصياغة الرياضية الي وضعها غاليلي لقانون السقوط الحر على عمود على النحو التالي: ² g. t x=1/(2 )
قاستون باشلار : العقلانية المطبقة - طبعة المطابع الجامعية الفرنسية -PUF ص 293.
كانط : نقد العقل المحض -طبعة “PUF - 1968 ص 17 - 18 .
أينشتاين : في منهج الفيزياء النظرية. - طبعة بايوت PAYOT
أينشتاين و أنفليد: تطور الأفكار في الفيزياء - طبعة بايوت PAYOT
كانط : ما هي الأنوار -طبعة PUF
علي الشنوفي : من مقال " دولة القانون " ورد ف المجلة التونسية للدراسات الفلسفية صادرة عن الجمعية التونسية للدراسات الفلسفية سنة 1986 عدد 8 . :
الهادي عبد الحفيظ - قابس/تونس