عيدالفتاح كيليطو - مقامات

بصفة عامة، يتحدث الناقد أو الباحث باسمه الشخصي ويتحمل عبء ما يقول مباشرة وبالكامل، بينما صاحب الكتابة الأدبية لا يخاطب القارئ إلا بصفة غير مباشرة لأنه ينسب الكلام إلى رواة وشخوص لهم أسماء وسِيَر وتصرفات خاصة قد تكون في بعض الأحيان شبيهة بما يجري في الأحلام. واستنادًا إلى تجربتي الشخصية يمكن أن أقول إني سعيت، في كلتا الحالتين، إلى الاحتفاظ بنفس الصوت والإيقاع، وبالنغمة ذاتها، بحيث لا أروي في نهاية الأمر، أنا الذي أعتمد دائمًا على غيري، إلا لقاءاتي المتجددة مع هذا المُؤلِّف أو ذاك.

خصوصية الكتابة مرتبطة بنوعية القراءة. ماذا قرأت؟ وبادئ ذي بدء، ما هو أول كتاب قرأته؟ في كل مناسبة أقدم عنوانًا مختلفًا حسب مزاج اللحظة، ومنعرجات الذاكرة، وحسب الشخص الذي يسألني ولغته والأدب الذي ينتمي إليه، فأقترح، بل أخترع كتابًا أول، أُبدع مرة أولى. ها نحن أمام مسألة البدايات. هل هناك أصلا مرة أولى؟ في أغلب الأحيان لا تكون مؤكدة ومضمونة، سواء أتعلق الأمر بالقراءة أم بأمور أخرى. ما إن نعتقد الإمساك بها حتى نكتشف، وربما في الحين أو فيما بعد، أنها مسبوقة بأخرى. المرة الأولى في النهاية هي المرة بعد الأولى، وفي أحسن الأحوال المرة الثانية.
ككل تلميذ، تعلمت تهجي الحروف وكتابتها في المدرسة تحت إشراف المعلم، وهذا مكسب مهم (ننسى ذلك)، ولكن الأهم حدث عندما أدركت أن باستطاعتي بمفردي قراءة كتاب، وبالتالي قراءة كل الكتب المتاحة. إنه مكسب تحرزه وحدك، بدون أن يساعدك أحد، لا المعلم ولا الأم ولا الأب ولا الأخ الأكبر. في لحظة متميزة وغير متوقعة، تفتح كتابًا وأنت تلعب، فتجدُ نفسك تقرؤه، تغدو قادرًا على قراءته فتسترسل في تتبع صفحاته إلى النهاية. تبدأ حينئذ مرحلة جديدة في حياتك، يتخللها البحث عن الكتب والعثور عليها والتجاوب معها. وإذا بك تخصص وقتك كله للأدب، فيرافقك منذ صغرك ولا تتصور الوجود بدونه.
بأية لغة يتم ذلك؟ قرأت وأنا طفل عددًا لا بأس به من الروايات الأمريكية والبريطانية، مترجمة إلى الفرنسية وبعضها بتصرف لتكون في متناول صغار السن، روايات جاك لُندُن، والتر سْكُوت، مارك توين، وآخرين. هل كنت أدرك أنها مترجمة؟ لا شك أنني كنت أحس أن ما أقرؤه ينتمي إلى عوالم بعيدة عن السياق الفرنسي كما بدأت التعرف عليه من خلال الكِتاب المدرسي؛ يتجلى الاختلاف في نعوت الأماكن الجغرافية كما في أسماء الشخوص ولباسهم وأطعمتهم وعاداتهم.
يختلف مجال هذه الروايات عن الإطار الفرنسي، فما بالك بالإطار العربي كما تعودت عليه في محيطي الأسري ثم في الكتاب المدرسي. ومن بين النصوص التي درَسناها قصة «الحلاق الثرثار» لمصطفى لطفي المنفلوطي، قصة هزلية شيقة بثت السعادة فينا، ضحكنا جميعا ونحن نقرؤها، ولا غرو أنها هي التي هدتني إلى كتب المنفلوطي وإلى الولع بها حتى أنني قرأتها بالكامل. لم يكن ملمًا بالفرنسية، كان يترجم مؤلفات لم يقرأها، لا بلغتها الأصلية ولا بأية لغة أخرى، لم يكن يعرف محتواها إلا شفويًا، والحق يقال إنه استطاع بفضل أسلوبه المتميز أن يفرض نفسه كمؤلف أصيل. وهكذا اكتشفت الأدب الأنجلوسكسوني عن طريق اللغة الفرنسية، والأدب الفرنسي عن طريق اللغة العربية¹. لم أقرأ كتبا فرنسية بلغتها الأصلية إلا فيما بعد، ولعل أول ما قرأت أوجيني غراندي لـ بَلْزَاك، لأن قريبة لي أكدت أن هذا الكتاب سيساعدني على إتقان الإنشاء المدرسي ... وارتباطًا بهذا فإن الصورة التي تكونت لدي هي أن الروايات الأمريكية التي كنت أقرؤها تدور أحداثها في فضاءات بعيدة، غابات موحشة، بحار نائية، جزر تحمل أسماء موحية، ثلوج متراكمة، كائنات غريبة وأحيانًا مخيفة. أما أحداث الروايات الفرنسية التي نقلها المنفلوطي فتتم غالبًا في فضاء حضري مديني، وشخوصها في أغلبهم مهذبون أنيقون.
قد يؤدي الولع بالقراءة إلى رسم مصير الطفل وتحديد مستقبله الدراسي والمهني، ومن هذا المنظور كان من الطبيعي أن أمارس مهنة تدريس الأدب. هكذا تخصصت، إن جاز التعبير، في دراسة الأدب الفرنسي، لكن انتهى بي الأمر، ويا للمفارقة، بإنجاز أطروحة عن مقامات الهمذاني والحريري. لماذا وقع اختياري على هذا النوع بالذات، على نصوص لا يقرؤها أحد، بحيث يخيل إلي أنني اليوم قارئها الوحيد وأنها ألفت من أجلي؟
ربما رغبة في الابتعاد عن النهج الأوروبي، نهج يظل يلاحقك رغمًا عنك ولا فكاك لك منه. أحد الباحثين (لا أتذكر اسمه ولا سياق إشارته، أتذكر فقط أن النص كان بالإنجليزية) كتب قبل مدة أن مقامات الحريري الخمسين كادت أن تكون رواية لو راعى مؤلفها ترتيبًا زمنيًا محكمًا بحيث تكون مرتبطة وموصولة عضويًا بعضها ببعض. فالقاعدة النوعية أن كل مقامة منفصلة ولا تتصل بجاراتها إلا بخيط رفيع يتمثل في عودة البطلين. قد تصير رواية إذا أدخلنا بعض التعديلات على متنها، مثلًا إذا اعتبرناها لا كوحدات كل منها مكتفية بذاتها ومنفصلة عن بعضها البعض، وإنما كفصول في مجموع منسجم، وربطها زمنيًا بحيث يكون هناك تسلسل واتساق. وقد نضيف أن هذه حال الرواية التشردية الإسبانية التي يدور موضوعها على الكدية والصعلكة، تمامًا كما في كتاب الحريري. كان بإمكان مقاماته أن تكون رواية، بالمعنى الأوروبي، كما هو شائع اليوم ومند قرنين أو ثلاثة. الخلاصة أنها رواية، بيد أنها لا تعلم ذلك. بتعبير آخر كاد الحريري أن يكون مؤلفًا أوروبيا! لكنه مع الأسف لم يذهب بعيدًا في هذا الاتجاه، لم يدرك أن الفرصة كانت متاحة له للاندماج في الإطار الأوروبي للرواية. تكمن أهمية كتابه في وعد لم يتحقق، وعد لم يدر بخلده لكنه سيظل مرتبطًا به. المقامات عنوان مجده وشهادة انهزامه.
غني عن القول إن هذه الاعتبارات لم تكن لتراوده أو تشغل بال معاصريه. إنها تكشف عن أسف دفين، وفي الوقت ذاته عن رغبة مبهمة في معالجة الأمر وتصحيحه بحشر الحريري في جو عصرنا المواتي لفن الرواية. ليس هذا الأمر بالمدهش حقا، فعادة ما نتصرف هكذا عندما نتفحص الأدب العربي انطلاقًا من أدب آخر يعتبر مهيمنا، كالأدب الإنجليزي أو الفرنسي. في هذه الحالة فإن البحث الأدبي، والقراءة بشكل شامل، تغدو عملية تعديل مستمرة، فمن أجل الامتثال للنموذج الأجنبي نقوم تلقائيًا وبحسن نية بتقطيع النصوص أو تمديدها حسب الحالات.
ما يميز المقامات أن أبطالها أدباء، وبشيء من التفكير يجوز ربط هذا بما جاء في رسالة الغفران، علما أن شخصها الرئيس، ابن القارح، لم يكن شخصًا «من ورق»، بل كان من معاصري أبي العلاء. نحن إذن أمام ظاهرة فريدة وربما نادرة، الأديب كبطل لعمل سردي. يذهب مع ذلك تفكيرنا في هذا المضمار إلى روايات حديثة تتطرق للموضوع نفسه، مثلًا أوهام ضائعة لـ بَلْزَاك، وقريبًا منا ما يسمى «رواية الكامپوس»، صنف ازدهر في المدة الأخيرة، ومن بين من ساهم فيه، يمكن ذكر ڤلاديمير نابوكوف، وفيليب رُوط، وديڤيد لُودج، صاحب عالم صغير، رواية جمع فيها نموذجين، فإلى جوار الجامعيين وصف روائيين وشعراء، ولا يخفى أن العديد من الجامعيين يطمحون إلى قرض الشعر أو كتابة نص روائي. أشير إلى أنني ركبت الموجة نفسها في أنبئوني بالرؤيا، وربما في سائر محاولاتي السردية. هكذا بعد لف ودوران عدت إلى المقامات.
كنت في نهاية الستينيات وبداية السبعينيات من القرن الماضي أهتم شيئا ما باللسانيات لأنه كان يشاع وقتئذ أنها تمنح الطريقة المثلى لتحليل النصوص الأدبية. من لا يتقن اللسانيات لن يفلح أبدًا في مساره الأدبي. كنت تعيسًا أمام هذا الحكم القاطع، وكنت أصغي إلى اللسانيين يتحدثون بحماس وأنا بينهم لا أفهم ما يقولون. تبين لي حينئذ أنني لست مؤهلًا للخوض في التنظير اللساني والأدبي، مع أنني استفدت كثيرًا من علمائه وأخصائييه. يضاف إلى هذا عجزي الواضح عن كتابة دراسة رصينة وفق المعايير الجامعية المعهودة. وبالجملة، لست قادرًا على تأليف بحث مستفيض لموضوع ما في فصول متراصة البناء. كان هذا يقلقني ولم أتجاوزه إلا يوم ظهر لي أن ما كنت أعتبره عجزًا يمكن أن أجعل منه الموضوع الرئيس لمؤلفاتي. ليست طريقتي في الكتابة من اختياري، ما هو شبه مؤكد أن ليس بمستطاعي أن أكتب بطريقة أخرى، ولعل هذا هو تعريف الأسلوب، أن تظل حبيس طريقة في الكتابة.
اتضح لي هذا على الخصوص وأنا أقرأ الجاحظ، فهو الذي خلصني من شعوري بالنقص يوم أدركت أنه لم يكن يستطيع، أو على الأصح لم يكن يرغب في إنجاز كتاب بمعنی استیفاء موضوع ما والمثابرة عليه والسير قدمًا دون الالتفات يمينًا أو يسارًا. هو نفسه يقر بهذا ويعتذر مرارًا ... على ماذا؟ كدت أقول على تقصيره، وما هو بتقصير. يعلل الأمر بتخوفه من أن يمل القارئ، والواقع أنه هو أيضًا كان يشعر بالملل ويسعى إلى التغلب عليه، وهذا سر استطراداته المتتالية. أسس الجاحظ بصفة جلية فن الاستطراد، دشن (ها نحن قد رجعنا دون أن نشعر إلى مفهوم المرة الأولى) فن الانتقال المفاجئ من موضوع إلى موضوع، من شعر إلى نثر، من موعظة إلى نادرة، من مَثَل إلى خطبة، من جد إلى هزل. وإذا كان من اللازم تشبيهه بكاتب أوروبي، فلا أرى أفضل من الفرنسي مُونتيني الذي كان يكتب، على حد قوله، «بالقفز والوثب». ولا أشك أنه كان يقرأ أيضًا بهذه الطريقة.
الكتابة بالقفز والوثب ... أفهم اليوم لماذا قضيتُ سنوات في دراسة المقامات، ذلك أن مؤلفيها، المتشبعين بفكر الجاحظ، نهجوا الأسلوب نفسه. وقد أكون تأثرت بهم، فكتبي تتكون من فصول قائمة بذاتها، إنها استطرادات، مجالس، أو إذا فضلنا مقامات، بكل معاني الكلمة.


_________؛___
¹: على الأرصفة كانت تباع مجلة أدبية مصرية صغيرة الحجم عنوانها كتابي، وكان صاحبها، حِلمي مُراد، يصدر أيضًا سلسلة «مطبوعات كتابي»، تتضمن ترجمة أرقى الروايات العالمية. أنا مدین بالكثير لهذا الناشر، فبفضله قرأت مدام بوڤاري وما لا يحصى من الروايات الأوروبية، ومن بينها رواية فنلندية هي الوحيدة التي اطلعت عليها في حياتي. أشير مع ذلك إلى أنني قرأت مؤخرًا أرنب ڤاطَنان، رواية جميلة لـ أَرْطُو پَاسِيلِينا.



مقامات.
— من كتاب: في جوٍّ من الندم الفكري، عبد الفتاح كيليطو.
أعلى