عبدالفتاح عبدالرحمن الجمل: أنا اتحاد كتَّاب متواضع!.. حوار: عائشة المراغى

- كنتُ غريباً في وسط عائلتي وخارجًا على إطارها الاجتماعي
- وفاة أمي حطّمت مجداف سفينتي
- أكتب للمستقبل ولا يهمني من يقرأ الآن
- كل منا بداخله ناقد وفنان يكسوه بعض الغبار في حاجة للنفض
- الحلقة الثقافية في مصر توزعت بين الشللية والتناحر على مسائل بعيدة عن الأدب
- لا أترك نفسي للفراغ.. وحين أفقد قدرتي على التعبير الأدبي أتجه إلى الكتابة الفكرية
- الأدباء متشرذمون وغير خلصاء لبعضهم.. شغلتهم الأطماع لا الكلمة




1627226172041.png

اعتاد أن ينسلخ عن أقرانه أثناء ممارستهم للعبة الغميضة أو «استغماية» كما هو دارج تسميتها؛ ليجلس أسفل عمود إنارة ممسكًا بقلم، وكراسة يحمل غلافها الخلفي جدولي الضرب الكبير والصغير؛ ابتاع كلا منهما بتعريفة. ينبش بقلمه كلمات لا تبدو للناظرين ذات معنى، يعبِّر بها عن مشاعره وأفكاره، لكنها لا تصل إليهم. حينها أدرك أن الإحساس وحده لا يكفي، وأنه بحاجة لوسيلة نقل مناسبة؛ فكانت اللغة.

قبل أسابيع تجاوز ذلك الطفل عامه الثالث والثمانين، إلا أن روحه مازالت هناك؛ أسفل العمود. يشعر أن عمرًا لم يمر وأنه لايزال يرسم الهمزة أعلى الألف، فما يحمله عبدالفتاح عبدالرحمن الجمل من عطاء أكثر مما أنجزه، لكن الحياة لا تعينه.

مسيرة طويلة شهد معاصروه بعضًا منها، لكن الكثير من تفاصيلها لا يعلمه أحد، وهو ما جعلني أقطع طريقًا طويلًا حتى وصلتُ إلى قلب المنصورة، لألتقيه بأحد المقاهي المجاورة لمحطة السكة الحديد، تلك المحطة التي اقتسمت العُمر معه ومع عائلته، إذ كان أبوه وعمه يعملان بها، ثم تسببت له في مأساة حياته الكبرى وهو لا يزال طفلًا لم تبلغ سنوات عمره عدد أصابع اليد الواحدة، حينما بُتِرت ذراعه على قضبانها، إلا أن تلك المحطة صارت بعد عشرين عامًا من الحادث مصدرًا لرزقه، بعدما التحق بالعمل فيها؛ يتذكر: «في الستينيات؛ أسس جمال عبد الناصر مكتب التأهيل المهني لتأهيل ذوي الاحتياجات الخاصة بما يتناسب مع ظروفهم، فتقدمتُ لأتعلم استخدام الآلة الكاتبة، التي لطالما تمنيتُ امتلاكها لأخط عليها أعمالي. كانت فترة التعليم ثلاثة شهور، ومكافأة كل شهر 275 قرشا، وبعد حصولي على الشهادة وفَّر لي مكتب التأهيل فرصة للعمل بالسكة الحديد. ثم تمرّ الأيام والسنون ويعمل ثلاثة من أبنائي الخمسة فيها أيضًا، كل منهم في مجال مختلف».

طفل أزهري

التحق الجمل في طفولته – عقب الحادث – بمدرسة المحافظة على القرآن الكريم بالمنصورة، وزامل فيها محمد حسن عبدالله، أستاذ النقد الأدبي فيما بعد، الذي كان يكبره بعام، وبالتالي سبقه في الالتحاق بالمدرسة الأزهرية فور افتتاحها بالمحافظة عام 1950/1951، إذ وجده عبدالفتاح مرتديًا «عمة وكاكولا» بدًلا من الجلباب، فاستفسر منه عن كيفية التقديم وذهب لاجتياز الاختبارات دون أن يعرف أحد شيئًا، فعل ذلك وحده في الخفاء.

تفوق عبد الفتاح في دراسته بالأزهر، لكن وفاة والدته؛ وعائله الوحيد، حالت بينه وبين استكمال طريقه، أو كما يقول «حطمت مجداف سفينته»، إذ وجد نفسه مجبرًا على الخروج للحياة، مكافحًا من أجل لقمة عيشه، وسط شباب مفتولي العضلات، فعمل بعدد من المهن المتباينة؛ في مخبز وفي مطعم وفي مقهى شعبي.

لم يكن ذلك المسار غريبًا عليه، لأن أسرته بأكملها كانت عمالية، لا أحد بها يقرأ أو يكتب، غير أنه اختار تغيير الدفة واتباع صوت داخله يأخذه لطريق آخر؛ لدرب الإبداع. وأول ما جذبه كان التمثيل، إذ كان له صديق يرأس فريق التمثيل بمدرسة الصنايع، حين كانت الأنشطة الثقافية والفنية جزءًا أصيلًا من النظام التعليمي. صارحه عبدالفتاح برغبته في التمثيل فأجابه بأن للفن والإبداع دروبًا متعددة بخلاف التمثيل، قد تكون مناسبة له بشكل أكبر، وأحاله إلى الاطلاع على مجالات أخرى، مهديًا إياه مسرحية «مجنون ليلى» لأحمد شوقي، لكن الخلفية الثقافية لعبدالفتاح وضعف محصلته اللغوية لم يعيناه على فهمها، إلا أنه لم يستسلم: «كنتُ مثابرًا، فبدأتُ أقرأ وأميّز وأشتري الكتب. كان الشائع حينذاك روايات الجيب، لكني عندما حاولتُ قراءتها لم تجد هوى في نفسي، وأحسستُ أن معالجتها لا تلائمني. صِرت تلقائيًا أبحث عن الكاتب الذي أشعر بتجاوبه مع مشاعري، فاكتشفتُ عبد الرحمن الخمايسي في «قمصان الدم». بمجرد قراءتي له شعرتُ أنه كاتب كبير جدًا. ثم اكتشفتُ عبد الرحمن الشرقاوي، وبدأتُ أنتقل من مكان إلى آخر. كنتُ أذهب لدار الكتب على البحر، وأقرأ ما لا أستطيع شراءه من الكتب، أبحث في فهرس الأدب عن المجموعات الروائية الكاملة، ليوسف السباعي وتوفيق الحكيم وغيرهما، أقرؤهم واحدًا تلو الآخر. كانت الدار تفتح أبوابها في الثامنة والنصف صباحًا وتُغلَق في الواحدة والنصف، أذهب لتناول «الغداء» وأعود في الثانية والنصف عصرًا حينما تُفتح مجددًا حتى السابعة مساء، دون أن يوجهني أحد، أصبحتُ في وسط العائلة شاذا وخارجا على الإطار الاجتماعي الذي رسمه القدر لهذه الأسرة، الوحيد الذي استبدت به فكرة الكتابة والرغبة في التعبير».


1627226133279.png


بداية شعرية

استهل الجمل كتابة نصوصه الأولى دون أن يفرض عليها شكلًا، فكانت البداية مع شعر العامية، وهو اللون الأدبي ذو التأثير الأول في وجدانه خلال طفولته، حينما كان يدخل أحدهم إلى شارعه – وقتما كان التسول بالغناء – ويتحدث عن الزمان والجور والظلم، ثم يبدأ في غناء «أنا اللي ببيع ياسمين يا ترى مين راح يجني الورد»، يتذكر: «كان صوتًا شجيًا، أشعر معه بأنني أنزف، ولايزال يرن في أذني».

ومن أشعاره التي خطّها في خمسينيات القرن الماضي «لو تطعم الفم لقمة/ صاحبه ليك ينقاد/ ويميل على غيتك/ وإن مِلت برضه يميل/ شمع الولاء لك في قلبه دايمًا ينقاد/ ما دام مسكّن عواصف معدته بجميل». وبعد رحلة طويلة مع كتابة القصة والرواية، عاد الجمل إلى كتابة الشعر عام 2006 بديوان فصحى عنوانه «إشارة من الخرس كلام».

أما النشر الحقيقي فبدأ بقصتين في مجلة صباح الخير عام 1967، عقب «النكسة». ما شعر به من انكسار جعله يحمل أوراقه وأقلامه متجهًا إلى جنينة «شجرة الدر» الشهيرة بالمنصورة، فكتب «رجل واحد ينازع البقاء» و«أعشاش العصافير الميتة» وأرسلهما إلى صلاح جاهين بعدما عهدوا إليه برئاسة مجلة صباح الخير؛ نُشرت الأولى في عدد 13 يوليو والثانية في عدد 20 يوليو بدون كلمة «الميتة». يتذكر الجمل: «كتبتهما دفقة واحدة، ووضعتهما في ظرف عليه ورقة «بوسطة» بعشرة ملاليم، دون أن أبدِّل فيهما كلمة أو حرفًا، وهذا لم يحدث سوى مرتين. كانت صباح الخير تصل إلينا يوم الإثنين من كل أسبوع، فهاتفني صديق على مكتبي وقال لي: مبروك، قصتك نُشرت. وفي الأسبوع التالي وصلتني نفس المكالمة من نفس الصديق. لم يكن ينشر حينها في صباح الخير سوى الأسماء والعمالقة، لا شخص مثلي من الريف، وهو ما أشعرني بالهم والمسئولية؛ لقد ضغط الهم الثقافي والأدبي على أنفاسي».

أدب الجماهير

واصل الجمل النشر في المجلات المصرية والعربية، مثل «القبس» الكويتية و«المجلة» و«روزاليوسف» و«المنصورة»، ثم جمع قصصه في كتاب أسماه «أحلام ترانزستور»؛ باكورة إصدارات «أدب الجماهير» التي أسسها مع الراحلين فؤاد حجازي ومحمد يوسف وزكي عمر، بهدف النشر للأدباء الشبان في مختلف محافظات مصر، ممن لم يجدوا لهم حظًا ويقفون في طوابير النشر منذ سنوات. يستفيض الجمل: «اتفقنا نحن الأربعة أن نقرأ المادة التي تصل لأدب الجماهير ونتخذ بشأنها قرارًا، لكن بعض الأعمال كان مستواها متدنيًا، واختلفتُ على نشرها مع حجازي، إذ كنت أرى أن واجبنا توجيه هؤلاء الشباب لتطوير كتاباتهم لا نشرها بهذا المستوى، وبسبب ذلك تركتُ الدار».

كتب عبدالفتاح عبدالرحمن الجمل غالبية أعماله بين العمال و«الشغيلة»؛ بدءًا من قصته «أغنية العودة» التي خطّها في محلج مصر، ونُشرت في مجموعته القصصية الأولى «أحلام ترانزستور» ثم تحولت فيما بعد إلى تمثيلية إذاعية من بطولة توفيق الدقن وسهير البابلي، وكذلك روايته الأولى «أولاد المنصورة» التي كتبها بين العمال في الورش المتنقلة، وفازت بالجائزة الأولى في نادي القصة، يقول: «أصدقائي كلهم كانوا من «البروليتاريا»، أصحاب ورش متنقلة و«سمكرية» سيارات ودهان. كان بجوارنا كشك صغير يصنع قهوة وشايًا ودخان «معسل»، ومن يريد إصلاح سيارته يأتي وأنا جالس معهم أكتب في الرواية، وكلما أنتهي من فصل أقرؤه لهم، أعلم أنهم لا يقرأون ولم يذهبوا يومًا للمدرسة، لكني لم أكن أهتم لرأيهم النقدي وإنما إحساسهم وانطباعهم، كان جميلًا جدًا ويزيدني اعتدادًا ويشجعني على الاستمرار، كانوا سعداء بي وأنا سعيد بهم، بإحساسهم الفطري، فكل منا بداخله ناقد وفنان يكسوه بعض الغبار في حاجة للنفض».

توالت بعد ذلك أعماله القصصية والروائية؛ «رحمة والخروج من الخيمة»، «العنف السري»، «شفاه من الملح»، «الخروج من بئر العطش»، «عفاريت الملك سليمان»، «صباح الديك الحزين»، «موت مبكر جدًا»، «اللعب في الحلقة»، «زفة مصرية»، «سقوط مدينة معلهش»، «همس القلوب». بالإضافة إلى مسرحية «بطاقة عائلية»، وعدد من الكتب السياسية مثل «إسرائيل من الشتات إلى الاستعمار»، «الإسلام بين الشيعة والقاديانية»، «بابا الفاتيكان وحديث الساعة»، «صعود وسقوط الإمبراطورية الأمريكية»، «هواجس ومخاوف لدى المسلمين والنصارى منذ الحملات الصليبية وحتى ثورة يناير 2011» و«يوسف على خزائن مصر». وعن تلك المؤلفات يقول: «المرحلة التي أشعر فيها أنني لا أملك القدرة على التعبير عن همومي الأدبية أو أجد نوعًا من القحط الأدبي، أتجه إلى ثقافتي وقراءاتي عن المجتمع والفكر، وأمارس الكتابة الفكرية، حتى أسترد من جديد أحاسيسي الإنسانية وأعود لكتابة الرواية والقصة. لا أترك نفسي للفراغ، وإنما أشغلها بعيدًا عن المجال الفني والأدبي بالكتابة في الفكر حتى تواتيني فرصة أخرى للكتابة في أي عمل من الإبداع القصصي أو الشعري أو المسرحي أو الروائي، أجمع بين كتابة الفن والأدب والكتابة الفكرية، لأنني مهموم دائمًا، أنام وأصحو بالفكر».

إبداع الحرية واتحاد الكتاب

أثناء استكماله لكتاباته وإبداعه، لم ينس الجمل حلم دار النشر ومؤازرة الشباب ممن لا يستطيعون اتخاذ خطوات في سبيل الإعلان عن أنفسهم، فأسس بعد فترة من ابتعاده عن «أدب الجماهير» سلسلة أخرى سمَّاها «إبداع الحرية»، نشر فيها أكثر من 60 عنوانًا بين القصة القصيرة والرواية والشعر والمسرح والنقد، ويتذكر كل عمل منهما بتفاصيله كأنه يخصه، إذ سافر في سبيل البحث عن هؤلاء الشباب إلى مختلف القرى والمراكز والمدن؛ فيذكر من كفر الزيات روايتي «مواقف الصبا» و«مشمش الرابع عشر» لمحمود عرفات الحاصل على جائزة الدولة التشجيعية، بالإضافة إلى علي الفقي والحسيني عبد العاطي وشكري رمضان ومحمد عزيز وفاروق الشيخ وغيرهم، ومن كفر الشيخ أحمد ماضي، ومن طنطا علي عبيد ومحمد عبد السميع، ومن بلقاس حنان فتحي وفيصل عبده، ومن أسوان هيام عبد الهادي ومحمد حسني يوسف، يقول الجمل: «كنتُ أذهب لمن يريدون النشر ولا يستطيعون، ومن يكتبون ولم يصلوا بعد لدرجة الجهر بكتاباتهم، يطلعونني عليها على استحياء، وحين أجد بها النبض وبذرة الفن أقوم بتنقيحها ونشرها. كنتُ أسهر على مراجعة أعمالهم والذهاب بها إلى المطبعة ومراجعة البروفات والاهتمام بإخراج الأغلفة حتى حصل هؤلاء جميعهم على عضوية اتحاد الكتاب، وحصل بعضهم على جوائز، شعرتُ كأنني من فزتُ».

الغريب في الأمر؛ أنه رغم حصول جميع من ساعدهم على عضوية اتحاد الكتاب، لكن عبدالفتاح عبدالرحمن الجمل ليس عضوًا به حتى الآن، بالرغم من تكريمه في مؤتمرات وفوزه بجوائز. حين سألته أجابني كما يجيب من يسألونه دائمًا، أو بالأحرى تساءل هو الآخر: «ماذا سيضيف لي اتحاد الكتاب؟ هل سيعلمني الكتابة؟ لقد علّمتُ نفسي باجتهاد ذاتي حتى صِرتُ ما أنا عليه، كما أنني أنأى عن الشللية حتى لا أكون مواليًا لأحد. أنا في حد ذاتي اتحاد كتَّاب متواضع، ومن وجهة نظري الضيقة؛ أرى أن اتحاد الكتاب سيستنزفني ويجعلني أتبع المجاميع وأفقد إبداعي، فأي مجهود آخر بخلاف أن أنكب على الورقة والقلم لأكتب سيشتتني. أنا هكذا أتوحد مع ذاتي وقلمي».

حاول قدر ما يستطيع أن يحفظ طاقته وصحته من أجل القراءة والكتابة، لكن القدر لم يتخل عن عادته في مفاجأته بالصعوبات والعراقيل، والتي تمثلت هذه المرة في ثقب أصاب شبكية عينه اليسرى، ومنعه من القراءة منذ ست سنوات. حدث ذلك وهو يُخرِج أعمال دستويفسكي لقراءتها، ففوجئ بالسطور سوداء وكأنها «مشطوبة»، فتوجه الجمل إلى الهيئة العامة للتأمينات لتلقي العلاج، وخضع لعمليتي حقن في العين، لكن الثقب يحتاج إلى عملية خارج مصر بتكلفة كبيرة، تقدر بحوالي 50 ألف جنيه أسترليني، لتزداد عزلته التي اختارها طواعية قبل ذلك، إذ يقول: «لا أكذبك القول؛ شعرتُ في السنوات الأخيرة قبل أن تصاب شبكة عيني بثقب، أن الحلقة الثقافية في مصر توزعت بين «الشللية» من ناحية، والتناحر على مسائل بعيدة عن الأدب والثقافة من ناحية أخرى، فالأدباء ليسوا خلصاء لبعضهم، متشرذمون، وغير متواضعين، يحبون المجاملة ولا يقبلون النقد البنّاء. شغلتهم الأطماع لا الكلمة. وأنا بطبيعتي أحن إلى العزلة الفنية، لأن هذا التشرذم والتشتت من شأنه أن يضيعني، فصِرتُ أحاول الابتعاد حتى أستطيع الكتابة، ظللتُ أكتب لأكثر من ست سنوات وأنا بعيد تمامًا عن الوسط الأدبي، لا أعرف ماذا يُنشر عني أو عن الآخرين. أواصل الليل بالنهار في الكتابة، كان النوم يأتيني لكن فيوضات الإبداع تجعلني أطرده. فكما قال عمر الخيام (وما أطال النوم عمرًا وما قصرت الأعمار طو لًا). كنت أقول لنفسي: غدًا تنام كثيرًا، فلتجلس وتكتب. أستمر هكذا حتى مطلع الفجر أو شروق الشمس. كتبتُ في ذلك الوقت حوالي أربع روايات، فضلًا عن أعمال فكرية واجتماعية أخرى».



1627226102340.png


مقترح

تضامن الجمل في الستينيات مع الكاتب محمد حافظ رجب عندما أطلق شعار «نحن جيل بلا أساتذة» لأنه كما يقول: «لم يأخذ بيدنا أحد، ولم يربت على أكتافنا أي من المثقفين الكبار».

ولأنه عانى كثيرًا في حياته من أجل الحصول على الثقافة التي كان ينشدها، ويلمس حالًيا قدرًا كبيرًا من التردي في الحياة الثقافية والحالة القرائية العامة، فيناشد المسئولين بمقترح قائلًا: «ليكن على كل بطاقة تموين كتاب، ومثلما تدعم الحكومة الأرز والسكر والزيت عليها أن تدعم الكتاب وتضيف واحدًا على كل بطاقة بسعر بسيط، ليقرأ الناس كما يأكلون. هذا أمر يسير على الدولة، سيساعد الكتب على الانتشار وينعش الحركة الأدبية، لأن التقدم ليس مبنيًا على الاقتصاد والمباني فقط، وإنما بناء الإنسان. الثقافة هي قاطرة الحضارة التي تجر وراءها تنمية الاقتصاد والزراعة والتطور العلمي والتكنولوجي، وهي قبل العلم، لأنها تكتشف وتحرك الوجدان، وتبعث على التفكير والابتكار».

يأمل الجمل أن يساهم ذلك في تحريك الركود الثقافي بالمجتمع وعودة الناس إلى القراءة، ويراهن على ذلك، بقوله: «حين أجاهد نفسي للكتابة، وهو أمر شاق عليّ حاليًا، يقول لي من حولي «من يقرأ الآن لتجهد نفسك هكذا؟». لا يهمني من يقرأ الآن، سوف تأتي أجيال والأيام دوارة، هل أتوقف عن الكتابة لانه أحد يقرأ اليوم؟ أنا أكتب للمستقبل».

من «مواسم العصافير» إلى «أجنحة الربيع»

قبل الختام مع روايته الأخيرة «أجنحة الربيع» الصادرة مطلع هذا العام عن الهيئة العامة للكتاب؛ لابد أن أعود إلى نقطة البداية، مستهل رحلتي مع عبدالفتاح عبدالرحمن الجمل، التي قادني إليها بحثي في سيرة الراعي الصالح عبد الفتاح الجمل، وذلك التشابه في الاسم الذي يقف أمامه الكثيرون في حيرة، وتسبب لكليهما في مواقف كثيرة، بل ومشاكل أحيانًا.

التقى الجملان للمرة الأولى والأخيرة عام 1969 بدار أخبار اليوم، قبيل صدور الرواية الأولى لعبدالفتاح عبدالرحمن الجمل«أحلام ترانزستور»، وحينها قابله عبد الفتاح الجمل بانفعال وجهامة قائلًا «يخرب بيت شيطانك، كنت هتوديني في داهية». تألم عبدالرحمن الجمل لذلك الاستقبال الجاف وغير المبرر بالنسبة له، إلا أن صاحب «محِب» كانت لديه أسبابه، وملخصها هو القصة الأولى لعبدالفتاح عبدالرحمن الجمل التي نُشرت في مجلة «صباح الخير» تحت عنوان «رجل واحد ينازع البقاء» عقب النكسة، وتم توقيعها آنذاك باسملا«عبد الفتاح الجمل» بعد حذف عبد الرحمن، فتسببت في مشكلة لابن دمياط مع الاتحاد الاشتراكي الذي يتبعه بحكم عمله صحفًيا.

ما لم يكن يعرفه عبد الفتاح الجمل أن صاحب «أحلام ترانزستور» اتخذ موقفًا فور نشر قصته بالاسم الخاطئ، إذ يقول: «بعد النشر قلقتُ من أن يسبب ذلك التباسًا للبعض، فكتبتُ بسرعة لصلاح جاهين أن نشر القصة أسعدني، لكن ما يسعدني بشكل أكبر أن يحمل كل عمل من أعمالي اسمي، وأنا اسمي عبدالفتاح عبدالرحمن الجمل لا عبد الفتاح الجمل، أرجو التنويه، فوجدتُ جاهين يرد عليّ في عموده بالمجلة تحت عنوان «عبدالفتاح عبدالرحمن الجمل.. زعلان ليه؟!»، مشيرًا إلى أن ما حدث خطأ طباعة، وأنه مع دخولنا إلى عالم الصحافة الحديثة سوف نتلافى هذه الأخطاء، وأنهى مقاله قائلًا «أنا أنوه وأقول للقراء الأعزاء أن القصة التي نُشرت في العدد المذكور بقلم عبدالفتاح عبدالرحمن الجمل»، فحمدتُ الله وتمنيتُ أن يراها عبد الفتاح الجمل».

كانت تلك – كما ذكرت – التجربة الوحيدة لهما سويًا، لكنها لم تكن الأخيرة لتشابه اسميهما، ففي أواخر التسعينيات أعلنت الهيئة العامة لقصور الثقافة عن نشر عمل بعنوان «مواسم العصافير» لعبد الفتاح الجمل. تتبعتُ أثره فلم أجد كتابًا يحمل هذا الاسم، إلى أن أخبرني عبدالفتاح عبدالرحمن الجمل بأن تلك روايته التي نُشِرت مرتين باسمين مختلفين، أخرهما «أجنحة الربيع» قبل شهور.

يسرد الجمل رحلة روايته خلال ما يزيد على عشرين عامًا، قائلًا: «كتبتها منذ أكثر من 25 سنة، ورغم إجازتها من قِبل أكثر من لجنة لم تُنشَر، ففكرتُ أخيرًا بعد تولي د.أحمد مجاهد رئاسة الهيئة العامة للكتاب، أن أقدّم الرواية مرة أخرى بعنوان «أجنحة الربيع»، وقد صدرت قبل شهور. لكني حين دفعتُ بها للنشر أول مرة في التسعينيات بالهيئة العامة لقصور الثقافة، كان عنوانها «مواسم العصافير»، قبل أزمة الروايات الثلاثة، أجازتها لجنة القراءة ووصلت للمطبعة، ونُشر عنها تنويهًا ضمن الأعداد القادمة. انتظرتُ نشرها لكن ذلك لم يحدث. مرت الأيام وقررتُ نشرها ضمن سلسلة «إبداع الحرية» في نسخ معدودة، حوالي 200 نسخة، بعنوان «ساعات الانفجار» عام 2004 ، ووزعتها على الأصدقاء لكي لا تُسرق، لأن الكثير من قصصي سُرقت قبل ذلك».

تعّد «أجنحة الربيع» شبه سيرة ذاتية لعبدالفتاح عبدالرحمن الجمل، ويمكن القول بثقة إنه بطلها«منير»، إذ يتطابق ما لا يقل عن 70 % من الأحداث مع حياته في الواقع، ويؤكد ذلك كلمات الجمل في وصفه لها: «لا أكتب من برج عاجي، وإنما أكتب وأنا منغمس في الشارع وملتحم بواقعي مع الناس، وقد كتبتُ«أجنحة الربيع» أمام الغيطان في الشرقية نتيجة تجربة حياتية، إذ تزوجتُ من أخرى هناك بعد وفاة زوجتي، هي رئيفة بالرواية. وقد ذهبتُ من أجل تلك الرواية إلى طبرق بليبيا وإلى السلوم، لكي أعرف كيف يجلس الناس هناك وكيف يتعاملون مع البنات».




1627226387470.png






تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى