محمود شاهين - نار البراءة. رواية قصيرة

(1) الراوي

رفعت الحاجة صفية يدها بخيط الصوف عاليا وفتلت المغزل على فخذها المعرى فانبرم الخيط .. قالت وهي تطويه على رمانة المغزل :

- سمعتن يا جارات ، بدهم يوخذوا علي الخطيب لنار البراة ؟!

استلقت عيشة المسلم على بطنها وعرت نفسها من الخلف حتى أعلى الكتفين ، لتتلقى المعالجة بكؤوس الهواء :

- نار تحرقهم ! والله بحلف على أيتامي إن علي الخطيب بريء من عرض مليحة أبو الجدايل براءة الذيب من دم يوسف !!

أشعلت الطرمزية ورقة ووضعتها في كأس ثم قلبته على ظهر عيشة المسلم .. قالت وهي تمسك بطوقها وتهزه:

- ندخل على الله ! لعاد شو جاي يعمل عندها بزي ربه بعد نص الليل ؟!

أدخلت عايشة العلان المنحاز بين خيوط النول وأمسكت من طرفيه وشدته إلى الوراء عدة مرات لتباعد ما بين الخيوط :

- استغفري ربك يا ولية انتي شفتيه ؟

- مليحة قالت ، بعدين الناس شافوه شارد ورافع البلطة الي حكت عنها مليحة في ايده ، ووجهه ملثم !!

- ول يا ربي شو بده في البلطة بده يقطعها ؟

- من شان تخاف منه وتسكت !

- والله هالقصة ما هيه خاشة مخي ، قال زلمه بيدخل على حرمه من الشباك بعد نص الليل وهو مشلح مثل ما جابته أمه ، ووجهه ملثم ، او مش بس هيك كمان حامل في إيده بلطه ! بعدين الناس ما بيسمعوا صراخ المره إلا بعد ما ييجي زوجها من وظيفته متأخر وبيدق الباب ، لحظتها بتصرخ !! شو يا مليحة ؟-علي الخطيب اعتدى عليه !!-كيف عرفتي ما دام إنه ملثم ؟- نزعت اللثمة عن وجهه – ول يا ربي ، زلمه في رقبته سبع أنفار ، ومظى عمره حصاد عند دار أبو الجدايل ، وسمعته عندهم زي المسك ، يم أجا اليوم واعتدى على مرة ابنهم ؟!

وحياة تراب أبوي علان إبن علان -العمر لكن – إن هاقصة كلها كذب في كذب ، وخلي خطية مليحة تجمد الدم في عروقي !!

ألقت الحاجة صفية جزة الصوف عن ذراعها ، وطرحت المغزل إلى جانبها ، وجالت بنظرها إلى وجوه النساء :

- أنا حجيت لبيت ألله! إلي شافوا مليحة بيقولوا إنه وجهها مثل العطبة ، بعد ما سمعت إنهم بدهم يوخذوا علي الخطيب لنار البراة ، ألله ما بيراجم الناس بحجار ، ومليحة خايفة يا جارات ، خايفة ان النار ما تحرق لسان علي الخطيب لما ينوشها ، بعدين تنفظح بين الناس وتفظح عيلة أبو الجدايل معها ، ويرجع علي الخطيب لولاده مرفوع الراس !!

كانت الطرمزية قد وضعت مزيدا من الكؤوس على ظهر عيشة المسلم ، فامتلأت بالدخان ، أفرغ الهواء فانقبض الجلد داخل فوهات الكؤوس .. تألمت عيشة المسلم وقالت دون أن ترفع رأسها عن الأرض ، غير أنها نظرت بطرفي عينيها :

- ندخل على ألله ! ايدي تحت صدري والكاسات على ظهري ، ما نيش عارف أتف في عبي وأهز طوقي !!

مليحة مرة بتلعب على الحبال ، وربنا رايح ينتقم منها ويخلي النار تكون باردة مثل الأسكيمو على لسان علي الخطيب !!

توقفت عايشة العلان عن النسيج قليلا :

- ألله يسمع منك يا عيشه !!

أخذت الطرمزية تنزع الكؤوس عن ظهر عيشة المسلم ( بق ، بق ، بق ، ) لكن الكأس الرابع لم.. يبق !!



نهضت عيشة المسلم، أصلحت ملابسها ونفضت التراب عن ثوبها .

قالت الطرمزية :

- وإذا ظلت النار نار وما صارتش مثل الأسكيمو ؟

فقالت عايشة العلان

- بعدين روحي اشتري رطل حنا وحني .... !!!

قالت الحاجة صفية :

- يا ولايا طولن روحكن ، بكره بيظهر المخفي لما يشعلوا النار في حرم النبي موسى !!

قالت عيشة المسلم :

- سمعت ما بدهم يوخذوه لا عالنبي موسى ولا عالنبي شعيب ، بدهم يعملوها في الساحة قدام دار المختار !!

جنحت الشمس إلى المغيب .. أخذ الرعاة يقتربون من العزب .. وضعت الحاجة صفية جزة الصوف والمغزل في خريطة الخيش :

- خاطركن يا جارات .. الصباح فيه الرباح .. بدي أروح أحظر شوية شعير للعنزات .

أدخلت عايشة العلان المطوى من طرف النول وأخرجته من الطرف الآخر .. شدت الخيط وثبتت المنحاز .. أمسكت بالمخلال وأخذت تنسج .. ومع كل طرزة كانت تحبكها في النول ، كان المخلال يضرب ما بين المنحازوحبكة النسيج ، فينبعث ذاك الصوت الرتيب ( طق طق طق طق ) وهي تهتف في سرها ( ياربي تسترعلى علي الخطيب واولاده يا ألله )



( 2) علي الخطيب

يا رب تعطينا بما عطيت وتكفينا بما كفيت وترضينا بمت رضيت وتبعد عنا كل ردية بجاه عائشة وصفية والكعبة المبنية والمصاحف المقرية .. يا رب أنت أدرى وأعلم في الحقيقة يا الله ، ومليحة مرة خالد أبو الجدايل بدها تنتقم مني ، أستغفرك يا ربي وأتوب إليك ، قلت لها يا مليحة حرام عليك شو بدك مني ، أنا زلمه وراي اولاد بدهم لقمة خبز أسد ثمامهم فيها ، أسوك عليك ألله تكفي شرك عني يا ولية ، يوم بتكشفي لي عن صدرك يوم بتشلحيلي سروالك ، أستغفرك يا ربي أستغفرك !!( والله لأنتقم منك ياعلي الخطيب )لسا كلماتها بترن في ذاني من هظاك اليوم ! ول يا ولية مش حرام عليك أنا شو عملت لك ؟ ( انت عملت كل شي يا علي ) !! ول يا ربي أنت أعلم في الحقيقة .. خفت منها قلت بكره بترميني في داهية .. قلت لسلفها رزق .. قلت له ( مهرة أخوك فالته يا رزق ) فهم علي ، والله فهم وقال لأبوه وما بعرف شو صار .. يا سلام عليك يا رزق والله من خيرة الصحاب عمره ما أجا عليه وأنا بحصد في زرع ابوه إلا وقال إلي الله يعطيك العافية يا علي ، ارتاح لك اشوي يا زلمه ، دنيا ورايحة ، وانت عليش مستعجل ، خايف على زرع أبوي ما ينحصد ، رايح ينحصد يا زلمه ، ورايح انت تموت مثل ما مات حسين الرشود وانت بتحصد في زرعه ، ارتاح يا خوي ارتاح !!

أجاني امبارح في الليل ، قلت له بتصدقني يا خوي يا رزق، قال بصدقك ، قلت له والله إن كان دخلت بيت أختي بسوء نية أكون دخلت بيت مرة أخوك . قلي صادق يا علي لا تحلف إيمان يا زلمه أنا مصدقك وشاعر معك وهاكل همك ، شو بدك تسوي ؟ قلت رايح أروح لنار البراة ! صار رزق يشتم على نار البراة وعلى المختار عايد إلي صار في آخر الزمان قاضي ويحكم بين الناس ! الحقير كان ممكن يحكم عليك بيمين ويزكيك اثنين ولا ثلاثة ولا خمسة يا سيدي ، وتنتهي المشكلة ! لكن أبوي وراه ! أبوي عارف إشي ومخبيه يا علي ، من ما صارت هالقصة وهوه زي إلي حاط في عبه حية ، ما بينام لا في الليل ولا في النهار !!

قلت له ولا يهمك يا رزق أملي بالله كبير وثقتي فيه أكبر مش رايح أخاف لاو حطوا نار الدنيا كلها على لساني وكلها لحظة وبتمر وبيظهر الحق ويبان !! قلي خليك عاقل يا علي ، النار نار يا جاك البين وعمر الحق ما أظهرته نار ، اختفي يا علي اختفي بلكي أبوي يقبل انك تحلف يمين في حرم النبي موسى إنك ما دخلت دار مرة أخوي وتنتهي المشكلة . قلت له باطل يا رزق أختفي منشان تثبت علية التهمة ؟ انته بتشكك فيه يا رزق ؟ قال أستغفر الله لكن لما تثبت عليك التهمة ولسانك سالم أحسن من ما تثبت عليك ولسانك محروق ! بعدين من وين بدك تدفع غرامه ومصاريف صلحة وجاهة .. حطيت إيدي على ركبته وقلت له ولو يا رزق أنته بتشك إني اعتديت على مرة أخوك ولا كان ما بتحكي هالحكي !! سكت اشوية . اطلع فيه . شفت الدموع بتطفر من عينيه .. مسك ذرعاني بيديه وهزني ، قلي علي قلت نعم . قال أنا امصدقك يعني امصدقك ، لكن النار نار وبتحرق كل شي بتعرض إلها والله ما إله دخل فيها ، إفهمت ؟! قلي هيك وراح !!!!!

- فاطمه !

- مالك يا علي ؟

- انت نايمه ؟

-لا ...

- سيدنا ابراهيم الخليل ، ألله يرضى عن روحة ، لما حطوه في النار ، وقال ربنا سبحانه وتعالى ( يا نار كوني بردا وسلاما على ابراهيم ) مش صارت وما صار إشي لسيدنا ابراهيم ؟!

- صحيح يا علي بس أنا خايفه !!

- ليش يا فاطمه ؟

- هظاك سيدنا ابراهيم !!

- ول يا ولية استغفري ربك ، هو ألله بيفرق بين عباده ؟

- أنا عارفه يا علي حسبي الله على الظالمين !!

ومدت يدها .. تحسست رؤوس الأطفال وجاشت عيناها ببعض الدموع !!

*****



(3) مليحة أبو الجدايل

( للكبار فقط رغم أن اللغة في معظمها رمزية)



أخ يا اولاد عمي ويا قرايبي ، قلت لحالي علي الخطيب فحل ولا كل الفحول يا مليحة ، كل سنة والثانية مرته بتجيب ولد.. عندي زوج آخ يا كشلي ما هوه للسده ولا للهده، من ما صار ضابط مع فرسان الدولة كل ثلث شهور لشوفه مرة ، بيجيني يمطمط في حاله ويرطرط بيظاته،معنكر تاجه فوق حاجبة ! بنام عندي زي القتيل .. يوم يومين وبيجي رايح عالضفة الشرقية .. ما شاطر غير يحكيلي عن المرة البدوية إلي ركبها قدامه على كربوس الفرس!

قلت مالي غير علي الخطيب .. كان يحصد لحاله في المارس. رحت له بعد العصرية ..حملت معي ابريق شاي شفته بيهجم على الزرع هجوم وبيحدي (منجلي يا بو الشراشف \ طاح في الزرع يطاحش\ منجلي يا بو رزة ونا \شريتك من غزه\

يعطيك العافية يا علي! ( ألله يزيدك عافية يا مليحة كيف سويتها ) ( يا روحي يا علي جيت في بالي، قلت روح علي بيحصد لحاله في المارس من الصبح بدي أوخذ له كاسة شاي يبل زوره ). (يسلم إيديك على هالشايات يا مليحة ) ( ويديك يا روحي)

إطلعت حوالي.. عالجبال عالوديان.. ما فيه ريحة البشر.. قمت مشيت بين الزرع، قطفت سبلة شعير وحطيتها تحت بزي.. إطلعت عليه.. أبصر فيش كان يفكر .. حطيت إيدي على بزي وصرخت ..إلحقني ياعلي ( ما لك يا بنت ؟)( إشي بنخز في صدري يا علي)( وين ؟) (هان )( أخ يا علي )( تتحركيش استني لشوف وين !)(هان يا علي هان ) ! فتحت طوقي .. فكيت زرار القميص.. بان بزي مثل زغلول الحمام ( ما نيش شايف إشي يا بنت )

( تحت بزي يا علي يا حبيبي)( سبله سبله ، لا تخافيش هيها سبلة شعير )!( سبله يا روحي يا حبيبي، جمدت من الخوف ، قلت أبصر شو إلي في صدري )

تراخيت .. بركت فوق الزرع .. بزي قافز لقدام ومتحفز للقم !! راح علي .. قام السبلة ورجع يشرب الشاي!!

آخ يا كشلي روحت بحسرتي ولوعتي !!

قلت يا بنت جربي حظك ثاني مرة .. بعد أكم من يوم ، كان ينقل الزرع من المارس للبيدر . شفته جاي مع الطريق .. رحت على البيدر . كانت شحمة ذاني تشر عرق من الشوب .. حطيت سبلة شعير في سروالي المرة هاذي ! يا كرايبي لما حطيتها فوق الشعر لزكت قلت عمرها ما تنشال ! أمسكت الشعوب وصرت أنفش في القش. حسيت السبلة طيرت ظبان مخي وهيه بتسبح حواليه... !! وصل علي الخطيب ( يعطيك العافية يا مليحة شو بتسوي )( ألله يزيدك عافية يا روحي ، والله شفت حالي من غير شغل قلت أروح أنفش شوية زرع عالبيدر خلي الشمس تشوفه أحسن يعطبن )

طرح الكادم عن ظهر البغلة وفسخه .. حطيت إيدي على قاع بطني وصرخت ( الحقني يا علي ) ( ما لك يا ولية ؟) انطرحت فوق القش ( افزع لي يا روحي إشي في....)( وين يا بنت ؟) (تحت أواعي يا روحي تحتهن ) ( حسبي ألله ونعم الوكيل .. لا تخافيش بيجوز سبله ) !!( لا يا روحي إشي بسبح الحقني من شان ألله )

رفع ثوبي إشوي ، قلت له فوق يا علي ، رفع كمان لما بين سروالي.. حطيت إيدي على السبله ..هان يا ويلي يا علي هان !!شديت السبله لفوق ورفعتها ( هيه في إيدي يا روحي ، إشي كبير بيجوز عقرب يا ويلي، أنزع سروالي يا علي ) !! ( أستغفرك يا ربي وأتوب إليك ) !!

صار ينزع سروالي ونا ما سك السبلة من فوقه .. نزعه .. قال( افتحي إيدك لشوف شو هاظ ) أرخيت أصابعي شوي ( علي يا روحي أوعة ينط امسك شوف شو هوه ) فتحت أصابعي وهوه ماسك إيدي بيديه الثنتين ( سبله مش قلت لك سبله !! )( آخ يا روحي يا حبيبي طنيبه على ولاياك أنا ، يلعن أبو هالسبل يا روحي ، بسبح بسبح مثل الحية ، هاذي المرة الثانية إلي بموتني فيها من الرعب .. آخ يا روحي ) !!

إحمر وجهه وصار عرقه ينقط من راس خشمه . إطلع علي .. إطلع .. !! إعرفت إنه بده يلجم الحصان الهايج في قاع بطنه .. ولجمه يا قرايبي يا اولاد عمي .. والله لجمه وقام .. على هيك ارجال أنا ما شفت .قلت له( طنيبة على ولاياك يا علي لا تخليني أموت عالقش عطشانه يا علي عطشانه وميته من الظما ، بل ريقي، نقط في روحي )!!

قلي (أنا وراي اولاد .. ) وقال حكي كثير يومها .. هاني وذلني يا قرايبي .. قلت أخ والله لأنتقم منك يا علي الخطيب !!

رحت لعند الحجة صفية قلتلها( يا حجة مهرة جامحة عندك إشي تشبيه عليها ؟! ) فهمت علي . قالت ( صقر أبو الجدايل ابن عمك وابن عمك جوزك ناتع صاري بتحطي شبرك وبزيد اصبع !! ) قولي وغيري ؟ قالت ( هاظ إلي أجاك ) رجعت عالدار مثل الطير الطاير وكلمات الحجة بترن في ذاني.. بتحطي شبرك وبزيد... تفيت في عبي وهزيت طوقي .. هيه الحجة قايسته ؟!تذكرت إن الحجة كانت تسري عالقدس من صيحة الديك ، تحط إشليف الخبيزة على ظهرها وتمشي لحالها ، وعلى ذمة بياعات الخبيزة والبابونج والحويرة والزعتر والحلزون ، إنهن لما كانن يمرين من ظهرة أم العصافير قبل ما يطلع الفجر كانن يسمعن غنج فظيع في البطين !! ما عرفت أنسى يا كرايبي.. ظلت كلمات الحجة ترن في ذاني . لما ماتت حماتي العمر لولادها ، غيطنت بنتها ثريا فوق جثتها ، شقيت ثوبي لعند الحزام ، صارن بزازي يتمرجحن مثل زغاليل الحمام . طلعت من غرفة الجنازات . سويت حالي بدور على رزق بين القبور من شان أقله إن أخته غيطنت ! رزق بندوق ابن بندوق ، لما شافني عرف ، قلي باللغة الفحصى ( اذهبي يا لعينة وارتقي ثوبك وإلا ألحقتك بأمي ) !!وسمعته يتمتم ( تبا لك ولزوجك الذي لا يروي شبقك ) شبقك شبقك ! أنا عارفه شو الشبق هاظ ؟

ونا راجعة للغرفة اتطلعت بين القبور .. الناس مكدسين زي يوم الحشر .. شفت صقر .. ( كيف حالك يا بنت عمي ) ؟ ( الله يسلم شبابك ليش ما بتزورنا يا روح بنت عمك ؟!) ( الليلة إن شاء الله ) ( أنا مستنيتك يا عين بنت عمك ) ودخلت غرفة الجنازات عند النسوان .

لما صاح الديك هذيك الليلة سمعت نقر عالشباك . فزيت ( مين ، صقر ؟ يا روحي يا ابن عمي فوت ) فات .. لفني ولفيته .. وتد يا قرايبي . قلت في سري يا سعدك يا حجة صفية !صال فيه وقلي( لوحي يا مرة ابن عمي )

لوحت (اجمحي ) جمحت ( صولي ) صلت يمين صلت شمال لورا ولقدام ! ( آخ يا مرة ابن عمي ) ( يا روح مرة ابن عمك وعينها يا بن عمي وابن عم جوزي ) ( وطي صوتك ) ! ( أخ يا بن عمي ريقي ناشف ، ارويني ارويني يا روح بنت عمك ) أخ يا قرايبي يا اولاد عمي العافية على قلوبكم !!

بعد أكم من يوم سمعت طرق على الباب قبل صيحة الديك .. قلت صقر بالعادة ينقر على الشباك ، مين هلي بيطرق في هالليل ؟ فتحت (مين عمي ) ( عما يعمي عيونك ! أيوه الحقيني ) ( على وين يا عمي ) ( بنتظرك في الواد عند زرعاتنا ! ) يا قشلك يا مليحة ، شاف صقر بيجي لعندي ولا سمع عن عملتي مع علي الخطيب ، ولا بده يدك فيه ؟ زي إلي شفته حامل معه حبل وحامل عصاته، يا ربي شو بده في الحبل بعد نص الليل ، وشو بده مني ؟ الحقيه يا جاك غراب البين يا مليحة !

الحقته يا قرايبي.. الدنيا ليل لحط اصبعي في عيني ما شفته .. مشيت اشوي تعودت عالعتمه ، وصرت أشوف الطريق وزوالة عمي قدامي .. انزلت وراه عالواد .. بطحني جنب الزرعات بين نبتات الحندكوك من غير ما يحكي ولا كلمة ، هبت ريحة الحندكوك في خشمي ، تنهدت . رفع ثوبي ، ظليت ساكته ، شلحني سروالي –بعيد عنكم –ظليت ساكته، عراني مثل ما جابتني إمي، ظليت ساكته ، طوى رجلي لما اركبي لامسن كتافي ولف ايدي ورا فخاذي وربطهن بالحبل ، ما ظلش عندي صبر ! قلت ( طنيبة على ولاياك يا عمي يا بو جوزي انت أبو الرجال يا روح مرة ابنك وبنت أخوك !) ظل ساكت يا كرايبي ! ربطني لما صرت مثل الجاجة المشوية !

مسك عصاته ، عرفت لحظتها إن عمي بده يعذبني . قلت في سري(آخ أكون ماني مليحة بنت أخوك عياش أبو الجدايل إذا ما خليتك يا عمي أحمد أبو الجدايل تورد مهرك عحوظي الليلة هاذي !!)

لاح العصاة لاحها .. فتحت شفافي وستلذيت ( شو سويتي مع علي الخطيب ) ؟( ما سويت إشي وحياة روح عمي ) سفك العصاة مع طول فخذي .. شهكت ( إحكي شو سويتي ؟) ( ظميانه يا عمي وميته من الظما ، قلت له منشان ألله يا علي تبل ريقي ، دشرني بظماي وراح يا روح مرة ابنك وعينها ) ( هيك يعني ؟) هاز العصاة هازها وعدلها ، وطعني فيها ، ، حسيت الوجع بطلع من كركيم مخي ، تحملت ، غنجت ‘ تأوهت ، قلي ( صوتك يا بنت الكلب تفظحنيش) قلت ( أفظح كل العشيرة ولا أفظحك يا عمي يا حبيبي ) وفغرت مثل الثعلب ، وعويت مثل الذيب ، ومويت مثل البساس في شباط .. داخ عمي يا قرايبي ، ذبلن عينيه وارتخين شفايفه ، وصار يروم عند فخاذي روم !! رمى العصاة ورفع ثوبه ، يا حسرتي يا كرايبي على هيك ما شفت ،!! ، قطع اللجام وصار يغب من الحوظ غب !!!

(4) أحمد أبو الجدايل .

ملعونة الوالدين.. قمت عنها وخليتها مربطة ورحت وهيه بتنوح نوح الذيب .. رجعت إلها مع طلوع الفجر القيتها بترجف من البرد . قلت لها ( عرفت أن الله حق !!) قالت ( فكني يا عمي حرام عليك ) (بتوبي ) (بتوب ) ( بديش أسمع إشي عنك بعد اليوم ) ( خلص يا عمي توبه بعد هالنوبه )

فكيتها .. قعدت ساعة حتى عرفت توقف حيلها . قلت إلها ( عجلي قبل النهار يطلع يا بنت الكلب ، ألله يجعلني أسمع إشي عنك بعد هاليوم )

روحت عالبيت .. شهر ما شفتها طلعت منه .. راحت الأيام .. ما سمعنا إلا صراخها بعد نص الليل .. فزعنا ..

شفنا زلمة هارب زي المارد .. أعوذ بالله من الشيطان ، عاري وراسه ملفوف بالكوفية ورافع في إيده بلطه !!

اختفى مثل لمح البصر في هالظلام .. جيت عالبيت .. القيت الثور جوزها واصل توه من الوظيفة ( شو يا مليحة)

( علي الخطيب اعتدى عليه ) القصة ما دخلت مخي .. اتجمعوا الناس في هالليل وصارت فظيحة .. أجت الحمولة تشاورني ثاني يوم ( عرضنا يا عم أبو علي شو بدنا انسوي ) قلت إلهم ( لا تحكوا ولا مع واحد من حمولة العبيدات ) ( مش هيك عوايدنا يا عم ما بنرضى غير بدم علي الخطيب ) !!قلت ( ما تعملوا إشي ، أنا بتصرف )

أجوا وجوه حمولة الشقيرات ، يوخذوا عطوه عن حمولة العبيدات . وافقت بخمسين دينار على عطوة لمدة شهر كامل ، ومن غير شروط ثانية .. واتفقنا إنا نلتقي مع العبيدات في بيت الشيخ داود مختار العويسات ، ويكون القاضي الشيخ عايد مختار حمولة الزعاترة .

أجاني الثور ابني قلي ( يا والدي أنا رايح عالوظيفة دير بالك على مليحة !) إطلعت عليه إطلعت ، شفته ثور بقرنين كبار ! قلت في سري والله ما انت من صلبي يا ثور ( روح يا خالد يا بني روح يا خسارة التعب والشكا والخبز فيك يا بني ، بتوصيني على مليحة ، ليش ما توصيها هيه علي ، روح.. روح )

جيت عليها في الليل ..قلتلها( امشي قدامي يا بنت الكلب ) أخذتها لبير في الخلا .. عريتها من ملابسها وربطتها بالحبل على وسطها . قلتلها ( احكي لي الصحيح ، مين كان عندك لما صرختي ؟) ( والله علي الخطيب يا عمي )

دليتها في البير ، تشبثت بالحبل وصارت تصرخ قبل ما تصل المي . ( آه بتحكيلي ؟) ( والله علي يا عمي وحياة أبوي وجوزي ) دليتها .. وصلت المي .. غطستها لعند رقبتها -هيك توقعت ونا برخي في الحبل –صارت تصرخ في البير والصدى يتردد .ما فهمت شو بتقول . غطستها وطلعتها ، وغطستها وطلعتها . . سحبتها لفوق اشوي منشان أسمع شو بتقول . قتلتني ملعونة الوالدين ما أثقلها !( دخيلك يا عمي طلعني ) طلعتها .. اسنانها بطرقن على بعض . دشرتها اشوية . ( آه مين ؟) ( ابن عمي صقر يا عمي ) ( يا ملعونة الوالدين ، صقر أبو الجدايل ؟

ابن أخوي ؟ ابن عمك وابن عم جوزك ؟يا ملعونة الوالدين ولا روح الشاهدين !!آه آه ! واتهمتي لمسخم علي الخطيب ؟ بعدك مش ناسيتيه ؟ آه منك آه ، انتي مش عارفه شو إلي سويتيه ؟ عشاير وحمايل بدها تذبح بعظها من وراك ، ولا مش عارفه هالحكي ؟ أذبحك ؟ أموتك ؟)

نزلت فيها بالحبل لما صبغت جلدها صبغ .. لبستها أواعيها وسقتها قدامي . ظليت على ظهرها بالحبل حتى قربنا عالقرية ..

( شو بدي أعمل شو بدي أسوي ، لاو الناس ما شافوا ملعون الوالدين شارد وحصانه مقطع اللجامات ,، كان خلينا علي الخطيب يحلف يمين ويزكيه خمسة من قرايبه ، إنه ما دخل دار مرة ابني ، وتظيع هالطنجرة بين هالطناجر !لكن شو بدي أعمل بعد الناس ما شافوا زلمة مشلح شارد من بيت ابني ؟ معقول أقبل من علي الخطيب يمين ويزكيه كل قرايبه وفي الكعبة المشرفة بزاتها .. وبعدين الناس يصيروا يعيروني في الزلمة لمزلط إلي ما عرفنا مين هوه .. ؟ آخ آخ .. )

وديت أربع خرفان للمختار عايد . قلت له ( يا شيخ عايد أنا ما بدي غير تقضي بينا وبين العبيدات بالحق والعدل ) فهمها عالطاير ! قال ( والله ما يجيكم غير الحق يا زلمه ، مش بدك أخلي علي الخطيب يبشع حتى يظهر المخفي )؟! قلت له ( والله إنك قاضي عريك يا مختار ، بدي اتخلي الجمرة تهري لسانه هري ‘ حتى يعرف إنه بنات الناس مش داشرات !! بعدين يا مختار ما فيه خلاف بينا الميت دينار غرامة خشة البيت من الشباك إلك ، وميت دينار الخروج إلي ) ( ولو يا بو علي ، هاظ الحكي بينا ؟ الله يسامحك يا شيخ ، إي والله ألله يسامحك !! )

(5) الراوي .

فرشت البسط في الساحة أمام بيت المختار عايد .. أخذ وجوه الحمايل يتوافدون . أقبل وجوه حمولة الشقيرات يتقدمهم الشيخ ابراهيم ، فأجلسهم المختار عايد في ناحية .تبعهم وجوه حمولة العويسات يتقدمهم الشيخ داود فأجلسهم في الناحية المقابلة .وأقبل معظم افراد حمولة السحايقة يتقدمهم أحمد ابو الجدايل فأخذوا أماكنهم في ناحية ثالثة .. وأخيرا أقبل رجال حمولة العبيدات عن بكرة أبيهم بعصيهم المسمرة وخناجرهم البراقة ، يتقدمهم المختار مهنا وبعض وجوه الحمولة ، أما علي الخطيب فقد سار في المؤخرة مع بعض المقربين إليه ، أجلسهم المختار عايد في الناحية الرابعة ، ووزع بعض وجوه حمولته وأفرادها ليأخذوا أماكنهم بين مختلف الحمائل –كونهم الحمولة المضيفة –واختار مجلسه إلى جانب حمولة العويسات كونها حمولة محايدة . وما أن دارت القهوة حتى أمر المختار عايد بإحضار الكانون والفحم .. أضرمت النار .. صعد الدخان عاليا ، فعرف كل من في القرية أن ساعة علي الخطيب قد آنت .

قالت عائشة العلان وهي تقف على النول و ترقب سحب الدخان ( يا ربي تقف مع علي الخطيب يا ألله )

وقالت عيشه المسلم ( يا ربي تستر على مرته واولاده وتخلي النار باردة على لسانه مثل الأسكيمو) وقالت الطرمزية ( يا ربي ما تواخذنا بذنب المذنبين ) أما الحاجة صفية فقد قالت ( يا رب أنت جميل وبتحب العشق والجمال ، استر على العشاق يا الله !! )

جلست زوجة علي الخطيب أمام الخشة والأطفال يلعبون من حولها ( يا ربي تنتقم من الظالمين )

احتضن راعي أحمد أبو الجدايل العنزة الصبحاء –التي كان يتركها بلا حلب ليشرب علي الخطيب حليبها مع فطوره في الحقل –وخاطبها وهو يرنو إلى الدخان من الجبل المقابل ( والله إذا سلم علي من النار لحني ضرعك بالحنا وأعلق في رقبتك ظبابيح وأطعمك كل يوم كيلو شعير )

شد بائع الكعيكبان رسن الحماروأعلن للأطفال أنه توقف عن البيع ..

اختفى صقر أبو الجدايل من القرية منذ الصباح !!

توقدت النار . أخذ الدخان يتلاشى شيئا فشيئا .. وبدأت حبات الفحم تحمر . جلس علي الخطيب ثابت الجأش (يا رب إني وكلت أمري إلك يا الله ، أنت أعلم في الحقيقة وأدرى ، وحكمتك فوق الكل )

أغلقت مليحة باب الغرفة على نفسها ، انطرحت على الفراش وأخذت ترتجف من قمة رأسها إلى أخمصي قدميها وقد لف الشحوب وجهها ، متخوفة أن لا تحرق النار لسان علي الخطيب فينكشف كذبها !

لم يهدأ أحمد أبو الجدايل في مكانه فمع كل دقيقة تمر كان يصلح من وضع جلسته ويضغط على نفسه حتى لا تظهر هذه الرجفة التي اجتاحت يديه !

قال المختار عايد وهو يجاهد لتبدو أسارير وجهه طبيعية ( طول بالك يا بو علي ، رايح الحق يظهر وكل واحد يوخذ نصيبه ) !!

تحلق الأطفال بأسمالهم البالية من حول الجالسين ، ووقفت النساء أمام البيوت وعلى سطوحها .. احتضن رزق أبو الجدايل رأسه براحتي يديه وأطلق نظره إلى ما لا نهاية .

جلس المجنون حسن حمدان على حجر وأمسك بيده حجرا أخذ يضربه بحجر آخر أمامه !

تلاشى الدخان نهائيا .. توهج الجمر .. نهض المختار عايد .. اقترب من الكانون .. أمسك الملقط وأخذ يقلب الجمر .. أشار إلى المخاتير أن يأتوه بعلي الخطيب .

وقف علي بقامته الفارعة ، ثابت الجأش ، رافع الرأس ، لم يرف له طرف . أمسك المختار داود بذراعه الأيمن وأمسك المختار ابراهيم بذراعه الأيسر وتقدما به إلى النار .

قال حمدان أبو رطة في سره ( أراهن على مائة نعجة من غنمي إنك يا علي الخطيب بريء ) !!

وقال يوسف دخيل –وفي سره أيضا –( أراهن على مائتي دونم أرض )

عبث المختار عايد بالجمرات .. التقط بملقطه الطويل جمرة كحبة البقلاوه . قالت امرأة – اقتربت من بعيد ومدت رأسها من فوق رؤوس الأطفال –قالت وهي ترقب الجمرة المتوهجة في ملقط المختار ( ول يلي ما تخاف ألله )

ضرب المختار الملقط بحافة الكانون حتى تتساقط بعض ذرات السكن عن الجمرة المتوهجة !! ونهض مستويا أمام علي الخطيب ( مد السانك ) !

أخرج علي الخطيب لسانه قدر المستطاع .. أطبق صمت ثقيل . جف اللعاب في الأفواه ..ارتجفت يد المختار عايد وبات أبو الجدايل كريشة في مهب الريح ، أخذت مليحة تصرخ من داخل غرفتها !! شد بائع الكعيكبان رسن الحمار من أسفل فكية وتوقف المجنون حسن حمدان عن ضرب الحجر بالحجر .. خرجت زوجة المختار عايد من البيت وبقايا العجين بين أصابعها .. أرهف العشرات اسماعهم وركزوا النظر وابتلعوا بقايا اللعاب الجاف ، وظهرت اللاجئة المجنونة فجأة وهي تجتاز القرية بشعرها الأشعث المنفوش ، تدق صدرها بحجرين وترتدي كيسا من الخيش وتندب بصوتها المفجع ( يا حسرتي حملوا وشالوا وخلوني وحيدة ) أهوى المختار عايد بالجمرة على لسان علي الخطيب . طش اللحم .. تآكل تحت النار. احترق اللسان . قفز علي الخطيب في الهواء وصرخ صرخة هائلة وسقط على الأرض وهو يتلوى ويرفس بقدميه ويطبق بقبضتيه على رأسه ...

عادت السكينة إلى أحمد أبو لجدايل ، وتنفست مليحة الصعداء ، وشوهد صقر أبو الجدايل يخرج من كهف في أحد الأودية ، وأعلن المختار مهنا تبري حمولته من علي الخطيب ، وتعهد أمام كافة الحمائل بأن تحصل حمولة السحايقة على كامل حقوقها .. ونزع عقاله عن رأسه وانهال به على رأس علي الخطيب الذي دنس شرف الحمولة !!!!!!

انطلق صوت عبده موسى من مذياع قريب ( شمس الأردن بتلالي من فوق السما العالي ) !!!!!!

تمت. حزيران 1976



*******

هامش :

* تعرف في القضاء العشائري باسم نار البراة أو نار البشعة ويلجأ القضاة العشائريون إليها في الحالات التي ينكر فيها المتهم التهمة الموجهة إليه ، فيلجأون إلى حمي محمصة القهوة على النار ليلعقها المتهم بلسانه ، فإذا ما أحرقت النار لسانه فإن التهمة ستبث عليه، وإذا لم تحرقه تعلن براءته .. وثمة طرق اخرى لهذه العرف ، كما يمكن أن يلجأ القاضي إلى بدعة من عنده ، كأن يضع جمرة على لسان المتهم مباشرة ، وهو ما سيحدث في قصتنا .



* القصة ترجمت إلى الانكليزية ضمن مختارات من الأدب العربي . منشورات جامعة كولومبيا / الولايات المتحدة. بإشراف د. سلمى الجيوسي.

*****

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى