أمجد محمد سعيد - شهادة الشعر.. سفر في الزمان والمكان وفي اللغة

تعد تجربة السفر من اهم العلامات البارزة التي يمكن ان تشكل محورا اساسيا ومقاربة دائمة التحقق في مجمل نتاجي الادبي , وليس الشعري فحسب , فأكثر من نصف كتبي نشر في عمان ودمشق والخرطوم والقاهرة , اضافة الى بغداد والموصل . ونشرتُ اكثر نتاجي في الصحف والمجلات العربية , وكُتِب عني خارج العراق اضعاف ما كُتب داخل العراق .
كان اول عهدي بالسفر اواسط الستينات من القرن العشرين , حينما التحقت بقسم اللغة العربية , كلية التربية بجامعة بغداد صحبة القاص الراحل الدكتور محمد عطاء الله , والشاعر الراحل مجيد سعدون . وتعرفت قبلها على الشاعر الكبير معد الجبوري الذي سبقنا الى الجامعة , والذي كان له تأثير كبير عليَّ , وعلى مجموعتنا كلها , وكان بموهبته الفياضة وشاعريته الفطرية , قد بدأ الكتابة من الموصل في وقت مبكر , وترسخت تجربته في العاصمة . كنا نسكن بيتا واحدا ومعنا الشاعر والكاتب الكبير سامي الموصلي والشاعر الدكتور حيدر محمود عبد الرزاق والناقد الدكتور غانم سعيد . كانت بغداد حينها واحة للابداع والمهرجانات الثقافية الجامعية والقطرية والعربية , ومركزا للمقاهي الادبية المعروفة , واصدرات الملاحق الادبية والكتب الجديدة , كان الشعر والادب والكتابة والثقافة والفنون زاد ايامنا في الجامعة , وكانت سنوات بغداد بمثابة اعوام التأسيس الاولى لي , ومعرفة الطريق التي سأسلكها , واي الانحيازات الفنية التي تتلاءم مع تطلعاتي الشعرية التي كانت قد حسمت باتجاه الشعر الحديث .
وانا في الجامعة توفرت لي سفرة طلابية في العطلة الربيعية الى الاردن وفلسطين وسوريا ولبنان وكان لها تاثير كبير فيَّ , وشكلت خزينا مُهِما استفدت منه في عدد من قصائدي اللاحقة , وبعد سنوات طويلة خاصة ما يتعلق بدمشق وبالقدس وفلسطين التي ضاعت بعد ذلك بستة اشهر وما تزال .
في اوائل السبعينات اتجهنا شمالا الى انقره واستانبول ومررنا بالاسكندرونة برفقة الفنان المرحوم طارق فاضل والفنان خالد الدباغ , وقد توهجت القصيدة هنا بالبعد القومي التحرري العروبي , ثم كانت رحلة مصر التاريخية مع الشاعر معد الجبوري في عام 1974 , وكانت رحلة هامة جدا في مسيرة حياتي الثقافية والشعرية , فبالاضافة الى الاطلاع على حضارة هذا البلد العريق , التقينا خلال الزيارة بشخصيات ادبية وشعرية رفيعة كنا قد تعرفنا على بعضها في الموصل ابان مهرجان ابي تمام عام 1971 , ومنها من تعرفنا عليه في هذه الرحلة , التقينا الشاعر محمد عفيفي مطر والشاعر محمد ابراهيم ابو سنة والشاعر امل دنقل والشاعر نجيب سرور والشاعر حسن توفيق والروائي البهاء طاهر والقاص يحيى الطاهر عبد الله والمترجم والاعلامي كمال ممدوح حمدي الذي اصر على دعوتنا الى قريته وقضينا ليلة جميلة في الريف المصري , وقد نشرتُ في العدد الثاني من مجلة الطليعة الادبية العراقية قصيدة بعنوان ( شمبارة الميمونه ) اسم القرية , وكانت القصيدة معبرة عن كفاح الفلاح والعامل المصري من اجل حياة افضل وتصوير بعض ابعاد وواقع المجتمع المصري , كما سجلنا قصائد لاذاعة البرنامج الثاني الثقافي في الاذاعة المصرية . كانت رحلة ثقافية وشعرية بامتياز ظلت جذرا هاما وصميميا في علاقتي مع الثقافة المصرية طوال الوقت .
في العام 1975 نقلت الى وزارة الخارجية وقضيت عشرين شهرا في بغداد كانت من اجمل ايامي في العاصمة , وكانت زاخرة بالحياة والادب والشعر . خلال هذه الفترة سافرت ضمن وفد من وزارات عديدة الى لندن وجامايكا لمدة شهر كنت ممثلا لوزارة الخارجية فيه , كانت رحلة استطلاع لدراسة امكانية فتح سفارة عراقية في جامايكا , وفي لندن التقيت بالصديق القاص نجمان ياسين الذي كان يعمل في الملحقية الثقافية , ثم عينت ملحقا في السفارة العراقية في عمان بالاردن وقضيت هناك اكثر من ثلاث سنوات كانت مفتاحا حقيقيا لاكتشافي ليس الاردن فقط انما فلسطين بشكل كبير.
كانت عمان باكورة العواصم العربية التي عملت فيها , وكانت رغم محدوديتها في ذلك الوقت , قد وفرت لي المجال الواسع للاتصال بالكتاب الاردنيين والفلسطينيين والعرب , وكانت رابطة الكتاب برئاسة الدكتور عبد الرحمن ياغي , ورابطة الفنانين برئاسة الفنان صلاح ابو هنود المكانين الاثيرين عندي , وفر لي المناخ العام الجديد فرصة الاطلاع على الكثير من المطبوعات الاردنية والعربية الجديدة , ناهيك عن مختلف الاصدارات العربية التي كانت تصل من كل اطراف الوطن العربي , وساهمتُ في العديد من اللقاءات الثقافية والادبية والفنية , ونشرتُ العديد من القصائد في صحف ومجلات عمان في ذلك الوقت , وبعثت بالعديد من الرسائل الثقافية لمجلات عراقية انقل فيها بعض انطباعاتي عن الحياة الادبية والفنية الاردنية والفلسطينية في الاردن , كان نتاجي جيدا تلك الفترة وتعمقت فيه الاهتمامات الوطنية والقومية والعاطفية , وظلت عمّان دائما مركز الحنين الاول , ولم يفتر اشتياقي اليها ابدا , كنت في هذا الوقت قد اصدرت مجموعتين ( نافذة للبرق ) عام 1976 و( ارافق زهرة الاعماق ) الذي صدر في بغداد عن دار الشؤون الثقافية العامة وانا في الاردن عام 1979 وكُتبت عنه بعض المقالات في بغداد وعمان .
حتى عام 1987 لم استطع السفر بسبب الحرب العراقية الايرانية , غير ان رحلة قصيرة الى ليماسول في قبرص لحضور مؤتمر مدراء محطات التلفزيون في منظمة عدم الانحياز والذي مثلت العراق فيه , كانت نافذة غير متوقعة لتطلع بعيد ولم تكن كافية لتأسيس قصيدة سوى لقاء سريع بالشاعر والروائي الكردي سليم بركات الذي كان يعيش في قبرص .
في عام 1989 عينت مديرا للمركز الثقافي العراقي في القاهرة بعد فوزي بالجائزة الاولى في مجال الملحمة الشعرية عن كتابي ( رقيم الفاو ) في مسابقة الفاو الكبرى لوزارة الثقافة والاعلام , افتتحتُ المركز الثقافي العراقي , وقضيت سنتين في نشاط ثقافي يومي دائب في اقامة الامسيات الشعرية والقصصية والنقدية التي ساهم فيها الكثير من الادباء العراقيين والعرب , والمهرجانات الثقافية والموسيقية والسينمائية واقامة المعارض التشكيلية وغيرها , وكنت مواظبا على حضور الكثير من الفعاليات الثقافية المصرية والعربية والدولية في القاهرة , وتعرفت على الكثير جدا من الشخصيات الثقافية والفكرية والفنية غير ان الامر لم يستمر طويلا فقد اغلق المركز بعد سنتين من انشائه بسبب الاحتلال العراقي للكويت واغلقت السفارة العراقية ايضا .
عدت الى العراق , وفي عام 1992 سافرت الى الخرطوم مستشارا صحفيا ومديرا للمركز الثقافي العراقي هناك , وبقيت اقل قليلا من خمس سنوات كانت غزيرة العمل على المستوى الرسمي والشخصي الابداعي , طبعت لي جامعة الخرطوم مجموعتي الشعرية ( اربعون نهارا والموصل الافق ) طبعته الاولى عام 1993 , كما طبعت لي دار الخرطوم مجموعتي ( ما بين المرمر والدمع ) عام 1995 , وقد نالت المجموعتان اهتماما كبيرا وكتب عنهما الكثير في الصحف والمجلات السودانية , وتعرفت مليا على الشعب السوداني وثقافته وفنونه المتنوعة وكتبت قصائد كثيرة عن تجربة السفر الى السودان , حيث كُرمت عام 2007 بمنحي الجنسية السودانية , وقد زرت الخرطوم بعد ذلك زيارات عديدة .
في الشهر الاخير من عام 2004 سافرت الى سوريا , من الموصل الى حلب ومنها الى اللاذقية التي اعجبت بها اعجابا شديدا , وبقيت اقل من سنة وشاركت في العديد من النشاطات الثقافية في عدد من المدن السورية منها العاصمة دمشق , وتعرفت بشكل خاص على اغلب ادباء اللاذقية , ونشرت العديد من القصائد في الصحف السورية , وكانت قد صدرت لي ثلاث مجموعات شعرية عن اتحاد الكتاب العرب في سورية الذي كنت عضوا فيه , هي ( سَورة النيل ) عام 1999و( فضاءات وامكنة ) عام 2001 و( مرايا العزلة ) عام 2003 , كان شعري معروفا في سوريا , ونشرت العديد من القصائد في الموقف الادبي وجريدة الاسبوع الادبي وعدد من الصحف الاخرى مثل تشرين والبعث والوحدة , اضافة الى انني نشرت العديد من المقالات النقدية عن العديد من الدواوين والمجموعات القصصية والرويات , وخاصة عن كتاب من اللاذقية , حيث كنت اتواصل معهم يوميا , كما نُشرت عني العديد من المقالات في دمشق واللاذقية . وكان لقائي العفوي مع الشاعر ادونيس في بيته بقرية قصابين على احد جبال اللاذقية برفقة الشاعرين اللاذقانيين السوريين عبد الكريم شعبان ومالك الرفاعي حدثا مهما , حيث جرى نقاش لا تنقصه الصراحة بيني وبينه خاصة حول اسلوب ومضمون كتابه ( الكتاب ) واجاب عن اسئلتي حول اهداف الكتاب ومواقفه , وما حاول ابرازه وما اخفاه من التواريخ التي استعرضَها , وقد كتبت بعد ذلك قصيدتي الطويلة ( قهوة ادونيس ) التي اوضحتُ فيها اهمية وخصوصية شاعرية ادونيس واختلافي معه في بعض آرائه المعلنة , واتصل بي من باريس بعد ارسالي القصيدة اليه اثر نشرها في كتاب بالقاهرة , شكرني على جهدي .
في منتصف عام 2005 اتجهت الى عمّان التي غالبا ما كنت ازورها والتي كانت منطلق الرحلات الجوية الى العواصم الاخرى , حيث تسلمت نسخا من كتابي ( اوراق عمان ) الذي طبعته امانة عمان الكبرى عام 2002 وهو شذرات مما كنت قد كتبته في , وعن عمان وفلسطين .
بعد ذلك بشهر تقريبا غادرت الى القاهرة , وانا أقيم فيها حتى الان 2014, وهي محطة فيها من الخصوصية الشيئ الكثير بحكم تفرغي الادبي والثقافي فيها , وطول الفترة التي قضيتها , ورصيد قديم جديد من الاصدقاء المصريين والعرب , وقد اصدرت سبع مجموعات شعرية , منها مختارات شعرية صدرت عن هيئة قصور الثقافة , ومنها كتاب ( الوردة لمرسية وللاندلس الريح ) عن تجربة سفري الى الاندلس نهاية القرن الماضي ممثلا لاتحاد الادباء والكتاب في العراق , ومشاركا في ملتقى البحر الابيض المتوسط للشعر برئاسة الشاعر الاسباني الكبير خوسيه ماريا البارث , وقد صدر فيما بعد عن دار اخبار اليوم في سلسلة كتاب اخبار اليوم , وهو يعبر عن تجربة خاصة تمثلت امكنة وازمنة مدينتي مرسية وقرطاجنة في الاندلس , حيث ولد في الاولى المتصوف الكبير محي الدين بن عربي , وفي الاخرى الناقد الشاعر حازم القرطاجني , كما صور الكتاب تلك العلاقات الشفافة بين ادباء الملتقى وحواراتهم . واصدرت مؤخرا كتاب مذكرات في الدبلوماسية الثقافية عن بعض تجربتي الثقافية والدبلوماسية في السودان , وقد شاركت في مهرجانات القاهرة للشعر , ومهرجانات اخرى للمجلس الأعلى للثقافة عن شوقي وحافظ , ومهرجان الشعر الدانمركي المصري العراقي , وامسية تكريم الراحلة نازك الملائكة , وامسيات شهرية في لجنة الشعر , وكذلك نشاطات هيئة قصور الثقافة , وهيئة الكتاب , وأتيليه القاهرة , واتحاد كتاب مصر الذي اصبحت عضوا فيه , والكثير من النشاطات على امتداد المدن المصرية من الاسكندرية حيث احتفالات الشاعر اليوناني كفافيس , وبور سعيد حيث احتفالات الذكرى الخمسين لمقاومة العدوان الثلاثي على مصر , الى اسوان مدينة عباس العقاد وسوهاج واسيوط وشرم الشيخ وغيرها , وكتبت الكثير من الشعر والمقالات . ونشرت شعري في مجلات ( ابداع ) و( الثقافة الجديدة ) و( المجلة ) و( شعر) و( ادب ونقد) وفي الصفحات الثقافية لصحيفة الاهرام والجمهورية والوفد وغيرها . كما انني حصلت على شهادة الماجستير من معهد الدراسات العربية لتحقيقي مخطوط ( منادح الممادح وروضة المآثر والمفاخر في خصائص الملك الناصر) للشاعر والكاتب الاندلسي عبد المنعم الجلياني .
من اروع رحلاتي قاطبة , رحلة الحج الى الديار المقدسة في مكة المكرمة والمدينة المنورة , عام 2010, كان سفرا في ملكوت الله , وانغمارا في خشوع البشر والكائنات , وهي تلقي كل شيئ زائل خارج المشهد المقدس , وخارج الزمان الوقتي , كان الموقف نسيانا للمؤقت وتذكرا للدائم الأزلي , كان ذوبانا في المعنى لا يمكن لاية كلمات ان تتمثله على الاطلاق , وانا ما زلت انتظر تلك اللحظة التي استطيع فيها ان اقترب من هذه التجربة العظيمة شعريا , وانا انكس رأسي من هيبة البيت العتيق , او انا الصق خدي بجدار الروضة الخضراء ملامسا بوجهي غرفة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
مهما حاولت ان احيط بكل تأثيرات تجارب السفر وتداعياته في شعري فإن الكثير سيفوتني , ولكنني حاولت ان ابرز اكثر اهم المشاهد إضاءة ووضوحا , كان السفر هو اكتشاف للمكان المختلف , وللانسان الآخر , وللتجربة الجديدة وخروج من دائرة الرتابة والاعتياد , وفتح في عوالم الدهشة , ومعرفة الابعاد الثقافية والابداعية في فنون واداب الشعوب الاخرى , خاصة الشعر وكثير من التفاصيل الاخرى التي لا يمكن معرفتها الا بالمعايشة الحية اليومية .
وقد ازددت ايمانا بأن الشعر الحديث ( شعر التفعيلة ) , هو المعبر الامثل عني وعن تجربتي الشعرية , رغم انني كتبت العديد من القصائد والمقاطع العمودية وقصائد النثر في حدود ما يضيف بعدا جديدا لقصيدة التفعيلة ذاتها . في قصيدة التفعيلة مدى من اشكال الحرية الفنية والاسلوبية , مع بعض قيود حريرية تمسك بانفلات الشاعر وتدفقاته غير المنضبطة .
ولقد ظلت تجربة الشعر العراقي عندي واحدة من اروع صور الابداع العربي والانساني , مع تقديري لصور الابداع العربي الاخرى التي اطلعت عليها , ليس فقط ضمن تجربة الشعر الحديث , انما عبر رموز الشعر العراقي وصولا حتى ملحمة كاكامش , بقيت اشعر ان الشعر العراقي مكتنز بالتجديد وبالجدية ومقاربة الهموم الانسانية الحقيقية , وان له قدسية ما , لا يقربه الا من يعرف ان لديه القدرة المناسبة على ولوج عوالمه . ولكنني من جانب آخر اكتشفت ان الواقع الثقافي العراقي والشعري بشكل خاص اكثر حنبيلية من اي مكان آخر, تعامل القصيدة عندنا بقسوة شديدة , ويعامل الشاعر بمزاجيات نوعية قلما تجدها في مكان آخر. واكتشفت كم اننا في العراق نظلم اديبنا وشاعرنا قياسا للبلدان العربية الاخرى التي تحتفي بكُتّاب لم يكوِّنوا بعد ثروتهم اللغوية والنحوية والادبية , ومن خلال ذلك ربما وصلت الى بعض قناعات ان هناك الكثير ممن يستسهل الكتابة في الوطن العربي , خاصة بعد ان انتشرت موضة تداخل الانواع , وضياع المفاهيم , وغياب التعريف النوعي للاجناس الادبية , حتى بدأ يركب موجها كل من هب ودب . واكتشفت ان هناك بعدين لدى أي كاتب او شاعر هما البعد الابداعي والبعد الاخلاقي , وانهما قد لا يتطابقان دائما .
في السفر تعمق عندي الأحساس بالمكان الجديد , وفتح لي فضاءات لم تكن لتصلني لولا السفر , واكتشاف خصوصياته ومفرداته , وشخوصه وعلاماته المختلفة , كما صرت اكتشف تجارب اخرى لبشر مختلفين , ناهيك عن تجاربي الشخصية , وصارت الاسماء مفاتيح ونوافذ لقصائد جديدة تدخل بالقارئ الى مساحات ربما كانت غير معروفة لديه , او انني تناولتها بشكل مغاير . كما ازداد اقترابي من عالم المرأة وتأثيث القصيدة بعطرها ونوافذها وآفاقها لكنها ظلت في الغالب رمزا يتخذ من عالمها افقا ومدارا .
في السفر , وتداعياته المستمرة بدا الحزن يتعمق رويدا رويدا , وبدأ رحيل الايام يشكل عبئا وألما , وتزداد الذكريات والاشتياقات والحسرات , وبدأت القصيدة تدمع اكثر فأكثر , وتواتر فقد الاحبة والاصدقاء شيئا فشيئا , حتى ظهرت ملامح من الوجوم والذهول والنسيان على وجه الشاعر والقصيدة , لكنه من جانب آخر وبإصرار عنيد ظل وجه الرغبة في الحياة مبتهجا , والتجديد في الشعر ممكنا , لمواكبة الجمال الذي يسفحه الادب والشعر على الاشياء , وديمومة وخلود الكلمة المقدسة العظيمة , والتجربة المعطاءة , وتسطير ما امكن على قلته في سفر الابداع وتاريخ المدينة والبلد والامة .
ورغم السفر المتعدد ظلت مدينة الموصل مركز حياتي , ربما لم يمر يوم لم اتذكرها فيه , بقيت حية خالدة في دمي , وظلت تنبض تحت جلدي دقيقة بدقيقة وساعة بساعة , صار تذكرها سَفرا آخر من نوع جديد , وصارت تتوهج اكثر في شعري وفي كلماتي , وصارت تفسر نفسها بنفسها في خيالي كل يوم بشكل مبتكر, وتمنح لنفسها كل صباح ثوبا من ماء ومطر ومرمر, ربما لولا السفر لكنت ما ادركت عمق هذه المدينة الوالدة , وما عرفت روعة عالمها , فضائها , ودروبها , ونهرها , ومدى شغفي باصدقائي من ابنائها وبناتها .


أعلى