1- مقدمة رسالة المعاش والمعاد
الرسالة موجهة الى محمد بن احمد بن ابي دؤاد قاضي بغداد بعد والده احمد بين سنتي 233 و 237 هـ-. ولي وعزل من قبل المتوكل. وقد توثقت صلة الجاحظ بابيه وبه. وقد حاول الجاحظ أن يرشده ويوجهه نظرا لحداثة سنه فكتب اليه عدة رسائل منها رسالة المعاش والمعاد.يستهل الرسالة بمقدمة اضافية يمتدح بها رجاحة عقل القاضي وكرم خلقه ويتزلف اليه قائلا «وخرجت نسيج وحدك أو حديا في عصرك، حكمت وكيل الله عندك- وهو عقلك- على هواك-..» . ويشكره على النعمة: «وكان من تمام شكري لربي ولي كل نعمة، والمبتدىء بكل احسان الشكر لك والقيام بمكافأتك بما امكن من قول او فعل» . ويهديه كتابا في الأدب جامعا لعلم كثير من المعاد والمعاش وعلل الاشياء.ثم يحدد موضوع الكتاب بانه وصف للطبائع التي ركب عليها الخلق واسباب شهواتهم وكيف تستمال قلوبهم، وكيف يصرفون الطبائع المذمومة الى الشيم المحمودة.ويعلن قاعدة عامة ينبغي مراعاتها هي الوحدة بين آداب الدين والدنيا لأن الآداب آلات) تصلح ان تستعمل في الدين كما تصلح ان تستعمل في الدنيا. فما صح من اصول التدبير في الدين صح في الدنيا وما فسد هنا فسد هناك «وانما الفرق بين الدين والدنيا اختلاف الدارين من الدنيا والآخرة فقط، والحكم ها هنا الحكم هناك، ولولا ذلك ما قامت مملكة ولا ثبتت دولة ولا استقامت سياسة» .والآداب وضعت على اساس الطبائع، واهم الطبائع اثنان هما حب المنافع وكره المضار. ويدخل في حب المنافع حب الراحة والدعة والازدياد والعلو والعز والغلبة وما تستلذ الحواس من المناظر والروائح والطعوم والاصوات والملامس.ويدخل في المكاره اضداد هذه.وإذا ترك الناس وطبائعهم انساقوا مع الهوى وابتعدوا عن الفضائل نظرا للانانية المستولية عليهم، فكان لا بد من وازع او رادع، ومن تربية وتأديب.والتأديب يقوم على اصلين هما الترغيب والترهيب. وهذا الاصلان يصلحان في الدين والدنيا لأنهما اصلا كل تدبير وعليهما مدار كل سياسة كما يقول الجاحظ «فإذا كانوا لم يصلحوا لخالقهم ولم ينقادوا لأمره الا بما وصفت لك من الرغبة (بالجنة) والرهبة (من النار) ، فاعجز الناس رأيا وأخطأهم تدبيرا، واجهلهم بموارد الأمور ومصادرها، من أمل او ظن او رجا ان احدا من الخلق- فوقه او دونه او من نظرائه- يصلح له ضميره، او يصح له بخلاف ما دبرهم الله عليه، فيما بينه وبينهم، فالرغبة والرهبة اصلا كل تدبير وعليهما مدار كل سياسة عظمت او صغرت» .بيد ان الرهبة والرغبة لا تصلحان الا اذا قرنتا بالعدل. فالعدل هو الاصل الثالث للسياسة. وهو يعني الانصاف والمساواة.يضاف الى العدل الوعد والوعيد وهو الاصل الرابع في السياسة. وهذا يعني التنفيذ والاثابة على العمل الصالح والعقوبة على العمل الطالح «ليعمل كل عامل على ثقة مما وعده واعده» وتعلق قلوب العباد بالرغبة والرهبة، ويطرد التدبير وتستقيم السياسة لموافقتهما ما في الفطرة، وأخذهما بمجامع المصلحة» . ولهذا يوصي الجاحظ القاضي بالتزام العدل في معاملة الناس. كما يوصيه بالجود مع تثمير المال وتجنب الفقر «لأن تثمير المال آلة للمكارم وعون على الدين والدنيا ومتألف للاخوان، ولان من فقد المال قلت الرغبة منه ومن لم يكن بموضع رغبة او رهبة استهان الناس بقدره» .اما في معاملة العدو فينصح ابو عثمان بثلاث خلال: ان يبتدىء عدوه بالحسنى عله يحوله عن عداوته لأن كثرة الاعداء كريهة. وأن يكتم اسراره عنه ولا يطلعه على تدبيره، وان يستعد لمواجهته.وفي معاملة الصديق ينصحه كما نصح ابن المقفع قبله بالاكثار من الاصدقاء لانهم جند معدون له وعون في الشدائد. ثم ان يحافظ عليهم.ويحذره من ثلاث خلال هي الكذب الذي هو جماع كل شر، ثم الغضب لأنه لؤم وسوء مقدرة، ثم الجزع عند المصيبة التي لا ارتجاع لها.كما يحذره من المفاخرة بالانساب لانها تورث العداوة بين الاخوان. ومن العتاب لأنه سبب للقطيعة، ومن المزاح لأن الافراط فيه يذهب بالبهاء. ثم الاعتداد بالنفس لان نشر المحاسن من صاحبها لا يليق به ولا يقبل. ثم حذره من ان يولي اموره الجسيمة امرأ لا يكون صلاحه متعلقا بصلاح الحاكم.وفي النهاية يحث الجاحظ القاضي على استعمال الأدب والنصح في معاملة السلطان العادل، وعلى استعمال الحيلة والرفق في معاملة السلطان الاخرق.
2- مقدمة الاوطان والبلدان
يزعم الجاحظ في مقدمة الكتاب انه وضعه نزولا عند رغبة شخص سأله ان يكتب له كتابا في تفاضل البلدان وقناعة النفس بالاوطان، وأثر ملازمتها في الفشل والنقص، وأثر مبارحتها في التجارب والعقل.ولكن الجاحظ يرى ان تأثير البلدان لا يقتصر على الفقر والغنى والمكاسب واغناء العلم بالتجارب، بل يتعداه الى الاخلاق والآداب واللغات والهيئات والصور لأنه يعتقد ان للبيئة دورا هاما في الانسان بمختلف قواه الجسمية والعاطفية والعقلية، وقد أوضح ذلك في اماكن عديدة من كتبه لأنه كان فيلسوفا طبيعيا. [1]ان حب الاوطان طبيعة فطرها الله في الانسان ليعمر البلدان، فلولاها لما سكن الناس الفيافي والادغال وقلل الجبال والقفار الموحشة والبلدان المجدبة القاحلة، والاصقاع الباردة او الحارة. ولطلبوا جميعا السكن في البلاد المعتدلة المناخ، الخصية التربة.
ولو راموا جميعا «اختيار ما هو ارفع ورفض ما هو اوضع من اسم او كنية وفي تجارة وصناعة، ومن شهوة وهمة، لذهبت المعاملات وبطل التمييز، ولوقع التجاذب والتغالب، ثم التحارب، ولصاروا عرضا للتفاني واكلة للبوار» .فالجاحظ يربط حب الاوطان مهما كانت خصائصها من الرفعة او الضعة ومن الجمال او القبح ومن الصلاح او الطلاح بمبدأ عام يرجع الى حكمة الله في خلقه، هو الطبائع التي فطر عليها الناس. وفي هذا الرأي يعبر عن فلسفة الطبيعة احسن تعبير.وحب الاوطان هو الذي يحفز الناس على الذود عنها والقتال في سبيل استرجاعها اذا اغتصبت. والى ذلك اشارت الآية الكريمة وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا(البقرة: 246) .وبما ان حب الاوطان فطرة طبيعية لذا يستوي فيها الانسان والحيوان.ويلاحظ الجاحظ ان صاحب المنزل اذا هجر منزله واختار غيره لم يتبعه فرس ولا بغل ولا حمار ولا ديك ولا دجاجة ولا حمامة ولا هر ولا شاة ولا عصفور.ويخصص الجاحظ قسما كبيرا من الرسالة للحديث عن مكة ولكنه يستطرد من ذكر مكة الى الكلام عن خصال قريش فخصال هاشم وهو يعترف بهذا الاستطراد المخل بالتأليف- والاستطراد سمة من سمات أسلوب الجاحظ في جميع لتبه- ويقول: «ولم يكن قصدنا في اول هذا الكتاب الى ذكر هاشم، وقد كان صدنا الاخبار عن مكة بما قد كتبناه في صدر هذا الكتاب، ولكن خصال مكة بر ذكر خصال قريش، وذكر خصال قريش جر ذكر خصال هاشم» . كما بقول انه عالج هذا الموضوع اي خصال هاشم في كتاب آخر، ذلك الكتاب هو على الارجح «فضل هاشم على عبد شمس» .ان الخصال التي امتازت بها قريش عن سائر العرب هي رغبة جميع القبائل لانتساب اليها في حين لا نجد قرشيا انتسب الى قبيلة من قبائل العرب.
ومن صفات قريش انها اعز العرب واقواها لذلك لا نجد سبية من قريش، ولم تنهزم قريش في المعارك التي خاضتها مثل معركة الفجار وذات كهف.ومن صفات قريش انهم تركوا الغزو وعملوا بالتجارة ومع ذلك لم يعترهم البخل الذي عرف به التجار لأن البخل خلقة في الطباع. وفي هذا القول يطبق الجاحظ فلسفة الطبيعة القائلة بان الاخلاق طباع.من صفات قريش سمو الخلق ورجاجة العقل والحلم والوداعة والبعد عن الجفاء والغلظة، وطيب المأكل.ومن صفاتها ايضا جمعها بين التدين والفروسية على عكس ما نرى في الروم والترك، فان هؤلاء عندما اعتنقوا النصرانية التي تنهي عن القتل والقتال والثأر صارت حالهم الى الجبن والقعود عن القتال. اما قريش فقد ظلوا رغم تشددهم في التدين وعزوفهم عن الغزو واشتغالهم بالتجارة على بسالتهم وفروسيتهم.ويحاول الجاحظ أن يستخرج قانونا يحكم العلاقة بين التدين والبسالة ويطبقه على الخوارج الذين اشتهروا ببسالتهم في القتال فيقول ان سبب ذلك هو عقيدتهم الدينية التي تدعو الى الجهاد وبذل الروح للتخلص من الحاكم الظالم.وهذا ما يفسر لنا استواءهم في النجدة والفروسية رغم اختلاف بلدانهم واعراقهم ولم يتوقف الجاحظ طويلا عند خصال هاشم لانه افاض بها في كتاب فضل هاشم على عبد لمس. وهو يختصر هنا ما اسهب به هناك. ان اهم خصال هاشم «النبوة التي هي جماع خصال الخير واعلاها وافضلها واجلها واسناها» .ومن خصالهم الملك، وملكهم من مغرس النبوة لأن العباسيين استمدوا ملكهم من جدهم العباس، والعباس هو عم النبي، والعم وارث كالأب.ومن خصال هاشم طول سني ملكهم الذي يناهز، عدا حكم علي بن ابي طالب حتى ايام الجاحظ، مائة وست عشرة سنة.ومن خصال هاشم ان الأذكار فيهم غالب، مع كثرة الولد وقد احصي آل ابي طالب فكانوا نحو الفين وثلاثماية. أما في سائر البلدان عدا خرسان فلا نجد الا مئناثا. ولذا كان عدد الاناث اكثر من عدد الذكور ولهذا السبب احل الله للرجل ان يتزوج اربع حرائر وما ملكت يمينه من الاماء لكي لا تبقى امرأة دون زوج.ومن خصال هاشم الشجاعة ومنازلة الاقران والتقى. فكان علي بن ابي طالب اشجع الناس واكثرهم فتكا بالرؤساء والسادة والقادة. وكان اسبقهم الى الاسلام وازهدهم في الاموال.اما مكة فهي المدينة المقدسة، وفيها بيت الله الحرام الذي يضم الحجر الاسود. وفيها ايضا بئر زمزم الذي يشرب منها البدو والحضر.وبسبب قدسيتها لم يطأها عدو ظالم الا قهره الله. فصاحب الحبشة رام تدنيسها فارسل الله على جيشه جماعات الطير ترميهم بالحجارة. ولذا عاش اهلها احرارا لم يخضعوا لطاغية او غاز ولا يؤدون الاتاوة لأحد.واذا دخلها ملك فلاجل تأدية فريضة الحج او التبرك والتعظيم كما فعل تبع ملك اليمن وبعض ملوك غسان ولخم.ان الجاحظ يكتب صفحة من تاريخ مكة يحاول ان يظهر فيها ان تلك المدينة المحرمة لم تقهر ولم تغلب ولم تدسها اقدام الطغاة منذ القدم. وأن اهلها من قريش أعز الناس وأفضلهم أخلاقا.بعد مكة يتحدث ابو عثمان عن المدينة، فيلاحظ انها تختص بخاصة فريدة هي طيب تربتها وهوائها. فان من يمر بها يشم رائحة زكية تفوح من حيطانها وارضها لا تشبهها رائحة في الدنيا. ولذا صنعوا الخرز والعقود من بلحها واترجها تحملها الصبيان والنساء في اعناقها. ولذا سميت طيبة.
وثمة ميزة اخرى للمدينة هي خلوها من الطاعون والجذام وهذا راجع الى طيب هوائها.والميزة الثالثة التي نقع عليها في المدينة هي شهرتها في الفقه حتى قال عبد الملك بن مروان يمدح روح بن زنباع: «جمع ابو زرعة فقه الحجاز، ودهاء العراق، وطاعة اهل الشام» .والبلد الثالث الذي تكلم عليه ابو عثمان هو مصر التي ورد ذكرها في القرآن.. وكان ملكها القديم يدعى فرعونا. وتشتهر مصر بمنف او قصر فرعون المصنوع من الحجر الصلد. كما تشتهر بمهارة اهلها في السحر. ويشير الجاحظ الى خراجها الضخم الذي يدل على خصبها والبالغ اربعة آلاف دينار.وبعد مصر تحدث ابو عثمان على الكوفة والبصرة في العراق. واورد قول زياد الجامع في صفاتهما: «الكوفة جارية جميلة لا مال لها، فهي تخطب لجمالها، والبصرة عجوز شوهاء ذات مال فهي تخطب لمالها» . والبصرة خير من الكوفة لأنها اوسع ارضا واكثر عددا وادنى الى البحر وانقى هواء واخصب تربة واكثر عمرانا.وماء البصرة عذب صاف عندما يبيت في القلى. والآجر الذي تصنع منه البيوت اصفر، وبين الآجر يوضع الجص الابيض فتبدوا المنازل اقرب الى الفضة بين تضاعيف الذهب.وماء الكوفة أسرع الى الجفاف. ومعظم الكوفة خراب يباب تشبه قرية من القرى يسمع قربها ضباح الثعالب واصوات السباع.ونخيل البصرة اكثف واجمل ولا تجد نخلة في الكوفة الا واعوجت كالمنجل.واسواق الكوفة تدل على فقر اهلها، وهم يكرهون اهل البصرة اكثر مما يكرههم هؤلاء. وأهل البصرة احسن جوارا واقل بذخا واقل فخرا» .
ويتحدث الجاحظ على الأوضاع الاقتصادية في البصرة والكوفة ويقارنها باوضاع الشام ومصر وبغداد وغيرها. فيجد الأموال غزيرة في الشامات والاشياء رخيصة لبعد المنقل وقلة عدد السكان، ولأن ما تنتجه ارضهم يفضل عن حاجتهم اما الاهواز وبغداد والعسكر فكثيرة الدراهم والمبيع لكثرة عدد السكان. واما في البصرة فالاثمان مقبولة ويكلف بناء الدور نصف ما يكلف بناء مثلها في بغداد. ويدخل ميناءها كل يوم نحو الفي سفينة. ويوجز خصائص البصرة بقوله: «ولم نر بلدة قط تكون اسعارها ممكنة مع كثرة الجماجم بها الا البصرة: طعامهم اجود الطعام، وسعرهم أرخص الاسعار، وتمرهم أكثر التمور، وريع دبسهم اكثر، وعلى طول الزمان أصبر، يبقى تمرهم الشهريز عشرين سنة..» .وفي آخر الرسالة شيء عن الحرة في العراق، وهي لا تحظى برضا الجاحظ، إنها بيضاء اللون، وتربتها غبراء مشربة سوادا، وهي باردة الطبقس شتاء، حارة صيفا. ولا يرى فيها دارا تذكر سوى دار عون النصراني العبادي.وللجاحظ رسالة أخرى عنوانها «الحنين الى الاوطان» . وقد شك السندوبي في نسبتها الى الجاحظ بينما اكد عبد السلام هارون تلك النسبة ولم يقطع بروكلمان في الأمر. ويبدو لي انها منحولة لأن موضوعها أي تعلق الانسان بوطنه قد طرقه الجاحظ في كتاب: الأوطان والبلدان، وتناوله في القسم الأول منه. وليس من الحكمة في شيء اعادة معالجته مجددا. وهذه الرسالة اعني الحنين الى الاوطان تخلو من الاصالة الفكرية التي نلفيها في كتاب «الأوطان والبلدان» حيث نجد الجاحظ ينم عن عمق في التفكير وحرص على ربط الظواهر باسبابها.اما في الرسالة فلا شيء سوى جمع اقوال واشعار وأحاديث تتعلق بحب الانسان وطنه.وفي الرسالة نعرة شعوبية، والجاحظ كان خصما عنيدا للشعوبية. وهذه النعرة تبدو من قول منسوب الى اعرابي موجه للجاحظ ظاهر الاضطراب والتناقض. فهو يقول للجاحظ: «لعن الله ارضا ليس بها عرب» ثم يقول: «ان هذه العريب في جميع الناس كمقدار القرحة في جلد الفرس، فلولا ان الله رق عليهم فجعلهم في حشاة لطمست هذه العجم آثارهم. أترى الاعيار اذا رأت العتاق لا ترى لها فضلا والله ما امر الله نبيه صلّى الله عليه وسلم بقتلهم، اذ لا يدينون بدين، الا لضنه بهم، ولا ترك قبول الجزية منهم الا تنزيها لهم» . وهو يتهمهم بالضعف: ولولا الفلاة التي تحميهم لقضى عليهم العجم، كما يتهمهم بالكفر. ولو كان الكتاب للجاحظ لرد على هذا الاعرابي. او اعترض على مزاعمه.وتبدو الشعوبية في ناحية أخرى من الرسالة هي تمجيد الفرس واليهود وذكر مآثرهم واخبارهم وحبهم لاوطانهم رغم استيلائهم على بلدان كثيرة غريبة.وثمة دليل آخر على نحل الكتاب هو كلف صاحبه بالالفاظ الغريبة المتكلفة التي يكرهها الجاحظ ويدعو الى الفصاحة في اللفظ، والابتعاد عن الاغراب والوحشية والتكلف البياني، مثل الجناس والطباق. وهذا التكلف يبدو في كلام الاعرابي «اني والله غاوي إعباب، لاصق القلب بالحجاب، مالي عهد بمضاغ الا شلو يربوع وجد معمعة مني، فانسلت، فاخذت منه بنافقائه وقاصعائه ودامائه وراهطائه..».
4- مقدمة رسالة الحكمين وتصويب أمير المؤمنين علي بن ابي طالب في حكمه.
موضوع الرسالة سياسي، وهو الخلاف الذي نشب بين الامام علي بن ابي طالب ومعاوية بن ابي سفيان حول الخلافة بعد مقتل عثمان بن عفان الخليفة الثالث، والذي بلغ ذروته في معركة صفين وما آلت اليه من التحكيم الفاشل.ويسارع الجاحظ الى التأكيد على انه لا يريد ان يبخس معاوية خصاله من العقل والحلم والدهاء والفهم والجزم والبيان وكتابة الوحي وتولية عمر اياه ارباع الشام وتثبيت عثمان ذلك له وتزكيته في حسن تدبيره الأمور. ولكن هذه الخصال لا تكفي لاستحقاق الامامة. فالامامة لا تستوجب الا بالتقدم في الفضل والسوابق، على ان يكون ذلك الفضل ظاهرا ومشهورا عند الناس، او بالشورى، أو بالميراث، او بالوصية، او باجتماع القرابة وحرمة العترة بالاضافة الى الخصال الكريمة. هذه الوجوه الخمسة لاقامة الامام عددها الجاحظ لانها تمثل آراء اهم الفرق في عصره. فالمعتزلة قالوا بالوجه الأول وقد عرضه الجاحظ في رسالة العثمانية، والعباسيون قالوا بالوجه الثالث وقد بسطه الجاحظ في رسالة العباسية، والشيعة الامامية قالوا بالوجه الرابع، والزيدية قالوا بالوجه الخامس.اما الوجه الثاني او الشورى فقد نادى به اهل السنة والجماعة.
ومعاوية لا ينطبق عليه وجه من هذه الوجوه الخمسة، فهو لم يتقدم في الاسلام وليس من اصحاب السوابق وانما هو رجل من عرض المسلمين ومن الطلقاء، واذا كتب الوحي فقد شاركه فيه وسبقه اليه العديدون امثال ابن ابي سرح وزيد بن ثابت وحنظلة الأسدي وعلي ابن ابي طالب ولم يدع احدهم الامامة بسبب الكتابة. وليس من اهل الشورى ولا الميراث ولم يوص له بها.وقد ادعى معاوية الخلافة زاعما انه اولى الناس بالمطالبة بدم عثمان ومن يطالب بدم الخليفة أحق الناس بالخلافة. وليس هذا سببا كافيا للامامة. وقد اعتمد معاوية على القوة والبطش للوصول الى الخلافة، كما استند الى موقف سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمر بن الخطاب. واستغل للوصول الى غايته انتشار جند علي وعدم تماسك جنده؛ ولجأ الى الترغيب بالمال والمناصب ليستميل الناس اليه. واحتال برفع المصاحف على رؤوس الرماح ليخدع جند علي ويشق صفوفهم، واستفاد من دهاء عمرو بن العاص ومواقف ابي موسى الاشعري في التحكيم او انقلابه على علي.ويتوقف الجاحظ عند دور ابي موسى في التحكيم، ويرى كما رأى النظام قبله ان ابا موسى لم يكن غبيا كما يقول الشيعة بل كان عاقلا صحيح التدبير سديد الكيد متفقها في الدين عالما بالقياس والحجج مشهورا بالحلم وكان واليا ناجحا للخلفاء السابقين وقائدا للفتوح. كما يرى أنه خلع عليا في التحكيم لأنه انقلب عليه ومال الى موقف سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمر وزيد بن ثابت ومحمد بن مسلمة وصهيب بن سنان وأسامة بن زيد من النهي عن القتال وتحريمه، واسر ان تصير الخلافة الى عبد الله بن عمر بن الخطاب. وفضل قحطان على عدنان.واذا كان ابو موسى على هذه الحال فلم اختاره علي ليمثله في التحكيم؟.وهنا يرفض الجاحظ كما رفض النظام استاذه دعوى الشيعة بانه حمل على القبول به حملا لا خيار له فيه نزولا عند رغبة اليمانية المؤيدين لابي موسى، لأن ابا موسى لم يكن له أنصار اقوياء يفرضونه فرضا على الخليفة، ولم يكن علي ضعيف الرأي ليقبل ان يمثله في التحكيم عدو مرصد. وانما قبل علي بالتحكيم تلافيا للشقاق يدب في صفوف عسكره بسبب رفع المصاحف ويوم نادى منادي معاوية: «اخرجوا الينا قتلة عثمان» ، فابتلي علي «بعقد لا سبيل الى حله وبقفل لا حيلة في فتحه» فلو سلمهم قتلة عثمان لا متنعوا بعشائرهم الذين قالوا «كلنا قتال عثمان» ولتواثب بعض عسكره على بعض، ولا نقضّ عليهم معاوية وفتك بهم. ولو قال كذبوا لم يكن ذلك تدبيرا لأن السواد الأعظم ومنهم اصحاب الحديث والقضاة والنوابت استنكروا قتل عثمان وطالبوا بالاقتصاص من قتلته. وان قال صدقوا خلعه من يرى الوقوف في عثمان وعلي، ومن يرى تبرئة علي ويدعي ان قتل عثمان من طاعات الله وهم أشد أنصاره. فكان قبول التحكيم هو المخرج الوحيد المفتوح امامه.والمسألة الثانية بعد التحكيم التي وقف عندها الجاحظ هي ترك علي للقتال. وقد اتهمه خصومه بانه ترك القتال اما جبنا واما طمعا في توبة معاوية وعمرو واما ندما على ما اراق من دماء. وكل هذا من سوء التدبير والعجز.بيد ان الجاحظ يرد جميع هذه التهم لأن عليا «اشد الناس قلبا واشرا واكثرهم للاقران قتلا» . ولأنه كان يدرك خدعة معاوية وعمرو وقد حذر اتباعه في خطبه منها ودعاهم الى مواصلة القتال. ويرى ان عليا ترك القتال عندما تحقق من تفكك عسكره ومللهم الحرب، وسأمهم مقارعة الشر، وبعدهم عن اوطانهم وعيالهم، بعد ما قال كبراؤهم: «لا نعود حتى نشمر الكراع ونحد السلاح ونجبي المال» .والمسألة الثالثة التي عالجها الجاحظ هي «كتاب القضية» وهو الاتفاق الذي زعم خصوم علي انه تم بين علي ومعاوية على تحكيم عمرو بن العاص وابي موسى الاشعري في ما شجر بينهما. وقد أثبت الجاحظ هذا النص وحلله فوجد انه مدخول وغير صحيح. فالفاظه تخلو من الفصاحة والبلاغة ويشيع فيها اللحن مما يدل على انها من كلام المولدين. والشهود مشكوك في نسبهم ومختلف في إسمائهم، والسنة التي ارادوا الرجوع اليها لم يردنا ان الحكمين تذاكرا فيها أبدا.والمسألة الرابعة التي توسع فيها الجاحظ هي احتجاجات السفيانية، اتباع معاوية، لحقه بالخلافة. لقد ذهبوا الى ان الخلافة شورى كما ارتأى عمر بن الخطاب عندما اختار ستة رجال وامرهم باختيار الخليفة بعده، منهم. ولم يبق منهم سوى اربعة وكلهم لا يصلحون للخلافة. فسعد بن ابي وقاص لا يستحقها لأنه «جليس لا يرى ان يدفع ضيما ولا يمنع حريما» . وطلحة والزبير لا يصلحان لها لأنهما بايعا عليا ثم نكثا البيعة. واما علي بن ابي طالب فقد سقط حقه فيها لاشتراكه بدم عثمان وحمايته قتلته ولأنه لم يعمل بالشورى ولم تجمع عليه.الناس.ومعاوية برأي اتباعه اولى بالخلافة من بقية الشورى لأنه ابرأهم ساحة من العيوب التي رموا بها ولأنه اولى من انتدب لحسم الخلاف وتسلم مقاليد الملك وتفريج الكرب عن الناس، ولأن عمر ولاه وعثمان زكاه، ولأنه اولى الناس بالمطالبة بدم عثمان الخ ...وقد رد الجاحظ على هذه الحجج بقوله ان معاوية لم يدل بهذه الحجج التي تلهج بها السفيانة. ولو احتج بها معاوية لرواها اصحاب الاخبار والسير امثال الزهري ومحمد بن اسحق وقتادة وغيرهم. ويرى ان هذه الاحتجاجات من عمل المتكلمين المتأخرين.ثم ان حجة السفيانية بان خلافة علي باطلة بسبب عدم توافر الاجماع عليها لا قيمة لها. لأن الاصل في القضية هو توافر الفضيلة، فاذا وجدت فعلى الناس الاجماع على صاحبها، فان اختلفوا فالحق لا يزول وعلى صاحبه الصبر. وقد كان فضل علي ظاهرا، واذا كانوا اختلفوا فيه فقد أصاب الموافق واخطأ المخالف ولم يضم ذلك عليا.وكذلك حجة السفيانية بان خلافة علي باطلة لانها لم تنل بالشورى لأن عليا لم يجمع بقية الشورى ليختاروه، ساقطة ايضا، لأن تلك الشورى ارتآها عمر وليس علي ملزما بالعمل بها.واما حجة السفيانية بان حق علي بالخلافة قد سقط لاشتراكه بدم عثمان فتجن مطلق، لأن عليا لم يشترك بدم عثمان ولم يحرض على قتله ولم يعن عليه.بقي الاعتراف بحق علي بالخلافة للقدم في الاسلام والفضائل التي انماز بها من زهد وفقه وشجاعة وتضحية في سبيل الدين اضف الى ذلك الرواية والقرابة.واذا كان السفيانية قد ضلوا السبيل في موقعهم من علي ومناصبتهم إياه، فان الشيعة والخوارج قد غفلوا بدورهم عن تدبيره. فالشيعة اخطأوا في تأويلهم لتدبيره في قضية الحكمين وحرب صفين كما مر معنا، والخوارج جهلوا تدبيره ايضا مرتين الاولى عندما دعاهم الى مواصلة القتال إثر رفع المصاحف فاحجموا وقالوا لنحكم كتاب الله بيننا، والثانية عندما دعوه بعد التحكيم الى استئناف القتال فرفض لتشتت جيشه، فكفروه وحاربوه.اما موقف الجاحظ الخاص فقد حدده بقوله انه ينطلق من مبدأ المعتزلة في المنزلة بين المنزلتين، اي التوسط في الاحكام بين الافراط والتفريط، وبين الايمان والكفر في حق مرتكب الكبيرة. فالمعتزلة لا يغلون كالخوارج فيكفرون عليا، ولا يقصرون كالمرجئة فيعلقون الحكم ويتركون الامر لله. وانما يقتصدون ويتوسطون «وهذا الاشتقاق، وهو التوسط والاقتصاد هو الاعتزال لغو من غلا وتقصير من قصر؛ والاصل الذي نبني عليه امورنا فيمن ليس عندنا كعلي وسابقته وأرومته وكامل خصاله بل في ادنى رجل من اوليائنا، انا متى وجدنا له عملا يحتمل الخطأ والصواب لم يكن لنا ان نجعل عمله خطأ حتى يعيينا فيه وجه الصواب، وليس لنا بعد ان قضينا بانه خطأ ان نقضي بانه خطيئة حتى يعيينا القدر بانه سليم من طريق المآثم، فان قضينا بانه اثم فليس لنا ان نقضي بانه ضلال ونحن نجد لصرف الدفع عنه انه ضلال الى الاثم متحملا، وان قضينا بانه ضلال فليس لنا ان نقضي بانه كفر الا بعد ان نجد من ذلك بدا فيكون الحق احق ما قضي به وصبر عليه. فمن كانت- حفظك الله- هذه سيرته وطريقته في ادنى اوليائه، فكيف تظنه في ارفع اوليائه؟ فهذا ما لا يحل لي ان اظنه بعلي بن ابي طالب، فان كان عندك برهان واضح ودليل بين يكشف لنا عن الحال حتى يتبين به انه كان سببا في اراقة دمه، فعلينا السمع واليقين والاقرار، وعليك البيان والافهام بالدليل والحرص» .لقد اوضح الجاحظ في هذا المقطع طريقة المعتزلة في الحكم على الناس بمن فيهم علي. وهي طريقة تتسم بالاعتدال وتتجنب الغلو والتقصير، وتضع درجات في سلم الأعمال تتوسط بين الكفر والايمان وهذه الدرجات هي الصواب والخطأ والخطيئة والاثم والضلال. ثم تلتزم بعدم اصدار الحكم الا بعد توافر الادلة التي تفضي الى اليقين.وبناء على هذه القاعدة لا يجد الجاحظ دليلا كافيا يتبين منه ان عليا كان سببا في اراقة دم عثمان، فيصدر عليه حكما بالكفر. اما معاوية فلا يستحق الامامة لعدم توافر اسبابها فيه، وقد اغتصبها بالقوة والخديعة ومختلف الوسائل التي توافق الكتاب والسنة وتخالفهما على عكس علي الذي كان يلتزم الكتاب والسنة ولا يلجأ الى المكائد. واذا كان الجاحظ لم يجهر بالكفار معاوية في رسالة الحكمين فانه كفره صراحة في رسالة النابتة. لقد فسق وضل لاغتصابه الخلافة وكفر حين جحد حكم الرسول في ولد الفراش وادعى ان زياد بن سمية أخوه (انظر رسالة النابتة، ضمن رسائل الجاحظ الكلامية، التي نشرناها) .والجاحظ يؤكد انه يلزم الحياد بين العلويين والعثمانيين وانه ليس ممن «يميل في شق عن شق، ويتعصب لبعض على بعض، ومن يبخس حق الدون، فكأنك به قد تبخس حق من فوقه حتى تصير الى أئمته المهتدين وخلفائه الراشدين، لست عمريا دون ان اكون علويا، ولا علويا دون ان اكون عثمانيا، اللهم الا بما اخص به العترة بسبب القرابة، واما في غير ذلك فليس شأني الا محبة الجميع والتوفير على الكل ودفع الظلامة عن الكبير والضعيف على فدر ما شاهدنا عليه من الحالات..» .وهو يعلن ان كتابه هذا ليس من كتب اصحاب الاهواء او المتكسبين او المتقربين، او من كتب المنافقين والمموهين للباطل. وان غايته هي تبيان الحق والدعوة اليه.
[1] انظر حول هذا الموضوع كتابنا «المناحي الفلسفية عند الجاحظ» المنحى الطبيعي، ص 66.
الرسالة موجهة الى محمد بن احمد بن ابي دؤاد قاضي بغداد بعد والده احمد بين سنتي 233 و 237 هـ-. ولي وعزل من قبل المتوكل. وقد توثقت صلة الجاحظ بابيه وبه. وقد حاول الجاحظ أن يرشده ويوجهه نظرا لحداثة سنه فكتب اليه عدة رسائل منها رسالة المعاش والمعاد.يستهل الرسالة بمقدمة اضافية يمتدح بها رجاحة عقل القاضي وكرم خلقه ويتزلف اليه قائلا «وخرجت نسيج وحدك أو حديا في عصرك، حكمت وكيل الله عندك- وهو عقلك- على هواك-..» . ويشكره على النعمة: «وكان من تمام شكري لربي ولي كل نعمة، والمبتدىء بكل احسان الشكر لك والقيام بمكافأتك بما امكن من قول او فعل» . ويهديه كتابا في الأدب جامعا لعلم كثير من المعاد والمعاش وعلل الاشياء.ثم يحدد موضوع الكتاب بانه وصف للطبائع التي ركب عليها الخلق واسباب شهواتهم وكيف تستمال قلوبهم، وكيف يصرفون الطبائع المذمومة الى الشيم المحمودة.ويعلن قاعدة عامة ينبغي مراعاتها هي الوحدة بين آداب الدين والدنيا لأن الآداب آلات) تصلح ان تستعمل في الدين كما تصلح ان تستعمل في الدنيا. فما صح من اصول التدبير في الدين صح في الدنيا وما فسد هنا فسد هناك «وانما الفرق بين الدين والدنيا اختلاف الدارين من الدنيا والآخرة فقط، والحكم ها هنا الحكم هناك، ولولا ذلك ما قامت مملكة ولا ثبتت دولة ولا استقامت سياسة» .والآداب وضعت على اساس الطبائع، واهم الطبائع اثنان هما حب المنافع وكره المضار. ويدخل في حب المنافع حب الراحة والدعة والازدياد والعلو والعز والغلبة وما تستلذ الحواس من المناظر والروائح والطعوم والاصوات والملامس.ويدخل في المكاره اضداد هذه.وإذا ترك الناس وطبائعهم انساقوا مع الهوى وابتعدوا عن الفضائل نظرا للانانية المستولية عليهم، فكان لا بد من وازع او رادع، ومن تربية وتأديب.والتأديب يقوم على اصلين هما الترغيب والترهيب. وهذا الاصلان يصلحان في الدين والدنيا لأنهما اصلا كل تدبير وعليهما مدار كل سياسة كما يقول الجاحظ «فإذا كانوا لم يصلحوا لخالقهم ولم ينقادوا لأمره الا بما وصفت لك من الرغبة (بالجنة) والرهبة (من النار) ، فاعجز الناس رأيا وأخطأهم تدبيرا، واجهلهم بموارد الأمور ومصادرها، من أمل او ظن او رجا ان احدا من الخلق- فوقه او دونه او من نظرائه- يصلح له ضميره، او يصح له بخلاف ما دبرهم الله عليه، فيما بينه وبينهم، فالرغبة والرهبة اصلا كل تدبير وعليهما مدار كل سياسة عظمت او صغرت» .بيد ان الرهبة والرغبة لا تصلحان الا اذا قرنتا بالعدل. فالعدل هو الاصل الثالث للسياسة. وهو يعني الانصاف والمساواة.يضاف الى العدل الوعد والوعيد وهو الاصل الرابع في السياسة. وهذا يعني التنفيذ والاثابة على العمل الصالح والعقوبة على العمل الطالح «ليعمل كل عامل على ثقة مما وعده واعده» وتعلق قلوب العباد بالرغبة والرهبة، ويطرد التدبير وتستقيم السياسة لموافقتهما ما في الفطرة، وأخذهما بمجامع المصلحة» . ولهذا يوصي الجاحظ القاضي بالتزام العدل في معاملة الناس. كما يوصيه بالجود مع تثمير المال وتجنب الفقر «لأن تثمير المال آلة للمكارم وعون على الدين والدنيا ومتألف للاخوان، ولان من فقد المال قلت الرغبة منه ومن لم يكن بموضع رغبة او رهبة استهان الناس بقدره» .اما في معاملة العدو فينصح ابو عثمان بثلاث خلال: ان يبتدىء عدوه بالحسنى عله يحوله عن عداوته لأن كثرة الاعداء كريهة. وأن يكتم اسراره عنه ولا يطلعه على تدبيره، وان يستعد لمواجهته.وفي معاملة الصديق ينصحه كما نصح ابن المقفع قبله بالاكثار من الاصدقاء لانهم جند معدون له وعون في الشدائد. ثم ان يحافظ عليهم.ويحذره من ثلاث خلال هي الكذب الذي هو جماع كل شر، ثم الغضب لأنه لؤم وسوء مقدرة، ثم الجزع عند المصيبة التي لا ارتجاع لها.كما يحذره من المفاخرة بالانساب لانها تورث العداوة بين الاخوان. ومن العتاب لأنه سبب للقطيعة، ومن المزاح لأن الافراط فيه يذهب بالبهاء. ثم الاعتداد بالنفس لان نشر المحاسن من صاحبها لا يليق به ولا يقبل. ثم حذره من ان يولي اموره الجسيمة امرأ لا يكون صلاحه متعلقا بصلاح الحاكم.وفي النهاية يحث الجاحظ القاضي على استعمال الأدب والنصح في معاملة السلطان العادل، وعلى استعمال الحيلة والرفق في معاملة السلطان الاخرق.
2- مقدمة الاوطان والبلدان
يزعم الجاحظ في مقدمة الكتاب انه وضعه نزولا عند رغبة شخص سأله ان يكتب له كتابا في تفاضل البلدان وقناعة النفس بالاوطان، وأثر ملازمتها في الفشل والنقص، وأثر مبارحتها في التجارب والعقل.ولكن الجاحظ يرى ان تأثير البلدان لا يقتصر على الفقر والغنى والمكاسب واغناء العلم بالتجارب، بل يتعداه الى الاخلاق والآداب واللغات والهيئات والصور لأنه يعتقد ان للبيئة دورا هاما في الانسان بمختلف قواه الجسمية والعاطفية والعقلية، وقد أوضح ذلك في اماكن عديدة من كتبه لأنه كان فيلسوفا طبيعيا. [1]ان حب الاوطان طبيعة فطرها الله في الانسان ليعمر البلدان، فلولاها لما سكن الناس الفيافي والادغال وقلل الجبال والقفار الموحشة والبلدان المجدبة القاحلة، والاصقاع الباردة او الحارة. ولطلبوا جميعا السكن في البلاد المعتدلة المناخ، الخصية التربة.
ولو راموا جميعا «اختيار ما هو ارفع ورفض ما هو اوضع من اسم او كنية وفي تجارة وصناعة، ومن شهوة وهمة، لذهبت المعاملات وبطل التمييز، ولوقع التجاذب والتغالب، ثم التحارب، ولصاروا عرضا للتفاني واكلة للبوار» .فالجاحظ يربط حب الاوطان مهما كانت خصائصها من الرفعة او الضعة ومن الجمال او القبح ومن الصلاح او الطلاح بمبدأ عام يرجع الى حكمة الله في خلقه، هو الطبائع التي فطر عليها الناس. وفي هذا الرأي يعبر عن فلسفة الطبيعة احسن تعبير.وحب الاوطان هو الذي يحفز الناس على الذود عنها والقتال في سبيل استرجاعها اذا اغتصبت. والى ذلك اشارت الآية الكريمة وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا(البقرة: 246) .وبما ان حب الاوطان فطرة طبيعية لذا يستوي فيها الانسان والحيوان.ويلاحظ الجاحظ ان صاحب المنزل اذا هجر منزله واختار غيره لم يتبعه فرس ولا بغل ولا حمار ولا ديك ولا دجاجة ولا حمامة ولا هر ولا شاة ولا عصفور.ويخصص الجاحظ قسما كبيرا من الرسالة للحديث عن مكة ولكنه يستطرد من ذكر مكة الى الكلام عن خصال قريش فخصال هاشم وهو يعترف بهذا الاستطراد المخل بالتأليف- والاستطراد سمة من سمات أسلوب الجاحظ في جميع لتبه- ويقول: «ولم يكن قصدنا في اول هذا الكتاب الى ذكر هاشم، وقد كان صدنا الاخبار عن مكة بما قد كتبناه في صدر هذا الكتاب، ولكن خصال مكة بر ذكر خصال قريش، وذكر خصال قريش جر ذكر خصال هاشم» . كما بقول انه عالج هذا الموضوع اي خصال هاشم في كتاب آخر، ذلك الكتاب هو على الارجح «فضل هاشم على عبد شمس» .ان الخصال التي امتازت بها قريش عن سائر العرب هي رغبة جميع القبائل لانتساب اليها في حين لا نجد قرشيا انتسب الى قبيلة من قبائل العرب.
ومن صفات قريش انها اعز العرب واقواها لذلك لا نجد سبية من قريش، ولم تنهزم قريش في المعارك التي خاضتها مثل معركة الفجار وذات كهف.ومن صفات قريش انهم تركوا الغزو وعملوا بالتجارة ومع ذلك لم يعترهم البخل الذي عرف به التجار لأن البخل خلقة في الطباع. وفي هذا القول يطبق الجاحظ فلسفة الطبيعة القائلة بان الاخلاق طباع.من صفات قريش سمو الخلق ورجاجة العقل والحلم والوداعة والبعد عن الجفاء والغلظة، وطيب المأكل.ومن صفاتها ايضا جمعها بين التدين والفروسية على عكس ما نرى في الروم والترك، فان هؤلاء عندما اعتنقوا النصرانية التي تنهي عن القتل والقتال والثأر صارت حالهم الى الجبن والقعود عن القتال. اما قريش فقد ظلوا رغم تشددهم في التدين وعزوفهم عن الغزو واشتغالهم بالتجارة على بسالتهم وفروسيتهم.ويحاول الجاحظ أن يستخرج قانونا يحكم العلاقة بين التدين والبسالة ويطبقه على الخوارج الذين اشتهروا ببسالتهم في القتال فيقول ان سبب ذلك هو عقيدتهم الدينية التي تدعو الى الجهاد وبذل الروح للتخلص من الحاكم الظالم.وهذا ما يفسر لنا استواءهم في النجدة والفروسية رغم اختلاف بلدانهم واعراقهم ولم يتوقف الجاحظ طويلا عند خصال هاشم لانه افاض بها في كتاب فضل هاشم على عبد لمس. وهو يختصر هنا ما اسهب به هناك. ان اهم خصال هاشم «النبوة التي هي جماع خصال الخير واعلاها وافضلها واجلها واسناها» .ومن خصالهم الملك، وملكهم من مغرس النبوة لأن العباسيين استمدوا ملكهم من جدهم العباس، والعباس هو عم النبي، والعم وارث كالأب.ومن خصال هاشم طول سني ملكهم الذي يناهز، عدا حكم علي بن ابي طالب حتى ايام الجاحظ، مائة وست عشرة سنة.ومن خصال هاشم ان الأذكار فيهم غالب، مع كثرة الولد وقد احصي آل ابي طالب فكانوا نحو الفين وثلاثماية. أما في سائر البلدان عدا خرسان فلا نجد الا مئناثا. ولذا كان عدد الاناث اكثر من عدد الذكور ولهذا السبب احل الله للرجل ان يتزوج اربع حرائر وما ملكت يمينه من الاماء لكي لا تبقى امرأة دون زوج.ومن خصال هاشم الشجاعة ومنازلة الاقران والتقى. فكان علي بن ابي طالب اشجع الناس واكثرهم فتكا بالرؤساء والسادة والقادة. وكان اسبقهم الى الاسلام وازهدهم في الاموال.اما مكة فهي المدينة المقدسة، وفيها بيت الله الحرام الذي يضم الحجر الاسود. وفيها ايضا بئر زمزم الذي يشرب منها البدو والحضر.وبسبب قدسيتها لم يطأها عدو ظالم الا قهره الله. فصاحب الحبشة رام تدنيسها فارسل الله على جيشه جماعات الطير ترميهم بالحجارة. ولذا عاش اهلها احرارا لم يخضعوا لطاغية او غاز ولا يؤدون الاتاوة لأحد.واذا دخلها ملك فلاجل تأدية فريضة الحج او التبرك والتعظيم كما فعل تبع ملك اليمن وبعض ملوك غسان ولخم.ان الجاحظ يكتب صفحة من تاريخ مكة يحاول ان يظهر فيها ان تلك المدينة المحرمة لم تقهر ولم تغلب ولم تدسها اقدام الطغاة منذ القدم. وأن اهلها من قريش أعز الناس وأفضلهم أخلاقا.بعد مكة يتحدث ابو عثمان عن المدينة، فيلاحظ انها تختص بخاصة فريدة هي طيب تربتها وهوائها. فان من يمر بها يشم رائحة زكية تفوح من حيطانها وارضها لا تشبهها رائحة في الدنيا. ولذا صنعوا الخرز والعقود من بلحها واترجها تحملها الصبيان والنساء في اعناقها. ولذا سميت طيبة.
وثمة ميزة اخرى للمدينة هي خلوها من الطاعون والجذام وهذا راجع الى طيب هوائها.والميزة الثالثة التي نقع عليها في المدينة هي شهرتها في الفقه حتى قال عبد الملك بن مروان يمدح روح بن زنباع: «جمع ابو زرعة فقه الحجاز، ودهاء العراق، وطاعة اهل الشام» .والبلد الثالث الذي تكلم عليه ابو عثمان هو مصر التي ورد ذكرها في القرآن.. وكان ملكها القديم يدعى فرعونا. وتشتهر مصر بمنف او قصر فرعون المصنوع من الحجر الصلد. كما تشتهر بمهارة اهلها في السحر. ويشير الجاحظ الى خراجها الضخم الذي يدل على خصبها والبالغ اربعة آلاف دينار.وبعد مصر تحدث ابو عثمان على الكوفة والبصرة في العراق. واورد قول زياد الجامع في صفاتهما: «الكوفة جارية جميلة لا مال لها، فهي تخطب لجمالها، والبصرة عجوز شوهاء ذات مال فهي تخطب لمالها» . والبصرة خير من الكوفة لأنها اوسع ارضا واكثر عددا وادنى الى البحر وانقى هواء واخصب تربة واكثر عمرانا.وماء البصرة عذب صاف عندما يبيت في القلى. والآجر الذي تصنع منه البيوت اصفر، وبين الآجر يوضع الجص الابيض فتبدوا المنازل اقرب الى الفضة بين تضاعيف الذهب.وماء الكوفة أسرع الى الجفاف. ومعظم الكوفة خراب يباب تشبه قرية من القرى يسمع قربها ضباح الثعالب واصوات السباع.ونخيل البصرة اكثف واجمل ولا تجد نخلة في الكوفة الا واعوجت كالمنجل.واسواق الكوفة تدل على فقر اهلها، وهم يكرهون اهل البصرة اكثر مما يكرههم هؤلاء. وأهل البصرة احسن جوارا واقل بذخا واقل فخرا» .
ويتحدث الجاحظ على الأوضاع الاقتصادية في البصرة والكوفة ويقارنها باوضاع الشام ومصر وبغداد وغيرها. فيجد الأموال غزيرة في الشامات والاشياء رخيصة لبعد المنقل وقلة عدد السكان، ولأن ما تنتجه ارضهم يفضل عن حاجتهم اما الاهواز وبغداد والعسكر فكثيرة الدراهم والمبيع لكثرة عدد السكان. واما في البصرة فالاثمان مقبولة ويكلف بناء الدور نصف ما يكلف بناء مثلها في بغداد. ويدخل ميناءها كل يوم نحو الفي سفينة. ويوجز خصائص البصرة بقوله: «ولم نر بلدة قط تكون اسعارها ممكنة مع كثرة الجماجم بها الا البصرة: طعامهم اجود الطعام، وسعرهم أرخص الاسعار، وتمرهم أكثر التمور، وريع دبسهم اكثر، وعلى طول الزمان أصبر، يبقى تمرهم الشهريز عشرين سنة..» .وفي آخر الرسالة شيء عن الحرة في العراق، وهي لا تحظى برضا الجاحظ، إنها بيضاء اللون، وتربتها غبراء مشربة سوادا، وهي باردة الطبقس شتاء، حارة صيفا. ولا يرى فيها دارا تذكر سوى دار عون النصراني العبادي.وللجاحظ رسالة أخرى عنوانها «الحنين الى الاوطان» . وقد شك السندوبي في نسبتها الى الجاحظ بينما اكد عبد السلام هارون تلك النسبة ولم يقطع بروكلمان في الأمر. ويبدو لي انها منحولة لأن موضوعها أي تعلق الانسان بوطنه قد طرقه الجاحظ في كتاب: الأوطان والبلدان، وتناوله في القسم الأول منه. وليس من الحكمة في شيء اعادة معالجته مجددا. وهذه الرسالة اعني الحنين الى الاوطان تخلو من الاصالة الفكرية التي نلفيها في كتاب «الأوطان والبلدان» حيث نجد الجاحظ ينم عن عمق في التفكير وحرص على ربط الظواهر باسبابها.اما في الرسالة فلا شيء سوى جمع اقوال واشعار وأحاديث تتعلق بحب الانسان وطنه.وفي الرسالة نعرة شعوبية، والجاحظ كان خصما عنيدا للشعوبية. وهذه النعرة تبدو من قول منسوب الى اعرابي موجه للجاحظ ظاهر الاضطراب والتناقض. فهو يقول للجاحظ: «لعن الله ارضا ليس بها عرب» ثم يقول: «ان هذه العريب في جميع الناس كمقدار القرحة في جلد الفرس، فلولا ان الله رق عليهم فجعلهم في حشاة لطمست هذه العجم آثارهم. أترى الاعيار اذا رأت العتاق لا ترى لها فضلا والله ما امر الله نبيه صلّى الله عليه وسلم بقتلهم، اذ لا يدينون بدين، الا لضنه بهم، ولا ترك قبول الجزية منهم الا تنزيها لهم» . وهو يتهمهم بالضعف: ولولا الفلاة التي تحميهم لقضى عليهم العجم، كما يتهمهم بالكفر. ولو كان الكتاب للجاحظ لرد على هذا الاعرابي. او اعترض على مزاعمه.وتبدو الشعوبية في ناحية أخرى من الرسالة هي تمجيد الفرس واليهود وذكر مآثرهم واخبارهم وحبهم لاوطانهم رغم استيلائهم على بلدان كثيرة غريبة.وثمة دليل آخر على نحل الكتاب هو كلف صاحبه بالالفاظ الغريبة المتكلفة التي يكرهها الجاحظ ويدعو الى الفصاحة في اللفظ، والابتعاد عن الاغراب والوحشية والتكلف البياني، مثل الجناس والطباق. وهذا التكلف يبدو في كلام الاعرابي «اني والله غاوي إعباب، لاصق القلب بالحجاب، مالي عهد بمضاغ الا شلو يربوع وجد معمعة مني، فانسلت، فاخذت منه بنافقائه وقاصعائه ودامائه وراهطائه..».
4- مقدمة رسالة الحكمين وتصويب أمير المؤمنين علي بن ابي طالب في حكمه.
موضوع الرسالة سياسي، وهو الخلاف الذي نشب بين الامام علي بن ابي طالب ومعاوية بن ابي سفيان حول الخلافة بعد مقتل عثمان بن عفان الخليفة الثالث، والذي بلغ ذروته في معركة صفين وما آلت اليه من التحكيم الفاشل.ويسارع الجاحظ الى التأكيد على انه لا يريد ان يبخس معاوية خصاله من العقل والحلم والدهاء والفهم والجزم والبيان وكتابة الوحي وتولية عمر اياه ارباع الشام وتثبيت عثمان ذلك له وتزكيته في حسن تدبيره الأمور. ولكن هذه الخصال لا تكفي لاستحقاق الامامة. فالامامة لا تستوجب الا بالتقدم في الفضل والسوابق، على ان يكون ذلك الفضل ظاهرا ومشهورا عند الناس، او بالشورى، أو بالميراث، او بالوصية، او باجتماع القرابة وحرمة العترة بالاضافة الى الخصال الكريمة. هذه الوجوه الخمسة لاقامة الامام عددها الجاحظ لانها تمثل آراء اهم الفرق في عصره. فالمعتزلة قالوا بالوجه الأول وقد عرضه الجاحظ في رسالة العثمانية، والعباسيون قالوا بالوجه الثالث وقد بسطه الجاحظ في رسالة العباسية، والشيعة الامامية قالوا بالوجه الرابع، والزيدية قالوا بالوجه الخامس.اما الوجه الثاني او الشورى فقد نادى به اهل السنة والجماعة.
ومعاوية لا ينطبق عليه وجه من هذه الوجوه الخمسة، فهو لم يتقدم في الاسلام وليس من اصحاب السوابق وانما هو رجل من عرض المسلمين ومن الطلقاء، واذا كتب الوحي فقد شاركه فيه وسبقه اليه العديدون امثال ابن ابي سرح وزيد بن ثابت وحنظلة الأسدي وعلي ابن ابي طالب ولم يدع احدهم الامامة بسبب الكتابة. وليس من اهل الشورى ولا الميراث ولم يوص له بها.وقد ادعى معاوية الخلافة زاعما انه اولى الناس بالمطالبة بدم عثمان ومن يطالب بدم الخليفة أحق الناس بالخلافة. وليس هذا سببا كافيا للامامة. وقد اعتمد معاوية على القوة والبطش للوصول الى الخلافة، كما استند الى موقف سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمر بن الخطاب. واستغل للوصول الى غايته انتشار جند علي وعدم تماسك جنده؛ ولجأ الى الترغيب بالمال والمناصب ليستميل الناس اليه. واحتال برفع المصاحف على رؤوس الرماح ليخدع جند علي ويشق صفوفهم، واستفاد من دهاء عمرو بن العاص ومواقف ابي موسى الاشعري في التحكيم او انقلابه على علي.ويتوقف الجاحظ عند دور ابي موسى في التحكيم، ويرى كما رأى النظام قبله ان ابا موسى لم يكن غبيا كما يقول الشيعة بل كان عاقلا صحيح التدبير سديد الكيد متفقها في الدين عالما بالقياس والحجج مشهورا بالحلم وكان واليا ناجحا للخلفاء السابقين وقائدا للفتوح. كما يرى أنه خلع عليا في التحكيم لأنه انقلب عليه ومال الى موقف سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمر وزيد بن ثابت ومحمد بن مسلمة وصهيب بن سنان وأسامة بن زيد من النهي عن القتال وتحريمه، واسر ان تصير الخلافة الى عبد الله بن عمر بن الخطاب. وفضل قحطان على عدنان.واذا كان ابو موسى على هذه الحال فلم اختاره علي ليمثله في التحكيم؟.وهنا يرفض الجاحظ كما رفض النظام استاذه دعوى الشيعة بانه حمل على القبول به حملا لا خيار له فيه نزولا عند رغبة اليمانية المؤيدين لابي موسى، لأن ابا موسى لم يكن له أنصار اقوياء يفرضونه فرضا على الخليفة، ولم يكن علي ضعيف الرأي ليقبل ان يمثله في التحكيم عدو مرصد. وانما قبل علي بالتحكيم تلافيا للشقاق يدب في صفوف عسكره بسبب رفع المصاحف ويوم نادى منادي معاوية: «اخرجوا الينا قتلة عثمان» ، فابتلي علي «بعقد لا سبيل الى حله وبقفل لا حيلة في فتحه» فلو سلمهم قتلة عثمان لا متنعوا بعشائرهم الذين قالوا «كلنا قتال عثمان» ولتواثب بعض عسكره على بعض، ولا نقضّ عليهم معاوية وفتك بهم. ولو قال كذبوا لم يكن ذلك تدبيرا لأن السواد الأعظم ومنهم اصحاب الحديث والقضاة والنوابت استنكروا قتل عثمان وطالبوا بالاقتصاص من قتلته. وان قال صدقوا خلعه من يرى الوقوف في عثمان وعلي، ومن يرى تبرئة علي ويدعي ان قتل عثمان من طاعات الله وهم أشد أنصاره. فكان قبول التحكيم هو المخرج الوحيد المفتوح امامه.والمسألة الثانية بعد التحكيم التي وقف عندها الجاحظ هي ترك علي للقتال. وقد اتهمه خصومه بانه ترك القتال اما جبنا واما طمعا في توبة معاوية وعمرو واما ندما على ما اراق من دماء. وكل هذا من سوء التدبير والعجز.بيد ان الجاحظ يرد جميع هذه التهم لأن عليا «اشد الناس قلبا واشرا واكثرهم للاقران قتلا» . ولأنه كان يدرك خدعة معاوية وعمرو وقد حذر اتباعه في خطبه منها ودعاهم الى مواصلة القتال. ويرى ان عليا ترك القتال عندما تحقق من تفكك عسكره ومللهم الحرب، وسأمهم مقارعة الشر، وبعدهم عن اوطانهم وعيالهم، بعد ما قال كبراؤهم: «لا نعود حتى نشمر الكراع ونحد السلاح ونجبي المال» .والمسألة الثالثة التي عالجها الجاحظ هي «كتاب القضية» وهو الاتفاق الذي زعم خصوم علي انه تم بين علي ومعاوية على تحكيم عمرو بن العاص وابي موسى الاشعري في ما شجر بينهما. وقد أثبت الجاحظ هذا النص وحلله فوجد انه مدخول وغير صحيح. فالفاظه تخلو من الفصاحة والبلاغة ويشيع فيها اللحن مما يدل على انها من كلام المولدين. والشهود مشكوك في نسبهم ومختلف في إسمائهم، والسنة التي ارادوا الرجوع اليها لم يردنا ان الحكمين تذاكرا فيها أبدا.والمسألة الرابعة التي توسع فيها الجاحظ هي احتجاجات السفيانية، اتباع معاوية، لحقه بالخلافة. لقد ذهبوا الى ان الخلافة شورى كما ارتأى عمر بن الخطاب عندما اختار ستة رجال وامرهم باختيار الخليفة بعده، منهم. ولم يبق منهم سوى اربعة وكلهم لا يصلحون للخلافة. فسعد بن ابي وقاص لا يستحقها لأنه «جليس لا يرى ان يدفع ضيما ولا يمنع حريما» . وطلحة والزبير لا يصلحان لها لأنهما بايعا عليا ثم نكثا البيعة. واما علي بن ابي طالب فقد سقط حقه فيها لاشتراكه بدم عثمان وحمايته قتلته ولأنه لم يعمل بالشورى ولم تجمع عليه.الناس.ومعاوية برأي اتباعه اولى بالخلافة من بقية الشورى لأنه ابرأهم ساحة من العيوب التي رموا بها ولأنه اولى من انتدب لحسم الخلاف وتسلم مقاليد الملك وتفريج الكرب عن الناس، ولأن عمر ولاه وعثمان زكاه، ولأنه اولى الناس بالمطالبة بدم عثمان الخ ...وقد رد الجاحظ على هذه الحجج بقوله ان معاوية لم يدل بهذه الحجج التي تلهج بها السفيانة. ولو احتج بها معاوية لرواها اصحاب الاخبار والسير امثال الزهري ومحمد بن اسحق وقتادة وغيرهم. ويرى ان هذه الاحتجاجات من عمل المتكلمين المتأخرين.ثم ان حجة السفيانية بان خلافة علي باطلة بسبب عدم توافر الاجماع عليها لا قيمة لها. لأن الاصل في القضية هو توافر الفضيلة، فاذا وجدت فعلى الناس الاجماع على صاحبها، فان اختلفوا فالحق لا يزول وعلى صاحبه الصبر. وقد كان فضل علي ظاهرا، واذا كانوا اختلفوا فيه فقد أصاب الموافق واخطأ المخالف ولم يضم ذلك عليا.وكذلك حجة السفيانية بان خلافة علي باطلة لانها لم تنل بالشورى لأن عليا لم يجمع بقية الشورى ليختاروه، ساقطة ايضا، لأن تلك الشورى ارتآها عمر وليس علي ملزما بالعمل بها.واما حجة السفيانية بان حق علي بالخلافة قد سقط لاشتراكه بدم عثمان فتجن مطلق، لأن عليا لم يشترك بدم عثمان ولم يحرض على قتله ولم يعن عليه.بقي الاعتراف بحق علي بالخلافة للقدم في الاسلام والفضائل التي انماز بها من زهد وفقه وشجاعة وتضحية في سبيل الدين اضف الى ذلك الرواية والقرابة.واذا كان السفيانية قد ضلوا السبيل في موقعهم من علي ومناصبتهم إياه، فان الشيعة والخوارج قد غفلوا بدورهم عن تدبيره. فالشيعة اخطأوا في تأويلهم لتدبيره في قضية الحكمين وحرب صفين كما مر معنا، والخوارج جهلوا تدبيره ايضا مرتين الاولى عندما دعاهم الى مواصلة القتال إثر رفع المصاحف فاحجموا وقالوا لنحكم كتاب الله بيننا، والثانية عندما دعوه بعد التحكيم الى استئناف القتال فرفض لتشتت جيشه، فكفروه وحاربوه.اما موقف الجاحظ الخاص فقد حدده بقوله انه ينطلق من مبدأ المعتزلة في المنزلة بين المنزلتين، اي التوسط في الاحكام بين الافراط والتفريط، وبين الايمان والكفر في حق مرتكب الكبيرة. فالمعتزلة لا يغلون كالخوارج فيكفرون عليا، ولا يقصرون كالمرجئة فيعلقون الحكم ويتركون الامر لله. وانما يقتصدون ويتوسطون «وهذا الاشتقاق، وهو التوسط والاقتصاد هو الاعتزال لغو من غلا وتقصير من قصر؛ والاصل الذي نبني عليه امورنا فيمن ليس عندنا كعلي وسابقته وأرومته وكامل خصاله بل في ادنى رجل من اوليائنا، انا متى وجدنا له عملا يحتمل الخطأ والصواب لم يكن لنا ان نجعل عمله خطأ حتى يعيينا فيه وجه الصواب، وليس لنا بعد ان قضينا بانه خطأ ان نقضي بانه خطيئة حتى يعيينا القدر بانه سليم من طريق المآثم، فان قضينا بانه اثم فليس لنا ان نقضي بانه ضلال ونحن نجد لصرف الدفع عنه انه ضلال الى الاثم متحملا، وان قضينا بانه ضلال فليس لنا ان نقضي بانه كفر الا بعد ان نجد من ذلك بدا فيكون الحق احق ما قضي به وصبر عليه. فمن كانت- حفظك الله- هذه سيرته وطريقته في ادنى اوليائه، فكيف تظنه في ارفع اوليائه؟ فهذا ما لا يحل لي ان اظنه بعلي بن ابي طالب، فان كان عندك برهان واضح ودليل بين يكشف لنا عن الحال حتى يتبين به انه كان سببا في اراقة دمه، فعلينا السمع واليقين والاقرار، وعليك البيان والافهام بالدليل والحرص» .لقد اوضح الجاحظ في هذا المقطع طريقة المعتزلة في الحكم على الناس بمن فيهم علي. وهي طريقة تتسم بالاعتدال وتتجنب الغلو والتقصير، وتضع درجات في سلم الأعمال تتوسط بين الكفر والايمان وهذه الدرجات هي الصواب والخطأ والخطيئة والاثم والضلال. ثم تلتزم بعدم اصدار الحكم الا بعد توافر الادلة التي تفضي الى اليقين.وبناء على هذه القاعدة لا يجد الجاحظ دليلا كافيا يتبين منه ان عليا كان سببا في اراقة دم عثمان، فيصدر عليه حكما بالكفر. اما معاوية فلا يستحق الامامة لعدم توافر اسبابها فيه، وقد اغتصبها بالقوة والخديعة ومختلف الوسائل التي توافق الكتاب والسنة وتخالفهما على عكس علي الذي كان يلتزم الكتاب والسنة ولا يلجأ الى المكائد. واذا كان الجاحظ لم يجهر بالكفار معاوية في رسالة الحكمين فانه كفره صراحة في رسالة النابتة. لقد فسق وضل لاغتصابه الخلافة وكفر حين جحد حكم الرسول في ولد الفراش وادعى ان زياد بن سمية أخوه (انظر رسالة النابتة، ضمن رسائل الجاحظ الكلامية، التي نشرناها) .والجاحظ يؤكد انه يلزم الحياد بين العلويين والعثمانيين وانه ليس ممن «يميل في شق عن شق، ويتعصب لبعض على بعض، ومن يبخس حق الدون، فكأنك به قد تبخس حق من فوقه حتى تصير الى أئمته المهتدين وخلفائه الراشدين، لست عمريا دون ان اكون علويا، ولا علويا دون ان اكون عثمانيا، اللهم الا بما اخص به العترة بسبب القرابة، واما في غير ذلك فليس شأني الا محبة الجميع والتوفير على الكل ودفع الظلامة عن الكبير والضعيف على فدر ما شاهدنا عليه من الحالات..» .وهو يعلن ان كتابه هذا ليس من كتب اصحاب الاهواء او المتكسبين او المتقربين، او من كتب المنافقين والمموهين للباطل. وان غايته هي تبيان الحق والدعوة اليه.
[1] انظر حول هذا الموضوع كتابنا «المناحي الفلسفية عند الجاحظ» المنحى الطبيعي، ص 66.