مصطفى معروفي - ملاحظات حول شعر الشباب

ما ذا يمكن للمرء أن يقوله حول شعر الشباب من حيث القضايا التي يطرحها ومن حيث الواقع الذي يعيشه والآفاق التي يستشرفها؟
يبدو أن الحديث عن هذا كله يحتاج قبل الخوض فيه إلى شيء من التأمل والتفكير، ولا بد في البداية من أن نرصد بعض الظواهر التي تشكل ملامح قصيدة الشباب بالشكل الذي تكتب به حاليا.
نلاحظ بأن قصيدة الشباب هاته تشهد على مستوى الكم والتراكم انتعاشا ملحوظا، وهو أمر يشير إلى عدة حقائق تشي في أغلبها بأن التراكم إياه وفي جانب كبير منه هو نتيجة أسباب ليست أدبية، لأن الشعر غير متحقق فيه إن كليا أو جزئيا.
من هنا كان الحديث عن التجربة الشعرية أو الحساسية الشعرية عند الشباب محفوفا بالمطبات والمزالق، نظرا لكون هذه التجربة أو الحساسية لم تتبلور بعد بشكل كاف يسمح لنا بالحكم عليها حكما عادلا، بيد أن هذا لا يمنع من القول بأن الشعراء المفروض فيهم أن يكونوا في مستوى تجربة ذات خصوصية باعتبار المدة الزمنية التي قضوها في كتابة الشعر لم يفتأوا يراوحون مكانهم داخل دائرة مغلقة، وكأن هذه المراوحة قدر مفروض عليهم لا يجدون عنه للخلاص منه محيصا، فقصائدهم تتشابه في الشكل أو في المضمون أو فيهما معا، وتعوزها مواصفات الاكتمال والقدرة على الرقي في الثاني منهما ـ أي المضمون ـ ، والسبب في نظري يعود إلى احتمالين اثنين أرجح الثاني منهما:
الاحتمال الأول هو أن هؤلاء الشعراء الشباب يصدرون في كتاباتهم عن واقع واحد، يستقون منه تجاربهم، فالواقع له تأثير واحد عليهم أدى بهم بشيء من الصرامة إلى التشابه في الكتابة، فما دام واقعهم واحد فلماذا لا تكون كتاباتهم واحدة، بمعنى أنها كتابة متشابهة.
الاحتمال الثاني هو أن هؤلاء الشعراء الشباب يستنسخون تجارب غيرهم ويترسمون خطاها، حتى أن القاريء لا يعدم في قصائد هؤلاء لمسات أدونيس أو درويش أو حجازي أو عبد الصبور أو غيرهم جلية واضحة للعيان، ولذا كان خلوها من معاناة حقيقية شيئا طبيعيا، ونحن هنا مدعوون إزاء هذه الحالة أن نحذر السقوط في بئر الحديث عن كتابة تفتقر إلى الأصالة.
إن تجربة الشعر لدى الشباب تبدو لكأنها مرْبدة الملامح، ولربما هي غامضة لا تكاد تبين. وحتى لا نكون عدميين وحتى لا نتهم بأننا مغرقون في التشاؤم نقول بأننا أحيانا قد نقع على أسماء بعدد أصابع اليد الواحدة تسعى جاهدة للإنفلات من قبضة هذه الحالة الرديئة التي يشهدها الواقع كي تكون لنفسها خصوصيتها وفرادتها.
داخل المشهد الشعري نلاحظ مجموعة من الأسماء خاضت غمار الكتابة منذ مدة، وتلح على الحضور المستمر أو هي تعلن عن حضورها بين الفينة والأخرى في منابر إعلامية وفي ملتقيات شعرية، لكنها لم تتزحزح قيد أنملة عن النقطة التي بدأت منها مشوار الكتابة، فبقيت متخلفة لم تحقق أي تقدم نوعي، رغم أن بعض هذه الأسماء يمتاز بإسهاله في الكتابة مقارنة مع أسماء أخرى، ويتجلى تخلفها في اللغة التي تكتب بها، والتقنيات التي تستخدمها في إنشاء القصيدة.فاللغة لديها تقريرية خطابية أو مبهمة أو هي مزج بين الخطابة والإبهام، لكنها لا تسمو أبدا إلى مرتبة الشعر بما يتطلبه من انزياح على مستوى الكلمة أو الجملة أو على مستوى الصورة الشعرية.
أما التقنيات التي تستخدمها فهي ضعيفة ومبتذلة، كاللجوء إلى التكرار أو التقديم والتأخير على صعيد أجزاء الجملة، بحيث يخيل للقاريء أنه أمام نص من السخف أن ينسب إلى الشعر.
أنبه أنني هنا لا أتحدث عن قصيدة النثر، والسبب هو أن هذه القصيدة لم تكتب لحد الآن بشكل مرض وبصيغة تخولها لأن توضع في خانة الشعر، فهي وإن كانت تحتضن العديد من الممارسين لها إلا أنها لم تستطع أن تقدم لنا أسماء مهمة يشار إليها بالبنان كما هو الشأن بالنسبة للشعراء الكبار فيها أمثال أنسي الحاج ومحمد الماغوط وعباس بيضون وسركون بولص، أقول هذا وأنا أعي بأن الشعر قد يتحقق في النثر ولا يتحقق في قصيدة التفعيلة والقصيدة العمودية، ولو أن القصيدة الموزونة لا بد أن تجد فيها شيئا جميلا حسب ما يراه صديقي الشاعر المغربي إدريس الملياني.
ونحن نتحدث عن التجربة الشعرية لدى الشباب لابد أن نعرج على أولئك الذين يحلو لهم أن يتكلموا عن الإيقاع بمناسبة وبدون مناسبة، ويرفضون التعامل مع عروض الخليل بدعاوى سخيفة بعيدة عن المنطق وليست بذات حجة، تدفع المرء إلى السخرية منهم والرثاء لهم في أن واحد، فأنا أزعم بأن هؤلاء المتنطعين يجهلون الإيقاع والعروض معا، ورفضهم للعروض ناتج عن أمور لا تخفى عن اللبيب، ولهؤلاء نقول بأن القصيدة الحرة ـ أعني قصيدة التفعيلة ـ لم تأتي من فراغ هكذا ضربة لازب، بل أتت من صميم الشعر العربي وبالإستناد إلى عروض الخليل أساسا، فكانت تطويرا للقصيدة العمودية وليست إلغاء لها كما يتوهمون ويريدون أن يوهموا الغير بذلك، وقد أعطى هذا التطوير للقصيدة إمكانيات جديدة للشاعر لم تكن متاحة له من قبل، فتخلص من الروي والإلتزام بالقافية [1]، وأصبح بوسعه الانطلاق إلى فضاءات أرحب وأوسع، هذا الفتح الشعري منح القصيدة العربية الحرة نفسا جديدا وكبيرا، بيد أنه لم يسحب البساط من تحت أقدام القصيدة العمودية، فهذه الأخيرة ما زال لديها أن تقول أشياء كثيرة[2].
وإذاَ فالتطوير لا يتم عبر التنكر لميراث أصيل متين من تراث الأمة العربية، بل يتم ذلك عبر تمثل ما هو كائن لاستشراف ما هو ممكن للوصول إليه في ظل أصالة الشعر العربي، فمن السخف والصفاقة أن نتحدث عن شيء ونحن نجهله، ونمضي إلى أكثر من ذلك فنرفضه، والأدهى من هذا كله أن جد من يصغي إلينا ويأخذ بكلامنا.
إن الذين يفعلون هذا إنما هم يدافعون عن الرداءة لتحتل مقعد الشرف، و فعلا هذا ما حصل، وها نحن نرى الحضيض الذي وصل إليه الشعر على أيديهم ،لكن التاريخ حكمه وقاس وعادل، وهولن ينسى لهم هذا، وسيعلمون أي منقلب ينقلبون.
والآن لنلتفت قليلا إلى القاموس الشعري لدى الشباب فنقول إنه قاموس يغلب عليه طابع الاقتباس، فجملة من المفردات ترد في قصائدهم كرموز تحمل نفس الدلالة التي وظفت بها لدى شعراء آخرينِِِ [3]، العامل الذي يفقد العمل الشعري حرارته ويهبط به درجات عن مرتبة الإبداع والخلْق.
أما أهم ما تشكو منه قصيدة الشباب وهو القاصم لظهرها فهو خلوها من الرؤية نظرا لــ:
- عدم إدراك طبيعة الشعر كعمل فني يتطلب الفرادة.
- التعامل مع المواضيع المتناولة بقليل من الانتباه والمبالاة.
- التقليد ومحاكاة تجارب الآخرين.
وهكذا يكون الحديث عن شعر الشباب حديثا ذا شجون، إن لم يؤرق صاحبه فهو على الأقل سيتركه يتساءل عن المصير الذي سيؤول إليه الشعر العربي على يد هؤلاء الشباب. ونحن بدافع الغيرة على الشعر نقول بأننا نريد من هؤلاء الشباب أن يكونوا في مستوى المسؤولية، وأن يضطلعوا بها خير اضطلاع حتى يمكنهم أن يضيفوا إلى الشعر عمقا تزهى به القصيدة بوصفها فنا.
--------------
إشارات:
[1]بعض الرواد ـ نازك الملائكة مثلا ـ يلحون على أن تحضر القافية والروي من حين لأخر في القصيدة الحرة كإثراء للإيقاع.
[2]من الملفت للنظر أن تظهر القصيدة العمودية بشكل صارخ مع انتفاضة أطفال الحجارة وحرب الخليج الأولى والثانية،فهل القصيدة العمودية لا تتحرك إلا بالأحداث الكبيرة؟
[3] مثلا لفظة "مطر" توظف بنفس الدلالة التي وظفت بها عند بدر شاكر السياب، مع أن مفردة كهذه غنية بالدلالات تكفينا الرجوع فيها إلى السياب أو غيره.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى