في هذه الزيارة للديار الأندلسية، حصل ما لم يكن في حسباننا. كنا نتجول في ظهيرة مشمسة على كورنيش شاطئ مدينة «ماربيا»، والمقاهي المطلة عليه أو على الشاطئ، مكتظة بالناس من العديد من الأجناس، راعني منظر فتى جميل الطلعة، يتأبط ذراع فتاة لا شك في حسنها، وإن كانت تغطي محياها بحجاب لا تبدو منه إلا عيناها الباديتا الجمال. كانا الشخصين الوحيدين اللذين يلبسان لباساً غريبا، جميل المنظر مزركشاً وبجوانبه «سفائف» مطرزة بخيوط ذهبية. وقد ارتدى الفتى عمامة ذات لون أصفر زاه. فعجبنا أيما عجب لمنظرهما، والحال أن الناس في هذا اليوم المشمس جلهم متخففون من الملابس، وبعضهم يلبس لباس السباحة ذكوراً وإناثاً، شيبة وشباباً. تعجبتُ أيما تعجب ورفيقتي من شأنهما. ورغم أن الناس هنا لا يأبهون بمنظر الآخرين وأشكال ملابسهم بالنظر إلى إيمانهم إيماناً راسخاً بالحرية الشخصية، إلا أن منظرهما الغريبَ استرعى نظر بعضهم للحظات. أعتقد أننا ـ نحن ـ كنا من أشد المهتمين بهذين الشخصين غريبي المظهر وهما على كورنيش مدينة الجمال «ماربيا». فتجاسرتُ واقتربت منهما، بل سرت بجانبهما وهما لا يشعران، لعلي ألتقط ما يدور بينهما من حديث قد يكون غريباً مثل لباسهما، فإذا بي يصل إلى مسمعي شعر أندلسي رقيق ينفذ إلى الشغاف. قال الفتى بصوت خافت عذب مخاطباً رفيقته الحسناء :
يا غزالاً جُمِعَتْ فيه ـ منَ الحُسنِ فُنونُ
أنتَ في القربِ وفي البعدِ ـ من النفسِ ـ مكينُ
بهواكَ الدَّهْرَ ألهو، وبِحُبيكَ أَدينُ
مُنْيةَ الصبِّ : أغِثْني = قدْ دَنَتْ مني المَنُونُ
وَاحْفَظِ العهدَ، فإِنِّي = لستُ ـ واللهِ أخُونُ
وارحَمَنْ صباًّ شجياً = قدْ أذابتهُ الشُّجُونُ
ليلهُ همٌّ وغَمٌّ = وسقامٌ وأنينُ
شفَّهُ الحُبُّ فأَمْسَى = سَقَماً لا يسْتَبينُ
صارَ للأشْواقِ نهْبَاً = فَنَبَتْ عَنْهُ العُيُونُ.
فاضطربت الفتاةُ وخشيتْ أنْ يسمع المارة والجالسونَ على كراسي المقاهي هذا الغزل المفعم بمشاعر الحب المبرح المشبوب، وأبدت حركاتٍ تنم عما أحسَّتْ به من خَجَل، وقد «كانتْ من الأدب والظرفِ وتنعيم ِ السمعِ والطرفِ بحيث ُتَخْتَلِسُ القلوب والألباب وتعيدُ الشيبَ إلى أخلاق الشباب» (ابن خلكان)، لكنه لم يَرْعَوِ ـ شأنَ زميله القديم عمر بن أبي ربيعة ـ فأردف يقول شاكياً ما كانت تفعله به حبيبته وملهمته بصدودها ودلالها وجمالها، قبل أن يدبرا معاً أمر فرارهما من قصر أبي الحزم بن جهور الذي تولى حكم قرطبة سنة 422 هـ:
كمْ ذا أريدُ ولا أرادُ = يا سُوءَ ما لقيَ الفؤادُ
أُصْفِي الوِداد َمدَلَّلاً = لمْ يصْفُ لي مِنْهُ الوِدَادُ
يقَضِي عليَّ دَلالُهُ = في كُلِّ حينِ ـ أوْ يَكادُ
كيفَ السُّلُوُّ عن الذي = مثْواهُ من قلبي السوادُ؟
ملكَ القلوبَ بحسنهِ = فَلَها إذا أَمرَ انقيــــادُ
ياهاجِري كَمْ أَسْتفيدُ = الصَّبْرَ عَنكَ فلَاَ أُفَادُ
ألا رَثَيتَ لِمَنْ يبيتُ = وحَشْوُ مُقْلَتِهِ السُّهَادُ؟
فعرفتُ أنهما العشيقان الشهيران الشاعر الوزير الطموح ابن زيدون، وولادة بنتُ المستكفي الأميرة الحسناء سليلة البيت الأموي الكريم، الشاعرة التي يقول فيها ابن بسَّام «وأما ذكاء خاطرها وحرارةُ نوادرها فآيةٌ من آياتِ فاطِرها». وبدون أن أتجاسر على سؤالهما عن سفرهما ومجيئهما للسياحة في مدينة ماربيا وشاطئها الجميل والاستمتاع بشمسه الدافئة، أدركت أنهما هربا من عيون العذال وقهر المتزمتين من أهلهما، وفراراً من التعرض إلى السجن الذي قضى فيه الشاعر الوزير خمسين يوما بسبب دسائس ووشايات الحساد، ناشديْن في هذه المدينة: الحرية والانطلاق والانعتاق من التقاليد وحضور الآخر الصارم الذي يخنق أنفاس الأحرار والعاشقين.
د. عبدالجبار العلمي
يا غزالاً جُمِعَتْ فيه ـ منَ الحُسنِ فُنونُ
أنتَ في القربِ وفي البعدِ ـ من النفسِ ـ مكينُ
بهواكَ الدَّهْرَ ألهو، وبِحُبيكَ أَدينُ
مُنْيةَ الصبِّ : أغِثْني = قدْ دَنَتْ مني المَنُونُ
وَاحْفَظِ العهدَ، فإِنِّي = لستُ ـ واللهِ أخُونُ
وارحَمَنْ صباًّ شجياً = قدْ أذابتهُ الشُّجُونُ
ليلهُ همٌّ وغَمٌّ = وسقامٌ وأنينُ
شفَّهُ الحُبُّ فأَمْسَى = سَقَماً لا يسْتَبينُ
صارَ للأشْواقِ نهْبَاً = فَنَبَتْ عَنْهُ العُيُونُ.
فاضطربت الفتاةُ وخشيتْ أنْ يسمع المارة والجالسونَ على كراسي المقاهي هذا الغزل المفعم بمشاعر الحب المبرح المشبوب، وأبدت حركاتٍ تنم عما أحسَّتْ به من خَجَل، وقد «كانتْ من الأدب والظرفِ وتنعيم ِ السمعِ والطرفِ بحيث ُتَخْتَلِسُ القلوب والألباب وتعيدُ الشيبَ إلى أخلاق الشباب» (ابن خلكان)، لكنه لم يَرْعَوِ ـ شأنَ زميله القديم عمر بن أبي ربيعة ـ فأردف يقول شاكياً ما كانت تفعله به حبيبته وملهمته بصدودها ودلالها وجمالها، قبل أن يدبرا معاً أمر فرارهما من قصر أبي الحزم بن جهور الذي تولى حكم قرطبة سنة 422 هـ:
كمْ ذا أريدُ ولا أرادُ = يا سُوءَ ما لقيَ الفؤادُ
أُصْفِي الوِداد َمدَلَّلاً = لمْ يصْفُ لي مِنْهُ الوِدَادُ
يقَضِي عليَّ دَلالُهُ = في كُلِّ حينِ ـ أوْ يَكادُ
كيفَ السُّلُوُّ عن الذي = مثْواهُ من قلبي السوادُ؟
ملكَ القلوبَ بحسنهِ = فَلَها إذا أَمرَ انقيــــادُ
ياهاجِري كَمْ أَسْتفيدُ = الصَّبْرَ عَنكَ فلَاَ أُفَادُ
ألا رَثَيتَ لِمَنْ يبيتُ = وحَشْوُ مُقْلَتِهِ السُّهَادُ؟
فعرفتُ أنهما العشيقان الشهيران الشاعر الوزير الطموح ابن زيدون، وولادة بنتُ المستكفي الأميرة الحسناء سليلة البيت الأموي الكريم، الشاعرة التي يقول فيها ابن بسَّام «وأما ذكاء خاطرها وحرارةُ نوادرها فآيةٌ من آياتِ فاطِرها». وبدون أن أتجاسر على سؤالهما عن سفرهما ومجيئهما للسياحة في مدينة ماربيا وشاطئها الجميل والاستمتاع بشمسه الدافئة، أدركت أنهما هربا من عيون العذال وقهر المتزمتين من أهلهما، وفراراً من التعرض إلى السجن الذي قضى فيه الشاعر الوزير خمسين يوما بسبب دسائس ووشايات الحساد، ناشديْن في هذه المدينة: الحرية والانطلاق والانعتاق من التقاليد وحضور الآخر الصارم الذي يخنق أنفاس الأحرار والعاشقين.
د. عبدالجبار العلمي
Войдите на Facebook
Войдите на Facebook, чтобы общаться с друзьями, родственниками и знакомыми.
www.facebook.com