لا ريبَ في أنّ الكثيرين من القرّاء قد طالعوا بعض ما دبّجه قلم الكاتب المصريّ القصصيّ الشهير، محمود أحمد تيمور باشا ١٨٩٤-١٩٧٣. تمحورت كتابات محمود تيمور حول الفن القصصيّ، قصص قصيرة، قصص مطوّلة، قصص تمثيليّة، ومنها على سبيل المثال: كلّ عام وأنتم بخير، إحسان لله، انتصار الحياة، أبو الشوارب، تمر حنا عجب؛ كيلوباترا في خان الخليلي، سلوى في مهب الريح، شمروخ، معبود من طين؛ صقر قريش، المنقذة وحفلة شاي، المخبأ رقم ١٣، فداء، اليوم خمر، حواء الخالدة، طارق الأندلس. كما ألّف تيمور في مجالي: صور وخواطر من ناحية وفي الرحلات من الناحية الأُخرى مثل: ملامح وغضون، النبيّ الإنسان، عطر ودخان؛ أبو الهول يطير، شمس وليل، جزيرة الجيب. وأخيرًا ثمة شطر من الدراسات في اللغة والأدب بقلم تيمور أيضًا، وقلّما يتفطّنها المثقّف العربيّ العاديّ، ومن تلك الدراسات نذكر: مشكلات اللغة العربية، معجم الحضارة وهو قاموس، دراسات في القصّة والمسرح، طلائع المسرح العربيّ.
في ما يلي أتطرّق لما في الكتاب التالي من أفكار وآراء لغوية: محمود تيمور، مشكلات اللغة العربية. القاهرة: مكتبة الآداب ومطبعتها بالجماميز، المطبعة النموذجية، ١٩٥٦، ٢٠٦ ص. الكتاب مُتاح بالمجّان على الشابكة. يتكوّن هذا الكتاب من سبعة فصول وهي: قضية اللغة العربية؛ لغة المجتمع؛ ضبط الكتابة العربية؛ سلطان اللغة العربية؛ كلمات الحياة العامة؛ مواليد جديدة … في لغة الحياة العامة؛ العامية … الفصحى. أُسارع في الأمر وأقول بإيجاز: الكاتب محمود تيمور جريء جدًّا في غالبية أفكاره اللغوية حتّى بالنسبة لأيّامنا هذه، بعد ستّة عقود ونيّف من تدوينها، وليس من الصواب طرح الكتب القديمة جانبًا لقِدمها والتهافت على الإصدارات الحديثة لحداثتها فقط . ففي المؤلّفات القديمة قد تكون ومضات وآراء على جانب كبير من الأهمية أيضًا. إنّ العمق والموضوعية والشمولية في التفكير، التحليل والتفكيك ليست حكرًا على عصرنا الراهن فحسب؛ العملية التراكمية التاريخية جدّ ضرورية ونافعة. كان محمود تيمور عضوًا في مجمع اللغة العربية المعروف بمجمع الخالدين في القاهرة منذ العام ١٩٤٩؛ دافع عن العربية والعروبة؛ حاول إنجاد العربية الفصيحة من الجمود؛ دافع عن العربية المحكية في مصر. كلّ هذا، والحقّ ينبغي أن يُقال، إنّ تيمور لم يدرس موضوع اللسانيات أو علم اللغات (linguistics) في أيّة مؤسّسة علمية. التعليم المنتظم وحيازة الشهادات الجامعية لا تكسب الشخص بالضرورة، لا ثقافة عامّة ولا أخلاقًا حميدة.
* العربية غير اللاتينية:
في الفصل الأوّل يذكر تيمور ظاهرة تحوّل الجرمانية القديمة إلى لهجات فلغات كالألمانية والإنچليزية والهولندية وكذلك بخصوص اللغة الأوروبية الكلاسيكية - اللاتينية التي نبثقت منها لغات كالفرنسية والإيطالية والإسبانية، ويعقّب على ذلك بقوله إنّ حال العربية الفصيحة مخالف للجرمانية القديمة وللاتينية، وذلك لأنّها لغة دين سماوي وهو سبب جمود العربية (ص. ٦). كنت في مناسبة أُخرى (إطلالة على ظاهرة انقراض اللغات ومستقبل العربية) قد تطرّقت لهذه النقطة وصفوة القول: مجرّد وجود كتاب سماوي لا يحفظ بالضرورة لغة ما من الاندثار. ولا يخفى على الكثيرين أنّ منظّمة اليونيسكو قد أكّدت أن العربية المكتوبة ستكون ضمن اللغات المرشَّحة للانقراض في غضون القرن الحالي. تاريخيًا أمامَنا مثَل جليّ لموت أو سبات لغة طوال سبعةَ عشرَ قرنًا من الزمان تقريبًا، بالرغم من وجود كتاب ديني سماوي مقدّس لدى أصحاب تلك اللغة. هذه اللغة فريدة في نوعها في تاريخ اللغات، إذ أنّها
أُعيدت للحياة قبل قُرابة قرن ونصف من الزمان، منذ بداية ثمانينات القرن التاسع عشر في فلسطين، نتيجة تضافر عدّة ظروف ومجهودات مؤاتية ضرورية، وغدت لغة محكيّة حيّة تدرّس فيها كلُّ المواضيع حتّى الطبّ في الجامعات الإسرائيلية، إنّها العبرية الحديثة التي انبثقت عن عبرية العهد القديم (Biblical Hebrew) التي يرجع تاريخها الأقدم إلى أكثرَ من ثلاثة آلاف عام، ومن لغة التوراة الشفوية، المشناة والتلمود ومن عبريةالقرون الوسطى. ويذهب محمود تيمور إلى أنّ لا خير في إحياء العامّية وجعلها لغة كتابة، بدون تعليل ذلك، ولكنّه ينادي بدراسة قواعد العامّية وأصولها على أمل إمداد قواعد الفصحى وتوسيع أقيستها. ففي العامّية اليسر والقدرة على التعبير عن حاجات المجتمع الحالي وتمتاز بالمرونة والطواعية لتغدو في نهاية المطاف لغة المخاطبة والحديث، كما هي لغة الكتابة والتدوين (ص. ١٧٨-١٧٩). سيلاحظ القارىء أنّ ثمّة بعض التناقض في أقوال تيمور حول العامية، ألها قواعد ونظام أم لا.
* إيجاد المصطلحات المناسبة:
يسخر محمود تيمور من المجمع الذي دأب على تعريب المصطلحات الأوروبية نحو التمبيل بدلًا من الأوتومبيل، الخيالة بدلا من السينما، القطار بدلا من البابور، المنامة بدلا من البيجاما، المغنى بدلا من الفيلا، الشطيرة بدلا من الساندوتش. ويأتي بقوائم مبوّبة لكلمات عامّية أو أجنبية ومقابلها البديل الفصيح، ويرى المتابع المختصّ بأنّ عددًا كبيرًا من البدائل الفصيحة لم تدخل حيّز الاستعمال. المشجب بدلا من الشماعة والمعطف بدلا من البالطو، والإرزيز للتليفون، ومتكأ بدلا من كنبة ومهفة بدلا من ريشة، الزَمْزمية أو الزجاجة العازلة أو الكظيمة بدلا من الترموس؛ المِهَزّ بدل سرير الطفل، المنضدة أو النضَد مكان الترابيزة، رِزمة أو لفيفة بدل باكتة، الزَّهرية بدل الفازة للزهر، موقِد بدل وابور، المِنْزعة بدل الفتّاحة، القدَح أو الفنجانة مكان الفنجان، الشافهة بدلا من الشفّاطة، السِّروال بدل الكلسون، اللِّفاع بدل الكوفية، المنهدة بدلا من السوتيان أو حامل النهود، الغلام أو النادل بدلا من الجارسون، المقْرونة أو الإطريَّة بدلا من المكرونة، المسحوق أو الذَّرُور بدل البودره، السَّنُون مكان معجون الأسنان، المَطْهَرة بدلا من دورة المياه، الحظيرة أو حظيرة السيارات بدلا من الجراج، المَسْلاة بدلا من الكوميديا، التخَفّي أو التشكل بدلا من الماكياج، الزلّاجة بدلا من سكي، كُرة المضْرب أي التنس، رُقعة الحساب بدلا من الفاتورة، دائرة معارف أو مَعْلمة بدلا من الأنسكلوبيديا، مُضَخّم الصوت بدلا من الميكروفون، السلطان بدلا من الامبراطورية، الهَيْضة بدلا من الكوليرا، المدّاد بدلا من قلم الحبر إلخ.، أنظر ص. ٩٨-١٣٢، ١٤٧-١٥٦، معجم الحضارة.
* العربية الفصيحة:
أوّلًا تجدُر الإشارة إلى أنّ محمود تيمور قد تطرّق إلى بعض المبادىء والأفكار اللغوية العامّة التي لا تتعارض بجوهرها مع ما توصّل إليه لغويّون معاصرون كثيرون. هذه أهمّ الأفكار والمبادىء في نظري (أضفت نقطتي الياء المتطرّفة الساقطتين عند تيمور كغيره في مصر):
ما زالت لغة القرون الماضية مسيطرة على العصر الحديث (ص. ٥)؛ وإنما اللغة من خلق أنفسنا، (ص. ٢٨) ؛ … لا خلاف على أن قراءة الكلام غير المضبوط قراءةً صحيحة أمرٌ يتعذر على المثقَّفين عامة. بل إن المختصّين في اللغة، الواقفين حياتهم على دراستها، لا يستطيعون ذلك إلا باطِّرادِ اليقظة، ومتابعة الملاحظة، وإن أحدًا منهم إذا حَرَص على ألا يخطىء، لا يتسنّى له ذلك إلا بمزيد من التأني، وإرهاف الذاكرة، وإجهاد الأعصاب؛ (ص. ٤١)؛ أكبر ما يعوق اللغة فيما يقولون أنها لغة كتابة لا لغة كلام، (ص. ٩)؛ وفي معتقدي أنه لا سبيل لنا إلى التخلي عن النحو، وأكاد أجزم بأن النحو سيظل أساس لغة الكتابة (ص. ١٦)؛
والصواب في اللغة مناطه الشيوع، خطأ مشهور خير من صواب مهجور (ص. ٢٥، ٢٧)؛ اللغة المشكولة مكتملة، واللغة المختزلة غير المشكولة ناقصة. نفهم أولًا لكي نقرأ قراءة صحيحة، على عكس المقصود بالكتابة، (ص. ١٨)؛
السماع حجة للغة قائمة لمنع الجمود والقياس يجب أن يكون مفتوحًا على مصراعيه لاستقبال أقيسة حديثة (ص.٢٨-٢٩)؛ فساد اللغة وضعفها هو تحجرها، (ص. ٣٠)؛ اللغات الأدبية عامة هي لغات كلام وكتابة معا، (ص. ٤٢)؛ الكتابة العربية غير المضبوطة هي ناقصة، (ص. ٤٣)؛ اللغة العربية اليوم في محنة واختبار، (ص. ٧٨)؛ الفصحى صعبة المرتقى، عصيّة المنال. وأنها ليست طيعة كل الطواعية، ولا مرنة كل المرونة، لملائمة حاجات الحياة في تطورها الدؤوب. (ص. ٨٠)؛ اللسان غير مطبوع على الفصحى، (ص. ٩٢)؛ الفصحى هي القالب المختار لمختلف اللهجات (ص. ١٥٨)؛ قال ابن جني: إن الناطق على قياس لغة من لغات العرب مصيب غير مخطىء وإن كان غير ما جاء به خيرا منه، (ص. ١٧٦)؛ وقال أبو حيّان: كل ما كان لغة لقبيلةٍ قيسَ عليه، ص. (١٧٦).
إزاء هذه الجملة من الآراء الهامّة من منظور أيّامنا هذه أيضًا، أقول بكل تواضع إنّ جوهر المشكلة/العائق الأساس في سبيل التمكّن من اللغة العربية المعيارية MSA ناجم عن الحقيقة الخفيّة حتّى اليوم، أو قل غير المعترف بها ألا وهي: العربية الفصحى ليست لغة أمّ أيّ عربي على هذه البسيطة، لغة أمّ كل عربيّ هي لهجة عربية معيّنة. ومن الجدير جدًّا ذكره، أنّ أفضل السنوات وأنجعَها لاكتساب قواعد اللغة بالفطرة، أيّة لغة، هي سنوات الطفل الأولى، قرابة الستّ - السبع، وهي مستغلّة في اكتساب اللهجة المحلية فحسب. إنّ حيويّة أيّة لغة بشرية مستمدّة من كونها لغة حديث عادي في كلّ مجالات الحياة، وهذا غير حاصل بالنسبة للغة العربية المعيارية. إنّها لغة كتابة وقراءة في المقام الأوّل لمن يمارسهما وعدد ممارسيهما ضئيل جدًا نسبيا، وحيّز التحدّث بها جدّ محدود، إنّها مسموعة في حالات ومناسبات معروفة مثل قراءة نشرة الأخبار وبعض البرامج التراثية في التلفزيون والراديو. من البدهي أنّ الناطق بلغة ما كلغة أُم لا يحتاج لتعلّم قواعدها، فهو يعرفها بالسليقة وكثيرًا ما يتعذّر عليه شرح تلك القواعد إذ أنه ليس بحاجة لها. لا نحيد عن جادّة الصواب كثيرًا إذا قلنا إنّ القراءة الصحيحة المضبوطة ما زالت مهمّة صعبة بالنسبة لمعظم المثقّفين العرب اليوم أيضًا، ومن المحتمل القريب جدًا أن يكون الوضع اليوم أسوأ ممّا كان عليه أيام محمود تيمور. أرى، كما نوّه الأديب تيمور، بأنّ إضافةَ بعض الحركات على الكتابة العربية المعاصرة في مواضعَ معيّنة لمنع اللبس وتسهيلًا على القارىء لا بدّ منها، والأمر تقنيًا يسير راهنا. كُتب الكثير عن الحاجة لتيسير قواعد اللغة العربية والتركيز على الجوانب الأساسية العملية في النحو والصرف أي انتهاج القواعد الوظيفية، وتجنّب الكثير من المواضيع التفصيلية والخلافية وفق مدارس النحو، البصرة، الكوفة، بغداد، الأندلس. ومع هذا، لم يطرأ بعد على العربية ما طرأ على لغات كثيرة من تبسيط وتسهيل وتعديل لسبب معروف للجميع. وأخيرًا وليس آخرًا، ثمّة ضرورة لتوضيح القول المأثور التالي وتعريفه تعريفًا جامعًا مانعا: خطأ مشهور خير من صواب مهجور.
* العربية العامّيّة:
تحت هذا العُنوان وردت آراء صائبة كثيرة في الكتاب وفي بعض الأحيان أطلق المؤلّف نعوتًا عن العامية لا تستند إلى الأبحاث العلمية والمنطق السليم.
من المعروف أنّ للعامية أنصارًا وخصومًا، يكتب الأنصار بالفصحى ويتكلّم الخصوم بالعامية؛ الفصحى هي القالب المختار لمختلف اللهجات (ص. ١٥٨)؛ العامية أقدم من الفصحى (ص. ١٥٨، ١٦٨)؛ العامية عريقة في نسب العروبة، وهي من صنع مجتمع عربي اللسان صميم، ولكنّنا نأبى منها أنها تناتيش لغات تهشّمت، وأحافير لهجات تهدّمت، (ص. ١٧٧). أصاب تيمور هنا كبد الحقيقة بقوله غير الشائع في الأوساط العربية: العامية أقدم
من الفصحى. نعم من المعروف أن المنطوق أقدم من المدوّن المكتوب. يبدو أنّ عمر أقدم لغة مدوّنة هو ستّة آلاف عام في حين أنّ عمر الإنسان يزيد عن المليون سنة.
من الأقوال التي حادت عن جادّة الصواب من حيث علم اللغة الحديث ما يلي: العامّية لا ضابط لها ولا نظام، فإنّها لهمجية غير مهذبة، وليس لها من أصول مستقرة قط، ولا طاقة لها بالتعبير الراقي عن جلائل الأشياء في ميادين الاجتماع (ص. ٩، ٢٩)؛ يذكر تيمور أن بعض علماء اللغة ونقّادها يرون العامية فسادًا للغة الأصيلة وانحلالا، وآخرون يرونها تطورًا واستحالة … وبهذين التقديرين يتميز خصماء العامية وأنصارها (ص. ٨٢)؛ العامية قرينة الأمية - العامية مفتقرة إلى تقعيد وتأصيل (ص. ١٥٨).
إنّ صدور مثل هذه الأحكام والنعوت عن محمود تيمور لا تتماشى مع ما ورد في مواضعَ مركزية أخرى في الكتاب. أولا في علم اللغة الحديث لا وجود للغة همجية أو مهذّبة أو راقية إلخ. إذ أنّه في مُكنة كلّ لغة بشرية طبيعية القدرة على التعبير عن الأشياء والأفكار والعواطف بطريقتها الخاصّة. ثم كيف يستقيم القول بأنّ العامية لا ضابط ولا نظام لها ويستعملها بلهجاتها الكثيرة والمتباينة بيسر وطبيعية كلغة أمّ أكثر من أربعمائة مليون عربي. بدون نظام و قواعد لغوية معروفة ثابتة لا يمكن أن يتمّ أيّ تواصل طبيعي بين الناطقين باللهجة ذاتها. ويرى محمود تيمور بأنّ البون بين العربية الفصيحة والعامية ليس ببعيد (ص. ١٦٨) وأنّ الانتقال من العامية للفصحى سهل (ص. ١٧٩). صحيح أنّ العامية غير قادرة في الوقت الحاضر على التعبير الدقيق والشامل عن مجالات العلم والمعرفة في العصر الحديث، لأنّها لا تتعاطى بهذه الموادّ ولم تدخله بعد. الأمّ اللاتينية التي كانت لغة العلوم والكنيسة والنخبة باتت لغة في بطون الكتب، في حين أنّ بناتها كالفرنسية والإيطالية والإسبانية، التي بدأت لهجات محلية مختلفة ما برحت بمرّ الزمن إلى أن غدت لغات علم ومعرفة في أيّامنا هذه.
بالطبع أرى لزامًا على الباحث عامّة، تجنّب إطلاق مثل هذه التعميمات في ظلّ غياب توفرّ إحصائيات تقوم على مسح علمي مدروس. أعتقد جازمًا بأنّ الفجوة أو البون أو الهوّة بين العربية المعيارية واللهجات ككلّ ما زال عميقًا وواسعًا اليوم من حيث القواعد- علم اللفظ/الأصوات والصرف والنحو- والمعجم. أقول هذا بالرغم من بعض الانحسار في ذلك البون نتيجة للهبوط في نسبة الأميّة في العالم العربي وزيادة إشاعة التعليم ورفع المستوى. لا أتردّد ولو للحظة واحدة بأنّ القول: الانتقال من العامّية إلى الفصيحة سهل، ليس صائبًا حتّى بالنسبة لمعظم المثقّفين إن لم يكونوا جميعهم تقريبا. شتّان بين لغة الأمّ واللغة القومية، بين اللغة الأولى الطبيعية العفوية واللغة الثانية المكتسبة المبنية على القواعد، بين لغة الحياة وبين لغة الكتابة. يقول محمود تيمور: من الخير أن نؤكد لأنفسنا هذه القربى بين العامية والفصحى، ففي هذا التأكيد ما يهبنا الطمأنينة والثقة حين نمسك بالقلم لنعالج الكتابة بلغة غير لغة الحديث، فلا نتوهم أننا ننتقل من لغة إلى لغة، وبينهما بون بعيد، بل نعرف أن قُصارى عملنا في الانتقال من لهجة الحديث إلى لغة الكتابة، إنما هو مجرد صقل للكلمة وتقويم للنطق، وتعديل للجملة، ورعْي لمقتضيات الفصحى في مقام التعبير، فنقارب بين أسلوب الكتابة وأسلوب التخاطب ما أمكن التقارب، لنيسر للقارىء أيًا كان شأنه سبيل التبيُّن والفهم، ونيسر للكاتب أيةً كانت قدرته سبيل الإبانةِ والإفهام (ص. ١٧٩). ما يقوله تيمور هنا قد ينطبق كلّه أو بمجمله عليه وعلى أمثاله وهم قلّة وفق كلّ المقاييس ثم أنّ المقصود بالنسبة لنصوص سهلة وقصيرة. أضف إلى ذلك أن هناك تسطيحًا وتبسيطًا للواقع.
يُنهي تيمور كتابه بالنداء لإزالة الستار الموهوم بين العامية والفصحى فالعُزلة الموحشة بينهما ليست لصالح الفصحى. يقتبس العرب ويترجمون ألفاظًا وتعبيراتٍ من اللغات الأجنبية فلم لا يفتحون الباب على مصراعيه لولوج الكلمات العاميّة - العامية الفصحى - ميادين الكتابة والتدوين وفي هذا المزيد من الدقّة والوضوح، المرونة واستجابة للحياة المتجدّدة (ص. ٢٠٦). هذا رأي جدير بالاهتمام الجادّ ولا أظنّ أنّ المجامع اللغوية العربية وما أكثرها قد تصدّت كما ينبغي لهذا العمل. الكلمة الأخيرة هي لما يعتمده معظم أهل اللغة، شيوع الكلمة هو المقياس.
ماذا سيكون مصير العربية المعيارية، اللغة القومية، من جهة واللهجات العامية، لغة الأمّ، في البلدان العربية بعد قرن من الزمان أو أكثر؟ من سنّة الحياة وجود نمطي لغة أساسيين: اللغة المعيارية، لغة الكتابة والعلوم واللغة الدارجة المحكية في الحياة اليومية العامّة، ولكل مقام مقال. البون بينهما ما زال عميقًا وواسعًا، وهو يتقّلص بمرور الزمن ولكن لغة الأمّ ستبقى على ما يبدو، وبجانبها اللغة القومية وهي نصف حيّة. اللسان مطبوع على اللهجة وليس على الفصحى. الخوف على اللغة القومية متربص لها من الداخل ومن الخارج!
أ. د. حسيب شحادة
جامعة هلسنكي
في ما يلي أتطرّق لما في الكتاب التالي من أفكار وآراء لغوية: محمود تيمور، مشكلات اللغة العربية. القاهرة: مكتبة الآداب ومطبعتها بالجماميز، المطبعة النموذجية، ١٩٥٦، ٢٠٦ ص. الكتاب مُتاح بالمجّان على الشابكة. يتكوّن هذا الكتاب من سبعة فصول وهي: قضية اللغة العربية؛ لغة المجتمع؛ ضبط الكتابة العربية؛ سلطان اللغة العربية؛ كلمات الحياة العامة؛ مواليد جديدة … في لغة الحياة العامة؛ العامية … الفصحى. أُسارع في الأمر وأقول بإيجاز: الكاتب محمود تيمور جريء جدًّا في غالبية أفكاره اللغوية حتّى بالنسبة لأيّامنا هذه، بعد ستّة عقود ونيّف من تدوينها، وليس من الصواب طرح الكتب القديمة جانبًا لقِدمها والتهافت على الإصدارات الحديثة لحداثتها فقط . ففي المؤلّفات القديمة قد تكون ومضات وآراء على جانب كبير من الأهمية أيضًا. إنّ العمق والموضوعية والشمولية في التفكير، التحليل والتفكيك ليست حكرًا على عصرنا الراهن فحسب؛ العملية التراكمية التاريخية جدّ ضرورية ونافعة. كان محمود تيمور عضوًا في مجمع اللغة العربية المعروف بمجمع الخالدين في القاهرة منذ العام ١٩٤٩؛ دافع عن العربية والعروبة؛ حاول إنجاد العربية الفصيحة من الجمود؛ دافع عن العربية المحكية في مصر. كلّ هذا، والحقّ ينبغي أن يُقال، إنّ تيمور لم يدرس موضوع اللسانيات أو علم اللغات (linguistics) في أيّة مؤسّسة علمية. التعليم المنتظم وحيازة الشهادات الجامعية لا تكسب الشخص بالضرورة، لا ثقافة عامّة ولا أخلاقًا حميدة.
* العربية غير اللاتينية:
في الفصل الأوّل يذكر تيمور ظاهرة تحوّل الجرمانية القديمة إلى لهجات فلغات كالألمانية والإنچليزية والهولندية وكذلك بخصوص اللغة الأوروبية الكلاسيكية - اللاتينية التي نبثقت منها لغات كالفرنسية والإيطالية والإسبانية، ويعقّب على ذلك بقوله إنّ حال العربية الفصيحة مخالف للجرمانية القديمة وللاتينية، وذلك لأنّها لغة دين سماوي وهو سبب جمود العربية (ص. ٦). كنت في مناسبة أُخرى (إطلالة على ظاهرة انقراض اللغات ومستقبل العربية) قد تطرّقت لهذه النقطة وصفوة القول: مجرّد وجود كتاب سماوي لا يحفظ بالضرورة لغة ما من الاندثار. ولا يخفى على الكثيرين أنّ منظّمة اليونيسكو قد أكّدت أن العربية المكتوبة ستكون ضمن اللغات المرشَّحة للانقراض في غضون القرن الحالي. تاريخيًا أمامَنا مثَل جليّ لموت أو سبات لغة طوال سبعةَ عشرَ قرنًا من الزمان تقريبًا، بالرغم من وجود كتاب ديني سماوي مقدّس لدى أصحاب تلك اللغة. هذه اللغة فريدة في نوعها في تاريخ اللغات، إذ أنّها
أُعيدت للحياة قبل قُرابة قرن ونصف من الزمان، منذ بداية ثمانينات القرن التاسع عشر في فلسطين، نتيجة تضافر عدّة ظروف ومجهودات مؤاتية ضرورية، وغدت لغة محكيّة حيّة تدرّس فيها كلُّ المواضيع حتّى الطبّ في الجامعات الإسرائيلية، إنّها العبرية الحديثة التي انبثقت عن عبرية العهد القديم (Biblical Hebrew) التي يرجع تاريخها الأقدم إلى أكثرَ من ثلاثة آلاف عام، ومن لغة التوراة الشفوية، المشناة والتلمود ومن عبريةالقرون الوسطى. ويذهب محمود تيمور إلى أنّ لا خير في إحياء العامّية وجعلها لغة كتابة، بدون تعليل ذلك، ولكنّه ينادي بدراسة قواعد العامّية وأصولها على أمل إمداد قواعد الفصحى وتوسيع أقيستها. ففي العامّية اليسر والقدرة على التعبير عن حاجات المجتمع الحالي وتمتاز بالمرونة والطواعية لتغدو في نهاية المطاف لغة المخاطبة والحديث، كما هي لغة الكتابة والتدوين (ص. ١٧٨-١٧٩). سيلاحظ القارىء أنّ ثمّة بعض التناقض في أقوال تيمور حول العامية، ألها قواعد ونظام أم لا.
* إيجاد المصطلحات المناسبة:
يسخر محمود تيمور من المجمع الذي دأب على تعريب المصطلحات الأوروبية نحو التمبيل بدلًا من الأوتومبيل، الخيالة بدلا من السينما، القطار بدلا من البابور، المنامة بدلا من البيجاما، المغنى بدلا من الفيلا، الشطيرة بدلا من الساندوتش. ويأتي بقوائم مبوّبة لكلمات عامّية أو أجنبية ومقابلها البديل الفصيح، ويرى المتابع المختصّ بأنّ عددًا كبيرًا من البدائل الفصيحة لم تدخل حيّز الاستعمال. المشجب بدلا من الشماعة والمعطف بدلا من البالطو، والإرزيز للتليفون، ومتكأ بدلا من كنبة ومهفة بدلا من ريشة، الزَمْزمية أو الزجاجة العازلة أو الكظيمة بدلا من الترموس؛ المِهَزّ بدل سرير الطفل، المنضدة أو النضَد مكان الترابيزة، رِزمة أو لفيفة بدل باكتة، الزَّهرية بدل الفازة للزهر، موقِد بدل وابور، المِنْزعة بدل الفتّاحة، القدَح أو الفنجانة مكان الفنجان، الشافهة بدلا من الشفّاطة، السِّروال بدل الكلسون، اللِّفاع بدل الكوفية، المنهدة بدلا من السوتيان أو حامل النهود، الغلام أو النادل بدلا من الجارسون، المقْرونة أو الإطريَّة بدلا من المكرونة، المسحوق أو الذَّرُور بدل البودره، السَّنُون مكان معجون الأسنان، المَطْهَرة بدلا من دورة المياه، الحظيرة أو حظيرة السيارات بدلا من الجراج، المَسْلاة بدلا من الكوميديا، التخَفّي أو التشكل بدلا من الماكياج، الزلّاجة بدلا من سكي، كُرة المضْرب أي التنس، رُقعة الحساب بدلا من الفاتورة، دائرة معارف أو مَعْلمة بدلا من الأنسكلوبيديا، مُضَخّم الصوت بدلا من الميكروفون، السلطان بدلا من الامبراطورية، الهَيْضة بدلا من الكوليرا، المدّاد بدلا من قلم الحبر إلخ.، أنظر ص. ٩٨-١٣٢، ١٤٧-١٥٦، معجم الحضارة.
* العربية الفصيحة:
أوّلًا تجدُر الإشارة إلى أنّ محمود تيمور قد تطرّق إلى بعض المبادىء والأفكار اللغوية العامّة التي لا تتعارض بجوهرها مع ما توصّل إليه لغويّون معاصرون كثيرون. هذه أهمّ الأفكار والمبادىء في نظري (أضفت نقطتي الياء المتطرّفة الساقطتين عند تيمور كغيره في مصر):
ما زالت لغة القرون الماضية مسيطرة على العصر الحديث (ص. ٥)؛ وإنما اللغة من خلق أنفسنا، (ص. ٢٨) ؛ … لا خلاف على أن قراءة الكلام غير المضبوط قراءةً صحيحة أمرٌ يتعذر على المثقَّفين عامة. بل إن المختصّين في اللغة، الواقفين حياتهم على دراستها، لا يستطيعون ذلك إلا باطِّرادِ اليقظة، ومتابعة الملاحظة، وإن أحدًا منهم إذا حَرَص على ألا يخطىء، لا يتسنّى له ذلك إلا بمزيد من التأني، وإرهاف الذاكرة، وإجهاد الأعصاب؛ (ص. ٤١)؛ أكبر ما يعوق اللغة فيما يقولون أنها لغة كتابة لا لغة كلام، (ص. ٩)؛ وفي معتقدي أنه لا سبيل لنا إلى التخلي عن النحو، وأكاد أجزم بأن النحو سيظل أساس لغة الكتابة (ص. ١٦)؛
والصواب في اللغة مناطه الشيوع، خطأ مشهور خير من صواب مهجور (ص. ٢٥، ٢٧)؛ اللغة المشكولة مكتملة، واللغة المختزلة غير المشكولة ناقصة. نفهم أولًا لكي نقرأ قراءة صحيحة، على عكس المقصود بالكتابة، (ص. ١٨)؛
السماع حجة للغة قائمة لمنع الجمود والقياس يجب أن يكون مفتوحًا على مصراعيه لاستقبال أقيسة حديثة (ص.٢٨-٢٩)؛ فساد اللغة وضعفها هو تحجرها، (ص. ٣٠)؛ اللغات الأدبية عامة هي لغات كلام وكتابة معا، (ص. ٤٢)؛ الكتابة العربية غير المضبوطة هي ناقصة، (ص. ٤٣)؛ اللغة العربية اليوم في محنة واختبار، (ص. ٧٨)؛ الفصحى صعبة المرتقى، عصيّة المنال. وأنها ليست طيعة كل الطواعية، ولا مرنة كل المرونة، لملائمة حاجات الحياة في تطورها الدؤوب. (ص. ٨٠)؛ اللسان غير مطبوع على الفصحى، (ص. ٩٢)؛ الفصحى هي القالب المختار لمختلف اللهجات (ص. ١٥٨)؛ قال ابن جني: إن الناطق على قياس لغة من لغات العرب مصيب غير مخطىء وإن كان غير ما جاء به خيرا منه، (ص. ١٧٦)؛ وقال أبو حيّان: كل ما كان لغة لقبيلةٍ قيسَ عليه، ص. (١٧٦).
إزاء هذه الجملة من الآراء الهامّة من منظور أيّامنا هذه أيضًا، أقول بكل تواضع إنّ جوهر المشكلة/العائق الأساس في سبيل التمكّن من اللغة العربية المعيارية MSA ناجم عن الحقيقة الخفيّة حتّى اليوم، أو قل غير المعترف بها ألا وهي: العربية الفصحى ليست لغة أمّ أيّ عربي على هذه البسيطة، لغة أمّ كل عربيّ هي لهجة عربية معيّنة. ومن الجدير جدًّا ذكره، أنّ أفضل السنوات وأنجعَها لاكتساب قواعد اللغة بالفطرة، أيّة لغة، هي سنوات الطفل الأولى، قرابة الستّ - السبع، وهي مستغلّة في اكتساب اللهجة المحلية فحسب. إنّ حيويّة أيّة لغة بشرية مستمدّة من كونها لغة حديث عادي في كلّ مجالات الحياة، وهذا غير حاصل بالنسبة للغة العربية المعيارية. إنّها لغة كتابة وقراءة في المقام الأوّل لمن يمارسهما وعدد ممارسيهما ضئيل جدًا نسبيا، وحيّز التحدّث بها جدّ محدود، إنّها مسموعة في حالات ومناسبات معروفة مثل قراءة نشرة الأخبار وبعض البرامج التراثية في التلفزيون والراديو. من البدهي أنّ الناطق بلغة ما كلغة أُم لا يحتاج لتعلّم قواعدها، فهو يعرفها بالسليقة وكثيرًا ما يتعذّر عليه شرح تلك القواعد إذ أنه ليس بحاجة لها. لا نحيد عن جادّة الصواب كثيرًا إذا قلنا إنّ القراءة الصحيحة المضبوطة ما زالت مهمّة صعبة بالنسبة لمعظم المثقّفين العرب اليوم أيضًا، ومن المحتمل القريب جدًا أن يكون الوضع اليوم أسوأ ممّا كان عليه أيام محمود تيمور. أرى، كما نوّه الأديب تيمور، بأنّ إضافةَ بعض الحركات على الكتابة العربية المعاصرة في مواضعَ معيّنة لمنع اللبس وتسهيلًا على القارىء لا بدّ منها، والأمر تقنيًا يسير راهنا. كُتب الكثير عن الحاجة لتيسير قواعد اللغة العربية والتركيز على الجوانب الأساسية العملية في النحو والصرف أي انتهاج القواعد الوظيفية، وتجنّب الكثير من المواضيع التفصيلية والخلافية وفق مدارس النحو، البصرة، الكوفة، بغداد، الأندلس. ومع هذا، لم يطرأ بعد على العربية ما طرأ على لغات كثيرة من تبسيط وتسهيل وتعديل لسبب معروف للجميع. وأخيرًا وليس آخرًا، ثمّة ضرورة لتوضيح القول المأثور التالي وتعريفه تعريفًا جامعًا مانعا: خطأ مشهور خير من صواب مهجور.
* العربية العامّيّة:
تحت هذا العُنوان وردت آراء صائبة كثيرة في الكتاب وفي بعض الأحيان أطلق المؤلّف نعوتًا عن العامية لا تستند إلى الأبحاث العلمية والمنطق السليم.
من المعروف أنّ للعامية أنصارًا وخصومًا، يكتب الأنصار بالفصحى ويتكلّم الخصوم بالعامية؛ الفصحى هي القالب المختار لمختلف اللهجات (ص. ١٥٨)؛ العامية أقدم من الفصحى (ص. ١٥٨، ١٦٨)؛ العامية عريقة في نسب العروبة، وهي من صنع مجتمع عربي اللسان صميم، ولكنّنا نأبى منها أنها تناتيش لغات تهشّمت، وأحافير لهجات تهدّمت، (ص. ١٧٧). أصاب تيمور هنا كبد الحقيقة بقوله غير الشائع في الأوساط العربية: العامية أقدم
من الفصحى. نعم من المعروف أن المنطوق أقدم من المدوّن المكتوب. يبدو أنّ عمر أقدم لغة مدوّنة هو ستّة آلاف عام في حين أنّ عمر الإنسان يزيد عن المليون سنة.
من الأقوال التي حادت عن جادّة الصواب من حيث علم اللغة الحديث ما يلي: العامّية لا ضابط لها ولا نظام، فإنّها لهمجية غير مهذبة، وليس لها من أصول مستقرة قط، ولا طاقة لها بالتعبير الراقي عن جلائل الأشياء في ميادين الاجتماع (ص. ٩، ٢٩)؛ يذكر تيمور أن بعض علماء اللغة ونقّادها يرون العامية فسادًا للغة الأصيلة وانحلالا، وآخرون يرونها تطورًا واستحالة … وبهذين التقديرين يتميز خصماء العامية وأنصارها (ص. ٨٢)؛ العامية قرينة الأمية - العامية مفتقرة إلى تقعيد وتأصيل (ص. ١٥٨).
إنّ صدور مثل هذه الأحكام والنعوت عن محمود تيمور لا تتماشى مع ما ورد في مواضعَ مركزية أخرى في الكتاب. أولا في علم اللغة الحديث لا وجود للغة همجية أو مهذّبة أو راقية إلخ. إذ أنّه في مُكنة كلّ لغة بشرية طبيعية القدرة على التعبير عن الأشياء والأفكار والعواطف بطريقتها الخاصّة. ثم كيف يستقيم القول بأنّ العامية لا ضابط ولا نظام لها ويستعملها بلهجاتها الكثيرة والمتباينة بيسر وطبيعية كلغة أمّ أكثر من أربعمائة مليون عربي. بدون نظام و قواعد لغوية معروفة ثابتة لا يمكن أن يتمّ أيّ تواصل طبيعي بين الناطقين باللهجة ذاتها. ويرى محمود تيمور بأنّ البون بين العربية الفصيحة والعامية ليس ببعيد (ص. ١٦٨) وأنّ الانتقال من العامية للفصحى سهل (ص. ١٧٩). صحيح أنّ العامية غير قادرة في الوقت الحاضر على التعبير الدقيق والشامل عن مجالات العلم والمعرفة في العصر الحديث، لأنّها لا تتعاطى بهذه الموادّ ولم تدخله بعد. الأمّ اللاتينية التي كانت لغة العلوم والكنيسة والنخبة باتت لغة في بطون الكتب، في حين أنّ بناتها كالفرنسية والإيطالية والإسبانية، التي بدأت لهجات محلية مختلفة ما برحت بمرّ الزمن إلى أن غدت لغات علم ومعرفة في أيّامنا هذه.
بالطبع أرى لزامًا على الباحث عامّة، تجنّب إطلاق مثل هذه التعميمات في ظلّ غياب توفرّ إحصائيات تقوم على مسح علمي مدروس. أعتقد جازمًا بأنّ الفجوة أو البون أو الهوّة بين العربية المعيارية واللهجات ككلّ ما زال عميقًا وواسعًا اليوم من حيث القواعد- علم اللفظ/الأصوات والصرف والنحو- والمعجم. أقول هذا بالرغم من بعض الانحسار في ذلك البون نتيجة للهبوط في نسبة الأميّة في العالم العربي وزيادة إشاعة التعليم ورفع المستوى. لا أتردّد ولو للحظة واحدة بأنّ القول: الانتقال من العامّية إلى الفصيحة سهل، ليس صائبًا حتّى بالنسبة لمعظم المثقّفين إن لم يكونوا جميعهم تقريبا. شتّان بين لغة الأمّ واللغة القومية، بين اللغة الأولى الطبيعية العفوية واللغة الثانية المكتسبة المبنية على القواعد، بين لغة الحياة وبين لغة الكتابة. يقول محمود تيمور: من الخير أن نؤكد لأنفسنا هذه القربى بين العامية والفصحى، ففي هذا التأكيد ما يهبنا الطمأنينة والثقة حين نمسك بالقلم لنعالج الكتابة بلغة غير لغة الحديث، فلا نتوهم أننا ننتقل من لغة إلى لغة، وبينهما بون بعيد، بل نعرف أن قُصارى عملنا في الانتقال من لهجة الحديث إلى لغة الكتابة، إنما هو مجرد صقل للكلمة وتقويم للنطق، وتعديل للجملة، ورعْي لمقتضيات الفصحى في مقام التعبير، فنقارب بين أسلوب الكتابة وأسلوب التخاطب ما أمكن التقارب، لنيسر للقارىء أيًا كان شأنه سبيل التبيُّن والفهم، ونيسر للكاتب أيةً كانت قدرته سبيل الإبانةِ والإفهام (ص. ١٧٩). ما يقوله تيمور هنا قد ينطبق كلّه أو بمجمله عليه وعلى أمثاله وهم قلّة وفق كلّ المقاييس ثم أنّ المقصود بالنسبة لنصوص سهلة وقصيرة. أضف إلى ذلك أن هناك تسطيحًا وتبسيطًا للواقع.
يُنهي تيمور كتابه بالنداء لإزالة الستار الموهوم بين العامية والفصحى فالعُزلة الموحشة بينهما ليست لصالح الفصحى. يقتبس العرب ويترجمون ألفاظًا وتعبيراتٍ من اللغات الأجنبية فلم لا يفتحون الباب على مصراعيه لولوج الكلمات العاميّة - العامية الفصحى - ميادين الكتابة والتدوين وفي هذا المزيد من الدقّة والوضوح، المرونة واستجابة للحياة المتجدّدة (ص. ٢٠٦). هذا رأي جدير بالاهتمام الجادّ ولا أظنّ أنّ المجامع اللغوية العربية وما أكثرها قد تصدّت كما ينبغي لهذا العمل. الكلمة الأخيرة هي لما يعتمده معظم أهل اللغة، شيوع الكلمة هو المقياس.
ماذا سيكون مصير العربية المعيارية، اللغة القومية، من جهة واللهجات العامية، لغة الأمّ، في البلدان العربية بعد قرن من الزمان أو أكثر؟ من سنّة الحياة وجود نمطي لغة أساسيين: اللغة المعيارية، لغة الكتابة والعلوم واللغة الدارجة المحكية في الحياة اليومية العامّة، ولكل مقام مقال. البون بينهما ما زال عميقًا وواسعًا، وهو يتقّلص بمرور الزمن ولكن لغة الأمّ ستبقى على ما يبدو، وبجانبها اللغة القومية وهي نصف حيّة. اللسان مطبوع على اللهجة وليس على الفصحى. الخوف على اللغة القومية متربص لها من الداخل ومن الخارج!
أ. د. حسيب شحادة
جامعة هلسنكي