لعل مقاربة مجموعة الشاعر محمد العامري "عليه العشب" (عمان: خطوط وظلال،2021م) تتطلب منا الإشارة إلى اتساع تجربة الشاعر الفنية والحياتية فهذه المجموعة السادسة للعامري بعد مجموعاته: "معراج القلق" 1990م، و"خسارات الكائن" 1995م، و"الذاكرة المسننة – بيت الريش" 1999م، و"قميص الحديقة" 2003م، و"ممحاة العطر" 2017م. كما أن الشاعر له أعمال أخرى في السرد والفن التشكيلي، وله دور مهم في الحياة الثقافية المحلية والعربية. من هنا فإن هذه المقاربة لن تغفل هذه الجوانب في معاينة المجموعة، واستكناه ما تقوله على صعيد الفن والفكر، وقد ارتأينا أن تكون تحت عنوانين رئيسيين: التكوين والرؤيا.
التكوين
تحمل مجموعة الشاعر محمد العامري عنوانًا على غلافها الخارجي جملة اسمية " عليه العشب" أما في الداخل فظهرت العناوين الفرعية، بخلاف ما نعرفه من طرائق العنونة، في أرقام متسلسلة حتى المئة وواحد. وهذا يثير أسئلة حول هذا الاستخدام ودلالاته. كما يلفت الانتباه أن العنوان الرئيسي" عليه العشب" يتركز سره في ضمير الغائب، وتأتي كلمة "العشب" في المقام الثاني من الأهمية. ولكن كلا الاسمين يثيران الأسئلة حول فائدة هذا العنوان، ودلالة الضمير الذي يحتويه، وما المقصود بكلمة "العشب الذي عليه، وهل الكلمة تحمل معنى حقيقيًا أم معنى مجازيًا؟
في الكلمة التي كتبها الناقد محمد صابر عبيد على الغلاف الخلفي للمجموعة يفصح عبيد عما يشير إليه ضمير الغائب في العنوان الرئيسي، فهو يشير إلى الكتاب نفسه؛ إذ شكل لون العشب الأرضية للغلاف، وظهر بأن "شعاره "عليه العشب"، ونستشف من هذا بأن العشب هو عشب حقيقي. ونحن لا نستطيع التسليم بهذا القول لأن فيه خروجًا عن الشعرية التي نعرفها لدى العامري من ناحية، وفيه من ناحية أخرى سطحية واضحة، ربما لم ينتبه إليها الناقد عبيد. إذًا ما الذي قصده الشاعر بهذا العنوان؟
يحسن بنا لخوض غمار الإجابة عن هذا السؤال الاستعانة بالنصوص الشعرية التي حملت ملامح العنوان، أو إحدى مفرداته.
وردت مفردة العشب في عدة مواضع من المتن الشعري. فنقرأ من مقطوعة تتحدث عن نهر بطيء في سيره:
ينوء بعيدًا بعيدًا
وتمشي على ركبتيه الطيور
بعيدًا إلى آخر العشب
حتى يموووت(ص44)
كما وردت الكلمة في مقطوعة أخرى تتحدث عن أنثى وهي تسير سيرًا بطيئًا:
تمشي الهوينا كطير كسير،
وتعجن الفجر بالعشب حينا وحينًا تصب فراديسها في ردوم النهار(71)
وفي موضع آخر يظهر القمر مثل العشب:
"قمر يشبه العشب حين تغادره الساقية
لم يكن ضوءًا ولكنه كان خبزًا وتين.(ص104)
وهو تشبيه يتكرر في مقطوعة (رقم 51) (ص112)
نلاحظ أن مفردة ""العشب" في هذه النصوص وردت في صور: مجازية وحقيقية، ولم تحمل أي معنى، وترك للمتلقي أن يختطف المعنى كما يريده من عالم الخيال أو الواقع. هكذا في خضم هذا الغموض لم تفدنا النصوص التي وردت فيها الكلمة في فهم جملة العنوان، كما لم ندرك ماهية الضمير في شبه الجملة(عليه) ولنا أن نفهمه كما شئنا؛ فقد يكون التراب أو الوطن، أو البيت، أو القبر، أو أي شيء آخر. فلا معنى ولا هدف للعنوان غير إثارة الاندهاش من هذا اللامعنى.
إن هذه الصعوبة، وربما الاستحالة في إدراك معنى العنوان الرئيسي" عليه العشب" انتقلت إلى العناوين الفرعية حين حملت المقطوعات الشعرية أرقامًا متسلسلة، وقد تفاوتت في طولها حتى إن بعضها تكون من سطر واحد، وبعضها من فقرات طويلة تمتح من عالم السرد، في فوضى وتداخلات وغياب للمعنى، كما نقرأ في المقطوعة الأخيرة:" سوف أزرع ليمونة، لأسوي حليب الحموضة من ثديها، لا مكان لرأسي سواها، سأعصر من ضرعها لبنًا لصغار الكلاب، وأحرسها كل يوم لأسكب فيها وساوس أغصانها، ربما سوف تغفو لتشلح أوراقها، دون مرأى الرياح، تخاف إذا جاءها خلسة تتعرى، فترمي بأغصانها نحو سوءتها وتميل، تمامًا تداري حياء الهواء كما امرأة عضها الشوق، كل فراغ يذود عن الريح أوراكها"(ص213)
يرى الناقد عبيد في كلمته على الغلاف أن هذه النصوص الشعرية رسائل حب:" هذا كتاب في الهوى يتسلق المدى، يطيره الشاعر الفنان محمد العامري على محفة مائة رسالة حب ورسالة". وفي نهاية كلمته يساير العتبة النصية التي يفتتح بها الشاعر الكتاب، والتي جاء فيها قول جلال الدين الرومي:" ما لمس الحب شيئًا إلا وجعله مقدسًا" فيراها أناشيد صوفية غارقة في الأمل و" طالعة من رحم لغة شفافة مزهرة".
ونحن نتساءل: هل حقًا ما حمله الديوان "عليه العشب" رسائل حب وأناشيد صوفية، وأنه غارق في الأمل؟ لعل الإجابة عن تساؤلنا تتطلب الحديث عن الرؤيا التي انطوت عليها المجموعة.
الرؤيا
عندما نتحدث عن الرؤيا في ديوان "عليه العشب" لمحمد العامري نقصد بها تلك التصورات والتهويمات والشطحات الخيالية والوجدانية كالتي تظهر في أحلامنا تمييزًا لها عن الرؤية التي تعني ما تبصره العين، أو وجهة النظر في موضوع ما. وقد انبثق القول بالمصطلح ونحن نعاين التشكيل الفني لديوان العامري" عليه العشب" الذي فاجأنا بما انطوى عليه من غموض وتعقيد.
من الملاحظ أن الذات الشاعرة تنظر إلى العالم نظرة ذاتية، وإن استخدمت في أحيان قليلة ضمير الغائب، وهي في انفصال تام عن الآخرين وعن المكان والزمان والواقع المعايش. ويبدو انفصالها عن الآخر(الحبيبة) في القصيدة التي يبتدئ بها الديوان، وتحمل رقم(1):
"أراك على بُعد نهدين ارتطما
صدفة في يدي.
تمرين كاملة في سراجي،
وظلك مد ذراعيه نحوي،
كأنك للتو خارجة من مياهي،
فأنت أول سطر وآخر
ما عرفتْه سمائي"(ص9)
ففي هذه الأسطر لا يتغنى الشاعر بالاقتراب من الحبيبة بل بالانفصال عنها؛ فقد انتهت علاقته الشبقية بها، ولن يعود إليها. وهو يتباهى بهذه النهاية من خلال استخدام ياء المتكلم في نهايات الأسطر(يدي، سراجي، نحوي، مياهي، سمائي) وترداد الكلمات الدالة على التلاشي والغياب( بعد، تمرين، خارجة ..) فلم يكن في هذه العلاقة غير الملل والسأم والشبق في محاولة لنسيان وجوده العبثي.
وفي مقطوعة أخرى تتجلى علاقته بالأنثى خالية من العواطف الإنسانية؛ فليس هذا الذوبان الجسدي بينهما غير تعبير عن رغبة شبقية تطغى عليها مشاعر جامدة، وكأن الاثنين في السرير تمثالان من الرخام:
أنت رمّانة فرطتْ قلبها في السرير
ونامت زخارفها في سفوح القميص
فتحنا بروق الرُّخام وصرنا تماثيل لينة وهديل (ص174)
نلاحظ في مقطوعة أخرى أن الانفصال عن الحبيبة يرافقه الهروب من تذكر المكان الذي التقيا فيه؛ فتبرز صورته في الذاكرة خاويًا، رغم أنه شهد ذلك اللقاء الساخن بينهما.
"يتعقبني وجهها في كتاب النهار
أحاول أن أقتفي صورة للشفاه بأحمرها
لكأن المكان بلا شفة للكلام
كأن الذي بيننا ارتطام شهابين في لحظة ساخنة" (ص79)
إن الشاعر لا يطيق الحب، ولا يطيب له مكان، إنه دائم التقلب والتشظي، لا يرى غير وجه الرحيل والغياب. وإذا كان ابن عربي لا يعول على المكان الذي لا يؤنث فإن المكان هنا، إذا غابت الأنثى عنه، فإن الحشرات تؤنثه. وفي هذه النظرة تتبدى وحدة المخلوقات وتساويها في الحياة والموت:
" أرى نجمة سقطت في الحوالم بعد رحيلك، صرت فراغًا تؤثثه الحشرات، وصرت سماء رمادية تشبه الخبز والذكريات " (ص120)
ونشاهد وجهًا آخر من الانفصال المكاني يستند إلى ضمير الجماعة الغائب:
كثيرون كانوا هنا
ينحتون مناديلهم للبكاء
هنا تركوا ظلهم في ثقوب الجدار
مشوا باتجاه ضلالاتهم
تركوا سجفًا، وحقائب محشوة بالأنين(ص65)
هنا يتحقق الانفصال المكاني باستخدام الصور الغريبة (نحت المناديل، وترك الظل في ثقوب الجدار، الحقائب المحشوة بالأنين) واستخدام ضمير جماعة الغائبين ما هو إلا ضمير المتكلم الذي يعبر عن أحاسيس الذات الشاعرة وهمومها. ويبدو المشهد طافحًا بالحيوية من خلال حركة الإنسان، وكأننا أمام رسام يُظهر المكان ضمن توليفة من الصور المتحركة ليقدم الإنسان، وهو يعاني الألم بسبب انفصاله عن المكان.
أما الانفصال عن الزمن فيتحقق لدى الذات الشاعرة من خلال الإحساس بوطأته وتأثيراته القاسية، لهذا فهو يريد للزمن أن يموت:
أريد ثواني تموت بلا عودة
أشتري ما أريد من الوقت
أضربه بيدي وأحبسه في شعاب الجبال لكي لا يقوم(ص185)
كما يرى العمر رغم أن أوله مثل آخره" رعشة للولادة/ سيف للرحيل" (ص97) يمر دون أن يتنبه إليه، وينتهي بلقاء الموت:
يمر بنا العمر مثل هواء خفيف
دونما سبب ينتهي الوقت
ونمشي إلى حتفنا ضاحكين (ص133)
إنه لا يرى في الحياة غير اليأس والملل فكل الأشياء هباء وخداع:
كل شيء موارر: الدّرب والعمر والأمنيات
ولا شيء غير غبار يلاحقنا
لا هواء ولا صدفة تقطع الوقت إلا سياجٌ يدجن رتم الغناء(ص175)
في مشهد آخر يحس الشاعر بالخواء وهو يرى العالم وقد غرق في الحروب وسفك الدماء، وكثر فيه اليتامى والأرامل، وغدت الأيام ملطخة بالأسى والحزن، وفيها العويل والخوف اللذين تبعثهما رؤية التوابيت:
من سريري
أطل على عالم وجل، حيث ارتكاب الدماء
كأني أطل على حفرة فاض فيها العويل
ذبائح مشنوقة ببكاء الأرامل(ص89)
ويتفاقم هذا الإحساس بالخواء حين يرى الآخرين ينبذونه، مع أنه حمل بلده على ظهر قلبه، كما يقتضي الحب.
أنا ذلك الخُلّبي
يداي فراغ وقلبي تفاحة للغياب.
دونما قمر سأسوي رغيفًا من الليل، أسحنه برحى الأهل
حملت بلادًا على ظهر قلبي لتقتلني،
وتهيل علي التراب.(ص15)
هكذا جاء ديوان "علية العشب" للشاعر محمد العامري يخترق ما هو مألوف في الشعر المعاصر مسايرًا التغير في نمط الحياة، وتطور المجتمع، وتقلب البيئة؛ نتيجة التقدم الهائل الذي شهده العصر في التكنولوجيا الرقمية ووسائل الاتصال، وتمثل هذا الاختراق في تشكيل الديوان ورؤياه، ولاحظنا أن مقطوعاته، وإن كانت في أرقام متسلسلة، ما هي إلا قصيدة واحدة تعتمد على مشاهد انطباعية من الواقع، استخدمت فيها أساليب الاستفهام والمضاف والمضاف إليه والمفارقات للتعبير عن فقدان اليقين والتشتت، كما تداخلت فيها الأزمنة والأمكنة، وامتزجت الصور المرئية وغير المرئية، والألفاظ المتداولة والألفاظ المتعالية، واجتمعت فيها السخرية المرة والفكاهة، واعتمدت في بنائها على السرد الذي فيه تكاثرت الأفعال، ونضجت الخواطر، وتعددت الضمائر والأصوات تحت ضمير واحد وصوت واحد هو صوت الذات الشاعرة وضميرها، وبدت مقتربة من الواقع حينًا ومبتعدة عنه حينًا آخر.
كما تبين لنا أن ديوان "عليه العشب" يفيض بالتناقض والفوضى، ويفتقد إلى المعنى، ولا يعبر عما يرمز إليه العشب من بهجة وازدهار، ولم يحمل رسائل حب، ولا أناشيد صوفية تغرق في الأمل؛ فلم يتقصد العامري أن يقدم معاني وأفكارًا متماسكة أو عميقة، ولم يكن يتغيا غير الاندهاش وإظهار الإنسان الذي لا يطمح إلى شيء، وتصوير حياته الخالية من الأمل، والقائمة على اليأس والملل.
إن ديوان "عليه العشب" يضع صاحبه على عتبة مرحلة ما بعد الحداثة، المرحلة التي غادر فيها الإنسان الحياة الصلبة إلى الحياة السائلة التي يموت فيها كل شيء.
التكوين
تحمل مجموعة الشاعر محمد العامري عنوانًا على غلافها الخارجي جملة اسمية " عليه العشب" أما في الداخل فظهرت العناوين الفرعية، بخلاف ما نعرفه من طرائق العنونة، في أرقام متسلسلة حتى المئة وواحد. وهذا يثير أسئلة حول هذا الاستخدام ودلالاته. كما يلفت الانتباه أن العنوان الرئيسي" عليه العشب" يتركز سره في ضمير الغائب، وتأتي كلمة "العشب" في المقام الثاني من الأهمية. ولكن كلا الاسمين يثيران الأسئلة حول فائدة هذا العنوان، ودلالة الضمير الذي يحتويه، وما المقصود بكلمة "العشب الذي عليه، وهل الكلمة تحمل معنى حقيقيًا أم معنى مجازيًا؟
في الكلمة التي كتبها الناقد محمد صابر عبيد على الغلاف الخلفي للمجموعة يفصح عبيد عما يشير إليه ضمير الغائب في العنوان الرئيسي، فهو يشير إلى الكتاب نفسه؛ إذ شكل لون العشب الأرضية للغلاف، وظهر بأن "شعاره "عليه العشب"، ونستشف من هذا بأن العشب هو عشب حقيقي. ونحن لا نستطيع التسليم بهذا القول لأن فيه خروجًا عن الشعرية التي نعرفها لدى العامري من ناحية، وفيه من ناحية أخرى سطحية واضحة، ربما لم ينتبه إليها الناقد عبيد. إذًا ما الذي قصده الشاعر بهذا العنوان؟
يحسن بنا لخوض غمار الإجابة عن هذا السؤال الاستعانة بالنصوص الشعرية التي حملت ملامح العنوان، أو إحدى مفرداته.
وردت مفردة العشب في عدة مواضع من المتن الشعري. فنقرأ من مقطوعة تتحدث عن نهر بطيء في سيره:
ينوء بعيدًا بعيدًا
وتمشي على ركبتيه الطيور
بعيدًا إلى آخر العشب
حتى يموووت(ص44)
كما وردت الكلمة في مقطوعة أخرى تتحدث عن أنثى وهي تسير سيرًا بطيئًا:
تمشي الهوينا كطير كسير،
وتعجن الفجر بالعشب حينا وحينًا تصب فراديسها في ردوم النهار(71)
وفي موضع آخر يظهر القمر مثل العشب:
"قمر يشبه العشب حين تغادره الساقية
لم يكن ضوءًا ولكنه كان خبزًا وتين.(ص104)
وهو تشبيه يتكرر في مقطوعة (رقم 51) (ص112)
نلاحظ أن مفردة ""العشب" في هذه النصوص وردت في صور: مجازية وحقيقية، ولم تحمل أي معنى، وترك للمتلقي أن يختطف المعنى كما يريده من عالم الخيال أو الواقع. هكذا في خضم هذا الغموض لم تفدنا النصوص التي وردت فيها الكلمة في فهم جملة العنوان، كما لم ندرك ماهية الضمير في شبه الجملة(عليه) ولنا أن نفهمه كما شئنا؛ فقد يكون التراب أو الوطن، أو البيت، أو القبر، أو أي شيء آخر. فلا معنى ولا هدف للعنوان غير إثارة الاندهاش من هذا اللامعنى.
إن هذه الصعوبة، وربما الاستحالة في إدراك معنى العنوان الرئيسي" عليه العشب" انتقلت إلى العناوين الفرعية حين حملت المقطوعات الشعرية أرقامًا متسلسلة، وقد تفاوتت في طولها حتى إن بعضها تكون من سطر واحد، وبعضها من فقرات طويلة تمتح من عالم السرد، في فوضى وتداخلات وغياب للمعنى، كما نقرأ في المقطوعة الأخيرة:" سوف أزرع ليمونة، لأسوي حليب الحموضة من ثديها، لا مكان لرأسي سواها، سأعصر من ضرعها لبنًا لصغار الكلاب، وأحرسها كل يوم لأسكب فيها وساوس أغصانها، ربما سوف تغفو لتشلح أوراقها، دون مرأى الرياح، تخاف إذا جاءها خلسة تتعرى، فترمي بأغصانها نحو سوءتها وتميل، تمامًا تداري حياء الهواء كما امرأة عضها الشوق، كل فراغ يذود عن الريح أوراكها"(ص213)
يرى الناقد عبيد في كلمته على الغلاف أن هذه النصوص الشعرية رسائل حب:" هذا كتاب في الهوى يتسلق المدى، يطيره الشاعر الفنان محمد العامري على محفة مائة رسالة حب ورسالة". وفي نهاية كلمته يساير العتبة النصية التي يفتتح بها الشاعر الكتاب، والتي جاء فيها قول جلال الدين الرومي:" ما لمس الحب شيئًا إلا وجعله مقدسًا" فيراها أناشيد صوفية غارقة في الأمل و" طالعة من رحم لغة شفافة مزهرة".
ونحن نتساءل: هل حقًا ما حمله الديوان "عليه العشب" رسائل حب وأناشيد صوفية، وأنه غارق في الأمل؟ لعل الإجابة عن تساؤلنا تتطلب الحديث عن الرؤيا التي انطوت عليها المجموعة.
الرؤيا
عندما نتحدث عن الرؤيا في ديوان "عليه العشب" لمحمد العامري نقصد بها تلك التصورات والتهويمات والشطحات الخيالية والوجدانية كالتي تظهر في أحلامنا تمييزًا لها عن الرؤية التي تعني ما تبصره العين، أو وجهة النظر في موضوع ما. وقد انبثق القول بالمصطلح ونحن نعاين التشكيل الفني لديوان العامري" عليه العشب" الذي فاجأنا بما انطوى عليه من غموض وتعقيد.
من الملاحظ أن الذات الشاعرة تنظر إلى العالم نظرة ذاتية، وإن استخدمت في أحيان قليلة ضمير الغائب، وهي في انفصال تام عن الآخرين وعن المكان والزمان والواقع المعايش. ويبدو انفصالها عن الآخر(الحبيبة) في القصيدة التي يبتدئ بها الديوان، وتحمل رقم(1):
"أراك على بُعد نهدين ارتطما
صدفة في يدي.
تمرين كاملة في سراجي،
وظلك مد ذراعيه نحوي،
كأنك للتو خارجة من مياهي،
فأنت أول سطر وآخر
ما عرفتْه سمائي"(ص9)
ففي هذه الأسطر لا يتغنى الشاعر بالاقتراب من الحبيبة بل بالانفصال عنها؛ فقد انتهت علاقته الشبقية بها، ولن يعود إليها. وهو يتباهى بهذه النهاية من خلال استخدام ياء المتكلم في نهايات الأسطر(يدي، سراجي، نحوي، مياهي، سمائي) وترداد الكلمات الدالة على التلاشي والغياب( بعد، تمرين، خارجة ..) فلم يكن في هذه العلاقة غير الملل والسأم والشبق في محاولة لنسيان وجوده العبثي.
وفي مقطوعة أخرى تتجلى علاقته بالأنثى خالية من العواطف الإنسانية؛ فليس هذا الذوبان الجسدي بينهما غير تعبير عن رغبة شبقية تطغى عليها مشاعر جامدة، وكأن الاثنين في السرير تمثالان من الرخام:
أنت رمّانة فرطتْ قلبها في السرير
ونامت زخارفها في سفوح القميص
فتحنا بروق الرُّخام وصرنا تماثيل لينة وهديل (ص174)
نلاحظ في مقطوعة أخرى أن الانفصال عن الحبيبة يرافقه الهروب من تذكر المكان الذي التقيا فيه؛ فتبرز صورته في الذاكرة خاويًا، رغم أنه شهد ذلك اللقاء الساخن بينهما.
"يتعقبني وجهها في كتاب النهار
أحاول أن أقتفي صورة للشفاه بأحمرها
لكأن المكان بلا شفة للكلام
كأن الذي بيننا ارتطام شهابين في لحظة ساخنة" (ص79)
إن الشاعر لا يطيق الحب، ولا يطيب له مكان، إنه دائم التقلب والتشظي، لا يرى غير وجه الرحيل والغياب. وإذا كان ابن عربي لا يعول على المكان الذي لا يؤنث فإن المكان هنا، إذا غابت الأنثى عنه، فإن الحشرات تؤنثه. وفي هذه النظرة تتبدى وحدة المخلوقات وتساويها في الحياة والموت:
" أرى نجمة سقطت في الحوالم بعد رحيلك، صرت فراغًا تؤثثه الحشرات، وصرت سماء رمادية تشبه الخبز والذكريات " (ص120)
ونشاهد وجهًا آخر من الانفصال المكاني يستند إلى ضمير الجماعة الغائب:
كثيرون كانوا هنا
ينحتون مناديلهم للبكاء
هنا تركوا ظلهم في ثقوب الجدار
مشوا باتجاه ضلالاتهم
تركوا سجفًا، وحقائب محشوة بالأنين(ص65)
هنا يتحقق الانفصال المكاني باستخدام الصور الغريبة (نحت المناديل، وترك الظل في ثقوب الجدار، الحقائب المحشوة بالأنين) واستخدام ضمير جماعة الغائبين ما هو إلا ضمير المتكلم الذي يعبر عن أحاسيس الذات الشاعرة وهمومها. ويبدو المشهد طافحًا بالحيوية من خلال حركة الإنسان، وكأننا أمام رسام يُظهر المكان ضمن توليفة من الصور المتحركة ليقدم الإنسان، وهو يعاني الألم بسبب انفصاله عن المكان.
أما الانفصال عن الزمن فيتحقق لدى الذات الشاعرة من خلال الإحساس بوطأته وتأثيراته القاسية، لهذا فهو يريد للزمن أن يموت:
أريد ثواني تموت بلا عودة
أشتري ما أريد من الوقت
أضربه بيدي وأحبسه في شعاب الجبال لكي لا يقوم(ص185)
كما يرى العمر رغم أن أوله مثل آخره" رعشة للولادة/ سيف للرحيل" (ص97) يمر دون أن يتنبه إليه، وينتهي بلقاء الموت:
يمر بنا العمر مثل هواء خفيف
دونما سبب ينتهي الوقت
ونمشي إلى حتفنا ضاحكين (ص133)
إنه لا يرى في الحياة غير اليأس والملل فكل الأشياء هباء وخداع:
كل شيء موارر: الدّرب والعمر والأمنيات
ولا شيء غير غبار يلاحقنا
لا هواء ولا صدفة تقطع الوقت إلا سياجٌ يدجن رتم الغناء(ص175)
في مشهد آخر يحس الشاعر بالخواء وهو يرى العالم وقد غرق في الحروب وسفك الدماء، وكثر فيه اليتامى والأرامل، وغدت الأيام ملطخة بالأسى والحزن، وفيها العويل والخوف اللذين تبعثهما رؤية التوابيت:
من سريري
أطل على عالم وجل، حيث ارتكاب الدماء
كأني أطل على حفرة فاض فيها العويل
ذبائح مشنوقة ببكاء الأرامل(ص89)
ويتفاقم هذا الإحساس بالخواء حين يرى الآخرين ينبذونه، مع أنه حمل بلده على ظهر قلبه، كما يقتضي الحب.
أنا ذلك الخُلّبي
يداي فراغ وقلبي تفاحة للغياب.
دونما قمر سأسوي رغيفًا من الليل، أسحنه برحى الأهل
حملت بلادًا على ظهر قلبي لتقتلني،
وتهيل علي التراب.(ص15)
هكذا جاء ديوان "علية العشب" للشاعر محمد العامري يخترق ما هو مألوف في الشعر المعاصر مسايرًا التغير في نمط الحياة، وتطور المجتمع، وتقلب البيئة؛ نتيجة التقدم الهائل الذي شهده العصر في التكنولوجيا الرقمية ووسائل الاتصال، وتمثل هذا الاختراق في تشكيل الديوان ورؤياه، ولاحظنا أن مقطوعاته، وإن كانت في أرقام متسلسلة، ما هي إلا قصيدة واحدة تعتمد على مشاهد انطباعية من الواقع، استخدمت فيها أساليب الاستفهام والمضاف والمضاف إليه والمفارقات للتعبير عن فقدان اليقين والتشتت، كما تداخلت فيها الأزمنة والأمكنة، وامتزجت الصور المرئية وغير المرئية، والألفاظ المتداولة والألفاظ المتعالية، واجتمعت فيها السخرية المرة والفكاهة، واعتمدت في بنائها على السرد الذي فيه تكاثرت الأفعال، ونضجت الخواطر، وتعددت الضمائر والأصوات تحت ضمير واحد وصوت واحد هو صوت الذات الشاعرة وضميرها، وبدت مقتربة من الواقع حينًا ومبتعدة عنه حينًا آخر.
كما تبين لنا أن ديوان "عليه العشب" يفيض بالتناقض والفوضى، ويفتقد إلى المعنى، ولا يعبر عما يرمز إليه العشب من بهجة وازدهار، ولم يحمل رسائل حب، ولا أناشيد صوفية تغرق في الأمل؛ فلم يتقصد العامري أن يقدم معاني وأفكارًا متماسكة أو عميقة، ولم يكن يتغيا غير الاندهاش وإظهار الإنسان الذي لا يطمح إلى شيء، وتصوير حياته الخالية من الأمل، والقائمة على اليأس والملل.
إن ديوان "عليه العشب" يضع صاحبه على عتبة مرحلة ما بعد الحداثة، المرحلة التي غادر فيها الإنسان الحياة الصلبة إلى الحياة السائلة التي يموت فيها كل شيء.