في العام 1955 ألقى الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر (1889-1976) في منطقة النورماندي الفرنسية (Cerisy-La-Salle) محاضرة شهيرة عنوانها "ما الفلسفة؟"، أعلن فيها أن الفلسفة ليست مستودعاً من المعارف النظرية، بل مسرى من التطلب الوجودي يستنهض الكائن الإنساني في أعماق وعيه حتى يستجيب لنداء الحقيقة، أي لاستدعاء الكينونة. ليست الفلسفة علماً كسائر العلوم، ولا رؤية متسقة للعالم مبنية على أساس الحكم القطعي، ولا أساساً نظريا للمعارف العقلية، ولا معرفة مطلقة، ولا حتى اختباراً من اختبارات القلق الوجودي الذي يعتصر فؤاد الإنسان المعاصر (هايدغر، "الكينونة والحقيقة"، مجموعة الأعمال الألمانية الكاملة، الجزء 36/37، ص 8 ).
من الواضح أن الفلسفة شأن فريد يحثنا على إعادة النظر في معنى الحياة الإنسانية. في فترة الشباب والأمليات الجامعية الأولى، كان هايدغر يعاين في الحياة الواقعية (الواقعانية) مصدر التفلسف الحق، ذلك بأن الحياة الواقعية تعني لنا أن نترك الوقائع تظهر على ما هي عليه، من غير تعنيف لها. "إذا لم أترك للطبشورة أن تكون طبشورة، فهرستها في الجرن هرساً، حينئذ لن أستخدمها" (هايدغر، "مدخل إلى الفلسفة"، مجموعة الأعمال الألمانية الكاملة، الجزء 27، ص 102). لذلك لا يجوز للإنسان أن يهرس الحياة في جرن التجريدات النظرية الصلبة. فالحياة ينبغي أن يفهمها الإنسان انطلاقاً من الحياة، لا من قالب نظري مصنوع من خارج حقائقها الخاصة.
التأويل ومفاهيمه
ولكن هل يمكننا أن نفسر الحياة من غير أن نخضعها لمقولات التأويل ومفاهيمه وأدواته وآلياته وقوالبه النظرية الخارجية؟ الجواب أن الحياة تسبقنا إلى إظهار معناها قبل أن نتأولها، لذلك نفهم الحياة بفضل تجليات الحياة قبل أن نعمد إلى تفسيرها، إذ إن الفهم يسبق التأويل، خلافاً للتصور القائل بأن التأويل شرط الفهم. بما أن الزمان هو بعد الحياة الجوهري، فالتأويل يساعد الأشياء في الظهور في حركة عفوية تضطلع بها الفنومنولوجيا التي يعرفها هايدغر ظهوراً عفويا للكائنات في تناغم سحري مع أصلها الناشب في الكينونة. علينا إذاً أن "نختبر حيوية الحياة اختباراً جديداً" (هايدغر، "في سبيل تعريف الفلسفة"، الأعمال الألمانية الكاملة، الجزء 56/57، ص 88).
لكي نفهم الحياة في تأولها الذاتي العفوي، ينبغي لنا أن ندرك معنى الدازاين (Dasein) يعرف الإنسان كائناً منغرساً في العالم، فالهوية الإنسانية تتحدد على قدر ما يتأول الإنسان انغراسه في صميم العالم. فالإنسان هو الكينونة تؤول نفسها تأويلاً حرا في العالم. سمي الإنسان الدازاين، إذ إنه اعتلان الكينونة في العالم (هايدغر، "مدخل إلى الفلسفة"، ص 240). ليست التأويلية منهجاً في فهم حقائق الوجود، بل الطريقة أو الكيفية أو الحال التي تتجلى بها الكينونة في العالم لأن الحياة تنطوي على معناها في ذاتها، تهبني ذاتها قبل أن أقبل عليها بالتأمل والتحري والتنقيب. الحياة تؤول نفسها بنفسها، على ما كان يذهب إليه مارتن لوتر حين أعلن أن الكتاب المقدس يؤول نفسه بنفسه (scriptura sui ipsius interpres). التأويلية نمط في الوجود، لا نهج في المعرفة. غير أن ظواهر الحياة لا تعتلن اعتلاناً مباشراً في مدارك الإنسان، بل تحتاج إلى وسيطٍ أمين، عنيت به اللغة التي ينبغي أن تسكن فيها الأشياء والظواهر والموجودات والكائنات، فاللغة منزل الكينونة الأبهى. كلمات اللغة مطبوعة بمعيش الحياة التي يختبرها الإنسان. وللحياة كفاية في ذاتها، وتعبيرية خاصة بها، ودلالية منبثقة منها.
ومن ثم فإن هايدغر يربط الفلسفة بفعل التأويل العفوي المنبثق من الحياة. لذلك يجب علينا أن نفكك بنية الفكر المتافيزيائية والأونطولوجية (هايدغر، "الكينونة والزمان"، الأعمال الألمانية الكاملة، الجزء 1، ص 22) حتى نستعيد قدرتنا على استقبال تجليات الكينونة في الكلمات الحرة المنبعثة من صدى الأشياء عينها ومن إشاراتها الخفرة اللطيفة (هايدغر، "الهوية والاختلاف"، الأعمال الألمانية الكاملة، الجزء 11، ص 20). لكيلا يخون التأويل الحياة ينبغي لنا أن نستند إلى حدس منبثق من صميم الحياة نفسها. عوضاً عن المعرفة النظرية، يجب علينا أن "نفهم فهم التبصر، وأن نتبصر تبصر الفهم". فالتبصر (schauen) رؤية حدسية عفوية تنفذ إلى أعماق الأشياء تستقبل فيها القابليات التي تساعد الكينونة على الاعتلان أمام الإنسان- الدازاين.
التجاوز الدائم
هذا الإنسان هو قدرة وثابة على التجاوز الدائم، كائن الأقاصي يتجاوز الكائنات إلى جوهرها، والأشياء إلى معناها، والموجودات إلى حقيقتها، على غرار قولة الفيلسوف الإغريقي بارمنيذيس (القرن السادس ق. م.): "التفكير والكينونة أمر واحد"، أي إن الكينونة تظهر في التفكير الخاشع، والتفكير ليس إلا اعتلاناً للكينونة في الإنسان، لا يستقيم إلا انطلاقاً من حقيقة الكينونة في الحياة. حين تتأول الحياة ذاتها توقظ الإنسان من سباته ليدرك ما تهبه الحياة من معاني اعتلانها في معترك وجوده، لذلك يرسم هايدغر أن الفلسفة يجب عليها أن تنغمس انغماساً عميقاً في الحياة بحسب ما تتجلى عليه من أحوال.
إذا كان الأمر على هذا النحو، فإن تعريف الفلسفة يصبح أمراً شائكاً. في محاضرة النورماندي (1955)، يعترف هايدغر بصعوبة تحديد الفلسفة انطلاقاً من الفلسفة، وقد انتهت إلى أنظومة نظرية مجردة. لا نستطيع أن نعرف الفلسفة فلسفياً، أي بالاستناد إلى التحول العقلاني الحديث الذي زج الفلسفة في متاهات التنظير. فإما أن يستخرج العقل ماهية الفلسفة على طريقة أرسطو، وإما أن يتطلع إلى مثالها على طريقة أفلاطون، وكلا السبيلين لا يحظى برضى هايدغر. لا بد إذاً من انتهاج سبيل آخر هو السبيل التاريخاني الذي يتناول الفلسفة في مسراها التاريخي الذي استهله الفلاسفة الإغريق الأوائل. وحده هذا السبيل يجعلنا ندرك مقامنا وهويتنا ودعوتنا في الحياة، إذ إن الفلسفة تهتم بسر الأسرار وعمق الأعماق، أي بكينونة الكائنات جميعها. لا يمكننا أن نفصل الفلسفة عن مصير السؤال الأساسي الذي استهله الفلاسفة الإغريق الأوائل يتناولون به معنى الكينونة في حياة الإنسان.
ثلاث كلمات تساعدنا في فهم هايدغر: الأنطولوجيا، والفنومنولوجيا، والفسارة أو التأويلية، وكلها مقترنة بالعمق الأصلي الذي هو الكينونة (هايدغر، "تاريخ الفلسفة من توما الأكويني حتى كانط"، الأعمال الألمانية الكاملة، الجزء 23، ص 16). تدل الأنطولوجيا على مبحث الكينونة نستعيد به السؤال الأصلي الذي يرعى اعتلان معنى الكائنات كلها. تعني الفنومنولوجيا أن نترك الأمور الجوهرية تظهر بحرية كاملة في فضاء الالتماس حتى يعتلن لنا معنى الأمور في صفاء حقيقة الكينونة (هايدغر، "الهوية والاختلاف"، ص 148). أما الفسارة أو التأويلية، فهي استقبال هذا المعنى بحسب ما تهبنا إياه الحياة في اندفاعاتها العفوية. وعليه، يكون الإنسان- الدازاين هو تأويل الحياة فينا، يبين لنا كيف تتجلى الحياة في الإنسان، وكيف تتأول معناها في اختبارات انغماسنا اليومي في شؤون العالم.
الكائنات المتصارعة
لا بد، والحال هذه، من أن يقف الإنسان موقفاً متسائلاً يصون الكينونة من تسلط الكائنات المتصارعة المتهالكة المستنفدة. ذلك بأن السؤال تقوى الفكر، والفلسفة لا تزدهر إلا فنا في التأويل، وفنا في التساؤل السليم. لا بد أيضاً من تفكيك تاريخ الفلسفة وتاريخ الأنظومات الفلسفية تفكيكاً لا هدم فيه ولا تدمير ولا إلغاء (هايدغر، "الكينونة والزمان"، ص 22)، بل تناول جديد، وتأويل مختلف، واستثمار فذ للتراث الفكري الذي تركه أهل الفجر الإغريقي حتى تستطيع الكينونة أن تكشف عن ذاتها كشفاً حرا في تضاعيف الزمان ومجاري التاريخ.
على هذا النحو، يمكن القول إن الفلسفة ليست اجتهاداً عقلانيا نظريا مجرداً منعزلاً عن إشارات الكينونة وتفورات الحياة واعتمالات الزمان وتمخضات الأشياء والكائنات والموجودات. ليست الفلسفة هيمنة يمارسها الوعي الذاتي على العالم، بل اقتبال رضي لاختبار الحياة المنسلة إلى ثنايا الوعي الهادئ، المستعد، المسالم، الوادع. الفلسفة مسعًى تأملي صبور يروم تعزيز التناغم الأصلي بين الحياة والذات الإنسانية حتى تفرج الكينونة عن أسرارها في معارج الاختبار التاريخي.
ومن ثم، فإن الفلسفة تؤول الإشارات التي تأتيها من الكينونة تأويلاً مفتوحاً مشرعاً يغترف مضامينه من ينبوع الحياة. في كل اختبار من الاختبارات التي يعانيها الإنسان ويتحمل مسؤوليتها، تنعقد ثلاث وضعيات مترابطة تتيح للإنسان أن يدرك قرائن التعبير الأنسب: اختبار العالم المحيط به اختباراً واقعيا حياتيا ملموساً، واختبار عفوية العالم الذاتي، واختبار التاريخ الناشط في معترك الوجود الحالي (هايدغر، "الفنومنولوجيا في مسائلها الأساسية"، الأعمال الألمانية الكاملة، الجزء 24، ص 262). من جراء هذا الانعقاد، يتمكن الإنسان من انتهاج طريقة سليمة في استعادة الأصل المحجوب الذي منه تنبعث تجليات الكينونة.
وعليه، لا تستطيع الفلسفة أن تحول هذه التجليات إلى مواضيع نظرية خاضعة لمنطق التعريف المجرد الصارم. في الموضع عينه، يصف هايدغر الفلسفة بالجدلية، وينعت هذه الجدلية بالتأويلية البينية (Diahermeneutik) أو تأويلية التمييل بين الفهم والرؤية الحدسية، بين الحياة والوعي، بين الكينونة والكائنات. إنها الفلسفة تستند في الوقت عينه إلى الفهم وإلى الرؤية الحدسية حتى تنقذ مفاهيمها من محنة خيانة الحياة. ذلك بأن النظر الفلسفي ليس إطباقاً على الحياة وإجهازاً عليها وإعداماً لها، بل مواكبة متبصرة، ورعاية لطيفة، ومؤانسة بناءة. تستمد الفلسفة دفعها وحيويتها وطاقتها من الشغف الصادق بالحياة. في هذا السياق، يتأول هايدغر الشغف الأفلاطوني (eros) تأولاً يتيح له أن يجعل الفلسفة كلها عشقاً مضطرماً ينسجم انسجام الألفة العميقة مع سحر الحياة وسرها، شرط ألا تشوه الفلسفة انبساط الحياة في معيشها العفوي التلقائي.
خلاصة القول أن الفلسفة تراعي حركة الحياة عينها، فتتيح لها أن تعبر عن ذاتها تعبيراً حراً صادقاً أميناً، فالوجود موهوب وهباً مستقلاً لا يخضع لقرار الإنسان، ونشاط الوعي، واجتهاد العقل. ليس على الفلسفة إلا أن تستقبل هذا الوهب استقبالاً مهيباً خاشعاً رضياً، ومن ثم فإن مثل هذا الاستقبال يتيح وحده للكائنات أن تنتعش على قدر ما ينعكس فيها نور الكينونة. لا تطمح الفلسفة إلى القول الموضوعي الصائب المطلق، بل إلى إدخال الإنسان في عالم الحياة إدخالاً سليماً تعبر عنه كلمات اللغة في غير تعنيفٍ ولا استبداد. ذلك بأن الكينونة لا تطيق التعسف القولي الذي ينطوي عليه خطاب العقلانية المظفرة. في إثر عملية التفكيك التاريخية، اقتنع هايدغر، لاسيما في طور نضجه الأخير، بأن الفلسفة استنفدت كل وسائلها واستثمرت كل طاقاتها. فأعلن نهايتها وبداية زمن الفكر الخفر، الورع، المتضع، فكر الكينونة المعتلنة في انحجابها، المنحجبة في اعتلانها.
لذلك يدعو هايدغر الإنسان إلى اختيار الطريق الصحيح، فإما السقوط في محنة الموضوعية المتصلبة التي تخنق الكائنات في تقنية الانتهار والاستثمار والاتجار، وإما المغامرة في الانتقال انتقال القفز الجريء إلى عالم الحياة، حيث يعاين الناس حقيقة الأشياء في تناغم عناصر الكون كله، وانسجام خفقان الحياة كلها، وائتلاف دقات الزمان كله (هايدغر، "في سبيل تعريف الفلسفة"، ص 63). حينئذ يدرك الإنسان حقيقته على قدر ما يستجلي دعوة الفلسفة التي تتحول فكراً صبوراً في التأمل الهادئ: "الإنسان إنسان بالتفلسف" (هايدغر، "مدخل إلى الفلسفة"، ص 1).
مشير باسيل عون
من الواضح أن الفلسفة شأن فريد يحثنا على إعادة النظر في معنى الحياة الإنسانية. في فترة الشباب والأمليات الجامعية الأولى، كان هايدغر يعاين في الحياة الواقعية (الواقعانية) مصدر التفلسف الحق، ذلك بأن الحياة الواقعية تعني لنا أن نترك الوقائع تظهر على ما هي عليه، من غير تعنيف لها. "إذا لم أترك للطبشورة أن تكون طبشورة، فهرستها في الجرن هرساً، حينئذ لن أستخدمها" (هايدغر، "مدخل إلى الفلسفة"، مجموعة الأعمال الألمانية الكاملة، الجزء 27، ص 102). لذلك لا يجوز للإنسان أن يهرس الحياة في جرن التجريدات النظرية الصلبة. فالحياة ينبغي أن يفهمها الإنسان انطلاقاً من الحياة، لا من قالب نظري مصنوع من خارج حقائقها الخاصة.
التأويل ومفاهيمه
ولكن هل يمكننا أن نفسر الحياة من غير أن نخضعها لمقولات التأويل ومفاهيمه وأدواته وآلياته وقوالبه النظرية الخارجية؟ الجواب أن الحياة تسبقنا إلى إظهار معناها قبل أن نتأولها، لذلك نفهم الحياة بفضل تجليات الحياة قبل أن نعمد إلى تفسيرها، إذ إن الفهم يسبق التأويل، خلافاً للتصور القائل بأن التأويل شرط الفهم. بما أن الزمان هو بعد الحياة الجوهري، فالتأويل يساعد الأشياء في الظهور في حركة عفوية تضطلع بها الفنومنولوجيا التي يعرفها هايدغر ظهوراً عفويا للكائنات في تناغم سحري مع أصلها الناشب في الكينونة. علينا إذاً أن "نختبر حيوية الحياة اختباراً جديداً" (هايدغر، "في سبيل تعريف الفلسفة"، الأعمال الألمانية الكاملة، الجزء 56/57، ص 88).
لكي نفهم الحياة في تأولها الذاتي العفوي، ينبغي لنا أن ندرك معنى الدازاين (Dasein) يعرف الإنسان كائناً منغرساً في العالم، فالهوية الإنسانية تتحدد على قدر ما يتأول الإنسان انغراسه في صميم العالم. فالإنسان هو الكينونة تؤول نفسها تأويلاً حرا في العالم. سمي الإنسان الدازاين، إذ إنه اعتلان الكينونة في العالم (هايدغر، "مدخل إلى الفلسفة"، ص 240). ليست التأويلية منهجاً في فهم حقائق الوجود، بل الطريقة أو الكيفية أو الحال التي تتجلى بها الكينونة في العالم لأن الحياة تنطوي على معناها في ذاتها، تهبني ذاتها قبل أن أقبل عليها بالتأمل والتحري والتنقيب. الحياة تؤول نفسها بنفسها، على ما كان يذهب إليه مارتن لوتر حين أعلن أن الكتاب المقدس يؤول نفسه بنفسه (scriptura sui ipsius interpres). التأويلية نمط في الوجود، لا نهج في المعرفة. غير أن ظواهر الحياة لا تعتلن اعتلاناً مباشراً في مدارك الإنسان، بل تحتاج إلى وسيطٍ أمين، عنيت به اللغة التي ينبغي أن تسكن فيها الأشياء والظواهر والموجودات والكائنات، فاللغة منزل الكينونة الأبهى. كلمات اللغة مطبوعة بمعيش الحياة التي يختبرها الإنسان. وللحياة كفاية في ذاتها، وتعبيرية خاصة بها، ودلالية منبثقة منها.
ومن ثم فإن هايدغر يربط الفلسفة بفعل التأويل العفوي المنبثق من الحياة. لذلك يجب علينا أن نفكك بنية الفكر المتافيزيائية والأونطولوجية (هايدغر، "الكينونة والزمان"، الأعمال الألمانية الكاملة، الجزء 1، ص 22) حتى نستعيد قدرتنا على استقبال تجليات الكينونة في الكلمات الحرة المنبعثة من صدى الأشياء عينها ومن إشاراتها الخفرة اللطيفة (هايدغر، "الهوية والاختلاف"، الأعمال الألمانية الكاملة، الجزء 11، ص 20). لكيلا يخون التأويل الحياة ينبغي لنا أن نستند إلى حدس منبثق من صميم الحياة نفسها. عوضاً عن المعرفة النظرية، يجب علينا أن "نفهم فهم التبصر، وأن نتبصر تبصر الفهم". فالتبصر (schauen) رؤية حدسية عفوية تنفذ إلى أعماق الأشياء تستقبل فيها القابليات التي تساعد الكينونة على الاعتلان أمام الإنسان- الدازاين.
التجاوز الدائم
هذا الإنسان هو قدرة وثابة على التجاوز الدائم، كائن الأقاصي يتجاوز الكائنات إلى جوهرها، والأشياء إلى معناها، والموجودات إلى حقيقتها، على غرار قولة الفيلسوف الإغريقي بارمنيذيس (القرن السادس ق. م.): "التفكير والكينونة أمر واحد"، أي إن الكينونة تظهر في التفكير الخاشع، والتفكير ليس إلا اعتلاناً للكينونة في الإنسان، لا يستقيم إلا انطلاقاً من حقيقة الكينونة في الحياة. حين تتأول الحياة ذاتها توقظ الإنسان من سباته ليدرك ما تهبه الحياة من معاني اعتلانها في معترك وجوده، لذلك يرسم هايدغر أن الفلسفة يجب عليها أن تنغمس انغماساً عميقاً في الحياة بحسب ما تتجلى عليه من أحوال.
إذا كان الأمر على هذا النحو، فإن تعريف الفلسفة يصبح أمراً شائكاً. في محاضرة النورماندي (1955)، يعترف هايدغر بصعوبة تحديد الفلسفة انطلاقاً من الفلسفة، وقد انتهت إلى أنظومة نظرية مجردة. لا نستطيع أن نعرف الفلسفة فلسفياً، أي بالاستناد إلى التحول العقلاني الحديث الذي زج الفلسفة في متاهات التنظير. فإما أن يستخرج العقل ماهية الفلسفة على طريقة أرسطو، وإما أن يتطلع إلى مثالها على طريقة أفلاطون، وكلا السبيلين لا يحظى برضى هايدغر. لا بد إذاً من انتهاج سبيل آخر هو السبيل التاريخاني الذي يتناول الفلسفة في مسراها التاريخي الذي استهله الفلاسفة الإغريق الأوائل. وحده هذا السبيل يجعلنا ندرك مقامنا وهويتنا ودعوتنا في الحياة، إذ إن الفلسفة تهتم بسر الأسرار وعمق الأعماق، أي بكينونة الكائنات جميعها. لا يمكننا أن نفصل الفلسفة عن مصير السؤال الأساسي الذي استهله الفلاسفة الإغريق الأوائل يتناولون به معنى الكينونة في حياة الإنسان.
ثلاث كلمات تساعدنا في فهم هايدغر: الأنطولوجيا، والفنومنولوجيا، والفسارة أو التأويلية، وكلها مقترنة بالعمق الأصلي الذي هو الكينونة (هايدغر، "تاريخ الفلسفة من توما الأكويني حتى كانط"، الأعمال الألمانية الكاملة، الجزء 23، ص 16). تدل الأنطولوجيا على مبحث الكينونة نستعيد به السؤال الأصلي الذي يرعى اعتلان معنى الكائنات كلها. تعني الفنومنولوجيا أن نترك الأمور الجوهرية تظهر بحرية كاملة في فضاء الالتماس حتى يعتلن لنا معنى الأمور في صفاء حقيقة الكينونة (هايدغر، "الهوية والاختلاف"، ص 148). أما الفسارة أو التأويلية، فهي استقبال هذا المعنى بحسب ما تهبنا إياه الحياة في اندفاعاتها العفوية. وعليه، يكون الإنسان- الدازاين هو تأويل الحياة فينا، يبين لنا كيف تتجلى الحياة في الإنسان، وكيف تتأول معناها في اختبارات انغماسنا اليومي في شؤون العالم.
الكائنات المتصارعة
لا بد، والحال هذه، من أن يقف الإنسان موقفاً متسائلاً يصون الكينونة من تسلط الكائنات المتصارعة المتهالكة المستنفدة. ذلك بأن السؤال تقوى الفكر، والفلسفة لا تزدهر إلا فنا في التأويل، وفنا في التساؤل السليم. لا بد أيضاً من تفكيك تاريخ الفلسفة وتاريخ الأنظومات الفلسفية تفكيكاً لا هدم فيه ولا تدمير ولا إلغاء (هايدغر، "الكينونة والزمان"، ص 22)، بل تناول جديد، وتأويل مختلف، واستثمار فذ للتراث الفكري الذي تركه أهل الفجر الإغريقي حتى تستطيع الكينونة أن تكشف عن ذاتها كشفاً حرا في تضاعيف الزمان ومجاري التاريخ.
على هذا النحو، يمكن القول إن الفلسفة ليست اجتهاداً عقلانيا نظريا مجرداً منعزلاً عن إشارات الكينونة وتفورات الحياة واعتمالات الزمان وتمخضات الأشياء والكائنات والموجودات. ليست الفلسفة هيمنة يمارسها الوعي الذاتي على العالم، بل اقتبال رضي لاختبار الحياة المنسلة إلى ثنايا الوعي الهادئ، المستعد، المسالم، الوادع. الفلسفة مسعًى تأملي صبور يروم تعزيز التناغم الأصلي بين الحياة والذات الإنسانية حتى تفرج الكينونة عن أسرارها في معارج الاختبار التاريخي.
ومن ثم، فإن الفلسفة تؤول الإشارات التي تأتيها من الكينونة تأويلاً مفتوحاً مشرعاً يغترف مضامينه من ينبوع الحياة. في كل اختبار من الاختبارات التي يعانيها الإنسان ويتحمل مسؤوليتها، تنعقد ثلاث وضعيات مترابطة تتيح للإنسان أن يدرك قرائن التعبير الأنسب: اختبار العالم المحيط به اختباراً واقعيا حياتيا ملموساً، واختبار عفوية العالم الذاتي، واختبار التاريخ الناشط في معترك الوجود الحالي (هايدغر، "الفنومنولوجيا في مسائلها الأساسية"، الأعمال الألمانية الكاملة، الجزء 24، ص 262). من جراء هذا الانعقاد، يتمكن الإنسان من انتهاج طريقة سليمة في استعادة الأصل المحجوب الذي منه تنبعث تجليات الكينونة.
وعليه، لا تستطيع الفلسفة أن تحول هذه التجليات إلى مواضيع نظرية خاضعة لمنطق التعريف المجرد الصارم. في الموضع عينه، يصف هايدغر الفلسفة بالجدلية، وينعت هذه الجدلية بالتأويلية البينية (Diahermeneutik) أو تأويلية التمييل بين الفهم والرؤية الحدسية، بين الحياة والوعي، بين الكينونة والكائنات. إنها الفلسفة تستند في الوقت عينه إلى الفهم وإلى الرؤية الحدسية حتى تنقذ مفاهيمها من محنة خيانة الحياة. ذلك بأن النظر الفلسفي ليس إطباقاً على الحياة وإجهازاً عليها وإعداماً لها، بل مواكبة متبصرة، ورعاية لطيفة، ومؤانسة بناءة. تستمد الفلسفة دفعها وحيويتها وطاقتها من الشغف الصادق بالحياة. في هذا السياق، يتأول هايدغر الشغف الأفلاطوني (eros) تأولاً يتيح له أن يجعل الفلسفة كلها عشقاً مضطرماً ينسجم انسجام الألفة العميقة مع سحر الحياة وسرها، شرط ألا تشوه الفلسفة انبساط الحياة في معيشها العفوي التلقائي.
خلاصة القول أن الفلسفة تراعي حركة الحياة عينها، فتتيح لها أن تعبر عن ذاتها تعبيراً حراً صادقاً أميناً، فالوجود موهوب وهباً مستقلاً لا يخضع لقرار الإنسان، ونشاط الوعي، واجتهاد العقل. ليس على الفلسفة إلا أن تستقبل هذا الوهب استقبالاً مهيباً خاشعاً رضياً، ومن ثم فإن مثل هذا الاستقبال يتيح وحده للكائنات أن تنتعش على قدر ما ينعكس فيها نور الكينونة. لا تطمح الفلسفة إلى القول الموضوعي الصائب المطلق، بل إلى إدخال الإنسان في عالم الحياة إدخالاً سليماً تعبر عنه كلمات اللغة في غير تعنيفٍ ولا استبداد. ذلك بأن الكينونة لا تطيق التعسف القولي الذي ينطوي عليه خطاب العقلانية المظفرة. في إثر عملية التفكيك التاريخية، اقتنع هايدغر، لاسيما في طور نضجه الأخير، بأن الفلسفة استنفدت كل وسائلها واستثمرت كل طاقاتها. فأعلن نهايتها وبداية زمن الفكر الخفر، الورع، المتضع، فكر الكينونة المعتلنة في انحجابها، المنحجبة في اعتلانها.
لذلك يدعو هايدغر الإنسان إلى اختيار الطريق الصحيح، فإما السقوط في محنة الموضوعية المتصلبة التي تخنق الكائنات في تقنية الانتهار والاستثمار والاتجار، وإما المغامرة في الانتقال انتقال القفز الجريء إلى عالم الحياة، حيث يعاين الناس حقيقة الأشياء في تناغم عناصر الكون كله، وانسجام خفقان الحياة كلها، وائتلاف دقات الزمان كله (هايدغر، "في سبيل تعريف الفلسفة"، ص 63). حينئذ يدرك الإنسان حقيقته على قدر ما يستجلي دعوة الفلسفة التي تتحول فكراً صبوراً في التأمل الهادئ: "الإنسان إنسان بالتفلسف" (هايدغر، "مدخل إلى الفلسفة"، ص 1).
مشير باسيل عون
Bei Facebook anmelden
Melde dich bei Facebook an, um dich mit deinen Freunden, deiner Familie und Personen, die du kennst, zu verbinden und Inhalte zu teilen.
www.facebook.com